عتاقة ما بعد الحداثة
«تصعد» الإنسانية، من غير وِجهةٍ، سُلَّمًا يتمُّ فيه الوصول إلى كلِّ درجةٍ
جديدة بجهدٍ كبير، وحيث كل درجةٍ جديدة تُحيل على الدرجة ما قبل الأخيرة، لا على
الدرجة الأخيرة. إن فِتيشية تقديس الصورة الحالي؛ له الكثير من النقط المشتركة مع
العصر الغابر للأصنام، أكثر مما له مع عصر الفن. وبما أن العصر الثالث للوساطات
الحاضرة، أيْ عصرنا، قد أيقَظَ المباشرة غير الآلية للعصر الأول؛ فإننا نكتشف من
جديد فينومينولوجيا التصاوير البدائية.
يأتي الانطباع بالألفة، الذي يتركه كلُّ ما لم نره أبدًا، من كونِ كلَّ درجة
ممَّا «بعد الحداثة» تُعيد تشغيل شيءٍ عتيق، ينبثق من أمامنا وقد ظنَّناه وراءنا قد
تبخَّر مع «ما قبل الحداثة». وكما أنَّ العولمة الاقتصادية تؤدِّي في الشمال إلى
عودة الحاجة إلى التجذُّر الوطني والمثاقفة العلمية للنُّخب العالم ثالثية؛ فإنَّ
الأصوليات الدينية وكلية الحضور الإلكتروني تخدم البصري عبر إلغاء المسافات
والآجال. فآلة التحكم عن بُعد جاءت لتبيِّن أن العالم الخارجي يخضع لتحكُّم الإصبَع
والعين. إن شخصًا متنقلًا ما بين القنوات، يغدو، حين يكون مشترِكًا في القنوات
الدولية، ساحرًا سعيدًا؛ لأنه أصبح في النهاية فعَّالًا، فهو يقفز من قارةٍ لأخرى
في رمشةِ عين. وبانتقال الكرة الأرضية من الخرائطية إلى القسم الإلكتروني للدكاكين
الكبرى (جهة السمعي البصري)؛ فهي قد أصبحت مصغَّرةً وأليفة. وبالإمكان الآن شراؤها
مثلما تُشترى الثلاجة أو أيُّ جهازٍ منزليٍّ آخَر. إنَّ الفيديو اللامادي ينشِّط
فضائل «الصنم العظيم» العتيق، فالصورة التي لا تملك مؤِّلفًا ومرجعًا معينًا تأخذ
مباشرةً صفة الصنم، ونأخذ معها نحن صفة الوثنيين الراغبين في عبادتها مباشرةً هي،
عوض الإيمان من خلالها بالواقع الذي تعيِّنُه. تحيل الأيقونة المسيحية بشكلٍ خارق
إلى الكيان الذي تصدر عنه، فيما أنَّ الصورة الفنية تمثِّله بشكلٍ اصطناعي، أما
الصورة بالمباشر فإنها تمنح نفْسَها على أنها، وبشكلٍ طبيعي، ذلك الكيان. وبعد مفهوم التقدم الرَّجعي والعولمة التجزيئية علينا الآن القبول
بمفارَقةٍ أخرى: المجتمع الإلكتروني باعتباره مجتمعًا بدائيًّا.
تحقِّق الشاشة الصغيرة الملوَّنة النذور الأفلاطونية الجديدة لأفلوطين، بل
وتتجاوز ذلك؛ فهي تستعيد الفستان غير المَخيط للمرئي لتمنحنا مجدَّدًا أثرَ الحضور
المباشر. وبالشكل نفسه، الذي كان به ذهَبُ الفسيفساء البيزنطية يمرِّر مباشرةً
الطاقات الربانية نحو المؤمن، كذلك يقوم التليفزيون، بفسيفساء ذرَّاته اللامعة التي
لا ظِل ولا قيمة لها، بإبلاغنا بالجوهر اللامع للعالم. لقد كانت الأيقونة
الأورثودوكية أقلَّ قيمة من الصنم؛ لأنها لم تكن إلا وساطة للألوهية، لا ألوهية
بحدِّ ذاتها، بيْدَ أنها كانت أكثر من رمز؛ لأنها تمثِّل شخصًا أوحدَ (المسيح أو
أَحَد القديسين)، بل إنها كانت هي نفْسُها متفرِّدة (لأنها لم تكن تُستبدَل، بحيث
كانت تحمل أحيانًا اسمًا، مثلها مثل الشخص الإنساني). تجعلنا حلزونيةُ الصور نمرُّ
من النقط نفسها، لكن ليس من المستوى الأنطولوجي ذاته. فقد كانت رؤية المتعبِّد
للأيقونة تُضفي نظرةً تأليهية عليها. وما كانت تسعى إلى التشبُّه به؛ لم يكن ينتمي
إلى هذه الدنيا. أمَّا رؤية صورنا الحالية، فهي لا تفتح المرء إلا على الدنيا، هذا
العالَم الذي تحرِّم الأيقونة على نفسها تصويرَه. وما دام الربُّ هو الحياة، فإنه
يُعفي من تصوير الأحياء منظِّمًا بذلك مجمل العالَم المرئي في غيابٍ أصلِيٍّ
متحجِّر. ونحن لا نشكُّ في أنَّ ثمَّة تدنيسًا وفسادًا إذا ما وضَعَ المؤمن
تجلِّيًا ربانيًّا بموازاةِ نشرة أخبارٍ تليفزيونية. فالمسيحيون لا يسمحون لأنفسهم
باعتبار القُداس التليفزيوني قداسًا حقيقيًّا، ذلك أنَّ لغز القربان المقدَّس لا
يكون فاعلًا عبْرَ الشاشة (فالعقيدة المسيحية أيضًا تتمُّ جماعيًّا). كما أنَّ راهب
الاعترافات، لا يمكنه أن يمنح الغفران بالهاتف، ولا أن يقوم بالقربان المقدَّس في
التليفزيون. ليس هناك من حضورٍ عن بُعدٍ حقيقي بين البدن والدم. لكنَّ المباركة
البابوية، المرسَلة عبر الشبكة المركزية، يُفترض فيها أن تحافظ على فعاليتها، وهي
عبارةٌ عن تجديدٍ كنَسِي يؤشِّر لتكيُّفاتٍ أخرى مع طبيعة العصر. مَن يدري؟ فقَدْ
لا يبقى ثمَّة غير قُداسات مُتَلفَزة (كما لم يبقَ ثمَّة من ألعاب أولمبية غير تلك
التي يتمُّ تنظيمها لا من أجل الهدف المتصل ببثِّها وإعادة بثها، ولكنْ من قِبل ذاك
الهدف). والآن لا تمحو مشاهدتنا اليومية لمقدِّم البرامج بالتأكيد خطايانا،
بالمقدار نفسه الذي لا تمحي فيه الحضرة الإلهية في الشعائر الكاثوليكية تلك
الخطايا. لكنْ، لنلاحظ مع ذلك أنَّ ذَينك الحاملين الإنسانيين للوحي، بالرغم من
اختلافاتهما الاعتبارية، يملكان أولًا طابع المواجهة كشيءٍ مشترك. فالعين في العين
والوجه أمام الوجه. إنَّ المقدِّم — أو المقدِّمة — ينظر لمَن يشاهده، مثله في ذلك
مثل منقِذ أندريه روبليف. إنه بالأحرى يتظاهر بذلك لأنه يقرأ شريط النص على الشريط
المكتوب المتحرك prompteur الموجود أمامه، لكنَّ
الأثر كائن؛ فثمَّة عين تحدِّق فينا من وراء الشاشة من غير أن ترانا؛ وتتطلَّبنا،
مباشرة مثل سبَّابةٍ منصوبة تجاهنا، خطاطةُ «الاستطلاب الذاتي» الألثوسيرية الخاصة
بالاستدعاء الأيديولوجي للتعاليم المسيحية («أمريكا تستدعيك»). نحن لم نرَ أبدًا
المسيح من خَلْف، ومثل ذلك لم نرَ من خَلْف أبدًا المقدِّمَين التليفزيونيَّين
بوافر دافرور P. d’Avror ودان راذار
Dan Rather. إنهما بطبيعتهما شخصان أماميَّان
بوَجهٍ وبغير قفا، جسمان عظيمان بلا ربلاتِ السَّاق ولا عجيزاتٍ ولا قفا؛ فهما لذلك
ذاتيَّان خالصان غير قابلَين للمَوضعة. هؤلاء الناس النِّصفيُّون ليسوا هم الكلمة
الإلهية، وإنما الواقع المجسَّد؛ أي الحدث في حقيقته النورانية. لقد كانت الصورة
الفوتوغرافية ثابتة، والفيلم المعروض كان غيرَ متزامِن في عرضه مع زمن تصويره، أي
مجرَّد آثار باردةٍ ومُنزاحة عن زمنِ مرجعها. أما الإشارة التليفزيونية فإنها
تَعرِض علينا وقائعَ الحياة في حرارتها؛ فالشاشة الصغيرة، بإنارتها الموحية تُشيع،
رغمًا عنَّا وعنها، الإنجيلَ الجديد، أيْ أن العالم الحسِّي يعرف نفْسَه بنفسه،
والواقع والحقيقة أصبحا شيئًا واحدًا. إنه خبرٌ كاذب، لكنَّه مُنعم. إنه وهمٌ،
لكنَّ له قوة رغباتنا. يكفي النظر لكي نعرف، أليس هذا مُتمنَّانا الأقدم؟ أيُّ وعدٍ
جميل هذا بالسعادة! وأيُّ ضمانٍ لجهدٍ أقلَّ! ترى نظرتك نبضَ العالَم وترمي بك في
قلب الأشياء (فوظيفة الشهادة في المجتمع المسيحي، منذ إنجيل القديس يوحنَّا، ترتبط
بالبَصَر). التبشير يعلِن عن نفْسِه في شروطٍ خالدة، أمَّا الأخبار فهي شرطٌ زمني
حصرًا. لكنَّ الألوهية الجديدة أصبحت هي الراهن، أي التجسيد وقَدْ تمَّ السير به
إلى حدوده القصوى. فالشاشة الصغيرة لا تؤثِّر في نور اليوم الثامن، نور الرؤيا
الأُخروية، الذي سيمكِّننا أخيرًا من رؤية الرب في امتلاء حضوره (وفي أوجُهه
كلِّها). إنه يكتفي بإضاءة الأيام السبعة للأسبوع مطلِقًا فينا إشعاعات الواقع.
كانت الأيقونة المسيحية تقول: ربُّكم حاضر. أما الأيقونة
ما بعد المسيحية؛ فتقول: فلْيكن الحاضرُ إلهَكم. من الوثن إلى الوثن، ذلك هو
مسار الصورة في الغرب. أما «الفن» فقَدْ شكَّل مرحلةً وسيطة بين
المرحلتَين الوثنيَّتَين: الأُولى بمُتعاليها المبالَغ فيه، والثانية — أي مرحلتنا
— بالخصاص في المتعالي. ففي نظام الوثن، كان للصورة، باعتبارها منحدرةً من
الأُنموذج الإلهي، فائضٌ في «خارج الصورة» off؛ فقد
كانت ترزَح تحت وطأةِ المقدس الذي كان يخترقها ويُشرف عليها. ففي النظام البصري ﻟ
«خارج الصورة» لا تشبع الصورة؛ لذا فهي تعمل على تكريس نفسها.
إنَّ عيننا تهجر أكثر فأكثر بدَنَ العالم؛ فهي تقرأ الخطوط بدلَ رؤيةِ الأشياء.
فكما هو الأمر مع المنتوجات الاصطناعية، التي جعلتْ تبعيةَ الصناعة للمواد الأولية
تقلُّ يومًا عن يوم، كذلك تقلُّ تبعية صورنا للواقع الخارجي. وذلك ما به تستعيد
وثنيتنا الثانية السِّحر، إذا نحن غضضنا الطرف عن المأساوي (فثمَّة تكمن دائرةُ
اللولب). فلِكَي يكون هناك مأساوي، لا بد من وجودِ شخصٍ آخَر في المواجَهة، وهو
الشرط الأدنى، أو «وجود الذات كعدوٍّ لنفسها». وفي ثقافةٍ للبصر بدون ذات وثقافة
للموضوعات الافتراضية؛ يغدو الآخَر جنسًا آيلًا للانقراض، والصورة صورة لنفسها.
