الفصل الأول
يوميات كارثة
لم تعُد المشكلة تكمن في معرفةِ إن كانت اللوحة مثلًا تعبِّر في حقلِ قمح، وإنما
إن كانت تعبُر إلى جانبِ جريدةٍ، مفتوحة أو مغلقة، باعتبارها غابةً كثيفة.
أندري بروتون
عبر الفوتوغرافيا والسينما والتليفزيون والحاسوب، استطاعت آلات البصر في قرنٍ
ونصف من الزمن، وبانتقالها من الكيميائي إلى الرقمي، أن تحتوي الصورة القديمة «التي
يصنعها الإنسان بيدَيه». وقد نتجتْ عن ذلك شاعريةٌ جديدة، أي إعادة تنظيمٍ عام
للفنون البصرية. وفي هذه الرحلة دخلنا في عصر الشاشة بوصفه ثورةً تقنية وأخلاقية،
لا تشكِّل ذروة «مجتمع الفرجة» وإنما تعلن عن نهايته.
١٨٣٩م: الصدمة الأُولى للصور الفوتوغرافية
لنحاولْ بدون تفخيم القيامَ بتقويمٍ رصين للآثار الآلية التي زعزعتْ هذا اليوم
نظامَ رؤيتنا.
لكنْ متى بزَغَ هذا الفجر؟
من الأفضل لنا إذن؛ أن نختار دقَّة التواريخ على عماء الكلمات. وحينما تكون
الخطوط الفاصلة كثيرةَ الوضوح؛ فإنها تكون خادعة، وإذا ما كانت مضبَّبة فإنها تكون
غير نافعة. وإذا كانت المراهنة على الجانب الزمني بالرغم من بلادته الظاهرة
تهمُّنا؛ فلأنها تفرض علينا إعادةَ وضع المقولة الأدبية الخالدة ﻟ «موت الفن» في
إطار التاريخ المحايد للاختراعات؛ لكنْ، بتحريرها من مجازاتِ الكآبة («كلُّ
إمبراطورية بائدة»، وإمبراطورية الفن لن تخرج عن القاعدة)، أو من المجازات
الإحيائية («كلُّ مولود يستحقُّ الهلاك يومًا»)؛ ثم بمواجهتها بمشكلة التوالد
التكنولوجي. إنها تبسيطيةٌ غير بديهية، وهي كذلك أكثر فأكثر. التقنية تتقدَّم عبْرَ
محو بصماتها، وكلما أحكمت قبضتها؛ وارتْ نفسها بنفسها. فبمقدار ما يزداد تحكُّمنا
في الأشياء بمقدارِ ما تنقص قدرتنا في التحكُّم، ولو بذكاء، في هذا التحكُّم
نفسه.
بإمكاننا بدءُ حفريات السمعي البصري مع النار والظلال التي تنعكس على حيطان
المغارة، وتحديد بدءِ النقد السينمائي مع أفلاطون. فالغرفة المعتمة التي عُرفت باسم
الستينوبي تعود إلى ما قبل التاريخ. لكنْ، وكما وضَّح ذلك جاك بيريو
J. Perriault بدأ العرض الضوئي القارُّ في
القرن السابع عشر مع الفانوس السِّحري، الذي يُعتبر ملحقًا للغرفة المعتمة. أمَّا
الصورة المتحركة فلم تظهر إلا في القرن الثامن عشر، خلال الثورة الفرنسية، مع
اختراع الترافيلنغ على يد البلجيكي روبرتسون مخترع «الشبحيات»
fantasmagories، الذي كان يمرِّر، خلفَ شاشة،
عربةً تسير على سكة حديد وتحمل مصباحًا.
١ وكانت العربة تستعيد بهذه الطريقة صورَ الموتى المشهورين (كفولتير،
ولافوازيي، وغيوم تيل). وقد تمَّت ممارسة نشر المعرفة العلمية في القرن اﻟ ١٩،
مثلها مِثلُ التربية الدينية، بمناظر على الزجاج (فقد كانت الدروس الليلية في
البوادي، غالبًا، عبارةً عن عروضٍ ليلية). لكنْ، يتفق الجميع على أنَّ التجربة
الوحيدة على المعدن، أو ما يسمَّى أُنموذج داغير
daguerreotype الذي سُمِّي باسم صانعه، وهو
رسَّامٌ ومصمِّمُ مناظر مسرحية، كان قد اختُرع سنة ١٨٢٢م. فجهاز الديوراما هو الذي
أدخل الصورة الغربية في العصر الآلي الجديد. مع ذلك، وحتى نختصر الكلام، لم يتمَّ
الدخول في العالم الجديد في رأينا سنة ١٨٣٩م، ولا سنة ١٨٥٩م بمناسبة أول معرض
فوتوغرافي في صالون الفنون الجميلة بباريس، ولا في ١٨٩٥م عند أول عرضٍ سينمائي
للأخوَين لوميير، ولا في ١٩٢٨م عند عرضِ مغني الجاز، أول فيلمٍ ناطق ردَّ به الراعي
السينما على الراعي الإذاعة، بل ولا سنة ١٩٥١م عند ظهور الإستمانكولور (أي الشريط
السالب بتقنيات الألوان)، وإنما خلال السبعينيات من القرن الماضي مع استعمال
التليفزيون بالألوان. لقد تمَّ إعطاء الانطلاقة لعصر الشاشة حوالي ١٩٦٨م. ففي تلك
السنة، وخلال الألعاب الأولمبية الشتوية لمدينة غرونوبل الفرنسية تمَّ تجريب وإطلاق
البث الهرتزي للصور الملوَّنة، كما تمَّ تدقيقها دقةً عالية سنة ١٩٩٢م في الألعاب
الأولمبية بألبيرفيل. لقد جاءت اللحظة الثانية لمتابعة حركة اللحظة الأُولى، بيْدَ
أن الأُولى تبدو لنا، ومن غير أن نضفي عليها طابعًا أسطوريًّا، مؤهَّلةً لإحداث
القطيعة.
عرَفَ الغرب المنقوشات الخشبية والحديدية، والليتوغرافيا (الرسم الحجري) التي
ظهرَت في بداية القرن اﻟ ١٩، وقبلها عرَفَ الأختام والميداليات والنقود ولعبة الورق
والأوراق البنكية. فالفوتوغرافيا لم تكُن إذن الأُولى في مجال المضاعفة والنَّسْخ،
بل إن ذلك يعود إلى إدخال عنصرٍ آلي في العمل اليدوي المتعلِّق بالتصوير؛ «لقد
عوَّض النور يدَ الفنان». كما أنَّ الرسم بالحفر والليثوغرافيا (اللذين كانا
يشوِّشان على النقَّاش) كانا تقنيَّين. أمَّا أُنموذج داغير فكان تكنولوجيا، أي
تقنية غير شخصية «بلا رُوحٍ ولا عقل»؛ كما أدانها بودلير (الذي لم يشكَّ أبدًا في
امتلاك الآلات للرُّوح). وفي هذا الإطار، ليس الثامن عشر من غشت ١٨٣٩م تاريخًا
وإنما منعطفًا. فهنا تمَّ تدشين المرحلة الطويلة لانتقال الفنون التشكيلية إلى
الصناعات البصرية. ففي ذلك اليوم، أعلن أراغو في معهد فرنسا، باسم الدولة الفرنسية،
اختراعَ «هذا الجهاز الجديد لدراسة الطبيعة».
وقد تمَّت الجلسة في أكاديمية العلوم، لا في أكاديمية الفنون الجميلة. وكان أراغو
يحتفي بالأمر بصفته عالِمًا ويتوجَّه بالخطاب لنظرائه أولًا. فقد كانت تلك التقنية
في نظره أداةً وملحقًا بالعمل العلمي، وموضوعه رهن إشارة علماء الفلك والنباتات
والحفريات. غير أن دولاروش، وهو رسَّام معارك في أوجِ شهرته، خرج من الجلسة وهو
يردِّد: «من اليوم يمكن اعتبار التشكيل في عِداد الأموات.» وبالرغم من أنه في المدى
القصير سوف ينتعش أو يزدهر، إلا أن تغيُّر الميدان لم يكن يفتقر إلى صِدق النبوءة.
كان الشريك القديم المتوفى لداغير، ولقبه نييبس، والذي صنَعَ أول صورةٍ فوتوغرافية
في العالم سنة ١٨٢٦م يسمَّى نيسيفور، مثله مِثل نيسفور القديم، وبفاصلِ ألف سنة.
إنها لصدفةٌ غريبة أن يحمل أول ممارِس للصورة الآلية اسمَ أول منظِّر للصورة
«المصنوعة بيَدِ الإنسان».
كانت اليد ضدَّ العقل، وقد جاءت النهضة لمصالحتهما بعناءٍ وصعوبة؛ وذلك بوضع
الفنان التشكيلي تقريبًا في مرتبة الكاتب. أما صانع الظلال فقد أعاد إحياء التعارُض
السرمدي بين العمل الآلي والعمل الشريف، وذلك لغير صالحه. لذا فقَدْ ظلَّ لزمنٍ
طويل رجلًا بلا عملٍ فني. فكان التشكيلي يصنع شهرته، فيما ظلَّ المصوِّر
الفوتوغرافي يمارِس مهنة. إنه ليس مبدعًا وإنما هو حِرفي، والنجاح الناجم عن الفضول
الذي أثارتْه مَعارضه لا يمكن مقارنته بالحظوة التي كانت للصالونات الكبرى في القرن
اﻟ ١٩. وكان من اللازم انتظارُ قانون ١١ مارس ١٩٥٧م؛ كي يتمَّ اعتبار الفوتوغرافيا
من المآثر الرُّوحية ويتمَّ حمايتها، مثلها مثل الكتاب واللوحة. ففي ذلك الوقت،
اقترفت التقنية الآلية الضوئية
photomécanique
خطيئةَ إدخال آلياتٍ مادية في العمق الغائر للحيوي. كان المكرور يُعتبر مقيتًا،
لكنَّ الدمقرطة تبدأ دائمًا من هناك. وقد بدأتْ مَكْننةٌ معينة للصورة الشخصية قبل
ذلك في نهاية القرن اﻟ ١٨ مع المنْساخ
pantographer؛ ثم الظِّل أو الشبح المقطَّع
بالفيزيونو طراس (الراسم الفيزيولوجي)، هذا الجهاز الخاص بطبع الصور الجانبية
للأشخاص، والذي كان كثيرَ الشهرة خلال الثورة الفرنسية؛ ثم الصورة الشخصية
المصغَّرة الحِرفية والسريعة، والتي ظلَّ العمل بها حتى سنة ١٨٥٠م. كان ذلك عملًا
مَعْمليًّا لم يكن قد وصل بعدُ إلى مرحلةِ المَكْنَنَة. وقد ظهرت الصورة المعتمدة
على غبار الفضَّة مع ظهور السكة الحديدية والغرف المنظِّمة للمِهن والدكاكين
الكبرى. وحظيتْ باستقبالٍ طيب من قِبَل الجانب الليبرالي لليسار، الذي صرَّح
أنصاره: «سوف نرى بالتأكيد الصور الجميلة، التي ظلَّت حِكرًا على صالونات الأغنياء
العاشقين للفن، تزيِّن حتى البيوتات المتواضعة للعامل والفلاح» (المجلة الفرنسية،
١٨٣٩م). وجاء في الجريدة الألمانية لايزيكر أنزيكر: «خلق الله الإنسان على صورته،
ولا صورة بمُستطاعها أن تثبت صورةَ الله على الورق.» أما دولاكروا، وهو تشكيليٌّ
روحاني متشدِّد، فقَدْ قال: «في التشكيل تخاطِب الروحُ الروحَ، وليس العِلم هو الذي
يخاطب العلم.» هذا فيما زايَدَ بودلير في الأمر واعتبره رجسًا مضاعفًا، بما أن هذه
النسخة الخنوعة للطبيعة «شتيمة في الآنِ نفسه للتشكيل السامي وللفنِّ السامي
للمُثل». وأن يكون بالإمكان أيضًا لعب الكوميديا في الاستوديوهات لا في الورشات
المسرحية فقط، شيءٌ لم يكن أمرًا بديهيًّا آنذاك. والفنان الناشئ على مُعاداة
«المجتمع القذِر الذي اندفع، كنرسيس، لتأمُّل صورته المتبذلة على الصفيح المعدني»؛
لم يكن له أن يأخذ بعين الاعتبار عودةَ المُصطنع والعبقرية الجديدة للمزيَّف اللذين
كانا سيُطَمْئنانه. وقد شهدنا منذ جون هيرتفيلد الرتوشاتِ ذاتَ الغاية الدعائية
للتوليف الفوتوغرافي، و«القوميساراتِ في الأرشيف» للقرن ٢٠.
٢ ونحن على علمٍ اليوم، وهو ما يواسينا، أنَّ الصور كلَّها كذبٌ (وستغدو
أكذبَ مع ظهور الصورة الرقمية).
