أم نخُّول
… قبل هاتيك الحرب
سمعت باسم أُم نخول وأنا ابن خمس، فكنت أكبر ويكبر معي، إذا دبَّرت امرأة تدبيرًا فيه صلاح لعيلتها نوَّهوا باسمها قائلين: «عاشت أم نخول.» وإن عزَّ شيء في الضيعة ووجدوه عند واحدة قالوا: «هذي أم نخول ثانية.» وإن مرَّت على الطريق امرأة مترجلة لا تبالي بمن يتشمَّسون قدام الأَبواب، تنحنحوا وتغامزوا قائلين: «إحم … أم نخول.» وهكذا انطبع هذا الاسم في ذهني كالأَبانا والسلام؛ فالمرحوم — على قلَّة تقديره للمرأة — كان يُلقِّبها أخت الرجال فيُحْفِظ أُمي ولا يُبالي، بل يصبُّ النفط على النار فيقول: «آه على امرأة مثلها!»
ورأيت بيتها وأنا ابن سبع، كنت مع والدتي في طريقنا إلى البترون، فأومأت بأصبعها إلى بيت معلَّق على صدر جبل وقالت: «هذاك بيت أُم نخول.» فمشيت ولكن نظري ظلَّ عالقًا بذاك البيت فقلت: «وأين هي أُم نخول؟» فضحكت أُمي وقالت: «مَنْ يعلم؟ أشغالها كثيرة.» فقلت: «حجارة بيتها بيضاء.» فقالت: «عجِّلْ يا صبي، امشِ، هذا كلس.»
لم يُخرِج كَرُّ السنين ذاك الاسم من رأسي، بل قامت إلى جانبه صورة بيتها، وسمعت عنها أحاديث أَغْرَتْنِي بزيارتها، ولكني تهَّيبت العقاب القائمة دونه. وأخيرًا، ولا أدري كيف … رأيتُني على مقربة من بيتها، وكلبها «غبار» يستقبلني استقبالًا صارخًا كان له النهر والأودية والكهوف كمُضَخِّمَات الصوت، لو كان «غبار» وحده لاتَّقَيْتُه، ولكن أسرته الكريمة معه، وكانت أَشدَّ احتفاءً بي منه، تسمَّرت في مكاني أنتظر العون فإذا براعٍ صغير يصيح من ورائي في الجبل المناوح، ويسألني أين أقصد، فأجبته وركني — خشية الكلب — أزور، فصاح الولد على البيت فردَّت عليه أُنثى بصوت يسمعه مَن هُمْ على الشطِّ، وما عتمت أن انتصبت بالباب، فقال لها: «ردِّي الكلاب.» فأجابته: «ما عليك، انتبه لعنزاتك.» ثم نادت قائد الكلاب باسمه، ففهم عنها ولفَّ الذَّنَب الذي كان لرأسه إكليلًا، وعاد وجيشه.
وجدْتُني تلقاء امرأة لا هي طويلة ولا قصيرة، لا ضخمة ولا هزيلة، لا جميلة ولا قبيحة، لا صبيَّة ولا عجوز، تعصب جبهتها بقدَّة سوداء، وتلفُّ رأسها بفوطة بيضاء نظيفة كأنها من ممرضات اليوم، تلبس فسطانًا منتفخًا على كَتِفَيْهَا كأن هناك رمانتين، قماش كثير من الزنَّار ونازلًا، فكأنها خابية من خوابي بيت شباب.
وقبل أن أبلغ البيت الأبيض مررت بين أشجار كلها حوامل، بعضها مؤزر بشِبَاك تردُّ عنها الطير فلا تفسد ثمارها، وعلى رءوس الغصون الشامخة جماجم غَنَمٍ ومعزى، وقشور بيضٍ مرفوعة على قصب مغروز في الأرض، وعلى شناخيب مساميك العريش قدد من نسيج مختلفة ألوانه، كأنها سمات أوسمة منحتها أم نخول أشجارها المتفوِّقة في الحمل، تمائم وتعاويذ تتَّقي بها عيون الحسَّاد فلا تصيب مزروعاتها. أَما الأوابد فلها دواء آخَر: هنا نطَّار على هيئة رجل، وهناك لعين بشكل امرأة، أشكال وألوان تقشعرُّ لرؤيتها جلود البشر، فكيف لا تُفزِع ابن آوي والعصافير! خلتني وأَنا مارٌّ بينها كأنني بين خفراء مختلفي السحن، وكلهم فظٌّ غليظ القلب.
وحَدَجَني «غبار» بعينه المحمرَّة، وكشَّر عن أَنيابه البيضاء، وتحسحس كمَن يريد الوثوب فقالت له: «غبار، سد بوزك، هذا ضيف.» فتبدَّلت ملامحه في الحال، واستخذى وزحف صوبي حتى دنا مني يشمني، فقالت لي: «لا تخف، أهلًا وسهلًا.»