إنها نرجسيةٌ تكنولوجية، أي انكفاء طائفي ﻟ «التواصل» على صورته، واشتغالٌ دائري
للصحافة الكبرى، ومحاكاةٌ سريعة للوسط، ومطابقةٌ عفوية بين الأجهزة الإعلامية
المكتوبة السمعية البصرية؛ فالاستعادة تجعل من الأكذوبة حقيقةً وترمي بها للسطح كي
تخلق الحدث أو الإنسان العظيم خلقًا تامًّا. البصري يتواصل، ولا رغبةَ له في غير
ذاته. ذلك هو دُوار المِرآة، فالوسائط الإعلامية تتحدَّث أكثرَ فأكثر عن الوسائط
الإعلامية. وفي الجرائد، تتوسَّع صفحة «التواصل» أكثرَ فأكثر مقلِّصة بذلك من حصَّة
الأخبار (المتعلِّقة بالعالم الخارجي)، بما أن الوسائط لا يمكنها، في عالمٍ إعلامي
كليةً، إلا أن تُشهر نفسها في الوسائط الإعلامية، إلى حدِّ محْوِ تلك الخانة
الفارغة وذلك النقصان الخارجي، الذي ظلَّ ينظِّم بَواطننا والذي كنا نسمِّيه
«الواقع».
نعَمْ، البصريُّ صالح، لكنَّه أيضًا صالحٌ لكي يمنعنا من النظر للآخَرين،
وبالأخصِّ منهم الأفراد، هل هو إشارةُ عياءٍ واستسلام؟ وبما أننا لم يعُدْ بإمكاننا
رؤية الناس في التشكيل؛ فقَدْ صنعوا لهم شاراتٍ تعيينية. فغورباتشوف وعرفات وريغان
وكاسترو والرئيس فلان … إلخ، ليسوا أفرادًا وإنما هم مؤشِّرون، أيْ إشارة تعويضية
للمجموعات البشرية التي يرمزون لها، والتي لم نعُد نرغب في التحديق فيها وجهًا
لوجه، وبالأخصِّ التفحُّص فيها بالتفصيل. هكذا تنمحي التعددية المقلِقة للوجوه
والأجسام، ويخفُّ العبء عن النظر بالكناية: الواحد كناية عن المجموع، أو العلامة
بدل الصورة، حيث تأخذ الاستجابة الإشارية مكانَ التمييز البصري والنقدي. فالبصري
يعيِّن ويزيِّن ويثمِّن ويصوِّر وينتقد ويسلِّي، لكنَّه لا يرى أبدًا. فمهمَّتُه
تكمن في التعرف على المنتَج في لمحةِ بصرٍ، لا في أن يُشاهد لذاته. كانت الصورة
تخلق القلاقل، أما البصري فإنه ضمانةٌ للأمان. وفي ذلك تكمن وظيفته الاجتماعية في
قِدمها وضرورتها. ثمة سعادة قبلية ﻟ «الكليشيه»، كما كان الأمر في الماضي مع
المَثَل. «لا تبحثوا في مكانٍ آخر، ولا تُضيعوا وقتكم في الذهاب أبعد، فكلُّ شيءٍ
يوجد في الإطار. وأنا لا أُخفي شيئًا.» فلا وجودَ لخارج المجال ولا للمجال
المضادِّ. وإذا كان العالَم هو ما يقاوِم ويتجاوز ويُزعج ويعارِض تصوُّري — هو
التحديد الأدنى «للواقع» باعتباره مقولةً — فإننا لسنا بعيدين عن نهاية العالم،
بالمعنى الفلسفي للعبارة. إنها القيامة الأقلُّ أخرويةً والأكثر لُطفًا. لقد أصبح العالم فِعلًا هو تصوُّري. ولهذا الاختفاء اسمٌ هو
المثالية المطلَقة، القائلة بأنَّ الوجود هو الإدراك. ونحن نملك
الآن الوسائل التكنولوجية لتحقيق المبدأ المعروف بمبدأ بركلي (الراهب الإرلندي
المتوفَّى سنة ١٧٥٣م)، الذي يكمن جوهر الأشياء بمقتضاه في كون تلك الأشياء مذكورةً
من طرَفنا. ونعني بالأشياء هنا الناس الراشدين والأطفال والأراضي والجسور والسقوف
والمصانع … إلخ. وهي عملية إلغاءٍ طريفة؛ فهي تخفض من درجة التوتر النفسي والذهني
لدى المتفرِّجين أو المندمجين في «ألعاب الفيديو»، الذين تمَّ تحييدُهم عن متاعب
صراعِ الضمائر. إنه لشيءٌ مزعِج إلى حدٍّ ما، لقاء شخصٍ آخَر أو التقاطع مع نظرةٍ
مزعجة. ولحُسن الحظِّ أنَّ المرئي يتبع مبدأ اللذة في حين تشتغل الصورة تبعًا لمبدأ
الواقع. ففي حين يسيِّج المرئي القريةَ داخل أسوارها، يقوم الثاني بتحطيم دفاعنا.
إنَّهما يتعارضان الواحد مع الآخَر كما يتعارض الإعلام الذي يوفِّر المعرفة مع
التواصل الذي يغذِّي التواطؤات. لكنْ حذارِ؛ فالجنون يهدِّد كلَّ واحد، فردًا كان
أو مجتمعًا، ويصبح واقعًا خاصًّا بذاته.
أن يرى الشمال الجنوبَ بعويناته، أليس ذلك شيئًا رائعًا (بالنسبة للشمال)؟ إنَّ
إدراك هذا القرن يوجد في شمال خطِّ الاستواء؛ فنحن الذين نملك الأقمارَ الاصطناعية
القائمة بالبثِّ، وأجهزةَ الاستقبال، والكابل، والكاميرات. والمثالية التكنولوجية
ليست هي حشرجةَ البُكاء، وإنما عُزلة الإنسان الأبيض. نحن نرفع الستار وننزله على
«الإنسان الملوَّن» حسب هوانا، وحين تأتي اللحظة والمشهد المناسبان نصرخ: «أزمة!»
كما نقول: «ليبدأ التصوير!»، ثم تَجْحظ العيون. إنها لحظةٌ فاتنة. التكرار والتعب،
وتتضبَّب الحبكة، ثم … غياب. آنذاك ننظر إلى أماكنَ أخرى، ولا يبقى ثمَّة في
الذاكرة أيُّ أثرٍ للمشهد السابق.
كانت حرب الخليج حربًا «بصرية»، ومن ثَم حربًا لامرئية وبدون آثارٍ لدينا. وكانت
حرب الفيتنام حربًا بالصور؛ لأننا كنا نرى فيتناميين وأمريكيين بأرجُلهم ووجوههم
وظُهورهم، ليس لهم طابع التمثيلية والتفويض، في وضعيةِ حربٍ وبثيابها (ولم نكن نرى
قَط صورةَ القائد الفتنامي هوشي مينه في مواجهةِ صورة الرئيس الأمريكي جونسون).
إنها حربُ المصوِّرين والصحفيين، وأنشودةُ أحلامهم. ومنذ ذلك الحين دفَعَ عصر
الشاشة بمحترفي الصورة إلى الحمية والعطالة التقنية؛ فهي لم تعُد بحاجةٍ إلَّا ﻟ
«الأوجه الرمزية»، لوجهٍ حسب النوع والفئة الاجتماعية والمهنة أو التخصُّص. إن
مواراة الواحد للمتعدِّد؛ يعيَّن نفسه على أنه «نظام النجوم». وأنبياء العهد
الجديد، لهم بعض الحقُّ في الادِّعاء بأنَّ «حرب الخليج لم تقع» (١٩٩١م). على أيِّ
أرض ماديةٍ فعلية؟ وعلى أيِّ أجسامٍ، عراقيةً كانت أو كردية؟ ففكرة أنَّ ميتًا ما،
لم يتمَّ تصويره يظلُّ في كل الأحوال ميتًا؛ أو أنَّ صاروخ توما هاوك، ليس سوى
علامةِ رادار على شاشةِ مراقبة لم تعُد فكرةً بديهية في العصر البصري (لذا لم يعُد
لها أيُّ تأثير). هكذا يتمُّ الحديث، عن حقٍّ، عن «تغطيةٍ إعلامية». فالبصري فعلًا
يغطِّي ويحجب. وبإمكاننا مقارنته بتحقُّق السُّلطة؛ السُّلطة العمياء لأصحاب
البصري. والرغبة في اكتشاف الأشياء والناس فيما تحت ما يسمَّى تغطية، هل ستعمِّر
طويلًا أمام الحكمة الشعبية لعصر الشاشة؟
من البديهي أنَّ هذا العصر يميل إلى ما يبعث على العبرة والوعظ والإرشاد
المتكرِّر. ويغدو المشكل هو: الأخلاقُ هي الآخَر. فحيثما يختفي الآخر، كيف يمكن
تصوُّر وجودِ أخلاقٍ ما؟ ونحن نعني أولًا أخلاقًا للصورة لمَا تفترضه تلك الأخلاق
من احترام لموضوعها (أو «ذاتها»)، ومن انعكاسٍ ممكن لزوايا النظر. فلقطةُ قصفٍ
مصوَّرة من فوق؛ تشكِّل لقطةً اقتصادية. أما مشهد الباخرة الحربية الملتقَط من تحت،
فإنه حين يتمُّ توليفه مع المشهد الأول يشكِّل مشهدًا أخلاقيًّا. إنَّ المسألة
صعبةٌ، لكنَّ التخييل يسمح بذلك (حين يكون فرانسيس كوبولا هو القائم بالتصوير)،
وبالرغم من أنَّ الفيلم يكون غاليَ الثمَن؛ فهل يتكوَّن صدَى عصرِ الشاشة من الضجيج
والغضب؟ إنه يضجُّ لا محالة بالحروب الدائرة؛ لكنْ، هل يكون الحدث شيئًا آخَر غير
الضجيج؟
كان مفهوم التاريخ، كما هو مفهوم التناقض والمأساوي، يفترض أولويةَ المكتوب
والزمن التتابعي الذي يلائمه. وهذه الابتكارات تعود إلى عصر الكتابة، فعصر
التليفزيون يحيِّن «نهاية التاريخ» عندما يجد المعلِّمُ نفسه وحيدًا مع ظلاله
وصداه. وللأسف فالحرب تمرينٌ غريب يتطلَّب وجود طرفَين. ومن المحتمَل أنَّ الناس لن
يرغبوا في معرفةٍ غير عملياتِ الشرطة؛ وفي حالة تصوير حدثٍ عادي، لا تكون الكاميرات
في يدِ المجرِمين وإنما في أيدي رجال الأمن. وبما أن هيجل قد تمَّ استبعاده؛ فإنَّ
أولئك الذين يخرقون النظام القانوني الدولي، لم يعودوا أعداءً أو متعارِضين وإنما
مُنحرِفين، أيْ متَّهمين يلزم التعرف عليهم بصريًّا بواسطة بطاقة السوابق العدلية
التي يختزنها الحاسوب؛ فالبصري يشتغل جهةَ الدرك، والسارقون لا وِجهةَ نظرٍ
لهم.
لقد أنتج الانتصار الأيقوني الصورة العُظمى، وهي عبارةٌ عن شكلٍ مكتمِل للصورة،
ما دامت الصورة المطلقة ليست صورةً لأيِّ شيءٍ آخَر (إلا للبرنامج المعلوماتي على
الحاسوب أو في التليفزيون، وللبرنامج الجماعي الذي هو الرأي العام). إنه حالةٌ
كلاسيكية للقلب عبْرَ الانتقال إلى الحدِّ الأقصى؛ فالضفدعة التي تغذو أضخم من
الثور لا تشبه في نهاية المطاف لا الضفدعة ولا الثور، ذلك هو أمرُ العلامة البصرية
في علاقتها بالمرجع؛ فالأيقونة الشاملة hypericône
قد انفجرتْ. هذا هو ما يفسِّر القلَّة المتواترة للصورة في حضارة الشاشات
(المسمَّاة «حضارة الصورة» بعمليةِ قلبٍ ساخر).
التواصل التليفزيوني والتوحُّد السينمائي
إنَّ «بصريَّنا» هو للفنون البصرية القديمة بمثابة الصوت الميكروفوني للموسيقى،
والرسم للتشكيل، والتواصل للتعبير. لنقُل بأن التواصل يتمُّ حين يتطابق العرض مع
الطلب، وبأنَّ ثمَّة «فنًّا» حين يمكننا تصوُّر عرْضِ الصور باستقلالٍ عن الطلب.
فالتواصل يُقاس على البثِّ، وهذا الأخير ليس سببًا في وجود الإبداع. والحال، حتى
عندما ننتظر من آلةٍ لبثِّ الصورة كالتلفزة ما ننتظره أصلًا من آلةٍ لإنتاج الصور
كالسينما؛ فإنَّ صناعتَي المتخيَّل هاتَين لا تتعارضان كما لا يمكن الخلط
بينهما.
