لص جَوَاد
المستر ﻫ. ك. تاجر كبير في نيويورك، أتمَّ الله نعمته عليه فراجت تجارته، يغصُّ مخزنه كلَّ يوم بالناس؛ هذا ينتقي، وهذا يدفع ما عليه، وذاك يساوم ولكن على غير ما ألفناه نحن في البيع والشراء، وتلك تخرج لأنها لم تجِدْ ما يواتيها ويناسبها، فلا يتعلق بأذيالها أحد ليبيعوها ما ليست في حاجة إليه.
فتيان وفتيات، سيدات وسادة، غلمان وشيوخ يزدحمون في ذلك البيت العظيم، يكادون يتدافعون بالمناكب لولا ما تواضع عليه القوم في تلك الديار، وما عُرِفُوا به من الكياسة والتُّؤَدَة في آداب الاجتماع، فلا تكاد تسمع ضوضاء في المخزن، فحديثهم كله وشوشة وهمس أَشبه بوشوشة الحلي في معصم الحسناء المتأنقة، وهكذا قُلْ عن عمال المخزن، فإنهم في شغل دائم، والابتسامة على أفواههم، لا يتذمَّرون ولا يجهرون بسآمة ولا ملل، هذا يرزم البضائع ويسلِّمها، وذاك يعرضها ويعين أثمانها، والقائم على الصندوق يقبض ويدفع، وهكذا دواليك.
المخزن غاصٌّ بالمشترين، والمستر ﻫ. ك. على كرسيِّه يستعرض شئون تجارته، ويراقب عماله غير متعمد، تارة يُقبِل على مدير العمل يناقشه في بعض النظريات، وطورًا يجالس عميلًا كبيرًا يجلسه إلى جانبه هنيهة، حتى إذا فرغ من كل هذا تناول صحف النهار ونشرها أمامه يطالعها، وإذا أقبل عليه مشترٍ — غلطًا — صرفه بلطف وكياسة إلى مَن يعنيه أمره.
هذه الحركة في مخازن المستر ﻫ. ك. تتجدَّد ما تجدَّد النهار، وصاحبها ينعم وثروته تنمو.
استسمنه اللصوص فنقبوا مخزنه الذي وصفنا، وافتتحوا معقل ثروته الحصين، ذلك الصندوق الحديدي المصفَّح، ولا تَسَلْ كيف؛ ففي اللصوص في تلك البلاد إخصائيون حذقوا مهنتهم حتى أصبحت فنًّا قائمًا برأسه، هم دولة في قلب دولة، وقد عجزت عن مطاردتهم حكومة البلاد فقعدت ويدها مغلولة إلى عنقها، ولنا بفاجعة الطيار لندبرغ بابنه، وبما نقرأه عن خطفهم كبار الأغنياء وتغريم شركة ضمان الحياة بفديتهم — أسطع برهان.
درى المستر ﻫ. ك. بالسرقة فتأثر تأثُّر راعٍ سُرِقت له نعجة من مئات، فهزَّ رأسه، وانشقت شفتاه حتى لا يدري الناظر إليه أَيبتسم أم يهزأ، وكأنه قال في نفسه: «وما تنقد الطيور من بَيْدَر كالهَرَم، فكل ما وقع عليه اللصوص دَخْلُ ثلاثة أَيام، فقط …»
وأذاعت صحف ذلك النهار في نيويورك خبر السرقة، فهزَّ عارفو متانة البيت التجارية رءوسهم قائلين: مبلغ ٥٠ ألف دولار، لا شيء.
وتطاول شبح الأزمة الراعب وتضخم، فارتعدت البيوت التجارية في الولايات المتحدة، وتناثرت الأوراق والأسهم المالية في الأسواق كأوراق الخريف الصفراء تحت أذيال العاصفة، فهلعت القلوب، ثم أخذت البيوت التجارية والمالية تتداعى واحدًا بعد واحد كما يحدث ساعة الزلزلة، ولم يثبت أمام هذا الإعصار المخيف إلا الطويل العمر.