وبالرغم من أنَّ الصفائح الزجاجية الأُولى لم تكن توفِّر نُسخًا؛ فإن هذا
الاختراع كان انطلاقًا للسيرورة التي ستنتهي إلى ظهور الفوتوماتون والبولارويد. كما
كان كتاب الجيب منتهى الكتاب المقدَس الذي طبعه غوتنبرغ، مرورًا بتخفيفِ حجمِ آلة
التصوير وتقصيرِ مدَّة الْتقاط الصورة، والنيجاتيف الزجاجي وتقنية الغرياء
collodion … إلخ. وإذا أنتم طوَّرتم مبدأ
«لكلِّ واحدٍ كتابُه المقدَّس»؛ فستحصلون على «كلُّ الناس قُسُس» التي نادتْ بها
الكنيسة الإصلاحية في النهاية، وعلى طريقة الانتخاب العام. وإذا ما أنتم طورتم مبدأ
«لكلِّ واحدٍ صورته»؛ فإنكم ستصلون إلى السياحة العالمية وكتاب الصور العائلية.
فكوداك يشبه ما كانه لوثر بالنسبة للحرف. في سنة ١٨٨٨م كان يقال لنا: «اضغطْ على
الزر وعلينا فِعل الباقي.» واليوم يتم الضغط على زر آلة التصوير مائة مليار مرة في
السنة. فقد غدا ما كان استثنائيًّا فعلًا يوميًّا، وغدتْ عمليات المتخصِّص العسيرة
مجردَ لعبة أطفال. فهل يتناقص سلطان الصورة مع دمقرطة قدرةِ إنتاج الصور؟
إنَّ الحظوة الإكليروسية للمحترفين للتصوير تتطلَّب ندرةً معيَّنة. أمَّا الكوداك
البخس الثَّمَن، الذي ليس مالتوسيا، فإنه قد حطَّم لغز «الفنان الفوتوغرافي» في
معمله، بعماده وستائره وكرسيه، قَدْر تحطيم آلة سوني فيديو ٨، أو الباثي بيبي آلة
السينمائي الكبير في الاستوديوهات العظيمة لبولوني بيَّانكور في ضواحي
باريس.
من الأكيد أنَّ صفيحة آلات التصوير الشمسية
héliographes قد أدخلَت الحماس، ولو في حدودٍ
معينة، على ريشة التشكيليين، فيما هي أعدمَتْ لأمدٍ قصير المهنَ الصغيرة التكسُّبية
المتصلة بالريشة. ففي ١٨٥٠م، عرَفَ أغلب رسَّامي البورتريهات خرابَ مهنتهم، بنفس
الشكل الذي سيعرفه رسَّامو المناظر سنة ١٩٠٠م مع ظهور البطاقة البريدية. لكنْ بدون
هذا المنافِس الرئيسي، لم يكُن لسيزان أن يصرُخ: «أنا الفنان البدائي لفنٍّ جديد.»
ولن يقول بيكاسو لبراساي: «لقد جاءت الفوتوغرافيا في الوقت المناسب لتحرير التشكيل
من كلِّ أدبٍ ومن الحكاية، بل ومن الذات أيضًا.»
٣ وهو ما لم يمنعه، لحُسن الحظِّ، من استقاء موضوعِ لوحته الغرينكا من
صورةٍ تلغرافية نُشرت في الصفحة الأُولى من جريدةِ «هذا المساء» الفرنسية.
إنَّ آلة التصوير، التي تسمح للهاوي بألَّا ينظر لمَا
يصور، قد أجبرَت التشكيلي على الرسم بشكلٍ أفضل، بنفس الشكل الذي ستفرض به
السينما، مائة عام فيما بعد، على المسرح على أن يتعرف على نفسه أفضل، ومن ثَم،
على أن يصبح بالغَ الصفاء. وبالشكل نفسه الذي فرض به التصوير
التليفزيوني المباشر على الصورة القارَّة أن تكون أقلَّ واقعيةً وأكثر جمالية، كذلك
أجبر عماد الكاميرا المرسام
chevalet على إعادة
النظر في مصادره الخاصة لضبطٍ أفضل لمجال مؤهلاته. وقد أجاب المِرسام بشكلٍ إجمالي
على العماد بالانكفاء على نفسه والسموِّ إلى الأعالي. من هذه الزاوية، يمكن قراءة
تطوُّر التشكيل المعاصر على طريقة «السؤال والجواب»، أي كمحادثةٍ ثانوية ممتدَّة
على قرنٍ كامل، من قبيل: أأنت تسجِّل الواقع كما هو، بطريقة النَّسخ الآلي؟ أنا
أحتفظ بالخيال التاريخي، ما قولك في آلاتي الضخمة، وفي «دخول الصليبيين إلى
القسطنطينية» وفي «موت الملك الآشوري سردنيال»؟ هل تصوِّر بالأبيض والأسود؟ انظر
إلى ألواني (فالمعرض الانطباعي الأول أُقيم سنة ١٨٧٤م، لدى المصوِّر الفرنسي
المشهور نضر
Nadar، العدو الوهمي والشريك الفعلي
للانطباعيين)، هل تفكِّك الصورُ الحركة مع ماري
Marey وصوره الفوتوغرافية الموقوتة
chronophotographie؟ أجاب التشكيلي الفرنسي
سورا: افعَلِ الشيءَ نفسه مع النور إن استطعتَ! لكنْ ها هو السينماتوغراف، وهو
تعقيد جدِّي، يستحوذ في بداية هذا القرن على التخييلي والحكائي. لقد جاء ليحتقر
التشكيلي المدرسي والتاريخي في ميدانه نفسه. ويرد عليه التكعيبي بمكْرٍ: لا يكفي أن
نرى بل علينا أن نعرف. هكذا يتم إخراج الفيلق والانطواء على الضرورة الداخلية. ثم
يترك المكان للتجريدية وللاستيهام، ويصبح الشكل الخالص واللاوعي، مع كاندنسكي وماكس
إرنست، مَعينَين لا ينضبان. وصار المادي والزمني تحت إمرة الصورة الآلية، فيما
استحوذ الفنُّ على الروحاني. وبعد كاندنسكي جاء مارسيل دوشان ليُخرج للوجود الأمامي
«فنَّ شبكية العين»، باعتباره الهدية اللاإرادية التي منحها الشريط الحسَّاس للوحة،
أي النقيض الذي لا يبيح أي إجابة. وبعد ذلك تأتي لتكتمل سلسلة الحِيل، والمحاكاة
الأسلوبية والمحاكاة الساخرة وتحويرات الواقعية المفخَّمة، أيْ هذه السخرية الماكرة
إلى حدٍّ ما، التي تُستعمل ضدَّ منافِسها في لعبته نفسها، وذلك عبْرَ التمثيل
المبالَغ فيه للتوهُّجات. إنه هروبٌ لامع إلى الأمام، حتى ظهور التقنية الرقمية
والصورة الافتراضية التي سوف تغيِّر توزيع اللعبة من جديد. وفي انتظار «مع السلامة
أيها الفنان»، سيكون المحلُّ قد صارع صِراعًا ضاريًا المساحاتِ «التي لا عقل ولا
رُوح لها». لقد اعتبر الفنان ماتيس أن التسجيل الفوتوغرافي «قد أزعج الخيال أيَّما
إزعاج لأنَّ ما رآه الناس كان خارجَ كلِّ إحساس». إنَّ هذا الإزعاج، الذي زاد من
حِدَّة الجانب التصويري
pictural في التشكيل، والذي
كان مفروضًا في البدء ليغدو فيما بعد اختيارًا؛ سينتهي إلى تأجيج المنطلق الخيالي،
أي النهوض بالعودة إلى المرحلة السابقة تبعًا للنموذج «الثورة».
لقد أصبح واضحًا أن الصورتَين الثابتتَين لم تكونا من النِّظام نفسه. فالتشكيل
ينتمي إلى الأيقونة، والصورة الفوتوغرافية إلى الإشارة. وهي بالتدقيق منحُ شكلٍ ما
للبصمة، أيْ أنها حلٌّ وسط بين الإبداع والنَّسخ. إنها بصمات تكاد تكون غير مادية،
لا حجم لها ولا وزن، وموضوعةٌ على عواهنها على مادةٍ ضوئية حسَّاسة. فالضوء لا يرسم
ولا يكتب. إنَّ «قلم النور» أعمى؛ فهو لا يملك لا سنَنًا ولا مقصدًا. صحيحٌ أن
التبئير واختيار اللحظة والتأطير عناصرُ مقصدية. بيْدَ أنَّ الكليشيه النهائي لا
يقدِّم للنظر غيرَ العلامة الفيزيائية لعاملٍ فيزيائي، أي التحويل بالصدفة
للحُبَيْبات المِلحية الفضية عبْرَ الإشعاع الضوئي. إنها «إعاقةٌ» حُبلى بالوعود
تعدُّ الصورَ للطبع، وقد تمَّ تحقيقها منذ ١٨٨٠م (فأُنموذج داغير كان شيئًا فريدًا
ولم يكُن بالإمكان نسخه، أمَّا أُنموذج كالي
calotype فقد كان ذا استعمالٍ محدود). لقد
مكَّن النَّسْج الضوئي tramage من الاستنساخ على
نطاقٍ واسع، كما أنَّ الصحافة اليومية بعد ١٩١٤م قد منحتْ لهذه التقنية الجديدة
قوةً توسُّعية كبرى. فإذا كانت الطباعة الضوئية تُنقص من نصاعة الصورة؛ فإنها مع
ذلك لا تشوِّه الأصل. والصورة البرقية تنقل عن بُعد من غير أن تخونه أيضًا. إن
تمثالًا مطبوعًا على الورق لم يعُد تمثالًا؛ واللوحة لا تظلُّ لوحة. غيرَ أنَّ
صورةً فوتوغرافية منسُوخة تظلُّ هي هي. لذا فمن المُنافي للحقيقة المادية للأشياء؛
القول، مع أندريه مالرو، بأنَّ الفنون التشكيلية قد اخترعَت مع الفوتوغرافيا
مطبعتها. فإذا كانت طباعةُ نصٍّ مخطوط لا تغيِّر من جوهره؛ فإن طباعة عملٍ تشكيلي
تغيِّره. ليس التشكيل هو الذي عرف أوْجَه مع النسخ الطباعي، وإنما هي الصورة
الفوتوغرافية.
لقد وجدَت هذه الأخيرةُ فيه هالتَها. إنَّ الصورة الفوتوغرافية الفنية تجعل من
العمل الفني الفريد متعددًا، غيرَ أنَّ الصورة الفورية الجيِّدة للمصوِّر
الاستطلاعي في ذاتها متفرِّدة. فإذا كانت آلة التصوير قد نزعَت عن الصورة اليدوية
فتنَتَها؛ فإنها قد منحَت سِحرًا للحدَث عبْرَ «الوثائقي المثير». إنَّ العجائبي
الآلي هو الحدث المثير (السكوب)؛ وهو ليس ما لم يُر أو يُعايَن، وإنما ما لم يُر
أبدًا من قبل. إنه اللحظة التي لن تُتاح لنا الفرصة لرؤيتها مرتَين؛ فهو وجه النجم
الذي يظلُّ بعيدًا، والحركة الخالدة والخارقة للرياضي والسياسي أو لأيِّ واحد. هكذا
تنزلق الرعشة خارج الورشات، من اللازمني إلى الحدث الحالي. لقد هاجرت الهالة خارجَ
الكنائس والمتاحف، وفي صفحات المجلة الأمريكية Life
(الحياة) (١٩٧٢–١٩٣٦م) وقبلها في المجلة الفرنسية
Vu (المشهود) (١٩٤٠–١٩٢٨م) سَلَفُ مجلة باري
ماتش. فالهالة تجري بين الموضوع والذات في سريةٍ تامة.
١٨٩٥م: «السينما سيدة الفنون»
صرَّح الفنان الفرنسي فِرْنان ليجي مرةً: «لقد دوختْني السينما؛ فقد كنت سنة
١٩٢٣م أرتاد شلَّة من الأصدقاء يعملون في السينما، وكدتُ من فرطِ انجذابي لها أن
أترك الفنَّ التشكيلي.»
٤ إنَّ حالة صاحب لوحة الباليه الآلي هذه فريدة، كما هي حالة بيكابيا أو
الفوتوغرافي الأمريكي مان راي، لكنَّها تحدِّد بعمق اللحظةَ التي وُلد فيها هذا
الفن من الآلة وفرَضَ نفسه على الفنون الأخرى باعتباره فنًّا مرجعيًّا. لقد اقتفَت
الفوتوغرافيا خُطى التشكيل لمدَّة نصف قرنٍ كامل، وذلك بإطاراتها الثقيلة المذهَّبة
ورتوشاتها وولعها الساذج بتجميلِ الأشياء، ثم «بضبابيتها الفنية» في نهاية القرن
الماضي. بيْدَ أنَّ التشكيل سوف يتابع السينما فور خروجها من معارض الفُرجة
الشعبية.
لقد كان نَضَر رسَّامًا فاشلًا، لذا سوف يتدارك نفسه بدءًا من ١٨٥٠م لينجز
بوسائلَ أخرى، صورًا شخصية لشخصياتٍ مشهورة. وبدءًا من ١٩١٠م، كان دوشان وخوان غريس
وبيكاسو يقومون بالتوليفات التشكيلية أو يرسمون أجسامًا عارية نازلة السُّلَّم وذلك
بالطُّرق المتوفِّرة آنذاك. إنَّ التكعيبية، التي تخفِّف من المستويات، والمستقبلية
التي تحجبها، تُداوران بوعيٍ تقنيةً تفرض نفسها عليهما بقوة. وفيما بعد، سوف يُنجم
الشريط المصوَّر BD عن تلاقحِ التشكيل والسينما،
لكنْ إلى جانب هذا «الفنِّ القاصر»، لا يمكن تعداد اللقاءات في القمَّة من دالي إلى
بيكون، إلى لوغاك، مرورًا طبعًا ببيكاسو (فلوحة «هلوسات وأكاذيب فرانكو» هي عبارةٌ
عن رسومٍ متحرِّكة في لوحةٍ تشكيلية). إنَّ للصورة-الصوت سُلطةً مغناطيسة عليا.