بالرغم من ثقل أجهزة السينما في التصوير والْتقاط الصوت، وبالرغم من إكراهاتها
التجارية والحساباتية؛ فإن السينما كانت أو هي لا تزال، في مرحلةِ صنعها، حرفةً
تقليدية. ثمة علاقةٌ خاصة بين المنتِج ومؤلِّف الأفلام، نظيرًا لعلاقة الناشر
بالمؤلف، وهذه العلاقة تقيم الفروق بين منتِج السينما والمبرمِج في التليفزيون. من
جهةٍ أخرى، فالسينما صناعة (كما قال أندريه مالرو)، ولْنترجم هذه القولة: هي صناعةٌ
عند البثِّ والتوزيع. إنَّ مُجمل سيكولوجيا التليفزيون سينتهي إلى مقولةٍ عرَضية
مثيرة للهزء من قبيل هذا: إذا كانت السينما تحمل لَبْس صناعةٍ فنية تنتج سلسلةً من
الأنماط؛ فإن التليفزيون، من رأسه إلى أخمص قدمَيه، إنتاجٌ وبثٌّ وتوزيعٌ وصناعةٌ
آلية. العمل الفني السينمائي قابلٌ للتوصيل لكنه ليس معمولًا للتواصُل كالمنتَج
التليفزيوني. فما يقوم به القائم على قناةٍ (عمومية أو خاصَّة؛ لأنَّ الأُولى
تابعةٌ لقوانين الثانية) هو أنه يبيع جمهورًا للإشهاريين؛ لهذا فهو يردِّد دائمًا:
«الجمهور هو الحكَم بيننا.» المسألة إذن فورية. أما المنتِج السينمائي، فإنه يبحث
عن الجمهور لمؤلف معين، والبحث قد يأخذ وقتًا طويلًا. العمل الفني له متفرِّجوه
المتطوعون الذين تحمَّلوا عناء التنقل إلى قاعة السينما، أما المنتَج فله مستهلِكوه
الذين يَرْضَون طلباتهم عن بُعد دون أن يتركوا قاعة جلوسهم. هنا يتعلَّق الأمر
بحمَّام كاثوليكي بكلِّ المجازات السائلة المستعمَلة فيه. وهناك استبعاد تطهيري.
يسمي الفنُّ السابع المخرِجين مشهديِّين؛ لأنه جاء بعد «فنون الخشبة» والمشهد.
فالبثُّ والعَرض قِوامانِ ماديان للصورة. إنهما الموجة والجزيرة، أيْ ثقلان
نوعيَّان للبصر. والتليفزيون والسينما يتمايزان تمايُز الحالة المرئية وفِعل
الرؤية، و«المراقبة» و«المراجعة»؛ كما يتمايز الفعل الإغريقي
horaô، رأى وأدرك، عن فعل
theaomai تأمَّل وحدَّق في الشيء (ومنه
اشتُقَّت لفظتا: المسرح théâtre والفرضية
théorème).
كما أن الصورة الفوتوغرافية حرَّرت الفنَّ التشكيلي من واجب
المشابهة؛ حرَّر التليفزيون السينما من واجباتها الوثائقية، أيْ من «الموضوعات
الاجتماعية» ومن اليومي الاجتماعي. لقد دفع الوسيط الأكثر خفَّةً
بتحويله للصورة إلى شيءٍ مبتذل، بأخيه الأكبر السينما إلى المزايدة على الهائل
والضخم؛ كي يبرِّر وجوده. فسواءٌ تعلَّق الأمر بالصورة أو بالتليفزيون، فإنَّ الأخ
الأصغر بطابعه التحفيزي والمنافِس هو أكثرُ الدُّعاة إلى الأخِ الأكبر الذي أُسقط
عن عرشه. والشريك الرئيسي هو في الآنِ نفْسِه العدد الأساسي. لقد مكَّنت الصورة
الفوتوغرافية من ولادة المجلات الفنية، وتمكن الجمهور الواسع من المجموعات الفنية
الشخصية، ونُقِل العمل الفني النادر إلى البيوت، وتمَّت دمقرطة الذوق الفني. هكذا،
فإنَّ التليفزيون بشرائه لحقوق البثِّ، يساند الإنتاج ماليًّا ويحوِّل حافظة
الأفلام إلى كنوز، ويوسِّع من قاعدة الجمهور السينمائي. وهو يحمل السينما في أشرطة
الفيديو إلى العالم الثالث، إلى البيوت الأكثر إملاقًا، كما كان النَّسْخ يضع في
غرفة الطالب متاحف العالم كلَّها.
إنَّ التليفزيون يحمل الفيلم الذي يمرُّ عبْرَه منذ زمنٍ ليس بالقصير. وكما فتنت
الفوتوغرافيا الفنَّ التشكيلي؛ فإنَّ السينما قد تركَت التليفزيون لمدَّةٍ طويلة
تحت تأثيرها المغناطيسي. بل لقد غدَت السينما السلاحَ المطلَق لمبرمِجي القنوات
التليفزيونية غير المتخصِّصة.
١ وإذا كانت التليفزيونات الإيطالية قد قضت على السينما الحية؛ فإنها في
فرنسا تساعدها على الحياة، أو على الأقل على البقاء قيد الحياة. وسواءٌ هنا أو
هناك، فهما يشكِّلان زوجًا جهنميًّا أو بورجوازيًّا. لقد مرَّ المخرج الإيطالي
روبرتو روسليني من هذا لذاك بكثيرٍ من الأمل فيما حاوَلَ أفرتي نقْلَ ميليس من هذا
لذاك بدون جدوى. لكنْ، مَهْما كانت التَّمازُجات والترادفات، فهما لا يملكان نفسَ
الجنيالوجيا؛ فإذا كانت السينما تنحدر من المسرح (ومن السِّيرك والاستعراض الغنائي
… إلخ) فإن التليفزيون يبدو سليلًا للهاتف (وإنْ من جانبٍ واحد). يحيل التليفزيون
على تاريخ الاتصالات السلكية واللاسلكية، فيما تحيل السينما على الفنون الجميلة.
إنَّ التعارض بين الشاشتَين الكبرى والصغرى؛ ينطلق من ثنائيةِ
الكيميائي-الإلكتروني، والسيلوليد-الشريط، والمَسْرحة-الحميمية؛ لكنه لا يقف عندها.
إنه لا يعارض بين الصورة كلحظةٍ استثنائية في الحياة اليومية والصورة العادية
للحياة اليومية. فعلينا المقارنة، إذا نحن رغبنا في التوصُّل إلى ما لا يقبل
المقارنة، بين هذين النمطَين المتجاوِرين من الصور. ذلك هو حال الجمهورية
والديمقراطية (أو إذا شئنا الديمقراطية الجمهورية على الطريقة الفرنسية،
والديمقراطية الليبرالية على الطريقة الأمريكية)؛ فهذان النَّمطان النموذجيان،
اللذين لا يمكن لأيِّ عالِم اجتماع ملاحظتهما بالعين المجرَّدة، لا يمكن فَهْمهما
إلا بمقارنتهما الواحدَ بالآخَر.
٢ وسيكون من العَسْف الخلط بين هذين الأُنموذجَين الحضاريين بسبب أن
أمريكا تمتصُّ فرنسا، وتبعًا لذلك من العَسْف المزج بين هذين الأُنموذجَين من
الصورة لأنَّ التليفزيون يلتهم السينما. صحيحٌ أنَّ عددًا متزايدًا من الأعمال
السينمائية تُخصَّص للتليفزيون ولجمهوره، وهي عملية امتصاص مدهِشة. ومن البديهي
أنَّ ثمَّة سينما ذات نمطٍ موحَّد وعاديَّة، وأفلام تليفزيونية ذات مستوًى فنيٍّ
عالٍ (فجان رونوار وروبرتو روسليني عَمِلا للتلفزة، وأعمال سانتيلي وكاسوفيتز
ستشرِّف حتمًا قاعات السينما). كما أنَّ جان لوك غودار، الصحفي في عمقه، كان
بإمكانه الرفع من مستوى التليفزيون عوضَ خيانته. لندقِّقِ الأمرَ إذن، فنحن نعني
«بالسينما» هنا «فيلم المؤلف»، وﺑ «التليفزيون» الإعلامَ المباشر أو البرنامج
المنقول مباشرةً من الاستوديو. من دون شكٍّ، إنها عملية اختزال، لكنَّها من صُلب
الأشياء ومن عمق المفهوم الخاص بكلا النوعَين، وتشكِّل حتمًا نقطةَ
امتيازهما.
إنه لتَعارُضٌ للنظرات أكثر منه تعارُضًا للمنتَجات، وهو لذلك بعيدٌ عن كلِّ حُكم
على «الأسفل» باسم «الأعلى»، أو على «الثقافة الجماهيرية» باسم «الثقافة العالمة».
فالمناقضة بين غولٍ وكائنٍ سامٍ ليس سوى مانويَّةٍ أكاديمية من الأفضل تفاديها، بما
أنَّ النوعَين يعرفان الغثَّ والسمين بشكلٍ متناوب. ففي الفنون الجميلة كما في
الآخِرة، يعرف الكلُّ أنَّ الأخيرين والمتأخِّرين هم الأوائل. والاستهزاء الذي
صاحَبَ العَقْدَ الأول من السينما هو نفسه الذي نجده لدى المشنِّعين بالتليفزيون.
فقد نعَتَها بول سوداي بتحركات بَهْلوانية موجَّهة لصبي من ثلاث سنوات، واعتبرها
جورج ديهاميل «ترفيهًا لرقيق المجتمع»، فيما رأى فيها أناتول فرانس «أسوأ مثالٍ
للشعب … في نهاية حضارة».
وفي مجال الجماليات كما في مجالاتٍ
أخرى، تأتي المساهمات الكبرى من الأنواع الجديدة غير الراشدة بعد.
لهذا، فإنَّ كلَّ مَن يتنطع للاستهزاء بصغيرِ اليوم باسم كبيرِ الأمس؛ يتعرَّض
للهزء بدوره. فالفيلم البوليسي أو الإشهار، قد ساهما في تجديد السينما أكثرَ من
رونيه كلير أو سسيل ب. دوميل. وحين ننعتُ الملصق بكونه جنسًا نبيلًا، والغرافية
بكونها عرضًا مُرضيًا، وفيلم الأغاني (الكليب) بأنه مسلوخٌ من طرف مموِّله؛ فذلك هو
حُكمنا المسبق طبعًا. لنفترضْ إذن أنَّ التليفزيون والسينما لهما القيمة والكرامة
الاجتماعية نفسها؛ فهما يتوجَّهان للجمهور ويرغبان في إثارة إعجابه، بل ذلك
واجبهما. وبعد هذا الاستسلام سنتَّجه جهةَ سيرج داني، كريستوف كلومب العالَم
الجديدِ البصري، لنسير بصحبته في فيافي إلدورادو الجديد. إنَّ إشراقات هذا المستكشف
البهلوان ذي الحبل الخطِر، الذي يجري من صورةٍ لأخرى، متوزعًا بين شهريَّة
السيلوليد ويوميَّة الإلكترومغناطيسي، وبين مجلة دفاتر السينما وجريدة ليبراسيون،
تنضاف إلى البيانات السديدة والعالمة لمستكشفي الاقتصاد الجديد للسمعي البصري كروني
بونيل مثلًا، وذلك قصد الإمساك بحدود عصر التليفزيون.
٣
السينما مكانٌ عمومي يحسُّ فيه كلُّ واحد بنفسه وحيدًا، وإزاء التلفاز الذي
يشاهده كلُّ واحد في بيته، يحسُّ المرء بنفسه بأنه الناسُ كلُّهم. تستعمل الشاشة
الكبرى ضميرَ المخاطَب الجمع؛ لتفادي الانعزال رأسًا لرأس. أمَّا الشاشة الصغيرة
فإنها تستعمل ضمير المخاطب المفرد؛ وذلك لتشمل الجماهير. ثمَّة طبعًا استثناءات،
هنا فيلم الوصايا العشر لسسيل ب. دوميل وهناك هرفي غِبير، كما أن الذهاب إلى
السينما جماعة لا يزال حفلًا خاصًّا، في حين أن إشعال التلفاز متعةٌ فردية غير
خصوصية. فهل يحمل جهاز «الفردانية الديمقراطية» شيئًا من الحقد على الفردية؟ ولأنَّ
المتفرجين يتم هنا تجميعهم للتوِّ (تبعًا «لمجموع التذاكر المبيعة في باريس
بمُجْملها»)؛ فإنهم يشكِّلون جمهورًا، أيْ مجموعة من اللقاءات المتفردة. إنهم هناك
باعتبارهم متفرجي تليفزيون، أي رُكامًا إحصائيًّا فوريًّا وجزءًا لا يتجزَّأ من
السُّوق. صحيحٌ أنَّ السينما تتوجَّه اليوم أولًا لمَن هم دون العشرين، فيما يتوجه
التليفزيون لمَن يتجاوزون الخامسة والستين (دون أن نأخذ بالحساب المرضى
والمعوَّقين). هل هذا يعني أنَّ الأدب يعتبر فنَّ الكهولة؟ فأُناسُ مقتبَلِ العمر،
يتلقَّون بذلك صورَهم من أمريكا؛ أما الشيوخ فهُمْ، على الأقل إلى حدود الأمس،
يتلقَّونها من أحدِ أحياء نواحي باريس (يوجد اليوم في وضعيةِ الهدم، هو القطرة
الذهبية). فلكلِّ واحدٍ استوديوهاته وحساباته. والصبيان والعجزة يحسبون كلٌّ لحسابه
الخاصِّ؛ يهتم البعض بقيمة المنتَج، فيما يهتم الآخَرون بمدى قوة التلقِّي التلفزي.