ومن هؤلاء الأفذاذ الذين صمدوا للأزمة المستر ﻫ. ك. فإنه ظل متمتعًا بالثقة حتى عام أول، ثم ظهرت الصدوع، فأخذ يسد كل عورة تبدو بما عنده من مال احتياطي، حتى عجز هذا العام فكان من المُفْلِسِين، فأوى إلى بيته قانطًا.
ارتمى ذات يوم على كرسي في شرفة مسكنه المطل على الطريق، وقد أسبل دموعه ومرت في مُخَيِّلته ذكريات الماضي، فساوره الأسف وكاد يخنقه الغمُّ، يفكر كيف ينقذ عائلته، ويود أن تبتلعه الأرض حين يرى أصحابه، ويتفتت قلبه إذا فكَّر بزوجته وبنيه أو أبصر أولاد الناس فرحين مرحين، كيف لا والعيد مُقبِل، ولِعيد الميلاد في أميركا شأن عظيم، ونفقات ذات بال: هدايا للأطفال، وألبسة للبنين والبنيات، وحسنات للفقراء، وتبرعات للعيال المستورة، ومآكل فاخرة أهمها الديوك الحبشية، وزيارات ومعايدات …
تلك ساعة أَشَدُّ هولًا من يوم العرض، مرَّت عليه، وبينا كان مطرقًا كمن ألقي على منكبيه أثقل الأحمال، إذا بكلبه يتمسَّح به بعدما جفاه الناس وجفاهم، وما كان أشد ألمه إذ رأى هزال كلبه الأمين، وكيف لا يهزل وبنوه أصبحوا ينازعونه زاده، بعد أن كانوا يجودون عليه بألذ المآكل وأشهاها. لم يطق المستر ﻫ. ك. هذا الموقف فأسرع إلى غرفته ليخفي آلامه المبرحة، فنام ولم يستيقظ حتى المساء، وعند الغروب عاد إلى الشرفة فسطعت الكهرباء فصيَّرت الليل نهارًا، فلم يَرَ صاحبنا في اختلاف النهار والليل شيئًا جديدًا، ماذا يعنيه من شئون الليل، فذاك عهد مضى وراح.
أَجَلْ، لم يَعُدْ يهتم إلا لقوت الغد، وقد جفاه الأصحاب والخلَّان، وعند فراغ الكيس يستوحش الحر.
فكَّر طويلًا بصديق يُقْرِضُهُ بضعة دولارات يستعين بها على حاجات الغد، فإذا بنفسه تقول له: هيهات! فهَبَّ من شُرْفته كمَن أُهين ولا يستطيع دفع الإهانة، فتوجه شطر غرفته، فما كاد يتوسط البهو حتى قُرِعَ الباب فتعوَّذ، ولا أدري ماذا تمتم.
فأسرعت ابنته وفتحت الباب، فإذا بموزِّع البريد ينتصب أمامه كالمارد ويدفع إليه مكتوبًا قائلًا: «مضمون يا سيدي.» وناوله السجل.
فوقَّع بيد مرتجفة، وهو يظن الكتاب إنذارًا من أحد الدائنين، ففضَّه بحنق قائلًا: أيلحقونني إلى القبر؟ غدًا إن شاء الله.
وانشق الكتاب عن توءمين: عاطفة نبيلة، وإكسير الحياة.
كتاب من لص حاسب ذمته، وأرضى ضميره الحي، وأَثلج صدر البشرية، رأى الواجب يدعوه فلبَّى — والفتوة سجية — فنفح التاجر الذي سرقه من أعوام بألفَيْ ليرة إنكليزية، فجاءت بوقتها.
أما المستر ﻫ. ك. فما أظنه قال شيئًا، بل صمت كزكريا بعد خروجه من الهيكل.
أما أولاده وزوجته فكانوا يرقصون فرحًا، مؤمنين أشدَّ الإيمان بحكاية «بابا نويل» …