لكنَّ الشاشة واللوحة ليستا مستطيلَين منسجمَين. لكلِّ عصرٍ لاوعيه البصري،
باعتباره بؤرةً مركزية لإدراكاته (وهي بؤرةٌ تكون في الغالب خفية)، وكذا سننًا
تصويريًّا يفرضه فنُّه السائد كجذرٍ مشترك. والفن السائد هو فنُّ الفنون أي ذلك
الذي يملك القدرةَ على إدْماج أو تشكيل الفنون الأخرى على صورته. إنه الفنُّ المتصل
أفضلَ بالتطور العلمي والتقنيات الرفيعة؛ ذلك الذي يحقِّق الوحدة الوثيقة بين
المتعاصرين بالتركيب بين معانٍ أكثر وبفتح المجال الفيزيقي للإحساسات الممكنة إلى
حدِّه الأقصى؛ وذلك المنسجم أفضل انسجام مع المجال الوسائطي المحيط وبالأخصِّ مع
وسائل نقلها. حين يذهب سائقُ السيارة إلى السينما؛ فإنه لا يغيِّر من السرعة.
والتعبير الفرنسي se faire une toile لم يعُد يعني
زيارةَ معرض، وإنما الذهاب إلى السينما. الفنُّ السائد، ذلك الذي يمنع المراهقين من
النوم، هو قمَّة الأمجاد الممكنة، والقمَّة اللامعة للمظهرية الاجتماعية. إنَّ ما
يسود هو ما يخلق الإشاعة ويثير الدهشة أيضًا. في سنة ١٨٣١م، كانت لوحتا بول دولاروش
(كرومويل وشارل الأول) المعروضتان في الصالون؛ قد جعلتا كلَّ الباريسيين يهرعون
لرؤيتهما. وفي سنة ١٩٩١م، كان آخِر فيلمٍ للمخرج جان جاك آنو؛ هو ما جعل باريس
بأجمعها تهرع لمشاهدته. وقد صرَّح أندريه بروتون ولوي أراغون سنة ١٩٢٩م، بأنَّ
«علينا البحث عن الواقع العظيم لهذا القرن في فيلمَي «عجائب باريس» و«مصاصي
الدماء».» لقد أعادت الفوتوغرافيا ترتيب التشكيل في الأعلى، نحو النُّخب. أمَّا
السينما فقد تجاوزتْها نحو الأسفل (باستجذاب الاهتمام الشعبي)، ونحو الأعلى معًا
(من ناحية الحُظوة الفنية).
لقد كان للشعراء السَّبق بخمسة أعوام على الفلاسفة في الاعتراف بالسينما كفنٍّ؛
فقد أدرك غيوم أبولينير ولوي أراغون وروبير ديسنوس وبرتولت بريخت وبليز ساندراس
وجاك بريفيير، منذ البدء، رهاناتِ هذه التقنية (إلى حدِّ أنهم عملوا في السينما).
هكذا نزل المنظِّرون من عليائهم الضبابي، فيما لم يتغرب الكتَّاب إلا قليلًا بهذا
الاختراع البصري، ما دام هذا الفن الهجين الجامع بين الحفل الشعبي والأدب، وبين
الشعبي والنخبوي في الآنِ نفسه، قد انغمس منذ ولادته في المكتوب والمطبوع. فقد
وجَدَ فيهما شروطَهَ التقنية (السكريبت والتقطيع)، وطرائق انتشاره (الملصقات
والنقَّاد معًا)؛ وبالأخصِّ وجَدَ فيهما مشروعيته وأساطيره المؤسِّسة، وذلك عبْرَ
المسرح والرواية والمسلسل. إنَّ رواياتٍ من قَبيل «عجائب باريس»، و«البؤساء»
و«السيدة ذات زهور الكاميليا»، كما روائيين من قَبيل جول فيري مع ميلييس، قد
صُوِّرت للسينما منذ ما قبل ١٩١٤م. ومع أنَّ السينما الناطقة قد أزاحت عن السينما
عبءَ الكلام، وأنَّ لا شيءَ أكثرُ ثرثرةً من فيلمٍ صامت (ففيلم جان دارك لدريير
أكثرُ فصاحةً، كما نعلم، من جان دارك بروسون)؛ فإنها قد ضاعفتْ كثيرًا من الروابط
التي تربط بين السينما والأدب (جان كوكتو، أنطونان أرطو، أندري مالرو … إلخ). وكما
أنَّ الأخبار المصوَّرة السينمائية كانت تَعْرض على الشاشة في الأمس قواعدَ الأخبار
الصحفية؛ كذلك فإن أغلب الأفلام المشهورة قد محَتْ وميَّزت في الآنِ نفسه نصوصًا
كبرى من رواياتٍ ومسرحيات. فالسيكولوجيا، كما الممارسة السينمائية، قد كان، من دون
شكٍّ، أقرب إلى الأشياء المكتوبة منها إلى الأشياء المرسومة. كان التشكيل يعتبر بمثابة التحليل النفسي للقرن ١٩، فيما يمكن اعتبار السينما
التحليلَ النفسيَّ للقرن الحالي. يمكننا تلخيص عصر النهضة بلوحةٍ
لدُورَر، وأخرى لِليونارد، وثالثة لِتيتيان. ولو كان علينا عرض النسيج العقلي
لعصرنا، لَلَزِمنا عرضُ فيلمٍ لغريفيت، وآخر لبرغمان، وثالث لغودار. ولو عاش دُورَر
(أورابليه) بين ظهرانينا اليوم لكان سينمائيًّا.
بيْدَ أنَّ للقرون، كما للأيام، غروبها الضروري. والعنصر السينمائي غدا «شيئًا
ينتمي للماضي» كما كان يحلو لهيجل أن يقول (بالرغم من أننا سنظلُّ نرى أفلامًا
رائعة لزمنٍ طويل).
١٩٦٨م: التليفزيون بالألوان
كلما فرض عصر الشاشة نفسه؛ الْتحَقَ هذان الكشَّافان، أي الفوتوغرافيا والسينما،
في نظرنا بعصر الخطاب الذي غذاهما. والدليل على ذلك تراجُع قيمة المصوِّرين
الاستطلاعيين في البيئة البصرية الجديدة والبقاء العسير لوكالة الصور (ماغنوم،
وغاما … إلخ). إن النظرات، كما الثقافات، تنكشف لبعضها البعض بالعودة للماضي. فليس
كريستوف كولومب هو الذي اكتشف أمريكا — حيث لم يتوانَ عن زرعِ قشتالة هناك — وإنما
نحن الذين اكتشفناها عبْرَه. لقد كشف لنا انتشارُ المطابع عن عالَم المخطوطات (أو
عن ممارساتِ المخطوط باعتبارها ثقافةً خصوصيَّة). وغدًا سوف تكشف لنا التلفزة
الرقمية عن الطبيعة الحقَّة للتليفزيون الهرتزي. وهذه الأخيرة بدورها قد كشفتْ لنا
عن السينما، كما كشفت الصورة عن التشكيل؛ ذلك أننا على عِلمٍ اليومَ بما لم يعلمْه
معاصِرو الاختراع (وأيضًا بما لم يعلمه أولئك الذين اكتشفوه على علَّاته). أعني
أنَّ الفوتوغرافيا ليست تشكيلًا مصغَّرًا بمقدار ما أن التليفزيون ليس سينما
مصغَّرة. إنه صورةٌ مغايرة. ومن دون شكٍّ، إنَّ التليفزيون قد سعا في بداياته إلى
أن «يمارس السينما» (حسب تعبير سيرج داني)، كما سعَت الفوتوغرافيا إلى أن تمارس
التشكيل.
لقد أحيا التليفزيون في مرحلةٍ أولى الفضائل الخصوصية للسينما، كما أرسَت
الفوتوغرافيا «التشكيل الحقَّ» في كامل مشروعيته. ثمَّة محطتان في النقلة
الوسائطية، شأنها في ذلك شأن التتابع السياسي: التبعية، ثم رفع اليد؛ فقَدْ حجَبَ
المرسام المهمُّ عامودَ الكاميرا الحقير، كما حجبت خشبة المسرح شاشة السينما، ثم
الشاشة الكبرى الشاشة الصغرى. الخلَف يحاكي السلَف — فللنَّبالة شروطها — ثم يكبر
ليحجبه في الأخير. هكذا يتلفَّع العنصر الأول في الظهور بأصالته المجروحة؛ ليماحك
بقوة سليله، الغريب الأطوار والكسول، حتى يستسلم له. واليوم لا تنكشف لنا فرادةُ
الصور السيلوليدية الموقَّعة إلا انطلاقًا من الصور اللامادية التي لا ذات لها.
وهذا لا يعني أن بصرنا أكثر نفاذًا من أن أسلافنا؛ إننا ببساطة، وكما في كل منعرَج
من التاريخ، «أقزامٌ تركب أكتافَ عمالقة». فهنا، كما في أمكنةٍ أخرى، لا جديدَ إلا
بالاسترجاع التاريخي. إن المجالات الوسائطية رهينةٌ في نهاية المطاف بالوجهة
المادية الأساسية للإرسال. فعصر الشاشة أو الفيديو، كما يدلُّ عليه اسمه، يبدأ مع
الفيديو. والحدود الفاصلة بين عصرَين من عصور البصري نادرًا ما تكون مرئية. والحدُّ
الذي يفصل نظامَ «الفن» عن نظام «البصري»؛ يمرُّ بين الشريط الحسَّاس الكيميائي
والشريط المغناطسيي، وبين الترافيلينغ والزُّوم والفيلم الوثائقي والاستطلاع
الكبير.
توجد الصورة في الفوتوغرافيا والسينما وجودًا فيزيقيًّا؛ فالفيلم متواليةٌ من
الوحدات الصورية (الفوتوجرامات) المرئية بالعين المجردة، في حالةِ تتابُع. أما في
الفيديو، فليس ثمَّة فيه من الناحية المادية صور، وإنما إشارةٌ كهربائية غير مرئية
بذاتها، تمشِّط خمسًا وعشرين مرَّةً في الثانية خطوطَ محرك. نحن الذين نُعيد تأليف
الصورة. كل عناصر الصورة السينمائية تسجَّل فورًا وبجُمَّاعِها؛ إنها كلٌّ. أمَّا
نقل الصورة الضوئية إلى إشارةٍ كهربائية في السينما التليفزيونية (وهي تقنيةُ تسجيل
فيلمٍ سينمائي في الفيديو)؛ فإنه يتمُّ نقطةً نقطةً. ثم يقوم الأنبوب المحلِّل
بتفكيك صورة الفيديو بواسطة تحليل العناصر خطًّا خطًّا وشبكةً شبكةً. كلُّ عنصر أو
إشارة فيديو تشكِّل خبرًا، والصورة الفيديو ليست مادة وإنما إشارة. ولكي تُرى يلزم
أن تُقرأ برأس مسجِّل.
في بداية الستينيات، كانت التمثيليات المشهورة لا تزال تُصوَّر بجهاز ٣٥
ملِّيمتر، ثم بجهاز ١٦ ملِّيمتر. بيْدَ أن ظهور المانييتوسكوب قد مكَّن من التصوير
الأسرع والأقل كلفةً بالفيديو، الذي تم استعماله سابقًا لإعادة البثِّ وللأخبار.
وإلى حدود سنة ١٩٩٦م، ظلَّ التوليف بالفيديو صعبًا، وظلَّت السرعة الضعيفة للأشرطة
تُلزم بإضاءةٍ قوية جدًّا. فبالرغم من ابتكار الكاميرا الجديدة الخفيفة من فئة ١٦
ملِّيمتر بمُزامنها
synchrone اللاسلكي (الذي يمنح
مرونةً جديدة للتصوير الخارجي)؛ فإن الفيديو قد فرض نفسه في الاستوديو، كما في
الروبورتاج خلال العقد السبعيني (خاصة بفضل الإمكانات الجديدة للتوليف الإلكتروني،
وفي بداية الثمانينيات بفضل جهاز البيتاكام).
٥
لنذكِّر في عجالة ببعض خصائص الحامل فيديو: (١) الصورة والصوت يكونان على المسار
نفسه في الشريط. (٢) ليس ثمَّة تحميض في المختبر (الذي يتطلَّب بين ساعة وساعتَين
لكل مكبة «بوبينة» من الفيلم). (٣) الكلفة المنخفضة للحامل. (٤) إمكانية البثِّ
الفوري عن بُعد (عبر الربط بالأقمار الاصطناعية، فيما يلزم إرسال الفيلم السينمائي
بالطائرة).
ذلك هو ما غيَّر ليس فقط مهنة الصحفي ونظام الإعلام وإنما نمط إدراك الفضاء
والزمن بكامله. ففي الشريط ذي المسير الموحَّد
monopiste، ثمَّة نقصٌ في درجةِ حرية التقويمات
الذاتية (إذ بإمكاننا التعليق بطريقةٍ مغايرة ولتوِّنا على حدَثٍ لا يعرضه الشريط
المتوفر بشكلٍ فوري إلا مرةً واحدة). إنَّ زمننا الواقعي يكمن في المرئي الفوري
للصورة المسجَّلة. وفي وفرة الحامل ثمَّة تضخُّم لانهائي للصور المتوفِّرة،
وبالتالي ثمَّة خطرٌ فِعلي في النقص من قيمة الصور (فالتأثير والوفرة مترابِطَا
الانعكاس). إنَّ في القدرة على إعادة البثِّ والإرسال المباشرَين إلغاءً للمسافات.