يقابل الخانة الأُولى تأثيرٌ معيَّن يتراكم صداه مع الزمن، أمَّا الثاني فإنه
يكوِّن جمهورًا يظهر ويختفي ولا يترك وراءه أثرًا. يلتقي فيلم المؤلِّف جمهورَه
بالصدفة؛ إنه ينتزعه ويختطفه ويغويه. وهي طبخةٌ لا يمكن لأيِّ دراسة للسُّوق أو
استطلاعٍ للرأي أن يتصورها مسبقًا؛ فكلُّ إنتاجٍ سينمائي عبارةٌ عن رهان، هذا حين
لا يكون مجرد إشهار. أمَّا البرمجة التليفزيونية، فإنها لا تعود إلى المناداة،
وإنما إلى تحديد الجمهور المستهلك؛ فهي تستهدف العيِّنة والمرمى كي تتلاءم معه.
هكذا تُعوَّض حرية العمل بحتمية المنتَج، والسِّحر بالسوسيولوجيا، أو مخاطر الليل
بضوء النهار. إن علة وجود برنامجٍ ما هو تلقِّيه. كما أن قيمة إرسالية ما تقاس
بسعةِ جمهورِ سامعيها؛ فمقولة «أسمعك حقَّ السماع» تعتبر بيانًا للنجاح. ثمَّة إذن
قياسُ الوسائط، والدقَّة التامة، ولا اهتمام بالماضي أو المستقبل. لكنَّ تاريخ
السينما يمكنه استعادة ما مضى، وانتقاء أفضلِ شيء منه (إنها قاعدةُ الأفضل، التي
تخلق جمهورها ضرورة). الشاشة الصغرى هي مِرآة القرية؛ فكل بلد متقدِّم له تليفزيونه
الذي يستحقُّه. لهذا، فإن البرامج المنزلية لا تصادف تصديرًا جيدًا لبلدان أخرى.
أمَّا السينما الجيدة فإنها تسافر. كما أنَّ الأعمال التليفزيونية الجيدة، مثلها
مثل الخمرة الجيدة، ليست رحالة؛ فلا أحد يُعجب بهيئته في مِرآة الجار، خاصَّة وأنها
تكون بالأحرى مزعِجة. فالتليفزيون يستهلك الأخبار والصور الأجنبية، لكنْ في حضرة
العائلة أو القبيلة.
للتليفزيون رُوح الأغلبية، مثله في ذلك مثل الديمقراطية؛ فهو، بتدعيمه للقلاع،
يضمن العلاقاتِ الاجتماعيةَ للأفراد الاجتماعيين، ويجعل منشرِحي النفوس يبتسمون.
إنه يجعل من النجوم نجومًا ويضيف للذهب هالةً جديدة. فالبصري يُعتبر الظل المنير
للوسط المحيط وهو يوجد جهةَ المقبض ويتبع الخطَّ الأكثر رهافةً. كما أنَّ
التليفزيون هو «الاسترجاع» الموجب للمجتمعات الليبرالية («والموجب» هنا هو الأثر
الرَّجعي السيِّئ الذي يشغِّل جهازًا ما). أما السينما فإن لها نزوعًا نحو الأقلية،
وهي طريقةٌ جمهورية؛ فإذا كان التليفزيون أداةَ المغرورين، وحظَّ الوثوقيِّين،
وأسطورةً من صُنع المعتوهين والمزهوِّين بأنفُسِهم؛ فإن أعمال السينما الناجحة
نابعةٌ من الهوامش، والإخفاق المباشر يُضفي عليها طابعَ الروعة (فيلم المواطن كين
لأورسون ويلز كان فيلمًا فاشلًا عند عرضه). مع شارلو كرست السينما إنسانُ الحضيض؛
أما التليفزيون، خاصة مع مسلسل دالاس، قد كرَّس أُناسَ الأعالي.
طبعًا، السينما «فنٌّ اقتصادي» (كما قال توسكان دوبلانتيي)، بل إنها أكثرُ
اقتصادًا من التليفزيون؛ لأنَّ المتفرِّج يدفع الثمَن ليرى فيلمًا كلَّ مرة. وهو
فنٌّ لم ينفلتْ أبدًا من نفوذ السلطات القائمة، مثله في ذلك مثل الفن التشكيلي في
الماضي. وكما هو حال التليفزيون، الذي لم يتحرَّر من نفوذ الدولة إلا ليقع في
استعباد المال (وأولئك الذين يتبجحون، هنا أو هناك، بأنهم «حرَّروا» التليفزيون
ليسوا سوى مهرِّجين). لكنَّ الفيلم، إذا ما تُرك كليةً لقانون السوق ولم يتمتَّع
بمساندةٍ عمومية (على الأقل في أوروبا)، فإنه سيتعرَّض لا محالةَ للموت، ليقَعَ
ضحيةَ المؤرشِفين أو ليشكِّل قُربانًا ثقافيًّا. السينما تتطلب المزيد من السند
المالي كي تنجح في استجذابِ عاشقي الصورة المنزلية إلى قاعات السينما. لكنْ، إذا
كان فيلمٌ ذو ميزانيةٍ محدودة، ليس محكومًا عليه سلفًا بالفشل؛ فإن برنامجًا
تليفزيونيًّا «صعبًا» يفشل (في منتصف الليل و٥ دقائق، أيْ بنقطتَين فاصلتَين عن
مستوى التلقِّي). إنَّ المتخيَّل، هذا الترف الضروري يمتصُّ الثروات الطائلة،
والذهب والصورة يرتبطان أوثقَ ارتباط منذ بضعة آلاف من السنين.
٤ وهذا الإسراف يسعد أكثر مما يدعو إلى الغبطة؛ فكلُّ احتفال مكلِّف،
واحتفال العين أيضًا. بيْدَ أنَّ مقياس التصفيق، وهو داو جونز قيم التواصل،
مُطالَبٌ بتبرير التجاوز في النفقات التي تتطلَّبها المنوعات التليفزيونية (٣
ملايين فرنك فرنسي للساعة)، والحال أنَّ ثمَن لقطةٍ بانورامية سينمائية رائعة
بمناظرها الطبيعية وآلاف الممثِّلين الثانويِّين؛ لا يبرَّر نفْسُه بشيءٍ آخر غير
ضرورتها الداخلية وتناغمها مع المجموع الفيلمي.
يقوم التليفزيون، باعتباره «نافدةً مفتوحة على العالَم»، بتأطير الذين ينظرون من
خلاله. أما السينما فإنها تضبط إطارَ الواقع الخارجي، وتنزع الطابع الاجتماعي
والأليف عمَّا تلتقطه. عاشق التليفزيون هو كائنٌ منزلي قابِل للتحكُّم والمراقبة،
أما عاشق السينما فإنه بدويٌّ مرتحِل غير قابِل للضبط والمراقبة. يعكس التليفزيون
الناجح جمهوره؛ أما السينما الجيدة، فإنها تهشم المِرآة العاكسة. يصنع التليفزيون
الأهالي، أما السينما فتُنْشِئ «الخونة لوسطهم الأصلي» أو الإنسان الكوني الرحَّال.
إن ابن السينما، كما هو حال سيرج داني، يذهب للسينما في وقتها؛ كي ينسى ما ينتظره
من أوانٍ للغَسْل والدائرة الحادية عشرة لباريس وحقارات ما بعْدَ الحرب. وحين
تحوَّل إلى رحَّال بين القنوات؛ غدا مضطرًّا لقَبُول فرنسا كما هي، وإغلاق النوافذ
متى عرضتْ نشرةُ أخبارِ تلفزة خريطةً جغرافية أو كرةً أرضية قصدَ موقعة بلدٍ ما أو
مدينة أو منطقة في أزمة على خريطة الكرة الأرضية (أو خطاطة كرونولوجية لتحديد حدثٍ
ما)، كما كان ذلك يتمُّ في الماضي في الأفلام الوثائقية التي تحمل عنوانَ معرفة
العالم، أو في نشرة الأنباء الفرنسية القديمة (باثي-غومون). إن ذلك قد يكسر
«الإيهام بالواقعية». ففي مجال السمعي البصري، لا وجود لفضاءٍ جغرافي ذي دلالة؛ فما
يوجد هو فضاءٌ إشاري مجرَّد كخريطةِ أحوال الطقس (أو الجغرافية الأنانية).
يؤكِّد التليفزيون، بوصفه جهازًا أيديولوجيًّا، ومن ثَم نرجسيًّا، انتماءً
معينًا. أمَّا السينما فإنها باعتبارها منمِّيةً للانفلاتات الذهنية والجسمية،
تقتلعنا من جذورنا (لتجعل منا شيئًا آخَر غيرَ نَبْتةٍ أو حبَّة خُضر). إنَّ وظيفة
الصورة المنزلية اجتماعيةٌ في المقام الأول؛ إذ هي تمنح الطمأنينة وتعمِّق الروابط
الاجتماعية. أمَّا الصورة السينمائية المعروضة، فوظيفتها وظيفةُ الحلم الهروبيةُ
والهاربة في القاعة؛ فإحداهما هي في أحسن حالاتها شهادةٌ مشدودة إلى الواقع الحالي
والماضي، أما الثانية فقد تكون نبوئيَّةً (كما مع جان رونوار، وجان لوك غودار،
وستانلي كوبريك)، لكنْ من دون أن تعلم ذلك أو ترغب فيه (كما هو الأمر لدى الفنانين
التشكيليين). لذا فإن الناقد التليفزيوني يتحدَّث عن الزمن الذي يمضي؛ فهو صحفي
سياسي مقنَّع. أما ناقد السينما (في زمن السينما)، فقَدْ كان يناوِب بالمكتوب بين
عناصرَ للخلود البصري؛ إنه «راهبٌ فاشل» حسب قول سيرج داني. إن نظام الاستوديوهات
في أمريكا يجعل من المنتِج صانعَ الفيلم والمشرف عليه (وذلك بحقِّه في «اختيار
نهايةِ تصوير الفيلم»)، وهي خاصيةٌ ترجع بالأساس للمخرِج في أوروبا. صحيحٌ أن
السينما الأدبية تقاوم ذلك، لكنَّ التليفزيون الأوروبي قد تبنَّى المقاييس
الأمريكية. وفي سلسلة مطاعم ماكدونالدز، لا يشكِّل رئيس الطباخين شيئًا يُذكر أمام
المالك؛ ووظيفة المؤلِّف أصبحتْ تعود تدريجيًّا في القنوات التليفزيونية للمنتِج،
الذي تمَّ تعويضه الآن بالمُبرمِج. هكذا سيغدو المؤلَّف مباشرةً هو المُعلَن،
والبرنامج العام الأسبوعي سوف يتتابع على القناة بلا رغبةٍ ولا لذَّة، الفقرة تلْوَ
الفقرة.
إن قيمة مخرجين سينمائيين من قبيل رونوار أو أورسون ويلز أو فيم فندرز؛ لا تتعلق
بالموضوع المطروق. أما في التليفزيون، فإن كلَّ موضوع مهمٍّ يجعل من إعادة بثِّه
مهمًّا. وإذا كان الفيلم الجيد هو الأسلوب؛ فإن البرنامج التليفزيوني الجيد هو
الوضعية. أما الفيلم التليفزيوني، فإنه يكون أولًا موضوعًا جيدًا؛ إن ذلك يشبه
الفرقَ بين الإيحاء والتقرير، والشعر والنثر. «الأيقونة» تنضاف إلى عالمٍ يفتقر
إليها. و«الإشارة» جزءٌ من العالم الذي تحيل إليه، والفيلم إضافة إلى الأشياء،
بينما الشريط الفيلمي نسخةٌ من الأشياء. تحدِّثنا السينما عن العالم والناس، لكنَّ
هذا الفن ذا المنزع الواقعي يرغب في سديم مصفًّى عبْرَ زاويةِ نظر وذاتية مؤطرة
ومُحاوَرَة ومقطَّعَة ومؤلَّفة. أما التليفزيون، فإنه يعيش في أحسن حالاته حين
ينبثق سديم وضعيةٍ ما في الصورة، في القشعريرة الرائعة للآتي؛ ذلك أنَّ الصُّدفة
هنا هي ذروةُ البثِّ، كالبث المباشِر لمظاهرةٍ أو إعادةِ بثٍّ حيَّة للألعاب
الأولمبية، أو النقاش في البرلمان. فاستراتيجية الواقع ستكون بالنسبة لها هي
الأفضل. والشاهدة على ذلك، هي برامج «الاستعراض الواقعي»، أو: مثِّلْ دورَ البطلِ
بنفسك. فلَمْ تعُد ثمَّة حاجةٌ للممثِّلين أو كتَّاب السيناريو لممارسة الرمزية؛ بل
مباشرة من فلانٍ لفلان، يصبح كلُّ واحد وسيطَ نفسه، من دون تحويلات سردية، والطابع
الأدنى هو ألَّا حقوقَ للمؤلف هنا. «فالاستعراض الواقعي» هو طريقٌ سريعٌ ذكي،
وقمَّة الاصطناع وذروةُ فنِّ اللاإرادية والعرضي هذا (الذي يمكن أن يكون طبعًا ذا
سببٍ أو ملفَّقًا)، الذي يتعارض مع التدبير السينمائي المسبق تعارُضَ الفيلم
الوثائقي مع الفيلم الميلودرامي، أو النيِّئ مع المطبوخ. أما المباشرة أو ذروة
الوهم الوسائطي فتكمن في الاعتقاد في أننا نستطيع التوصُّل إلى تجربة معيشة بدون
أوهامٍ مفكَّر فيها ومتداخِلة عن قصد.