وغابت ثم آبت وفي يدها كأس، فشربت شرابًا استطيبته جدًّا حتى قلت: «طيِّب شرابكم.» فقالت: «الليمون بلدي، والسكر بلدي، والماء من رأس العين، وأنت عطشان.»
فضحكت ضحكة فيها تعجُّب وحيرة، وقلت: «وكيف يكون السكَّر البلدي؟» فقالت: «نحن نعقِّده من قصب المصِّ، السكَّر غالٍ والعصير يمد أكثر وهو أَلذُّ.»
فقلت في نفسي: «هذه إحدى عجائبها، إنها هي.» واستولت أم نخول على المبادرة فأجبتها: «شاب من الجيرة سمعت باسمك، جئت أتعرَّف بك.»
فقالت بتعجُّب صادق: «باسمي أَنا؟»
– «نعم، باسمك أنتِ.» فسكتت وشاع الابتسام في وجهها قبل أن تقول: «طيِّب يا حبيبي، شباب كثير في الجيرة، فمن أَنت منهم؟» فقلت لها: «فلان ابن فلان.» فتنهدت ورحَّبت.
ودخلت علينا صبيَّة لا تعلم أني هناك، فارتدَّت مذعورة فقالت لها أُمها: «منَّا وفينا.» فتقدَّمت وسلَّمت عليَّ تسليم مَن تستلم حيط الكنيسة، وخرجت بعد أن تلقَّت أمر أُمها بإيماءة لم أَفهم معناها إلا عند الظهر.
أما أُم نخول فقالت: «ترانا اليوم مهموكين بتقميع اللوز وتشميسه، وغدًا لمُّ التين وقطاف العنب، وبعده الزيتون وعصره، الحياة كلها شغل.»
فقلت: «بيتكم منفرد، أَلا تضجرون وحدكم؟» فضحكت لأول مرَّة ضحكة عامرة وقالت: «ما عندنا وقت حتى نضجر.» فقلت: «أنتِ مستأهلة هذا الصيت يا ست أم النخول.» فجادت بربع ابتسامة وقالت: «ستُّك العضرا يا روحي، كلمة ست صارت رخيصة في زمانكم.»
وانقطع الحديث، فخلت أني أسأت إليها، ولكنها قالت: «فكري قال لي إنك مأمور حكومة، فأخذت حذري منك.» فقلت لها: «والحكومة تفزِّع!» فأجابت: «لا، ولكن ضرائبها تخوِّفنا، الحكومة مِلح الأَرض ولولاها ما كنَّا نعيش في لحف هذا الجبل، سمعنا عن الباشا الجديد أنه حط ضرائب على البقر والحمير والدجاج، أخبار لا تُصدَّق.»
– لا تخافي يا عمتي، احكي لي عن أحوالكم، عن المواسم عنْدكم.
فقالت: «أيَّة مواسم تريد؟» وأَخذت تعدُّ على أصابعها: «الحرير وسط، والدخان مليح، واللوز عال، والتين ممتاز، والعنب كسَّر المساميك، والزيتون أَكثر مما كنَّا ننتظر؛ سنة خير، المرعى بحر والمواشي شبعانة، والأسعار لا هي شرف ولا هي طرف.»
فقلت: «وأَنت كيف؟» فأجابت: «مثل الناس، ولا باس.» فقلت: «قالوا لي عندك تسعة أَولاد.» فأجابت: «وأنت الصادق، عندي عشرة، أربع بنيات وستة صبيان لِألله.»
– إذن عيلتكم دزينة.
فأجابت: «وعمي وحماتي.» قلت: «إذن بيتكم دير.» فهزت برأسها وقالت: «وأَي دير!»
فقلت: «وكيف تعيشون؟» فقالت: «من الأرض، في الأرض خير كثير يلاقيه من يشتغل، انظر البيت خالٍ، واحد مع المعزى، والثاني مع البقر، والثالث يكاري، والبقية مع والدهم ينقبون الأرض، والبنات واحدة تطبخ وتنفخ، والبقية لأشغال البيت، وأنا للحياكة والخياطة والترقيع.»
قلت: «ترتاحون في أيام الشتاء.» فابتسمت وقالت: «ومن أين لنا الراحة! أنا والبنات نغزل ونسدي للحياكة في أيام الشتاء، والرجال للزرع والقلع، مَن لا يزرع لا يشبع.»