فلوجستيقا المرئي تتحكَّم في منطقِ المعيش. لقد غدا «مؤرخ الحاضر» كما عرفناه،
والمستكشف القديم بفضوله وأسلوبه وحِنكته مجهولَ «فرقة التصوير الموجودة في عين
المكان»، بربطها المبرمَّج بالقمر الاصطناعي. في هذا الوقت، أصبح كل شيء آنيًّا،
أمَّا العرض غير المتواقِت الذي يتطلب إخراجًا شكليًّا بصريًّا، فإنه أصبح عديمَ
الفائدة؛ ذلك أنَّ الأشياء المرئية، بما أنها تُرى في اللحظة نفسها، لا تتطلَّب
تعليمًا أو ملَكة خاصَّين. إنه تنقيصٌ من كفاءات مهنيِّي البصر والكلمة. فمع
الفيديو الخفيف فقَدَ المصوِّر القديم، باعتباره وسيطًا للمرئي، والكاتب أو الصحفي،
باعتبارهما وسيطين للتاريخ، أولويَّتَهما التليدة لصالح مقدِّم الأخبار. كما تمارس
فوريةُ الفيديو اقتصادًا في عمق المجال والزمن، وتصبح إدارةُ البرامج (الريجي)
بفسيفساء شاشاتها مَوْقعًا لقيادة الذاكرات، ومن ثَم جزئيًّا، موقعًا لقيادة الواقع
المُدرَك والمَعيش. فحين يكون المعيار الموضوعي لواقعية الحدث هو حدوث أثره؛ فإن
الحدث يغدو أثرًا لذاته. وإذا ما نحن ترجمنا ذلك فسنقول: حين يقوم الصحفي في مؤسسةٍ
ما بمحاورةِ زعيمٍ أجنبي؛ فإن الحدث، في نظر المؤسسة التي تبثُّه، لا يكمن فيما
يقوله الرئيس، وإنما في الصحفي على الشاشة.
إن التنقيص من كفاءة الاحترافي يمثِّل الجانب الخفيَّ لدمقرطة الصورة الصناعية.
ويعتبِر التليفزيون نفسَه الباثَّ الطبيعي للفيديو، الذي يحلم أيضًا بقلبِ نظامه.
كما أنَّ الكاميسكوب أداةُ إنتاجٍ خفيفةٍ وقليلةِ الكلفة؛ فهو يفتح أبواب التصوير
للهواة، بل حتى للمتطرِّفين والمنشقِّين. الفيديو سلاحٌ للحرب البصرية، وهو قد
يغذِّي لدى بعض المجدِّدين الحُلم بتليفزيونٍ مضاد.
على كلِّ حال، كيف نفكِّر في «عودة الحدث»، وفي هذا الازدهار الكبير للمباشر
(الذي يتحدَّث عنه بيير نورا) الذي نشهده بدون المِذياع والفيديو والاتصالات
بالأقمار الاصطناعية؟ إننا نَدين للإلكترون بالتوافق بين الحدث وتسجيله وإدراكه،
وهو الذي عُمِّد باسم البثِّ «المباشر». و«الخبر الراهن»، هذا الشيء الغريب الذي
وَجَد مُنطلقه في القرن اﻟ ١٨، هو من دون شكٍّ وليدُ الطباعة؛ وهو قد وجد محفِّزه
فيما بعد، في القرن اﻟ ١٩ في التلغراف الكهربائي، وفي الجريدة اليومية الشعبية،
ليتقوَّى بعمقٍ مع الإذاعة بعد الحرب العالمية الأولى. وسيكون على التليفزيون أن
يعمل على انبجاس الخبر الراهن عبْرَ تقليص الأزمنة التي كانت فيما قبل منفصلةً، أي
الزمن الذي فيه يقع الشيء، والزمن الذي تتم فيه علاقاته، ثم أخيرًا زمن بثِّه.
بينما كانت الحكاية خارجيةً وثانوية وتُضيف للحدث معقوليةً معينة. أما البثُّ
الهرتزي للصور (أو الثورة التِّلماتية بالنسبة للورق كحامل)؛ فإنه قد جمَعَ بين
الفورية والحضور الكلي بإلغائه للمحطات القديمة. إن التليفزيون يصنع الحدث بتزامنٍ
مع الإخبار به؛ وهو لذلك يكشف في واضحة النهار أنَّ الخبر هو الذي يصنع الحدث وليس
العكس. فالحدث ليس هو الواقعة في ذاتها، وإنما الواقعة وقد غدتْ معروفة، أو
«مُستعادة». لا يكمن إذن شرط الحدث في الواقعة، فذلك تجريدٌ غير وجيه، وإنما في
إذاعته ونشره. والمتحكِّمون في الأصداء والإدراكات هم أيضًا أسياد التاريخ المباشر.
فحين تكون السرعة ضوئيةً؛ لا وجودَ لأمامٍ أو لخلف، والدائرة في كل مكان ومركز
العالم هو الشاشة التي أراه عليها. وها نحن جميعًا، سواءٌ كنا وزراءَ أو مدنيين،
ساكنةً لمدريد أو دلهي، سواسيةٌ أمام الحدث المبثوث، نعيش تعادلًا فضائيًّا
وزمنيًّا لا سابقَ له. بيْدَ أنَّ ثمَّة إنسانًا واحدًا أكثر مساواةً من الآخرين؛
إنه ذلك الذي يتمُّ الحدث عبْرَه، أي مُرسِله. فبطلُ نهاية هذا القرن هو المنادي
الصدَّاح.
نهاية الفرجة
لماذا نرى في صورة الفيديو المتعدِّدة الألوان القطيعةَ المركزية؟ نظرًا لسببَين
مجتمِعَين. أولًا لأنَّ الأنبوب الكاثودي قد جعلنا ننتقل من العرض إلى البث، أو من
النور المعكوس من الخارج إلى النور الذي تبثه الشاشة؛ فقَدْ كسَرَ التليفزيون
التقنية المشتركة بين المسرح والفانوس السحري والسينما، والمعارضة بين القاعة
المظلِمة والكشف الضوئي. أما هنا فإن النور متأصِّل فيها؛ إنه ينبعث بنفسه، ويجد
أصلَه في ذاته ليبدو في أعيُننا «علَّة لذات». إنه تعريف سبينوزي للألوهية أو
الماهية. فإذا كان كلُّ عرْضٍ يتطلَّب مشغِّلًا لآلة العرض، يكون خارج الشاشة
وبالتالي تضعيفًا، فإن الصورة الكاثودية تصهر قطبَي التمثيل في انبجاس الأشياء
نفسها بنفسها. لقد انتقلنا من مجال الجماليات إلى الكونيات
cosmologie. ثم يأتي اللون ليعضِّد بشكلٍ حاسم
التناظرية والملموسية والقدرة الهوسية للبصمة. فالعلامة المطبوعة على الصفحة، مثلها
مِثل الحرف المكتوب بالأسود على مساحةٍ بيضاء، وكذا التجريد التباعدي للأبيض عن
الأسود، تحافظ مع الرائي على مسافةٍ عُرفية تغريبية وباردة. إن الأبيض والأسود
يتعلَّقان بالانفصال الرمزي، فيما يتعلق اللون بالترابط الإشاري. أما الألوان فإنها
أقلُّ تشدُّدًا وأكثر دماثةً، كما أنها قد استكملتْ «أثر الواقع»، باعتباره يعبِّر
عن قدرة الصورة على ألَّا تظهر كما هي، وإنما كما العالَم نفسه في كماله وملموسيته،
وقد تدحرج نحونا في غِلافه الصوتي الطازج.
لقد بدأنا نُشرف مع عصر الشاشة على نهايةِ «مجتمع الفرجة».
وإذا ما حدثثْ كارثةٌ فإنها ستكون حاضرة. كنا أمام الصورة فأصبحنا في
البصري. والشكل-التيار لم يعُد شكلًا للتأمُّل وإنما تشويشًا في العمق، أي صوت
الأعين. إنَّ مفارقة العصر الثالث الكبرى تكمن في أنه يمنح التفوق للسمع ويجعل من
البصر صيغةً من صيغ السماع … لقد كان لفظ «المنظر الطبيعي» يُخصَّص في الماضي للعين
فيما يخصَّص لفظ «البيئة» للصوت. والحال أنَّ البصري أصبح بيئةً صوتية تقريبًا،
و«المنظر الطبيعي» القديم غدا بيئةً تركيبية ولفافًا. إنه اسمُ عصرنا. فالصوت يسيل،
وهو قد أغرق الصورةَ معه.
أنْ نرى معناه الانسحاب من المرئي والابتعاد عنه والتجرد منه. توجد العين خارج
المجال المرئي، وتغرق الأذن في المجال الصوتي والموسيقي أو الصاخب. نحن نرى عن
بُعدٍ؛ لكننا نسمع عن قرب. فالفضاء الصوتي يمتصُّ الإنسان ويبتلعه ويخترقه، ونحن
نغدو مملوكيه حين نستطيع امتلاك الكائنات والأشياء برؤًى «واضحة ومائزة» كفكرة.
البصر حرٌّ، فيما يظلُّ السمع مستعبَدًا. ألَا يعني السمع في الإغريقية (كما في
العربية أيضًا) الطاعة. ثمَّة في السماع عنصرٌ سكوني، وفي الرؤية عنصرُ استقلال.
بإمكاننا تجاوُز صفحات عند قراءتنا لكتاب، بيْدَ أننا لا نستطيع تجاوُز مقاطع فيلمٍ
معروض في قاعة؛ لأنه يفرض علينا سرَيانه وإيقاعه. إن الإدراك البصري متباعِدٌ في
ذاته، أمَّا الإدراك الصوتي فهو انصهاري، وإلا فإنه لمسِيٌّ. يرتبط الصوت بالتأثير،
أما الصورة فبالفكرة. يُنتج الأول أثرًا عاطفيًّا، أما الثاني فلصيقٌ بالتجريد.
فمهما كان فضاء الأصوات خفيًّا ومتباينًا؛ فإنه متمرِّد على التحديد الهندسي.
٦ السمع ليس عضوًا للتحليل عفويًّا كالعين. إنه لا يعرف الفصلَ بين الذات
والموضوع، ولا بين الفرد والجماعة. وإذا ما نحن استرجعنا تاريخَ جسدٍ ما؛ فإنه
سيقودنا إلى ما قبل الخروج من الرَّحم الأمومي. فالجنين يسمع جسد أمِّه والصخبَ
المحيط به باستمرار، كما أنَّ الرضيع الذي لم يتمتع بعدُ بالبصر يكون ذا سمع.
الصورة سابقة على الكلمة، بيْدَ أن الصوت أسبق من الصورة. ثمَّة ثوراتٌ في مجال
النظر، لكنَّ كلَّ شيء يؤكِّد أن ليس ثمَّة من إمكانٍ لثوراتٍ من هذا القبيل في
مجال السمع. السمع عتيقٌ بالأصل والتكوين؛ لهذا فإن السمعيَّ البصري يخفِّف من
الانفصال البصري بالترابط السمعي، وذلك في تركيبةٍ غير قارَّة، حيث يسعى السمعيُّ
إلى أخْذِ زمام الأمور. يمكننا من الناحية التقنية قطعُ صوتِ تلفزتنا، وهو ما ليس
بإمكاننا القيام به في السينما. لكنَّ السينما الصامتة قد وُجدت، وقد توجد لاحقًا،
غير أننا لا يمكننا أبدًا تصوُّر تليفزيونٍ صامت.
يصعب علينا أن نقذف بأنفسنا في الصورة التليفزيونية أكثرَ مما يصعب علينا ذلك في
الصورة السينمائية أو في خشبة المسرح؛ لسببٍ بسيط يكمن في أننا نوجد أصلًا داخلها.
إنَّ الأمر يتعلَّق بتنافُذٍ ومحايثةٍ قصوى. فمقدِّم البرامج «يستضيف نفسه لدى
الناس»، ونحن ننتشي معه، في الحوار، على خشبة الاستوديو. لقد غدا كلُّ شيء قريبًا؛
فالاستوديو لم يعُد فضاءً خارج فضائنا وزمنًا خارج زمننا، وإنما حصل التداخل
والتمازج، والفاصل الذي كان بين الذات والموضوع ويحافظ على وجود التطهير صار في
أزمة. في أزمنةٍ كهذه، ومع السهولة المعممة هذه، تزعزتْ ركائز الثنائية المؤسِّسة
لفضاء تمثيلنا الكلاسيكي، أي تلك القطيعة الحاصلة بين المرئي والرائي، والتي
تمفصلتْ حولها العلاقة الفرجوية القديمة، التي تمثَّلتْ في المنحدر الذي يفصل، في
المسرح، الخشبةَ عن القاعة. والآن ليس من البلاهة أبدًا القول بأنَّ كلَّ شيء صار
موجودًا في أيِّ شيء؛ فلأول مرة نقفز على ذاك المنحدر. إن الاستعراض التليفزيوني
يوجد في الواقع، والمشاهِد التليفزيوني الذي يكاد يكون خلْفَ الشاشة الصغيرة ليس
هناك ليشاهد، وإنما ليشارك في المرتجلة التي يشارك الصحفي في صنع حدَثيَّتها (التي
ليست كذلك إلا لأنَّ الكلَّ يشارك فيها). إنها دائرة النشوة السحرية حيث تتكسَّر
المواجهة القديمة بين العين والمرئي، والتي كانت تفترض أنَّ لكل شيء مكانه،
والتباعد بين الشيء وصورته والحدث وأثره. كانت السينما باعتبارها أثرًا غير تزامني
تحافظ كليةً على هذا الفاصل، بيْدَ أنَّ التليفزيون ما لبث أنْ ألغاه بالبثِّ
المباشر. والآن أصبح الخبر هو الحدث، والصورة هي الشيء، والخريطة هي الأراضي، ولم
تعُد فكرةُ «الحجم الطبيعي» مبدأً منظَّمًا. لكنَّ تحطيم المسافة الترميزية داخل
الصور نفسها؛ يعتبر أكثر جدِّية من تحطيم المسافات الفيزيائية في الاستحضار عن بُعد
بالرغم من أنها متصلةٌ بها.