وإذا كان الفيلم الجيِّد مؤثرًا؛ فإن مسلسلًا تليفزيونيًّا جيدًا يجذب الاهتمام.
ففيما يحفر الأول في أعماقنا ولَعا عابرًا؛ يغلِّفنا الثاني بفائض من مزاجٍ رائق.
نحن نعبِّر عن تعاطفنا مع البطل التليفزيوني، غير أنَّ الرواية، كما الفيلم، قد
تثير فينا حسَّ التماهي؛ كما لو أن ليس ثمَّة المقدارُ نفسه في صياغة تفرُّد
الأنماط البشرية. فخارج التخييل والوثائقي التاريخي (الذي يتقنه التليفزيون، والذي
بالرغم من ذلك لا يبثُّه المبرمِجون لحظات الاستقبال القوية) شكَّل التليفزيون، أيْ
فضاء التوافق هذا الذي تحوَّل إلى وسيط، المنبرَ الأساس للمبني للمجهول، مع وجود
هامشٍ صغير لتقبُّل الأعمال الأصلية والأصيلة. أما السينما فهي أرخبيل «الأنا»، حيث
لا يكون كلُّ سينمائي مسئولًا إلا عمَّا يُعرض، وبدون حجَّةٍ جماعية. فالفعل
السينمائي، وهو يَفرِض علينا اعتباطًا أناه، يُفصح عن طابعٍ مستبدٍّ شيئًا ما. إنَّ
عرضًا سينمائيًّا يثبِّت المرءَ في كرسيِّه في صمت، مخيَّطَ الفم مركِّزَ
الحدقتَين، في وضعية تنويمٍ اختياري. أمَّا إزاء بثٍّ تليفزيوني، فإننا نظلُّ
مسترخين، نمارس الرواحَ والإيابَ، وندردش وأيادينا في الجيوب. لا شيء يُكرِه المرءَ
على المشاهدة؛ إذْ له كامل الحرية. وإذا لم يعجبْكَ ذلك فما عليك إلا الانتقال بين
القنوات؛ فستجد الأطباق الملائمة لكلِّ الأذواق. أو اقفلْني، فإنك لن تزعج أحدًا
ولن تحسَّ بالندم؛ فأنت لم تصرف ثمنًا لذلك. الصورة-الحركة تجازي انعدام الحركة
الجسيمة للمتفرجين، أما الصورة-الاستوديو فإنها تعوِّض بثباتها شرود المستهلك.
بالرغم من أنَّ عاشق السينما يكون مشلولًا، فهو يحرِّر طاقاته أكثر؛ إذ إنَّ الحياة
الحقيقية موجودةٌ في مكانٍ آخَر، وعليه أن يعرق كليةً ويتابع ذهنيًّا خطَّ انفلاتِ
الصور وتتابُعها. هذا، بينما يحقُّ لعاشق التليفزيون أن يذهب للتبوُّل لحظةَ
الإشهار، لكنَّ كلَّ شيءٍ يظلُّ ثابتًا في ذهنه. في الشاشة الصغيرة، لا تكمن الحياة
الحقيقية وراءها أو جنبها، أي خارج المجال، هنا والآن. ولا شيءَ يوجد فيما وراء
الشاشة. العالم هو العالم، وأنت أيضًا؛ فالقضية هكذا، ولْنُنْهِ الأمر.
إنَّ مصدر النور ومصدر السُّلطة يتطابقان؛ فكلُّ نورٍ يصدُر عن الذات الإلهية.
وكما قُلنا سابقًا، يمتلك المصباح الصغير إشعاعَه المجسَّد. لهذا، فإن السينما،
مهما بلغتْ درجةَ وثوقية، مواقفُ صورِها تجعل الواقع يتنفس؛ لأنها لا تقدِّم نفسها
أبدًا على أنها الواقع، خلافًا للتليفزيون. ففي هذا العالم الذي سيُعرض فيه كلُّ
مَن يربح نفْسُه، وحيث للفقراء والذمِّيين حقُّ (بل عليهم واجب) مشاهدةِ الأغنياء
والوسيمين، لا أنْ يُشاهَدوا كما هُم (إلا باعتبارهم متسكِّعين، أو شهادةً على
مزايا الآخَرين)؛ في هذا العالم، يكون النجاح دليلًا وحكمة يدلان عليه، لا على أيِّ
شيءٍ آخَر. فمسار التاريخ هو محكمة التاريخ: «لقد كنَّا على حقٍّ لأننا ربحنا.» وهي
قولة إشكالية تعني: الواقع يعبِّر عن الحقِّ والقانون. وهو غيرُ قابل للنقد، مثله
في ذلك مثل التلفزة نفسها (لأنَّ نقدها يعني نقدَ الجمهور الذي هي مصنوعةٌ من
أجله). وكما قال والتر كرونكايت عند نهاية كلِّ أخبارٍ: «هذا هو الطريق الأوحد.»
فلا مفرَّ من هذه الحال.
وإذا ما أردنا أن نكون صارمين سنقول: اللغة ليست هي
الفاشية، وإنما البصريُّ. فهو يوجِّه كاميراته نحو أولئك الذين
يملكون مظهرًا أفضلَ، وهو بذلك يكرِّس سُلطة الذين يملكون بيدهم السلطة، غير أنَّ
هذا الحشو يلغي مساربَ الإمكانات والانزياح الرمزي للقانون. ليس ثمَّة من إمكانٍ
للتجاوب مع الحاضر الخالص؛ ففي التليفزيون، كلُّ شيء حاضرٌ ومباشِر، بديهيٌّ وغيرُ
قابِل للشك. ولكي تعود اللحظة الماضية للظهور، عليها التظاهر بأنها لم تمرَّ بعْدُ،
واستعراض نفْسِها على أنها حاضرٌ تقريبًا، وأن تمرَّ مجددًا بشكلٍ تزامُني فوري.
إنها اللحظة المُعاد بثُّها، هذا الماضي المُخجِل، الذي يتمُّ عرضه مجددًا على أنه
حاضر، في تقابُلها مع الفلاش باك، أي العودة إلى الوراء، إلى هذا الماضي المجيد
الذي يتمُّ اعتباره كذلك، والذي تجعل منه الذاكرة ماضيًا رائعًا، يتغير تبعًا للبعد
الزمني. إنَّ هذَين النمطَين من العودة إلى الوراء يتجاوزان كونِهما طريقتَين
لإيقاف الزمن، وهما يرمزان لطريقتَين لعيش اللحظة الحاضرة، أيْ كمطلقٍ زمني (في عصر
الشاشة)، أو كزمنٍ نسبي (في عصر اللاأشكال). إنهما خُلقانِ للزمن؛ فالصورة
السينمائية تجعل من الخفيف حادًّا وجسيمًا، فيما تجعل الصورة التليفزيونية من
الجسيم خفيفًا.
يتجسَّد المعنى في لقطاتٍ من لحمٍ ودم. إنها تكتلات هُلامية أو تخثُّرات، وهي
لذلك لها ثقلٌ وحجمٌ وكثافةٌ غريبةٌ إلى حدٍّ ما عن السيولة المسطحة للصور
التليفزيونية. اللحم والدم هما الظِّل والضوء، وهما يحيلان إلى التقليد العريق
للإنارة في الاستوديو حين كان ينظِّم مهندس الضوء الأنوار كما كان الرسَّام يقيسها
على موضوعه. وما دامت الصورة التليفزيونية «فنُّ واضحةِ النهار» (كما يقول سيرج
داني)؛ فإنها تجهل ثنائيةَ الظِّل والضوء. فلا حاجة هنا لهنري ألوكان أو لكلود
رونوار؛ إذْ بالإمكان المجاورة بين ظلالٍ إنسانية لا جسمَ لها في فضاءٍ يفتقر إلى
العمق والطعم، ولا دُوارَ فيه. أمَّا السينما، فباعتبارها «فنَّ التعبيرات
الجسدية»، مثلها مثل الرقص (والكوريغرافيا لا نجِدُها فقط لدى منيللي
Minelli أو ستانلي دونين S.
Donen، وإنما أيضًا في طريقة مشي كَاري كوبر والمشية المراوِحة
لجون واين)، فهي توفِّر ضربًا من اللَّذة الحسِّية عبْرَ العلاقة الجسدية الدافئة
التي تُقيمها الرؤية بين أجساد الممثِّلين وجسدنا الشخصي. الأجساد في الاستوديو
تشبه التماثيل، أيْ أنها ظلالٌ اجتماعية أو مؤشراتٌ قابلة للاستبدال، طوباوية
وتفتقد إلى النار والمكان. إنها أجسامٌ بلا لحم أو خطوطُ جاذبية أو حركاتُ حُب.
والعين لا تخترق هنا الفضاءات، وإنما تنزلق على المساحات المجرَّدة، من حجمٍ لآخَر،
في علاقةٍ غير مادية وإنما بصرية خالصة أو هندسية. لنقُلْ إنها علاقةٌ سياسية؛
فالسينما لها فضلُ «تقريب البعيد وإبعاد القريب»، وذلك بواسطة سلسلة من المسافات
والهروب والتقهقر، حيث تُنتج الذات حريتَها باختيارِ ما هو قريبٌ أو بعيد منها كلَّ
لحظة. بالمقابل، تتلقَّى الصورة التليفزيونية فضاءها عوضَ أن تنظِّمه. «لم يعُد
ثمَّة من وجودٍ للَّقطة الكبرى؛ لأنه ليس ثمَّة غير اللقطات الكبرى» (كما يقول سيرج
داني). إنَّ هذه الحرية التي يملكها صاحب الكاميرا، باعتبارها ضمانةَ التحكم
الداخلي في العالَم الخارجي، تفسِّر قدرةَ السينما على النجاح في المرور إلى
الرمزي، ثمَّة حيث تظلُّ الصورة التليفزيونية حبيسةَ مجالِ الإشارية
signalétique أو المتخيل. وهو ما يجعل من
الصورة السينمائية حافزًا على النمو والصورة التليفزيونية سببًا في التقهقر،
فالمراهِق يصبح راشدًا عبر الشاشة الكبرى والراشد صبيًّا عبر الشاشة الصغرى.
التليفزيون مبشِّرٌ بالتعاليم؛ فهو يسير وفقًا لنظام الواجب لا لضرورة الرؤية،
وهو يفرض على نفسه واجبَ أنْ يُرينا كلَّ ما هو مهمٌّ. إنه يجسِّد حُكم المجتمع
وقضاءه، أي المقابل لدينا للقضاء الإلهي. والفيلم يحمِّل صاحبه مسئوليةً شخصية،
مثله في ذلك مثل أيِّ موقفٍ مسئول في المجتمع. أمَّا البرنامج التليفزيوني الذي
يقدَّم من غير أن يعرِض شيئًا، باعتبار أنَّ العرضَ
montrer هو تعيينُ شيءٍ انطلاقًا من زاويةِ نظر
معيَّنة؛ فإنه يحيل إلى مسئوليةٍ جماعية. السينما واقعةٌ أخلاقية، أما التليفزيون
فواقعةٌ اجتماعية. فالأُولى تنتمي إلى المنزع الإنساني؛ لأنها تبني واقعًا تحت
مسئوليةِ نظرةٍ معينة هي نظرة السينمائي. أمَّا الثانية فلها نزوعٌ نحو الأعمال ذات
الطابع الإنساني؛ لأنها تمزج بين المؤثر والتصوير واللحظات الحياتية. ومع أنَّ
التليفزيون «لا أخلاقي» إلى حدٍّ كبير في وسائله الداخلية ونَسَّاء وخدَّاع وصائدٌ
مُغرٍ، ولا يهتم كثيرًا بالنتائج الناجمة عن صوره وبمتابعة مواضيعه؛ فإنه ينجح
كثيرًا في وعظ الآخَرين، أيْ نحن. فهو يقدِّم لنا أخيارًا وأشرارًا كلَّ يوم. وبما
أنه عنصرٌ حتميٌّ للقضايا العظيمة؛ فهو لنا بمثابة قسِّ القرية، إذ هو يمارس هذا
الجانب الرهباني على الأقل بالترتيب اليومي للأحداث والشخصيات «الصاعدة» أي
المرئية، و«الهابطة»، أي خارج المجال. فجدول البرامج يطرد الفوضى. ولهذا، فإنَّ ذلك
يشكِّل تنظيفًا للفوضى المحيطة. فنشرة الأخبار أكثر بعثًا على الأمن للرعيَّة.
والقدَّاس في موعده المحدَّد، والقسُّ النجم ذو وجهٍ أليف، وتتابُع المواد ثابتٌ
(السياسة، والاقتصاد، والمجتمع، والأحداث الأجنبية، والثقافة في النهاية).
تحتفظ السينما بتقدُّمها على التليفزيون بالوقت الذي تضيعه. فحظُّها يكمن في
طولها، وفي فتورها ووقفاتها. تلك الأوقات الثمينة الميتة التي بدونها تفقد الحذوف
أو القفزات الحكائية كلَّ أثرٍ أو معنًى. لا تزال الصورة السينمائية تعانِق لحدِّ
الآنَ زمنَ عصر الكتابة باعتباره زمنًا جامعًا. فالفيلم الجيِّد يبني مُددًا للعيش
الطيِّب. إنها أشبه بحيواتٍ مصغَّرة في الحياة، أو مآوٍ مفتوحة لكلِّ واحد. كلُّ فن
هو سيادةٌ على الزمن بوصفه السيدَ الأول والأخير للبصري، الذي يقي نفسَه من
التنقُّل بين القنوات بصورةٍ «أسرع فأسرع» على طريقة الكشَّافة. لقد أبعد عصر
الشاشة المدَّة؛ لذا فهو لا يخشى أن تطرد صورةٌ أو برنامجٌ ما برنامجًا آخَر أو
صورةً أُخرى، ذلك أنَّ اللحظة وحدها هي الواقع (في نظره). بيْدَ أنَّ هذه اللحظة
الهاربة، لا تكفُّ أبدًا عن سَبْقنا كأيِّ وهْجٍ مستنقعيٍّ أو سرابٍ مثيرٍ ومخيِّبٍ
للأمل، أو دغدغةٍ لا نهائية لنا — نحن المتفرجين المساكين المتأخرين دائمًا —
بصورةٍ دقيقة وبتقليعة وفضيحة، أو بمجزرة جماعية على حاضرنا التليفزيوني الذي يجري
دائمًا بسرعةٍ أكبرَ منا. واللحاق به يعرِّض للدوار؛ فلا شيءَ يمرُّ أمام أعيُنِنا
المشدوهة، لا شيءَ يتطلَّب البرهنة، ولا شيء يتنفس، بل كلُّ شيء متلاحِق. لا شيءَ
غير اللهاث وإجهاد الزمن الإشهاري. يأخذ أحدٌ الكلمةَ خلالَ استعراضٍ تليفزيوني
كلامي أو نقاش تليفزيوني؛ فتتمُّ مقاطعته على التوِّ لإعطاء الكلمة لتدخُّلٍ أكثرَ
استعجالًا، أو لبثِّ خبرٍ نزل للتوِّ، أو لسماع صوتٍ أكثر جهورية. يقول المنشِّط
لصاحبِ الكلمة: «أسرِعْ من فضلك، الوقت يمرُّ!» بإمكان المتفرِّجين أن يغيِّروا
القناةَ لو كان الاهتمامُ حاصلًا والبراهين مطروحةً؛ فالحقيقة السمعية البصرية،
مثلها مثل السعادة الديمقراطية، حادثٌ خائب على الدوام. وإشهارُ فيلمٍ كبير، يتمُّ
تعويضه في القناة الفرنسية بإشهارِ فيلمٍ كبير آخَر يُعرض بدوره … على هذا النحو
يحبُّنا البصري، لكنَّه يفضِّل الجِماعَ غيرَ المكتمِل. إنه يقوم بذلك بدون شكٍّ
لصالحنا، ولتنشيط حماستنا. ويقول المنشِّط: «لمْ تفضُلْ لنا غيرُ دقيقةٍ واحدة.»
لماذا ولمَن يجب «إعادةُ الخطِّ» بعدَ دقيقة؟ هذا اللُّغز لن يتمَّ أبدًا استيضاحه،
وربما كان ذلك أفضلَ لنا؛ فهذا اللغز يمنح لقاعدة المقاطعة علامةَ تعجُّب أو قرقرة،
وهالةً مرضية وقدرية تحوِّل خنْقَ المتحدِّثين إلى قُربان شعائري، إلى آلهةٍ ذاتِ
توقفات صارمة، إنها آلهة الساعة.
ثمَّة تاريخٌ للسينما، والسينما بدورها تاريخ. إنها مِثل
الرواية. ليس هناك من تاريخ للتليفزيون؛ لأنه اللحظة. وهو في ذلك
مِثلُه مثلُ الجريدة. والفيلم الذي لا يلاقي رواجًا عند عرضه لا يعني أنه بفِعْل
ذلك فيلمٌ مُنتهٍ؛ فهو يوثَّق في كتالوج أو بأرشيف في الخِزانة السينمائية. أمَّا
البرنامج التليفزيوني الذي «لاقى النجاح»، حتى ولو احتضَنَه المركز الوطني للسمعي
البصري INA بمعاييره الصارمة، فهو يموت مباشرةً بعد
بثِّه؛ ونادرون هم الذين يعاودون مشاهدةَ ما صوَّروه على المانْييتوسكوب عامًا بعد
ذلك ويحسُّون بالفرح. ونحن نتذكر دائمًا، ولمدةٍ طويلة، الأفلامَ التي شاهدنا،
تَذَكُّرَنا للمقطوعات الموسيقية التي أثَّرت فينا. فبالرغم من أننا لا نتذكر كلَّ
المقطوعة؛ فإننا نتعرَّف للتوِّ على اللَّحن. وبالشكل نفسه، فإنَّ كلية الفيلم تسكن
اللقطات كلها بدون استثناء. أما لحظات الأخبار التليفزيونية التي نتذكرها؛ فإنها
تلمع فينا كما في مِشكال (كاليدوسكوب) وكأنها فسيفساءُ بلا شكلٍ، وأخبارٌ غيرُ
متتالية في الزمن، ومقاطعُ بلا مؤلِّف ينسِّق بينها. التليفزيون يعيِّن لنا الساعةَ
لا السنة. وهذه السمة الهروبية هي التي تفسِّر قلقَه بجعْلِ المشاهِدين أوفياء له،
وهوسه ﺑ «الموعد المنتظِم» مع المُشاهِد. فهو بحاجة إلى رفْعِ أعلام الزمن؛ لأنه
يحوِّله إلى زمنٍ تافه. وهو يشكِّل الزمن الجاري والزمن الحالي، لا الزمنَ الذي
يسهر على البلورة والتنظيم، أي المكتسَب مرةً إلى الأبد. هل هو وهمٌ أم سعادة؟ ربما
الأمران معًا. فالخزانة السينمائية تحتفظ بتراثٍ وطني من العواطف، أما المعهد
الوطني للسمعي البصري فيخزن الشرارات فقط. وهو ما يمكننا قوله بصيغةٍ أخرى: من بين
صورتَين متطابقتَين تحتاج السينما إلى الوصلة بين مقطعٍ برامجي وآخَر، أمَّا
التلفزة فتستفيد من الترقيع؛ فإذا كان أحدهما مطالَب بعرض الصور، فإن الآخَر يكتفي
بالمجاورة بينها.
تخضع الصورة المعروضة على الشاشة الكبرى لمنطق الشمولية، أما الصورة المبثوثة
فلِمنطقِ التَّشذُّر، ولشمولية ومقطعيَّةِ المدَّة والأجناس والأحداث وأنماط
الجمهور. ففيما توقع السينما عقدةَ رؤيةٍ مع كتلةٍ مفترضة، سواءٌ كانت شعبًا أو
جمهورًا، لتقترح عليها خطابًا أو حكاية؛ يكتفي التليفزيون بهزِّ جمهوره عبْر
التَّماس مع توتراتٍ محلية صغيرة. إنَّ هذا الأخير يسلِّي الجماهير مصنفًا إياها
إلى فئاتٍ ومقاطعات، من دون أن «يشكِّل» أبدًا مجموعةً متجانسة.
وبالرغم من أنَّ التليفزيون ذو نزعةٍ أُسرية؛ فإنه لا يصنع أبدًا أسرةً (وربما
كان هذا يفسِّر ذاك). فليس له لا عصابةٌ ولا شبكة. في الماضي كانت هناك أنديةٌ
سينمائية ولا توجد اليوم أندية تليفزيونية. ولأنَّ عاشقَ التليفزيون مُتخمٌ؛ فهو
ليس يخضع لنظامٍ غذائي أوديبي كما هو حال عاشق السينما. ليس للتليفزيون قوة تكوينية
وتكوُّنية وجنيالوجية. وهو لا يحثُّ على التماهي؛ فقد عرفنا كلُّنا في مراهقتنا
الرغبةَ في التشبه بغاري غرانت أو جيمس دين، فيما لا ينجح مقدِّمو الأخبار إلا في
جعل الانتهازيين والوصوليين، لا المغامرين، يحلمون؛ والتليفزيون لا يحثُّ على
الكِبَر (هذا إذا لم يكن يحوِّل الكبار صبيانًا). مَن ذا الذي دخل التاريخ ومعه
مِصباحه المنير؟ سيقول محلِّل نفساني لاكاني: «الشاشة الصغرى تسير في اتجاه
المتخيل، والكبرى صوب الرمزي.» وسيقول جان لوك غودار بطريقةٍ أبسط: «أمام الشاشة
الصغرى يفتح المتفرِّج عينَيه، أما أمام الكبرى فيغض البصر.» ففي الحمَّام البصري،
لنا كلُّ الحظوظ لنكون متأثِّرين، على أن نكون متمرِّدين؛ يعني التفكير في قولِ لا.
وسواءٌ شاء التليفزيون أو رفض، فإنه يقول نعَمْ للعالم كما هو يسير، في حين تقول
السينما: «نعَمْ، ولكن …» أما الفن التشكيلي فقَدْ ظلَّ يقول نعَمْ حتى التشكيلي
الفرنسي إدوار ماني، ومنذ ذلك الحين وهو يقول بالأحرى لا، وفي ذلك تكمن لحدِّ الآن
قوَّته الخاصة.