إنَّ فكرة الفرجة ذاتِ الطابع التطميني في نهاية المطاف، والتي لاقتْ من التعنيف
ما لاقتْه من قِبَل الأخلاقيين، لَجديرةٌ بأن يعاد لها اعتبارها في يومٍ ما.
١٩٨٠م: القنبلة الرقمية
أنشأ الانتقال من التناظري إلى الرقمي، في تاريخ الصورة، قطيعةً شبيهة في مبدئها
بالسلاح النووي في تاريخ التسلح، وبالتصرف الجيني في علوم الإحياء. فبعد أن كانت
الصورة المعلوماتية طريقًا للوصول إلى اللامادي؛ أصبحت بنفسها لامادية، أي إخبارًا
كميًّا ولوغاريتمًا وسِجلًا من الأعداد المتحوِّلة باستمرارٍ وبشكل لانهائي طبقًا
لعمليةٍ حسابية. وما تلتقطه العين لم يعُد إذن سوى أُنموذجٍ منطقي رياضي يتم إقراره
ظرفيًّا. إن هذا الانتقال عبْرَ الرقمية الثنائية قد مسَّ في الآنِ نفسه الصورةَ
والصوت والنص، ليجتمع بذلك المهندس والباحث والكاتب والتقني والفنان تحت ناظِمٍ
مشترك. إنهم قد غدوا أجمعين فيثاغوريين. وها هو عالَم الصورة قد غدا بسيطًا
ومنفتحًا ومعلِنًا لرمزيةٍ كونية. أما جزيرة الفنون الجميلة فقد اتصلت بالسرَيان
العام للبرمجيات. إنه انتصارُ اللغةِ على الأشياء، والمخِّ على العين. وبهذا يكون
تحويل جسد العالَم إلى كيانٍ رياضي، مثله مثل الأشياء الأخرى، بمثابة يوتوبيا
«الصور الجديدة».
إنها في كل الأحوال ثورةٌ في مجال البصر. فالتظاهر يحطم الأخيولة، ليرفع بذلك
اللعنة التي زاوجت دائمًا بين الصورة والمحاكاة. فقد ظلَّت الصورة مشدودةً إلى
وضعيتها المِرآوية كانعكاسٍ ونسخ أو أُخدوعة، وفي أحسن الأحوال كبدل، وفي أسوئها
كحيلة، لكنْ دائمًا كوَهْم. إنها إذن نهايةُ ألفيةِ محاكمة الظِّلال وإعادة
الاعتبار للبصر في حقل المعرفة الأفلاطونية؛ فالصورة، مع التصوير وبمساعدة الحاسوب،
لم تعُد أبدًا نسخةً ثانوية لشيءٍ سابق، وإنما العكس. إنَّ
الصورة المعلوماتية، بمراوغتها للتعارض بين الوجود والمظهر والشبه والواقعي، لم
تعُد بحاجةٍ لمحاكاة الواقع الخارجي بما أنَّ المنتوج الواقعي هو المطالَب
بمحاكاتها هي كي يحقق وجوده. هكذا، فإن معطيات العلاقة الوجودية
التي كانت تحتقر حوارنا مع المظاهر منذ الإغريق وتضفي عليها طابعًا مأساويًّا؛
تعرضتْ للانقلاب. فالتمثيل غدا عرَضًا، إلى درجةٍ أصبحت الأشياء تبدو أكثرَ فأكثر
مجرَّدَ نُسخٍ باهتة للصور، وذلك تبعًا لتحولاتٍ طويلة. لقد تحقَّقت الصورة
المعلوماتية، ذات المرجعية الذاتية، من كلِّ مرجعية (مبدئيًّا على الأقل)؛ وهي بذلك
تمكِّن من زيارةِ بنايةٍ لم تشيَّد بعدُ، والركوب والسير في سيارةٍ لا توجد إلا على
الورق، وقيادة طائرة في مقصورة ربَّان حقيقية، وذلك للتدرُّب في الأرض على مهمةِ
قصف مثلًا. هذا هو البصري. كما يبدو فعلًا. يكون العنصر الافتراضي مدرَكا بالفعل
(وقابلًا للتحريك) من قِبل الشخص، لكنَّه يظلُّ بالمقابل من دون واقعٍ جسماني. إنَّ
جسدي المجهَّز أفضل تجهيز بالمحسِّسات ولاقطات المواقع («قفازات المعطيات»، و«قناع
الرؤية») يمكنه التنقُّل في فضاءٍ غير مادي، يخضع في ذلك للاصطناع الرقمي، ويمكن
تحريكه إيابًا. تكمن المفارقة هنا في أنَّ الصورة والواقع لا يقبلان الفصل
والتمييز؛ ففضاءٌ كهذا قابِلٌ للكشف وغير قابلٍ للمسِّ، إنه واقعي ووهمي في الآنِ
نفسه. ولا تزال تجاربُ «الحضور عن بُعد» تتراوح بين التجريب في المختبرات والترفيه
الاستعراضي، بيْدَ أن التصاوير الافتراضية التفاعلية قد بدأت تغزو تجهيزاتِ
الطائرات والورشات وسيارات السِّباق. هكذا تنتج البرامج المعلوماتية، عبْرَ
المعالجة الرقمية للمعلومات، صورًا ذكية قابِلة لأنْ تُدمِج في سياقٍ معيَّن
الجَمَّ من المعطيات غير المنتظرة؛ وذلك قصد الإجابة على صدف وضعياتٍ خارجة عن كلِّ
تحكم. وقد قال ريشارد بولد بهذا الصدد: «إنَّ الصور تعرف الآن أننا نُبصِرها.» إنها
صورٌ «مسئولة». وبما أنَّ أفلاطون وباسكال أصبحا يمشيان على رأسَيهما فيحقُّ لنا
القول بلسانَيهما: «يا له من عالَمٍ صناعي غريب! حيث لا يزال الناس يُعجبون بآخِر
نموذجٍ من السيارات الفارهة، ولا يُعجبون أبدًا بالصور التركيبية …»
يلتقي الإنتاج الصناعي عبر الحاسوب بالإبداع الفني، والصوتي مع الموسيقى
الإلكتروسمعية والإلكترونية، والبصري مع الأنفوغرافيا (التصوير المعلوماتي). هكذا
يلتقي المركَّب الصوتي مع المِرسام التخطيطي. ونحن نشهد هنا، وفي مجالاتٍ أخرى،
صعودَ الواقعة التقنية، وإحاطتها بالواقعة الثقافية من جميع الجهات. فدورُ الآلات
لم يعُد ينحصر في الإذاعة والبثِّ مع المانييتوسكوب والجهاز القارئ «هيفي» … إلخ،
أو في التخزين والأرشفة مع الذاكرة الرقمية للأسطوانة الصلدة؛ وإنما يمتدُّ
للتصنيع. إنه نقطةُ نهايةِ سيرورةٍ طويلة؛ ذلك أنَّ مكننة الجماليات تعود إلى عصر
النهضة الأوروبية. فليوناردو دافنتشي هو أشهر هؤلاء الفنانين المهندسين، غير أنَّ
الثقافة المتخيَّلة والثقافة العالمة قد تقاطعا أكثرَ من مرة في تاريخ الغرب. إنَّ
فنوننا التشكيلية متوافِقة أيَّما توافُق مع الآلة، بحيث إنَّ الإنتاج المشترك
بينهما كان دائمًا في جدول أعمال الثورات الصناعية. وسوف يأخذ الإلكتروني بجدارةٍ
مكانَ الحديد والأسمنت المسلح كما تبلورا في القرن اﻟ ١٩. لنقُلْ بأن حركةِ تهجين
الموضوع الفني ستتابع، وذلك بمنح الأفضلية للمنتَج على العمل الفني، وعبْرَ تعاونٍ
كبير بين رجال الصناعة والمهندسين والباحثين والفنانين التشكيليين. لقد نجم عن كلِّ
مادة أو حاملٍ جديد تجديدٌ فني، ومن ثَم فإنَّ التشكيل بالزيت مغاير للتشكيل
بالتامبيرا، والتشكيل على القماش مختلفٌ عنه على الورق، وهذا الأخير مباين للتشكيل
على الجصِّ. لذا فليس من الغريب أن ننتظر من شاشة الحاسوب أسلوبًا ونوعًا فنيًّا
خاصَّين بها. لقد وصلَت الشاشة المستقبلية (الفيتيروسكوب) إلينا، والمرشَّحون
لخلافة والتر غروبيوس ليسوا بقليلين سواءٌ في أوروبا أو في كندا والولايات المتحدة.
وإذا ما نحن جمعنا الفنونَ المتولدة عن الحاسوب تحت اسم «فنون التقنية» (التقنوآرت
(الفن التِّقاني) وهو المقابل البصري للتقنوعِلم)؛ فلا شيءَ يمنعنا مسبقًا من
تصوُّر أن يغدو فنًّا معترفًا به، كلُّ ما يبدو اليومَ مجرَّد ترفيه أو تسلية
استعراضية، من قَبيل «البري شو» (ما قبل الاستعراض) بكراسيه المتحرِّكة وسينماه
الدينامية (وهي الوضعية القاصرة التي كانت ستتمُّ في بداية المسرح والسينما). لماذا
لم تنجب «اللامواد» في يومٍ ما جمالياتٍ أصيلةً على غِرار المادة الفوتوفيلمية فيما
سبق؟ إن «الصور الجديدة»، التي تركَّزتْ إلى حدِّ الآن في توهيم الصور، والجنريك
(المقدمة التعريفية) التليفزيوني أو ألعاب الفيديو، تمنح بدون شكٍّ ممكناتٍ
لَهْويةً ساخرة عجيبة ومدهِشة، وذلك بإحياء الطابع العجيب والغريب للنصوص القديمة
بخدع متقنة، من خلال إدماج التجريد في السمعي البصري. هل ثمَّة باروكيةٌ جديدة في
الأفق؟
إن الوقوف هنا ضدَّ المحرمات القديمة المتعلِّقة بالأصالة والألغاز والرُّوح؛
سيكون عبارةً عن شعائريةٍ لها أهميتها. بيْدَ أن الأفق قد يكون مخيِّبًا للآمال؛
ففي مجال الممارسة، وبخاصةٍ اليوم، تكمن مساوئ الصور الجديدة، مقارنةً مع القديمة،
في الكلفة المفرِطة التي تجعل من الإبداع رهينًا بقوانين السوق.
٧ فإذا لم يحقِّق الرقمي بيعًا مسبقًا؛ فإنه لن يكون مُنتجًا، من ثمَّة
ينبع طابعه الإشهاري الغالب. الرقمي لا يبتكر حكايات لها شخصياتها، إنه يروِّج
لموادَّ ومنتَجات. كما لا ينبغي أن ننسى حدودَ الممارسة الفعلية هنا؛
فالأنفوغرافيون ينطلقون من صورٍ ملتقَطة واقعيًّا لموادَّ موجودةٍ مسبقًا كالهياكل
العَظمية المصنوعة بأسلاكٍ حديدية أو المواد الجبسية أو الخطاطات والترسيمات، أو
الصور الفوتوغرافية الكلاسيكية التي يتمُّ إمَّا نقلها بالسكانير أو «تسطيحها»
وتقطيعها إلى وحداتٍ سطحية، ثم تحليلها رقميًّا لمعالجتها على الشاشة. ليس ثمَّة —
فعلًا — اختراعٌ للأشياء من عدمٍ، أو على الأقلِّ لم يصِل الرقميُّ إلى ذلك
بعدُ.