تحوُّلات الرؤية
أي شخص جاوَزَ الخمسين، وتربَّى ونشأ إلى هذا الحدِّ أو ذاك في الكيمياء القديمة
للصور والكلمات، يعتبر نفسه شخصًا في غير مكانه، أيْ ضربًا من الماضي المنتمي لمجال
الكتابة الذي يلزم وضعه في عصرِ الشاشة. وله بالأحرى أن يحسَّ نفسه وقد جُوزي أحسنَ
جزاء؛ فللمرة الأُولى في التاريخ يطابق الزمن القصير لجيلٍ معيَّن تغيُّرًا في
المجال الوسائطي médiasphère. إنها لَنعمةٌ غير
منتظرة ولا تقدَّر بثمَنٍ؛ أن يشهد الإنسانُ بأمِّ عينَيه مجالَ فِكرٍ وحياة يعيش
انقلابًا. وقد أطلقَت الروابط الزمنية صريرَها بين ١٩٦٠م، و١٩٨٠م. وثمَّة فرقٌ هائل
بين نجوم الأمس واليوم. إنها قفزةٌ جنسية عابرة للمحيط الأطلسي من بريجيت باردو،
نجمة السينما الأوروبية ومعبودة الجماهير، إلى مادونا البطلة الكونية لعصر الشاشة
الأمريكي. كما أنها قفزةٌ لا ريب فيها من الهاتف إلى الهاتف المرئي، وزحفٌ معقَّد
للمحارِبين القدماء (فكلُّ شيء يتمُّ في مدَّة عشْرِ سنوات). كلُّنا، بشكلٍ من
الأشكال، جنْجر وفريد الثقافةِ النصيَّة ونحن نتدرب على حصةٍ رائعة لإيقاع الأقدام
ستكون فائقةَ النجاح في الشاشة. نحن مغتمُّون لكننا مروَّضون، ننتظر في مكاننا
وبهدوء إشارةَ الدخول إلى استوديو مقدمة البرنامج. وإذا كان جنجر روجرز وفريد أستير
قد عانيا من النِّسيان (أمَّا مارلون براندو وجيرار فليب، ومعهما أفلامٌ من قَبيل:
يحيا زباطا أو فانفان الزنبقة، فلمْ يعودوا يُذْكرون) فإنَّ محاكاتهما أيضًا قد
فقدتْ بريقها. ومع أنَّ الأمر يتعلَّق بنفس الحجَّة ونفس التصميم الراقص؛ فإن
التواصل لا يتمُّ. الأجمل في السينما يبدو لِهُواة التليفزيون صدمةً. وأولئك الذين
اعتادوا على مشاهدةِ أفلام الخِزانة السينمائية (بشارعِ أولْم بباريس) راحوا
ليلتحقوا بالمدرَّعة بوتمكين وعواصف في آسيا وزاباطا ومعارك السكة الحديدية،
وبذهنهم فكرةُ أنَّهم بإدارة الظَّهر للمجرَّد، أي للفرد، فإنهم سيتوصلون إلى
ملامسةِ المحسوس والتاريخ و«الجماهير». عشرون عامًا بعد ذلك جاء هذا الاكتشاف،
البصري في البداية، والمفاهيمي فيما بعد؛ «الجماهير» تجريدٌ غيرُ مُحتمَل والفرد هو
الكيان المحسوس وعِماد هرمِ الديمقراطية. والحقيقة أنَّ شعبًا بكامله لا يمكن أن
يدخل الشاشة الصغيرة؛ فالتأطير مستحيل. هل هي الثورة؟ بل هي مسرحيةٌ مصورة، وقاعةٌ
ذات أسلوبٍ عمراني إيطالي، والطليعة على الخشبة والشعب في ردهة المسرح. أليست
الديمقراطية هي الصورة الخامسة والعشرون (تلك التي يضيفها التليفزيون كلَّ ثانية
للصور الأربعة والعشرين السينمائية)؟ التليفزيون يوفِّر السرعةَ والارتخاء، وكلُّ
واحد في بيته، ولا وجودَ لروائحَ كريهةٍ أو طابور الانتظار. وبين أفلامٍ من قَبيل
نابليون أو المدرعة بوتمكين، صباحًا لا نمرُّ من الحقيقة للكذب؛ فأفلام أبيل غانس
أو أيزنشتاين كانت تحتوي على الخدع نفسها وكانت خطيرةً، تَستعمِل وتُستعمل لأغراضٍ
معيَّنة، مثلها في ذلك مثل فواصلنا الإشهارية الجميلة. فبتغييرنا للإطار والإيقاع
والشاشة؛ غيَّرنا نزعاتنا فقط. والفردانية التنافسية أقلُّ خطرًا من الشيوعية،
وبدون شكٍّ هي أقلُّ خطرًا من الفاشية، لكنها أيضًا أيديولوجية. لا تملك الشاشة
الصغيرة وجهًا صبوحًا. لكنْ لنعترفْ بأنها الفارزُ الأكثر فاعليةً لوجود اللحظة،
أكثر من كونها مشكِّلًا وصانعةً للذهنيات. فالهندسة التليفزيونية هي عِلمٌ ضمني
لتحسين النسل، وعنصرية المظهر هي المسألة الوحيدة التي يمنع حظرها. وها هو النجل
الأصغر لمنجلي Mengele واقفٌ على رصيفِ وصول
القطارات، يرى كلَّ شيء آتيًا إليه، الأفكار والشخصيات والأخلاق والمشاريع
والسياسة، والأعمال الفنية والكتب المتنافِسة، كلُّها تنزل في فوضى من القطار:
يمينًا أم يسارًا؟ للشاشة أمْ لغير الشاشة؟ المنظر أمْ لا شيء؟ والمعيار يتمثَّل في
الأسئلة التالية: هل الفكرة قابلةٌ لأنْ تتحوَّل إلى سيناريو؟ وهل المؤلِّف قابِل
لأنْ يتحول إلى نجم؟ هل بإمكاننا نقْلُه إلى استوديو تليفزيوني، أو تحويله إلى
مسلسل، أو حكاية مصوَّرة أو فيلمٍ تليفزيوني؟ إنَّ للمرشَّحين الرمزيين إلى البقاء
الاجتماعي حياةٌ مهنية محدَّدة بقيمتهم التصورية المتبادلة. فهذه الأخيرة ستقيس
معامِلهم الوبائي، أو قدرتهم على البثِّ التي تتحكَّم في نهاية المطاف في البرمجة.
فالاصطفاء السُّلالي للأفكار الاجتماعية يصعِّد من العمق إلى السطح.
لنُدخل في تحليلنا نفحةً مرِحة من عِلم الاجتماع، ولْنلاحظ المُثُل في حركتها:
أخلاق المستعجلات القصوى، حقوق الفرد (لا حقوق المواطن؛ فهذه الأخيرة غير مرئية)،
دبلوماسية المظاهر، سياسة الضربات، اصطفاء أرباب العمل والمرشَّحين على أساس جَمال
وجههم، اعتبار النصوص انطلاقًا من رؤيةِ وجهِ الكاتب وسماعِ صوته، الاستعراض
الكلامي التليفزيوني باعتباره معيارًا لنقاش الأفكار، وجود الكاريكاتور في
الافتتاحيات، والتصوير المسموع في الصحافة المكتوبة. فالخطاب الذي لا يمكنه أن يصبح
مرئيًّا؛ يعتبر باطلًا. هل كلُّ هذا مجرَّد تُرَّهات؟ وفن التصميم (الديزاين)، هذه
الكراسي الرائعة التي تؤلِم بشِدة مؤخراتنا لأنها لم تُصنع إلا لتُرى؟ وتلك اللوحات
التي لا شخصية لها، والتي رُسمت قصدًا لتُنشر على الصفحات الصقيلة لمجلات الفن؟
وتلك البنايات غير الصالحة للسكن أو الاستعمال، والتي لا علاقة لها بملف مصاريفها
أو وِجهة استعمالها الخاصة، والتي رغم ذلك تُصنع لها تصاميم مصغَّرةٌ جميلة وصورٌ
رائعة في صفحات المجلات؟ هل هي هندسة عمرانية ذات علاقة «بالحركة» أم ﺑ «النظرة»؟
وتخطيطات وتصاميم الكتب، التي تكاد تمنعنا من قراءتها، لكنها رائعة في حدِّ ذاتها؟
وهذه الفساتين التي يبتكرها مصمِّمو الأزياء، والتي لا يلبسها أحد، ولكنها مع ذلك
تبدو فاتنةً تحت الأضواء؟ وتلك المنتَجات المبيعة على رفوف التخفيض في الأسواق؟
وتلك الأبحاث المضنية عن رموز الشركات؟ إن الصورة العلامة تجعل من المنتجات منتجاتٍ
معياريةً وتمحو نهائيًّا وظيفتها.
لقد أثار البصري انتباه نُخَب الكتابة التي عُرفت تقليديًّا بإعراضها عن الصورة.
هذا التحول تجلَّى واضحًا وبشكلٍ أفضل لدى محترفي الكلمات، الأبعد بمهنتهم
وتقاليدهم عن قِيم العرض الصوري. في سنة ١٩٦٠م، الْتقى شخصان مثقَّفان للعشاء،
وتجاذبا أطرافَ الحديث عمَّا قرآه. وفي سنة ١٩٩٠م، تحدَّث الشخصان نفسهما عمَّا
شاهداه. إنَّ فسحاتنا الليلية في المدنية تستثير لغويًّا بصريَّ الأمس. وبلغة
التحديد المخي والعصبي، أصبح المُخيخ الأيسر لمجتمعاتنا، أيْ محترفي الرمزي
(المؤمنين بالموضوعية والمسافة والدقة) ينزع للاشتغال بدوره مثل المخيخ الأيمن
المرصود للمتخيل (بنزوعه نحو الذاتية والعاطفة والتأثير). إنَّ الطبقة الرمزية (ومن
ضمنها طبعًا مؤلِّف هذه السطور)، تنفكُّ من الرمزية وتنكص من التحليل إلى الاتصال،
ومن المقروء إلى المرئي. إنها تتخدَّر بأيقونتها الذاتية، وقد سرقها مرضُ العصر
التظاهُري المتمثِّل في النرجسية، وشقيقها الأصغر أي التلصُّص. أمَّا الأشاوس من
بينهم، فهُمْ يصوِّرون احتضارهم بالمباشر؛ فالوافد الجديد قد عرض المواقف بالوقوف
والاستعراض في أماكن الاستطلاع البصري. إنها ردود أفعال مباشِرة تعود بالأحرى
للبيئة أكثر من ارتباطها بالأخلاق.
يُحدِّد التليفزيون (ومن بعده الإذاعة) سُلَّم الحظوظ والمراتب؛ بحيث إنَّ محترِف
القلم يأتي في مرتبةِ رجُل السياسة، أو الممثِّل، نفْسِها. الأمر يتعلَّق بالظهور
أو الاندثار؛ فالنظرة العمومية تثمينية، والثمَن الذي قد يطلبه النجم (سواءٌ كان من
الوسط الثقافي أو السياسي أو الصحافي)، لقاءَ محاضرةٍ أو تنشيطٍ، يتعلَّق بدقةٍ
بتواتُر ظهوره في الشاشة الصغيرة. ومضاعفة العيانية
visibilité غدا ضرورةً مشتركة. وهو ما يبدأ
بالبحث، الذي غدا إلزاميًّا، فيما يمكن وضعه في ظَهْرِ غِلافٍ (الشيء الذي يمثِّل
مشكلةً للمؤلفين وقدْرًا للوثائقيين). وهو المشكل الذي يتمُّ حلُّه عادةً بصورةِ
المؤلِّف على الغلاف.
إنَّ انخفاض السلطة المثقفية من حيث هي كذلك، قد خضَعَ لتحوُّلات الرؤية التي
تعيشها الطبقة المثقفة. وقد عبَّرتْ عن هذا التحوُّل علامةٌ خارجية متمثِّلة في
نقْلِ وتحويل الكبرياء، بحيث أصبح المثقَّف يتحلَّى بتواضُع جديد على طريقة
الكتَّاب القدماء. فتفوق حرفةٍ ما يُقاس بدرجةِ انفلاتها من العقاب. إنَّ أسياد
البصري ليسوا أقلَّ بشاعةً من أسياد المكتوب أمس (والفئة ليست طبعًا هي مجموع
الأفراد). إنهم يخالون أنَّ كلَّ شيءٍ مباحٌ. ولهم الحقُّ في ذلك، بما أنَّ كلَّ
شيء تقريبًا يتوقَّف عليهم. فهم يمارسون السرقةَ الأدبية، وبتْرَ النصوص، والشتيمةَ
والاستعلاء، وتغييرَ قرارِ طلبهم في آخِر لحظة، وعدمَ الردِّ على المكالمات
والرسائل، وإفاقةَ الناس في الخامسة صباحًا، وسلْخَ الأسماء، وبتْرَ العناوين
والشواهد؛ فإذا نحن عددنا المثالبَ التي نتحمَّل لدى أسيادنا الجُدد، فكمْ من فلانٍ
منهم يستحقُّ الاعتراف؟ إنه استنكارٌ غيرُ مُجدٍ، فالسِّناد
support هو المتحكِّم في منطقِ الأمور. وهذا
التبخُّر هو السبب في تلك النزقية. وعصر الشاشة يتجاوز كلَّ شيءٍ بفظاظته
ولامبالاته، لأنَّ ذاكراته المادية وفيرةٌ وقابلة للتغير. وتلك عقوبةٌ غيرُ محتملة.
بل أكثر من ذلك، يمكن القول بأنَّ الفظاظة والإنجازية في هذا المجال الوسائطي
مترادفان. فالخلل والخطأ أو المنزلق تملك هنا فضيلةً (مغناطيسية) يمحو أحدها
الآخَر، وذلك لصالح عفوٍ ذاتي باسمٍ وشِبه آلي.
اللامفكر فيه الجماعي
لنتوقَّفْ عن الأمثلة الواقعية ولْنستهدف الجذور.
إنَّ
الصورة التي تحثُّنا على التفكير لا تفكِّر بالمقابل
في نفسها بنفسها. ونحن لن نكتشف مناطقها الغامضة من دون أن نُدير
أولًا بَصَرنا عنها، لنضعه مثلًا على الكتب.
٥
الصورة المادية (الإشارية أو التناظُرية كالفوتوغرافيا والتليفزيون والسينما) لا
تعرف الملفوظ السالب. فاللاشجرة واللاحضور والغياب تقبل القول لا الرؤية والإظهار.
والممنوع والممكن كما البرنامج أو المشروع — أي كل ما ينفي أو يتجاوز الواقعَ
الفعلي — ليست أشياءَ قابلةً للعرض بالصورة. التشخيص أصلًا ممتلئ وإيجابي. وإذا ما
حوَّلت صورُ العالم هذا العالمَ إلى صورة؛ فإن هذا العالم سيغدو مكتفيًا بذاته
وكاملًا، ومتواليةً من التوكيدات الإيجابية. إنه سيغدو «عالمًا جديدًا طيبًا
ورائقًا». فوحده الرمزي يملك أدوات النفي والتضاد. لا يمكن للصورة أن تُظْهِر إلا
أفرادًا معيَّنين في سياقاتٍ خاصة، لا مقولات أو أنماطًا. إنها تجهل الكوني جهلًا
تامًّا. لذا يلزمنا أن نسميها اسميةً لا واقعية؛ فالواقعي غير موجود، وما يوجد هو
فقط الفرد. وهو ما ينطبق أفضل على الصورة التليفزيونية المحكوم عليها بالاقتصار على
اللقطة المكبرة. إنَّ السمعي البصري هو، في معناه الضيِّق والمحايد، بصريٌّ ذاتي
idiovisuel. فلا فرنسا ولا الإنسانية، ولا
الرأسمال ولا البورجوازية أو التعليم العمومي، بإمكانها أن تظهر في الجريدة
المتلفَزة. لكنَّ هذا الفرنسي أو ذاك، أو هذا الرجل، أو هذا المقاوِل أو ذاك الولي
بإمكانهم ذلك. «كلُّ الناس أحرار وسواسية أمام القانون.» تِلكُم جملةٌ مجرَّدة وبلا
سياق؛ ولذا فإنها ممنوعة تقنيًّا في الشاشة. إنَّ الطابع العام واللاشخصي ملفوظٌ
قانوني يجعل من المستحيل تصويرَ القوانين الحقوقية (كقانون المُواطن والمالك أو
الدائن)، إلا إذا تعلَّق الأمر بسخافاتٍ موجِبة للفسخ؛ فالقانون لا حقَّ له في الصورة.
٦
كما أنَّ الصورة تجهل الأدوات النحوية للانفصال (إما هذا أو ذاك …)، وأدوات الشرط
(إذا كان … فإن …)، أو التبعية أو العلاقة العِلِّية. ولا تشكِّل رهانات التفاوض
الاجتماعي أو الدبلوماسي للصورة، بالرغم من أنها تشكِّل علةَ وجودها الملموسة، سوى
تجريدات. أما وجوهُ المتفاوضين وسحناتُهم فلا. الحبكة أقلُّ أهمية من الممثِّل.
والصورة لا تشتغل إلا وفْقَ عمليات المجاورة والإضافة، على مستوًى واحدٍ من الواقع
وبدون مستوًى فوقيٍّ آخَر منطقي. إنَّ التفكير بالصورة ليس مضادًا للمنطق، وإنما
غير منطقي إطلاقًا. إنَّ له شكلَ الفسيفساء لا الشكل الناتِئ والطبقي للتركيب.
والصورة، أخيرًا، لا تعرف علاماتِ الزمن. فنحن لا يمكننا إلا أنْ نكون متزامِنين
معها. لا قبْلَها ولا متأخِّرين عنها، أمَّا المدَّة فهي عبارةٌ عن تتابُعٍ خطِّي
للحظات الحاضرة المساوية بعضها لبعض؛ فالفعل الاستمراري («ظللت أنام باكرًا») وصيغة
الاستقبال الماضي futur antérieur والماضي
المركَّب، لا مقابل لها في البصري المباشر (على الأقل بدون تدخل من صوتٍ
خارجي).
إنَّ هذه الهنات الأربعة وقائعُ موضوعيةٌ لا أحكام قيمة. والفن السينمائي بكامله
يتمثَّل في «قلبها تصويريًّا». وصهرها في بوتقةٍ واحدة يبلور ذاتيةً جماعية؛ فقِيم
الزمن هي «ثغراتُ» الصورة، وقد انقلبت إلى عملياتِ «امتلاء»، وأيديولوجية عبارة عن
أيقونيات iconologie من نوعٍ خاص. إنَّ ما نعتبره
«فكرًا جديدًا» ليس بالتأكيد سوى اللامفكَّرٍ فيه الأبدي للصورة، وقد عُرف التحيين
على يدِ آلات الرؤية الدنيا. والعقل الأيقوني يرتبط حتمًا «بالعقل الغرافي»،
ويشكِّل تراكُب الاثنَين لحظتنا الثقافية الراهنة باعتبارها صورةً مضبوطة قابلةً
لقراءتَين متناقضتَين، حسب انطلاقنا من هذا العقل أو ذاك، ومن الحاضر أو من
الماضي.
لقد أعلن جاك إلول
J. Ellul، وهو اللاهوتي
البروتستانتي لعصر الأشكال، كارثةً رُوحية
٧ غيرَ أنَّ بيير ليفي
P. Lévy، وهو
الفيلسوف العارف بإمكانات التلماتية، أعلَنَ بالمقابل نهضةً جديدة.
٨ إنهما يعبِّران عن نظرتَين للحاضر.
يتَّفق الكثيرون على اعتبار الأجيال الجديدة «متحرِّرة من كلِّ تمذهُب»، و«محرومة
من أيِّ حُكم مسبق»، و«بعيدة عن كلِّ تعاليميةٍ مسيحية»، وبالتالي «مرتكزة ارتكازًا
صُلبًا على الواقع». الأمر محتمَل، لكنْ ألمْ يقوموا، مع ذلك، بتعويضِ تعاليمية
بأخرى؟ أعني تعويضَ معتقدات وأحكام النصِّ المكتوب بأحكام ومعتقدات صورةِ الفيديو؟
السمعي البصري ليس بحاجةٍ لفرض التعاليم الاعتقادية لكي
يغدو مذهبًا وعقيدة؛ فأولوية العفوي على المفكر فيه، والفردي على الجماعي،
وانهيار الطوباويات والحكايات الكبرى، والدعوة إلى سيادة الحاضر الخالص،
والانكماش على العالم الخصوصي وتمجيد الجسم … إلخ، كلُّها أشياء تجعلنا نستنتج
أن لا واحدة من الخصائص الممتدحة جهرًا وعلنًا لهذه العقلية الجديدة؛ تفلت من
تأويلها، باعتبارها أثرًا عاديًّا جدًّا للبصري. إن ما نرى به
العالَم هو ما يبني بشكلٍ متزامن العالم والذات التي تدركه. وما تبنيه آلةُ التمثيل
والتصوير، في النهاية هو توافُق الاثنين. وهو تناغم لا واعٍ وصامت؛ ولذلك فهو
فعَّال. فالذات توجد لأجل الموضوع، والموضوع لأجل الذات، والاثنان معًا ينتظمان في
نسق؛ فلا مجال للدهشة حين تتطابق الأشياء بشكلٍ كامل. إن نظامًا جديدًا للصورة،
يعتمد نظامه الخاص للحقيقة؛ بالشكل الذي لا يكون معه قابلًا للنقد، بل قابلًا
للملاحظة والرصد من الداخل. بالمقابل، فهو نظامٌ يغدو قابلًا لأنْ يتَّخذ شكلًا
موضوعيًّا بسهولة، انطلاقًا من منظورِ النظام السابق (ما يمنح بالضرورة طابعًا
انفعاليًّا وعدائيًّا أو رجعيًّا لكلِّ إبعادٍ لكتلة البديهيات السائدة، وهو الشيء
الذي لن يكون إلا في صالح تلك الكتلة التي تزداد مشروعيتها معها). الصورة
التليفزيونية هي شكلٌ من أشكال رؤية الصورة التليفزيونية، التي تستبعد رؤية الرؤية،
إلا إذا نحن أدَرْنا الزِّر طبعًا. إنَّ عدم القابلية للنفي هي التي تكوِّن أشخاصًا
وعقولًا إيجابية، منفتِحة على الجوانب المستحسنة للأمور، تنهل بانشراح من مَعين
الحياة بدون الأحقاد السلبية للزمن الفائت. إنهم أشخاص منتبهون لمحيطهم المباشر،
ومهتمون أيَّما اهتمام بتوازنهم الخصوصي، فهم نِعمَ الآباء ونِعمَ الأزواج. لكنَّها
تكوِّن أيضًا أشخاصًا محافِظين، أقلَّ قابليةً لتغيير العالَم منها لتعضيد مركزهم
الاجتماعي، نازعين نحو شكِّيةٍ قوية بشعارها: «في العمق كلُّ شيء متشابِه». إنَّ
مساوئ قِيم التضاد والتجاوز تُنتج بالفعل التساوي العام للوقائع المستعرضة، التي
تطرد إحداها الأخرى، فيما تكتسب الواحدة منها قيمةَ الأخرى. هل ثمَّة عدميُّون في
الأفق؟ إنهم هم أنفسهم.
وتكوِّن عدمُ القابلية للتعميم أشخاصًا مهتمين بالأفراد، «وذوي اهتمامٍ بالِغ
بفرادة الكائنات» (حسب قول بيير ليفي) والأوضاع، أكثر ولعًا بالصدمة الملموسة منها
بالعدالة المجردة. إنهم أشخاصٌ أكثرُ انفتاحًا، حاضرو البديهة ويملكون الشجاعة
للحديث بضمير المتكلِّم (ففي التليفزيون لا يتمُّ الحديث إلا بضميرِ المتكلم؛ فضمير
الجماعة للمتكلم أو الغائب غير صالح)، بيْدَ أنهم ضعيفو الشخصية وعرضةٌ لكل
التأثيرات؛ لأنهم مجتثُّو الجذور وبدون روابطَ أو مرجعياتٍ رمزية. كما أنهم مهووسون
بالنجاح الفردي؛ فهم انتهازيون ولا أخلاقيون، غير قادرين على التضحية، لا يؤمنون
بشيءٍ غير المال، ولا يعتقدون بالأخصِّ في القانون لأنه تعبيرٌ عن إرادةٍ عامة.
إنجيلهم في ذلك: الأنا. إنهم أنانيون ذوو قلبٍ طيب؛ إنَّهم هُم أنفسهم. ألمْ يقُل
ألثوسير: «النزعة الاسمية هي الطريق الملكي نحو المادية. والحقيقة أنها طريقٌ لا
يؤدي إلا إلى نفسه»؟!
كما تكوِّن عدم القابلية للتنظيم أشخاصًا «واعين بالْتباس الواقع» يفضِّلون
الانتقائية على رُوح النظام، يشتغلون بمرونة في الوضعيات الأكثرِ ضبابيةً،
متحرِّرين من الكلمات التي كانت سببًا في أكثر آلامِنا (كالثورة، والأمة،
والبروليتاريا، والجمهورية … إلخ)، مستعدِّين لبناء صورٍ عن العالَم غيرِ حقيقية،
ولكنْ قابلة للحياة. إنهم أُناس ذوو عقليات مفكَّكة، مفتقدون لرُوح النقد، سُذَّج
خاضعون خانعون، سُكونيون وبلا مطالبَ أو صرامةٍ خاصة؛ إنَّهم هُم أنفُسُهم.
أما عدم القابلية للمرونة الزمنية فتكوِّن كائناتٍ غارقةً في زمنها، تعيش لحظتها
بحدَّة وكثافة، ذاتَ شخصية متفتِّحة، تعطي أهميةً للعرضي، تعشق القيم المحلية
والجوار، مرتبطةً «بالمصغر» و«بالمحسوس»، ومؤهَّلةً للالتزامات السريعة. بيْدَ أنها
كائناتٌ بلا ذاكرة أو مسافة باطنية مع الحدث، لا طواعيةَ لها لاحترام العهد الذي
أعطي البارحة قدْرَ طواعيتها للاستعداد الدقيق للغد. إنهم أشخاصٌ يريدون كلَّ شيء
حالًا، «ويعتبرون أنَّ أخلاقًا تعلِّم الصبر والفعل المتأنِّي؛ هي أخلاقٌ مرفوضة»
(حسب قولِ جاك إلول). لكلِّ عصر ثقافي، ولكلِّ وسطِ إرسالٍ، بالتأكيد، معاييرُ
ذكائه. وقد ميَّز أندري مالرو بين ثلاثة أنواع من تلك المعايير: «الذكاء هو تدمير
الكوميديا، إضافةً إلى الحُكم، ثم الذهنية الافتراضية.» ولا واحدة من هذه العمليات
قابلةٌ للمرور إلى الصورة أو عبْرَها. بيَدَ أنها قابلة للصياغة من غير الصور وربما
ضدها. ويبدو أنَّ عصر الشاشة يرى الأمر بخلاف ذلك. فدون كيشوت الكتابة، بتمفصُلاته
وخطيَّته، سيجد حوله مجتمعًا لاأخلاقيًّا وسائلًا، ملائمًا للسيولة اللاأخلاقية
للصور التليفزيونية. إنه عبارة عن مجتمعٍ مكوَّن من أشخاصٍ غير منطقيين وبدون
روابط، على شاكلةِ برامجنا الفسيفسائية التي لا بدايةَ لها ولا خاتمة. ففي عالمٍ
تغدو فيه الحكاية وسيلةً للبرهنة؛ يصبح انحباسُ اللسان مثالًا للكمال والتمام، بما
أنَّ كلَّ شيء ممكنٌ قوله عن كلِّ شيء، وأن الضجيج المستمرَّ يشبه الصمت. بالمقابل،
فإن سانشو السهرات التليفزيونية، المِهذار والمُطْنب، والمتنقِّل بين القنوات برضى،
سوف يفتخر لأنه وُلدَ في عالمِ الاختراعات، المليء بالمبادرات وبالمنظورات، حيث
كلُّ شيءٍ قابِلٌ للحدوث، عالم التداعيات الحرَّة والاستذكارات الشعرية، عالم حيث
القِيَم العاطفية السياقية والتعاطفية وقيم المشاركة الجسمية تهبُّ لإنقاذنا من
السأم والبرودة اللاأخلاقية للتجريدات المنطقية.