إنَّ مشروع بوهاوْس إلكترونيٍّ يطرح أسئلةً أكثرَ جذريةً؛ أوَّلُها سؤالُ
الكونيِّ السيِّئ، أي ذلك الذي يلغي عمقَ الزمن وفرادة الصنع؛ فالصور الرقمية تدهش
بطابعها اللاكوني واللاتاريخي. إنها ما دامت تستعصي على التحديد التاريخي والمكاني،
فهي تملك هيئةَ إسبرانتو بصري. إن قوة انتشار الأداة الرمزية والطابع العالمي
للُّغة الثنائية هي أيضًا ما يشكِّل قوتها. والكونية في متحفنا المتخيَّل نقطةُ
وصولٍ لا نقطة انطلاق، وما لا يوجد في المُنتهى لا يوجد في المنطلق. ينتمي فرمير
إلى الإنسانية؛ لأنه كان تشكيليًّا هولنديًّا، ما لزمه ذلك، في حدته اللمسية
ونَفَسه. ويكمن الخطر في ابتكارِ شفرةٍ بدون إرسالية أو تركيبٍ بدون دلاليات، أي
أشكال معقَّمة. كما أنَّ أهمية الجماليات الصناعية ومأساتها كلِّيةً؛ تكمن في أنها
تكون خاصةً بكلِّ الناس، وفي الآنِ نفسه لا تخصُّ شيئًا مهمًّا، شأنها في ذلك شأن
اللغة الرياضية التي تخدم الاتجاهات كلَّها، وتجعل الناس كافةً متفقين؛ لأنَّ لها
استعمالات، وليس لها من معانٍ.
ثم هناك مسألةُ الحركة، وفيما وراءها مسألة الكيان الحي. لقد كانت الفنون
التشكيلية استغلالًا للجسد على مادةٍ معينة، وكانت التصاوير معملَ حِدادةٍ ولقاءً.
أمَّا الاصطناع الرقمي، باعتباره فنًّا ذهنيًّا، فهو يحيل الأعصاب والعضلات على
البطالة. والفوتوغرافي نفسه جسدٌ مترقِّبٌ مفترسٌ للامتوقع وقلِقٌ على لقطاته. إننا
لا نندمج عاطفيًّا في العمليات الحسابية والتركيبات المعيارية التي تطرد الصدفة
وتحيِّد الاندفاعي. إلى أيِّ حد من اللامادية والتجريد الفيزيقي يمكن للابتكار
التشكيلي أن يسير؟ فمع الشَّكْلنة المتصاعدة للصور (والأصوات التركيبية) أصبح كلُّ
شيء يتمُّ ببرودةٍ عن بُعد، وفي التصوير السينمائي يقوم مدير التصوير بتحديد اللقطة
على الكاميرا بشكلٍ مباشر. أمَّا في الفيديو الاحترافي، فإنَّ ذاك التحديد يتمُّ في
إدارة الإنتاج، في سيارةٍ على بُعد مائةِ متر من مكان التصوير. وفي التحريك الرقمي،
يتمُّ تغيير حدَّة الأضواء والجوِّ المحيط ومواقعِ الكاميرات ونسيجِ المساحات
(كامد، ولامع، أو خشِن … إلخ) بحركةٍ من الإصبَع على ملامس الحاسوب. لا تماسَّ أصبح
مع المادة؛ فالروح قد تحررتْ من اليد، والجسد بأجمعه أصبح حسابًا، والصورة أقلعت من
الأرض. كما أن الألوان، وقد تحررت من العناصر القديمة، أصبحت قادرةً على التنوع إلى
ما لا نهاية؛ وغدا بالإمكان العثور على تلاوين بين لون التراب والزعفران، مقدار ما
يوجد من عشْريات بين عددَين صحيحَين؛ إنها حرية خرافية نؤدي عنها بفقدان الرغبة.
وقد كتَبَ بيير ليفي قائلًا: «إنَّ زمننا يفضِّل النماذج على الأشياء؛ لأنَّ
اللامادي محروم من الجمود.»
٨ وما دامَت مقاومةُ الأشياء وثقلها يُمحَى؛ فإن كلَّ شيء يغدو سهلًا
وسريعًا، على الأقل مبدئيًّا؛ ذلك أنَّ السرعة التي تُكتسب هنا يتمُّ فقْدُها في
مدَّة الحساب الضرورية لصناعة المظاهر. فكلما اقترب الحاسوب من الكائن الحي؛ اضطر
إلى تعقيدِ عملياته، وبالتالي إلى التبذير. لهذا أيضًا تقتصر الصور الجديدة على
إعادة تشكيل المعادن والمواد البلاستيكية والأخشاب، أيْ على الجامد عمومًا. ومن
ثَم، تأتي الشعارات والأحجام المجرَّدة وديكورات المعمار باعتبارها منجزاتٍ سهلة.
هناك شيءٌ ما رمزي في تراتُبية السيادات المكتسبة من قِبل الصور التركيبية؛
فالمعدني قابلٌ بسهولةٍ للاصطناع (انظر الفيلم الرائع «ترميناتور ٢»)، والنباتي أقل
سهولةً، أمَّا الحيواني فأصعب. لا يزال الحاسوب لحدِّ الآن متعثِّرًا في صياغة
صورةِ الفقْريات؛ إنه قد تعلَّم الآن صُنع الديناصورات والطيور والأسماك. وهو الآن
قد بدأ في الثَّدْييات، بيْدَ أنَّ الكائن الإنساني التركيبي لا يزال مجردَ دميةٍ
متحركة، وأحيانًا إنسانًا آليًّا عاجزًا عن الإبصار والكلام (فالأمران متصلان).
الوجه يستعصي أكثر من الصوت على الحساب (فالإدراك البصري أحدُّ وأدقُّ من الإدراك
السمعي، والأصوات أكثر قابليةً للتزوير من العينَين أو البشرة أو الخَلْق). إنه
لأمرٌ مطَمْئن؛ فالاصطناع الرقمي قادرٌ على صنع لوحاتٍ حقيقية زائفة لموندريان لا
لفيلاسكيز.
تكمن المشكلة في الجسد لا في الرُّوح؛ فحيث لا يوجد الجسد تنعدم الرُّوح، أي
البصر. ما الذي سيكون أبديًّا في غياب العينَين؟ إنَّ الصورة الحيَّة ذاتُ قرابةٍ
غريبة مع الشخصية؛ إنها دهشةٌ دائمة. أمَّا الجامد واللوغاريتمات؛ فهي ذات جوهرٍ
تكراري، شأنها في ذلك شأن كلِّ ما يفتقد للوجود. ذلك هو ما يحدث. لكنَّ وجهَين، ولو
كانا لِتَوءَمَين (أو «طبيعة جامدة» مرسومة من قِبل تشكيليين)، لن يكونا أبدًا
متطابِقَين تمامَ التطابق. لذلك كان الوجه الإنساني مقدَّسًا، لا باعتباره جاء على
صورة الخالق، وإنما باعتباره ليس صورةً لشيءٍ آخَر غيره، أو لأيِّ صورةٍ أخرى
ممكنة. لهذا، فمن الرجس حرْقُ بورتريه، وأقلُّ رجسًا منه حرْقُ منظرٍ طبيعي، أو
حرْقُ شريطِ فيديو أو صورةٍ فوتوغرافية؛ لأننا بذلك ندمِّر عملًا لن يتكرَّر أبدًا.
إنَّ الرجس الذي يتصدَّى لمَا لا يقبل المحاكاة مطلقًا قد اتَّحد اليوم، وفي لحظةٍ
متعة قلِقة، مع استنساخِ الواقع باليد ورخاوة البصر. وهو ما يشكِّل محرَّمًا
أخلاقيًّا؛ لأنَّ الأمر يتعلَّق بوحدانيةٍ بيولوجية.
في الفن التقني، كما فيما قبله، يسبق التصورُ الإحساسَ. لكنْ هنا، يحدِّد العددُ
النتيجةَ، ولا إمكانَ للتوليف؛ فالحصيلة موجودةٌ كليَّةً في الحساب، باعتباره
تجريدًا متمركزًا حول العقل للجسم الإحساسي للمرئي. ألَا يعني التجرد القاتل من
الجسد تخلِّيًا أيضًا عن المعنى؟ إنَّ قولنا هذا لا يعني أنَّ المعنى يلزم أن يُطرح
ضرورةً من طرَفِ وعيٍ أو مقصديةٍ ما، بل إنه يرتبط بفرادةٍ معينة، أي بتلك الظرفية
اللااحتمالية من الجينات التي تشكِّل الفرد الحي. في الصورة الفنية، وليكن في
البورتريه أو البورتريه الذاتي، كان ثمَّة دائمًا رعشةٌ مرتبطة بالانبجاس اللامتوقع
لنظيرٍ لا يشبه أيَّ أحد. إن هذا التفخيم المتجاوز هو ما كان يحسُّه كل إنسانٍ
مولودٍ صدفةً وفانٍ بالضرورة أمام الصورة التي صنعها بيدَيه، وهو ما ليس في مقدرة
الالْتقاط البصري لنموذجٍ رياضي أن يقوم به. فما لا يمكن تعويضه في العمل الفني
(الذي يبجله المزيِّف كما يبجل النِّفاق الفضيلة) يشكِّل من دون شكٍّ فضيلةً
اقتصادية، غير أنه لا يقبل الاختزال في هذا المستوى. العمل الفني باهظ الثَّمَن
لأنه، على عكس المنتوج الصناعي، ليس خيرًا قابلًا لإعادة الإنتاج. لكنَّ معيار عدم
إعادة الإنتاج هذا، ليس سببًا بقدْرِ ما هو نتيجة. فالعمل الفني لم يكن متفرِّدًا
لكي يكون باهظَ الثمن ويحفِّز، من ثَم، على المضاربات حتى الجنون. إنَّ ذلك شيءٌ
مهمٌّ، غير أنَّ التسعيرة والثمن شيئان إضافيان. لقد كان الفنُّ هو اللامتوقع
المنبثق أمام البصر والحياة. الفنُّ شأنه شأن الفرد، اكتشافٌ وصدفة ومفاجأة جميلة.
إنه يغدو ضرورةً بمجرَّدِ ما يوجد، لكنَّه منظورًا إليه من الخارج يكون صدفةً، أي
أنه كان قابلًا لئلا يوجد. إنَّ المشكلة المطروحة مع هذه التكنولوجيات العجيبة
والفائقة الحداثة؛ تكمن في وثوقيتها فهي تتوقَّع كلَّ شيء، وتلك هي الأكاديمية
بعينها.
إذا كانت الشعائر الأرثوذكسية تحرِّم الصور والأصوات ذات الأصول الآلية؛ فهل ذلك
من قَبيل إشعال نار الفتنة أم هو نِتاج تخلُّف المسيحية الشرقية على علمانية الغرب.
يعتبر لاهوتيُّو المسيحية الأرثودوكسية أنَّ تعويض جوقةٍ بأسطوانة وأيقونةٍ بصورة
فوتوغرافية أو جداريةٍ بلوحة سيرغرافية، من دون أن تفقد الشعيرة فاعليتها التأثيرية
على الجماهير، شيءٌ غير ممكن. فالأيقونة هي التعبير الحيُّ عن الإيمان، والكائن
الحيُّ هو الوحيد القادر على الاستجابة لربِّه وضمانِ نفْسِه أمامه.
أما التساؤل الأخير الذي يتلو اجتثاث الأمكنة من قداستها، وإفراغ الطرائق من
محتوياتها الروحية؛ فيتعلَّق بتعطيل النتائج. فالفنُّ التقني أخصبُ من حيث الطرائق
والعمليات أو البرامج، منه في الأشياء الناجزة. والصورة الفوتوغرافية أو الفيلم، أو
شريط الفيديو حتى، هي أشياءُ مغلقةٌ وقابلة للعرض والنقل والاتجار والتداول.
والمتاحف، كما هواة الفن وجمَّاعوه، تجِدُ صعوبةً في عرض أو خزن أو اقتراح «نماذج
توليدية» للمُمْكنات، مطروحة للخيال اللَّهْوي للزوَّار. إنَّ برْمجيةً
(logiciel) ما ليست مقطوعةً موسيقية؛ وإنما هي
قالبٌ من العمليات اللامعدودة. ولَعَمْري إنَّ هذا النقص في الطابع التذكاري، قد
يبدو ثانويًّا، ولن يتمَّ التواني في إيجاد صيغٍ جديدة لتداول «الفنون التكنولوجية»
(كما تسمَّى فنون العصر البصري). لكنْ، ما يبقى هي الوضعية المهمَّة لهذه الأعمال
المفتوحة للجميع؛ حيث أصبحت الوظيفة الخاصة بالمؤلف ربما عبارةً عن مفارَقةٍ
تاريخية. وإذا كانت كلُّ المقاولات المعملية تتوفَّر على التجهيزات نفسها، الخاصة
بالصنع العادي؛ فإنَّ ما يميِّز بينها تقوم به البرمجية. بيْدَ أن البرمجية ليست
عملًا فنيًّا؛ إنها أداةٌ تنجم عنها المِلكية الصناعية (تسجيل براءة الاختراع) لا
الملكية الفنية (حقوق المؤلف). لكلِّ برمجية عدَّة تطبيقات؛ ولذا فهي تطوُّرية. أما
العمل الفني فمكتملٌ ونهائي. إنها تمييزات عارضة، رهينة بالتشريعات الوطنية وقابلة
قطعًا للبطلان. مَن هو مؤلفُ فيلمٍ رقمي؟ هل هو المهندس أم الأنفوغرافي؟ وستكون
الإجابة هي: لا هذا ولا ذاك؛ إنَّه مؤلفُ حكاية جماعية
story-board. وفي الواقع، والكلُّ متفقٌ على
ذلك، ثمَّة إبداع في صنع برمجية، والكثير من البرمجيات في إبداعٍ رقمي ما. ومن حُسن
الحظِّ أنَّ تفاعل العلم والفن يسرِّع من تلاقح وتمازج المقولات الذهنية القديمة
والكسولة (كالمؤلف والمُتحارف bricoleur، والفنان،
والمنتج، والزبون، والمعمل، والمقاول … إلخ) الموروثة عن نظام «الفن»: إنه عملٌ
حقوقي عسير، بيْدَ أنه ضامنٌ عملي للخصوبة.
التقنية بوصفها شعرية
فيما مضى كانت نظرية الفنون الجميلة وعلاقاتها واختلافاتها تسمَّى «شعرية الفنون
الجميلة». قد يكون ذلك فكرةً عتيقة، غير أنَّ العلائق والاختلافات لا تزال أكيدةَ
الوجود. ومن اليقين أننا أصبحنا اليوم نَفُورين من فكرةِ تراتُبية الفنون. ففي
مدينة الفنانين التشكيليين ذات الطابع الأخوي، يتماسُّ بأدبٍ كلٌّ من التشكيليين
والحفريين والنحَّاتين والسينمائيين والفيديائيين؛ وعلى هذه المدينة الفاضلة ألَّا
تُعير اهتمامًا للمنافسة من أجل الفضاء والجمهور الحيويَّين. ومَن مِن الفنانين لم
يسخر من هذه التصنيفات البالية معتبرًا إيَّاها ترهاتٍ تأملية؟ إنها تصنيفاتٌ كانت
في الماضي ذاتَ رهاناتٍ محسوسة في المسيرة الفنية ومعاش الفنانين. ففي القرن اﻟ ١٧،
حين أعلنَت الأكاديمية الملكية أنَّ البورتريه فنٌّ قاصر، بعد أن حطِّ من قيمته
تهافُت البورجوازيين الراغبين في تخليد ملامحهم عليه؛ عمل ذلك بقساوةٍ على تخفيض
أثمان الأعمال الفنية. وبعد أن ارتقى الحفر على النحاس إلى مستوى الفن سنة ١٦٦٠م؛
لم يلبث أن تقهقر إلى مستوى الحرفة. وفي سنة ١٧٤٩م، تمَّت التضحية بالرسم بالباستيل
لصالح التشكيل الزيتي. بالفعل، لقد ولَّى زمنُ «نظام الفنون الجميلة» القديم، وكفَّ
عن أن يكون تراتبيةً لها نفوذُها، وتحوَّل إلى مجرَّد حقلٍ مغناطيسي.
ولم تعُد التقنية نظامَ أوامرَ فوقية، وإنما غدتْ ذات قوةٍ جاذبة للعقول
والمسارات الفنية؛ كما أن تطور آلات الرؤية غدا مبدأ توليديًّا وتراتبيًّا بحيث لم
يعد الفن ثاويًا في الفن. وأصبح مجال الجمال الممكن ينتظم في مواقعِ قوةٍ مرسومة في
المختبرات، بعيدًا عن معامل الفنانين، بديناميةٍ يملك أسرارها المهندسون لا
الفنانون.
ثمَّة بعض الشجن في هذه الشعرية. وهو يعود في الحقيقة إلى الصراع من أجل البقاء؛
ذلك أن الفنون إذا كانت تملك الحقَّ في العيش مجتمعةً، فإن هذا لا يعني أنها كلَّها
حيَّةٌ أيضًا. على كلِّ فن القيام بما لم تقُم به الفنون الأخرى، وفي هذه الأصالة
تكمن علَّةُ وجوده. لكنْ، لا وجودَ لفنٍّ أو لنوعٍ من الصور يكون أبديًّا في
مرتبته. فالزجاجيات المزخرَفة لم تعُد ما كانت عليه بعد ظهور الصفيحة الضوئية
الحسَّاسة التي تستخدمها الفوتوغرافيا. كما أن الصورة الفوتوغرافية قد تجاوزتها
بدورها الصورةُ الإلكترونية. إنَّ القدرة الغنائية لنوعٍ معيَّن من الصور البصرية،
أو حدَّة المؤثرات التي يُفترض فيها أن تنتجها، وكذا «آثارها الحاسمة»، تختلف
باختلاف الأزمنة، وهذا ما يؤدي بالمصوِّر إلى أن يكون رسَّام جدارياتٍ في القرن اﻟ
١٤، وحفريًّا في القرن اﻟ ١٦، وتشكيليًّا في القرن اﻟ ١٩، وسينمائيًّا في ١٩٦٠م،
وفنانَ فيديو في عام ٢٠٠٠م؛ بالرغم من امتلاكهم للملَكة والمهارة نفْسَهما. فلكلِّ
عصر دائرتُه الجمالية، أي حساسية جماعية مناظِرة للذِّهنية الجماعية التي يحدِّدها
سلَّمٌ للإنجازات العاطفية وسلَّمٌ للخطوات الاجتماعية. إنه جدول مقارن لمعدَّل
الطموح إلى الشهرة، يمارس الجاذبية على المسيرات الفنية للفنانين.
فهل أن البيئة تقدِّم تلك المقترحات والموهبة الفردية تشغِّلها؟ لكن المقترحات
التشكيلية للبيئة أو الوسط ليست لها معادلاتٌ متساوية، بحيث إن الوظيفة التجسيمية،
باعتبارها دائمةَ الوجود، لا تمسُّ الأعضاء نفْسَهم من عصرٍ لآخَر. فخلْقُ الأشكال،
مهما بلغتْ درجة رهافته ودقَّته، يبتغي الوصولَ إلى الناس بدءًا والتأثيرَ فيهم بعد
ذلك. والحال أنَّ الوصول إلى الناس والتأثير فيهم يتمُّ بشاشةٍ كبرى «دولْبي
ستريريو» مشعَّة في الظَّلام، أكثرَ منه بصورةٍ جامدة وبَكْماء. الحاجة إلى التجسيم
تنتقل تبعًا للمنجزات التواصلية، أو قوى الارتجاج الفيزيقي لهذا النوع أو ذاك. وبما
أن كلَّ وسيط يكوِّن الجمهورَ، حسب مبتغياته، ويربيه؛ فإنَّ الجمهور يكفُّ عن
التكيُّف مع الوسيط السابق، الذي يضطر إمَّا للتآكُل أو «الالتصاق» بسلفه، أو
لمواجهته باستمرارٍ لانتزاع الاعتراف به. ومن المثير أن يكون نمطُ التعبير الأكثر
سوقيةً في الغالب هو الأكثر تجديدًا في ذلك العصر. فحيثما يكون التواصل أكثرَ؛ يكون
التجديد أكبر. إنَّ مأساة التاريخ الرسمي للفن تكمن في كون القطائع الجمالية تتمُّ
عمومًا في الميدان الأقلِّ «جماليةً» من اللحظة الحاضرة. ففي الوقت الذي كان فيه
بول فاليري يُلقي دروسه عن الشِّعرية في الكوليج دوفرانس؛ كانت شعريةُ المتخيل،
التي ستشكِّل زمنه، تُبتكَر في استوديوهات جوانفيل في ضواحي باريس.
«الفكرة المركزية لكلِّ جيلٍ لن تُكتب أبدًا بالطريقة نفسها …» ويتابع فيكتور
هوغو قولَه مشيرًا لغوتنبرغ في القرن اﻟ ١٥، بأنها كانت تُكتب على الحجر إلى حدود
ظهور المطبعة. ومن الآن فصاعدًا ستُكتب على الورق، «فالأخير منهما يقتل الأول.»
وبعد السيلوليد، والشريط المغناطيسي، ها هي الصورة المركزية لكلِّ جيلٍ تنتقل
بدورها من حاملٍ لآخَر. فلكلِّ جيلِ بصَرٍ فنُّه المعياري، ذلك الذي تتبعه الفنون
الأخرى بخطًى ثابتة. واللاحق «يقتل» السابق، وهي قاعدةٌ ثاوية خلْفَ سيادة «التقدم
التقني»، الذي لا يُراكِم الفنون بحكمة، السابع منها والثامن والتاسع، تبعًا لنظامِ
ولادتها؛ وإنما يُراكِم اللدغات والتدافعات والرجَّات والصدمات. واللعبة طبعًا لا
تقتصر على الإبادة، «فاللاحق» قد يعيد بعْثَ «السابق». ثمَّة إعادة قراءةٍ سينمائية
للتشكيل، ونظرةُ السينمائي السوفياتي سرغي إيزنشتاين لِليوناردو دافانشي منحتْه
حياةً جديدة. ونحن، بعد السينمائي الأمريكي أورسون ويلز، لا نرى لوحةَ التانتوري
بالنظرة؛ لأننا نعثر فيها على التأطيرات والخطوط المائلة القلِقة وعمق المجال. كما
أنَّ السينمائي الفرنسي ألان ريني قد جعلنا نكتشف فان جوخ مسرحيًّا وبالأبيض
والأسود. إن السينما التي «تكفِّن الزمن» كما قال أندري بازان، قد تفكُّ بعضَ
لفائفِ كَفْن الأموات أحيانًا. ابتكرت السينما شكلَ كتابةٍ جديدًا هو السيناريو،
كما ابتكرت الفوتوغرافيا الرواية الاستطلاعية. والكاتب «سيمنون» يَدين لها بالكثير
(فرواياته كانت الأُولى التي زُينتْ أغلفتُها بصورٍ فوتوغرافية). ثمَّة معركةٌ
مشبوهة تبيِّن أن العلاقات البَيْنية بين الفنون هي علاقاتٌ يترابط فيها العداء
والتضامن. فالخدمات الجيدة والسيئة تتتابع بتناوُب.
يبدو النحت، في سُلَّم الصدارة الاجتماعية، في تراجع منذ
القرن اﻟ ١٩. يعود ذلك لأسبابٍ عدَّة، وآخِرها ليس الخطوة المقارنة
التي يمنحها للتشكيل الاستنساخُ الفوتوغرافي ذو البُعدين. فالنحت وخاصيته الحجمية
لا يتقبَّلها ورق الصورة. ومع ذلك، كانت بدايات الفوتوغرافيا واعدةً في هذا
المضمار؛ فقد كان التمثال يحصل على ثباتٍ نموذجي باستخدام وقتِ استنارةٍ طويل. ومن
ثَم، جاء الكمُّ الهائل من النُّسخ الفوتوغرافية للمعمار وللقوالب والتماثيل، في
وقتٍ كانت فيه وظيفةُ الفوتوغرافيا المتواضِعة تكمن في التسجيل والتدويل، وكان فيه
النحَّاتون — كرودان وبرانكوزي — يستغلُّونها للنشر الأوسع لأعمالهم والرَّفع من
قيمتها (وهو ما قام به التشكيليُّون الكلاسيكيون مع الحفر). وقد استمرَّ ذلك إلى
حدِّ أن عمِلَ الفوتوغرافيون الكبار لحسابهم الجمالي الخاص، واتخذوا من النحت
ذريعةً لصنع صورٍ فوتوغرافيةٍ جميلة حكائية أو مجازية.
٩ إنَّ واقع منحوتةٍ ما، أي بُعدها الثالث يتطلَّب اليوم اتصالًا
مباشرًا. وسيعرف النحت، من دون شك، العودةَ إلى الرِّفعة، وذلك حين يستطيع
الهولوجرام (جهاز تصوير النتوءات)، أو أيُّ تقنية شبيهة به ومتطوِّرة، خلْقَ وهمٍ
بصري يمكِّن من تشكيلِ ليس فقط الحجم، وإنما أيضًا تفاصيل وتنويعات التشكلات
النحتية ولعبة الأضواء والظِّلال وتغيرات النبرة؛ ليمنحنا إياها في بيوتنا موضوعًا
قارًّا للمتعة الشخصية.
لقد حقَّق الشريط المصوَّر D.B أفضلَ منجزاته، من
دونِ ريب، في السنوات الأخيرة. فقد سما لمرتبةِ الفن وأصبح يتمتع بمواقعه المؤسسية
ومهرجاناته وهواته ومسابقاته وخطاباته. بيْدَ أنَّ لعبة الفيديو التفاعلية قد تفسد
عليها الأمر. إننا لا نعني بذلك أنها ستُنقص من مرتبته، وإنما أنها سوف تسرق منه
حيويته، وذلك بحرمانها من جمهوره الأساسي الذي يمنح الحياة لهذا الشكل الشعري. كان
تانتان بطلُ الشرائط المرسومة يفتنُني. لكنْ، ما الذي سيتبقى من تلك المرسومات وتلك
الألبومات حين أصبح بإمكاني شخصيًّا برمجةُ مغامراتِ البطل ومكابداته ومصاحبته
مباشرةً على شاشةِ حاسوبي في الصين أو الكونغو؟ إنها المغامرة في زمن واقعي موجَّهة
إليك أنت، وذلك كلُّه وأنت مسْترخٍ على أريكتك. وبما أنِّي أندمج في الصورة
المتحرِّكة والصائتة، والتي ستصبح غدًا مجسَّمةَ الأبعاد أو شمِّيَّة؛ فإني سأغدو
شخصيةً رئيسة وشريكًا للمؤلف في الآنِ نفسه. إن الشريط المرسوم فنٌّ بصري بزغ في
آخر عصر الأشكال؛ ممَّا يجعلنا نخشى أن يقوم عصر الشاشة بتحنيطه بطريقةٍ رفيعة،
وذلك بجعله يلتحق بالتشكيل والنحت في المعابد الموقِّرة للاحترام الجمالي.
ولنأتِ أخيرًا للرقص. فصعوده (كما هو صعود الحفلات الاستعراضية واستعراض الأزياء)
سمةٌ مميِّزة لصعود «الإشارة إلى العلياء»؛ فقد رأينا سابقًا أن
طفولة العلامة تُعتبر مستقبل العلامة. ومعنى ذلك أن
الناس يتركون السُّنن الأليفة والأجسام المروَّضة لملاحقة الحالات الوحشية والحركة
الحرَّة. «فلُغة الجسد» تعني الانتصار الاحتفالي لخطِّ الجسماني على خطِّ اللغة.
وفي
الصحراء العاطفية للعقلنات الحديثة تمكِّن
تجمعات الأجسام الصامتة هذه (كرسوم الأطفال والمجانين) من إعادة إحياء الطاقات
الضائعة. وبما أن الرقص فنٌّ ساذجٌ وأخرسُ، أيْ عالمي (ولهذا السبب حَظِي بعنايةِ
كل الأنظمة الكليانية باعتباره الفنَّ الأقلَّ مسًّا بأمن الدولة، مقارنةً مع فنون
الخشبة الأخرى)، فقد وجَدَ في التسجيل والبثِّ بالفيديو مَعينًا ديناميًّا.
التليفزيون يخدم الإنجاز الجسماني ولو بتخليد حركاته، وذلك بالرغم من حدوده
التعبيرية في تصوير الفضاء الفيزيائي ودوران الأجسام. وقد بدأ بعض مصمِّمي الرقص
يضعون على الخشبة شاشاتٍ تلفزية مدمِجين إياها في عملهم.
١٠ كان الرقص يملك فيما مضى حظوته كفنٍّ للبلاط وكجسدٍ يرقص باليه ورمزٍ
للعالم المَلَكي المتمدِّن. ثم تدمقرط بخروجه من انغلاقه القداسي والشعائري. وبعد
فترة، نقصَت فيها قيمته في عصر الأشكال، وها هو يتحوَّل اليوم إلى فنٍّ راشد وشعبي
في الآنِ نفسه، ويعضِّد قيمة عصر الشاشة ويمتح قيمته منه. فهل سنتساءل، في الرقص
المتلفَز، مَن يستغلُّ مَن؟ ربما كان التبادل بين الحظوة الأرستقراطية والبث
الجماهيري في أصلِّ عَقدٍ جيد يكون في صالحهما معًا. إنه لقاءُ مرح بين قِدمٍ خالص
(متمثِّل في الحركات والإيقاع) وتقدُّمٍ تقني فائق (متمثِّل في المانييتوسكوب
والأشعة الهرتزية)؛ جعَلَ الرقص المعاصر يضع الوسائط التقنية في خدمة مباشَرَتها
المادية. هذا التحالف بين المتناقضات أو اللعب على المتنافر؛ هو الذي يجعل منها
الآن (ومعها استعراض الأزياء والاستعراض الإشهاري) أكثرَ الفنون الحيَّة مدعاةً
للإجماع.
تشبه حياة الأنواع الفنية أغنيةً راقصة هزلية، تنقل كلَّ
شكلٍ فني في بداياته من الجمهور وبلا أي امتياز، إلى الحظوة والامتياز بدون
جمهور. أفلا يغلق المسرح الآن دائرةً ممتدَّة في الزمن، من المسرح
الجَوَّال على الجسر الجديد في باريس في القرن اﻟ ١٥ إلى القاعة المموَّلة في القرن
اﻟ ٢٠؟ إنه ليعسُر على فنٍّ ما أن يكون في الآنِ نفسه حيًّا ونبيلًا وشعبيًّا
ومحترمًا.
هذه القسوة تسكن أيضًا الواقعة الأدبية.
١١ كيف يمكننا فهْمُ تحوُّلات الخصوبة من قرنٍ لآخَر، ومن الملحمة إلى
الفصاحة، إلى الخطابة، إلى المسرح، إلى الشِّعر، إلى الرواية، إلى السيناريو … إلخ،
من دون أن نعتبر السمعيَّ خيطًا ناظمًا لها؟ الموهبة تتَّجه حيثما كان صداها أكبر.
وقيمة استثمار المجهودات الفردية تزداد وتضعف مع «العودة» المشروعة والمنتظرة لهذا
الشكل أو ذاك من أشكال التعبير. إن تتابُع الأشكال التعبيرية الأكثر محطًّا
للتقدير؛ يمنحنا مثالًا آخَر عن هذه الداروينية الوسائطية، حيث تُبيد الأشكال بعضها
البعض، خاضعةً في ذلك للاصطفاء الذي يقوم به المجال الوسائطي، وذلك تبعًا لبقاءِ
الأقوى (على فرض تلقِّيه). لذا يكون من النافع دائمًا الربطُ بين شكلٍ أدبي معين
وحالة الإرسال المادية. ففي فرنسا تزامنتْ ولادةُ فنِّ المراسلة، مع مدام دو سيفيني
ومارسيل جوهاندو، مع ظهور البريد، لينمحي مع ظهور الهاتف. وقد واكبَت الرواية
المسلسَلة من أوجين سو إلى سيمنون ولادةَ الجريدة اليومية، لتكبر مع ظهور المطبعة
الرحويَّة، لتَئُول إلى التدهور مع الصورة الصائتة. أما الاستطلاع الكبير الذي
تلاها، من ألبير لوندر إلى روجي فايان، مرورًا بجوزيف كيسل وجان بول سارتر، فقَدْ
نشأ مع التلغراف اللاسلكي ليتزوج من الصورة الصحفية (جريدة باريس المساء، ١٩٣١م)،
ويندثر مع إعادة الإرسال بالأقمار الاصطناعية. فما جدوى الأشياء المرئية على طريقة
فيكتور هوغو، إذا كان بإمكانِ كلِّ امرئ مشاهدتها في بيته بالضغط على الزر
فقط؟
إن رؤية التاريخ عن بُعد قد أدخلتْ تغييراتٍ جمَّةً على كتابته عن بُعد؛ وذلك
بتحويل القلم من حكي الحدث في راهنه أو تكبيره عن بُعد، إلى التحليل البَعدي. لقد
جمَّدت التكنولوجيا الكهرومغناطيسيةُ الكتابيَّ، وكانت بالأخصِّ وراء اندحار نوعَين
أدبيَّين رئيسيَّين: وصف الأعمال الفنية انطلاقًا من مزاجٍ معيَّن (ما قام به
ستاندال مثلًا في إيطاليا)، وإعادة الكتابة البَعْدية للقصة المعيشة (شاتوبريان في
مذكرات ما وراء اللَّحد، والمذكرات على طريقة أندري جِيد). إنَّ الذاكرة التناظُرية
(سواءٌ كانت شريطًا سينمائيًّا أو شريطَ فيديو) التي تمكِّن الحدث أو العمل الفني
من تقديم نفْسِه بنفسه لنا؛ تحطُّ من قيمة الذاكرة «المصنوعة يدويًّا»، باعتبارها
فقط حيلةَ الحِرفي. إنها تهمِّش رسَّام أيام الآحاد بمِرسامه المحمول، بنفس الشكل
الذي تهمِّش به، في المجال الإعلامي، تانتان الصحفي الاستطلاعي بقلمه الحِبري أو
آلته الكاتبة ريمنغتون.
بإمكاننا أيضًا وضْعُ مَعالم لتحديد انهيار الصور، شبيهٌ بقرارات الشرطة.
وسنتساءل آنذاك: إلى أيِّ وقت ظلَّت لوحةٌ أو منحوتةٌ ما تثير الفضيحة؟ منذ متى لم
يعُد يقتحم رجلُ أمنٍ رواقًا باريسيًّا للفن ليسحب من الواجهة لوحةً مثارَ خِلاف؟
لماذا تكون هذه الصورة الإشهارية أو تلك في أصلِ ردَّة فعلِ الأساقفة الفرنسيين؟
إن جردًا زمنيًّا للممارسات السريَّة وجُنْحات الصور
ستشكِّل مدخلًا فعليًّا لتاريخ البصر؛ فهواة التشكيل يتحسرون بدون شكٍّ على ذلك الزمن المبارك، حين قام جول-لوي بروتون، العضو
الاشتراكي للبرلمان
الفرنسي، باستفسار الحكومة مُدينًا فضيحة «الفظاعات المعتبَرة فنًّا» للتكعيبيِّين
و«مزادات شذوذهم وغراباتهم» المعروضة آنذاك بصالون الخريف. كان ذلك سنة ١٩١٢م. وفي
سنة ١٩٢٥م أيضًا قام المسئول العام عن معرض الفنون الزخرفية بحجب لوحةِ جسدٍ عارٍ
لدولانوي في الجناح الفرنسي. مَن هو هذا المستشار الذي سيطلب اليوم سحبَ لوحةٍ من
جناحٍ رسمي في معرض دولي؟ ثم جاء الفيلم ليأخذ قِسطه من ذلك؛ فقد ساهَمَ منعُ فيلم
ريفيت Rivette «الراهبة» سنة ١٩٦٧م في اندلاع ثورة
١٩٦٨م، لكنه أكَّد بالأساس النفوذ الاجتماعي للسينما. إنَّ
تاريخ آليات الرقابة المتتالية لدينا تتَّبع تمامًا خُطى صعود وانهيار
الفعاليات البصرية.
سيكون تاريخ الاحتفاء أيضًا، باعتباره الوجهَ الآخَر للقمع، ذا دلالةٍ في
المضمار؛ فعصرنا يُعتبر الأولَ الذي يهتمُّ اهتمامًا بالغًا بمخطوطات المؤلفين،
ويحيطها بكامل العناية ماديًّا ونظريًّا، خاصة وأنَّ الحاسوب قد عوَّض الصفحةَ
البيضاء بالشاشة المُزرَقَّة في بيوت المؤلِّفين النشيطين. إنَّ الناس يقدِّسون ما
هو آيلٌ للزوال. وحين يقلُّ تأثير مجالٍ تصويري ما؛ آنذاك يحظى بمتحفٍ يكون شريط
تدشينه الأحمر إعلانًا عن إحالته إلى المعاش. إن ما يُعتبر تراثًا؛ هو أيضًا مُهمَل
التصاوير الذي يمرُّ بمرحلةٍ عسيرة. لا يوجد، في أوروبا على الأقل، متاحف
للتليفزيون، لكنَّ ثمَّة متاحف للسينما؛ لأنه فنٌّ شائخ ومريض ومكرَّم. ففي الوقت
الذي كان فيه فنُّ الحفر
gravure وسيلةً فعلية
للإرسال والتواصل؛ لم يكن يُعتبر فنًّا نبيلًا. لقد اكتسب هذه الصفة رسميًّا في
أواسط القرن اﻟ ١٩ (بما أنَّ جمعية «الحفريين بماءِ الفضَّة» رأت النورَ سنة ١٨٦٢م)
حين حرَمَته الفوتوغرافيا من وظيفته الرئيسية المتمثلة في استنساخ الصور التشكيلية.
وقد أثَّرَت الدمقرطة الفوتوغرافية في تزايُد المتاحف الوطنية للتشكيل. وحين اكتسح
الفيديو الشاشات بسيولته في السبعينيات؛ آنذاك تمَّ منح الفوتوغرافيا صفةَ الفن
الكامل، بمجلَّاته وأروِقته المستقلَّة وشُعَبه المتخصِّصة في متاحف الفن المعاصر
(فقد انتقلَت المعارض الفوتوغرافية من باب «الترفيه» إلى باب «الفنون» في جريدةِ
النيويورك تايمز سنة ١٩٧٥م). حينذاك، أصبح المصوِّرون الفوتوغرافيون الجيِّدون
أُناسًا عظماء (إذ تمَّ تمجيد براساي، ولارتيغ، وكارتييه بروسون). وعندما ستصبح
الصور المرسَلة بالسكانير والصدى المغناطيسي محطَّ اعتبارٍ مؤسَّسي مرفوق برواجٍ
تجاري، آنذاك سيبحث الطبُّ عن أنماطٍ أخرى للنظر إلى الأعضاء البشرية. هذا اللَّبس
الذي يُفصح عنه تشريفُ الصور، ألَا يعني في الغالب استبدالَ كرامةٍ معينة مقابل
اللامبالاة؟ لقد وقف على ذلك، في وقته، جان كريستوف أفرتي، أول مَن دشَّن فنَّ
الفيديو (الفيديو آرت) بقوله: «إنني لم أعتبر نفسي أبدًا فنانًا؛ فأنا أمقُتُ
الكلمة. إنني حِرفي.» وحين يعرِّف نفسه باعتباره باحثًا منتِجًا فقط؛ فهو ينزع عن
الشِّعار هالتَه الذهبية، لكنَّه يستمرُّ مع ذلك في حمْل الشعلة؛ كما لو أن غريزة
بقاء المبدع مرتبطةٌ حتمًا برفض البقاء في محيطٍ مغلق. لنتذكرْ أنَّ القدماء
بدَءُوا يضعون تماثيلهم في الأمكنة العامة (بما أنَّ مكان عرضها الأول كان
خصوصيًّا، وعبارة في البدء عن بهْوِ باحة)، وذلك حين كفُّوا عن الإيمان بها. وإليكم
هذه الحكمة الرائعة: «إنَّ كلمة فنٍّ تثير الرعشة في مفاصلي، فالأمر ينتهي دائمًا
بدقَّات مِطرقة الدلَّال في قاعة المزاد.»
١٢
وليكُنْ أفرتي مطمئنًّا؛ فالإبداع المتخيَّل الذي يسهل نسخه ويصعب الحفاظ عليه،
ليس له من كبيرِ حظٍّ في استجذابِ المتاحف ودلَّالي الفن.