قلت: «وكل هذا من أَين؟» فأجابت بنبرة: «من أين؟ من الأرض يا حبيبي، من الأرض، الله يبارك فيها.» قلت: «والخيطان من أَين؟» فأجابت: «من صوف الغنم والشرانق، والقطن من البترون، لو كان البيت يلبس من السوق كان خرب ونزحنا من هذي الْبَرِّيَّةِ.»
ثم أخذتني بيدي وأرتني ما في صناديقها من نسيج وقالت: «هذا جهاز البنَات.» ثم أرتني نولها باسمة، وكنت أرى في كل مكان قطارميز الدهن، وبراني السمن والعسل، وخوابي الزيت والنبيذ والدبس، وبتيَّات العرق، وأخيرًا أرتني صيرة المعزى، وقبو البقر، ودلَّتني على قن الدجاج والأرانب.
قلت: «وهل أَملاككم واسعة؟» فقالت: «بين بين، ولكن الشغل متواصل، والزبل كثير، وشريك الماء لا يُغلب، عندنا مائة رأس معزى وما فوق، عدا الغنم، وراءها السنة أكثر من خمسين جديًا، وعندنا ستة رءوس بقر، وعندنا يا سيدي الأكرم دابة مثل البغلة، خلفها جحش يسوى نوم العينين، حلو حلو أكثر مما تتصوَّر.» والتفتت نحو الأرض وقالت: «هذي الأرض نقبها أبو نخول العتيق، عاش فوق المائة، ما دخن ولا شرب أبدًا، كان أغلب شغله في ضوء القمر، كانوا يسمعون ضربة مهدته ونحيطه من المدفون، نحن اشتغلنا وزدنا عليه الفواكه، الفواكه لا تنقطع، عندنا من كل شيء حتى الأَدوية من أعشابنا، الكينا قنطاريون، والمساهل دبس خروب، قال الله لا تكذب؛ لا نشتري إلا حبة الرز، الأحد مخصص للملح وصيد السمك.»
فقلت: «والسكافة يا أم نخول؟» فهرولت أمامي وأرتني آلات السكافة والجلود، فقلت: «والعلم؟» فهزَّت كتفيها وقالت باستهزاء: «تقبر العلم، جارنا علَّم ابنه وعرفنا النتيجة، تعلَّم أولادي القراءة والكتابة والحساب وهذا كافٍ، المدرسة مجانًا من كيس الوقف.»
ونوديتْ من خلف الستار فلبَّت، وفيما هي راجعة دقَّ جرس الظهر فوقفت «تبشِّر» حيث كانت، ولما أنهت صلاتها أمسكت بيدي وقالت: «تفضَّل، الغدا حاضر.» فاعتذرت منها، فعزمت عليَّ وقالت لي: «بيننا وبينكم خبز وملح، لو كان لنا نصيب كنت أنت ابن أُختي.»
وتغدينا دجاجًا وأرانب وبيضًا ولبنًا وأكثر خضرة الوقت، وكان الحلو عسلًا وقريشة وفواكه متنوِّعة، أما شرابنا فنبيذ عتيق.
وانصرفت قرب العصر أُردِّد قول المثل اللبناني: «فلاح مكفي ملك مخفي.» ورأيت أَبا نخول يستريح وأولاده تحت التينة، فذكَّرتني صلعته النحاسية بصلعة أبي حفص الورَّاق التي قال فيها ابن الرومي:
… بعد هاتيك الحرب
خوى عرشُ المَلِكة المخفيَّة فزرتُ القريةَ المُعلَّقةَ مرة ثانية، بُهِتُّ إذ وجدتُني قُدَّامَ بابٍ هامدٍ كان بالأمس نبَّاضًا كقلب العصفور المروَّع، البيتُ بلا سكانٍ كجسمٍ بلا دم، والوقوف عندَه وعند المقبرَة سواءٌ بسواء، كان الجاهليون على حقٍّ إذ بكوا على الطلول، فَخَرابُ البيوت كموتِ الأحياء، كان بيتُ أم نخُّول دنيا عامرةً مؤنسة فإذا به اليومَ كهيكلٍ مهجور، لا كلابَ تعزِفُ فتنفُخُ روحًا مُحييًا في ذاك المحيط الأعزلِ، ولا حيوانات أليفة تناجينا عيونُها البريئةُ الحلوة، لا ثورَ يخور ولا جديَ يمعو، ولا حمارَ ينهَقُ ولا هرَّةَ تموء، سكونٌ راعبٌ ناءَ بكَلكَله على ذلكَ البيتِ كأنه ليلُ امرئ القيس.
الشجيراتُ الغضَّةُ الشبابِ نَحُلتْ واصفرَّت فهي قائمةٌ حوالَي البيتِ كالمسلولينَ يتفرَّجون حولَ المَصَحِّ، والعرائشُ سقطتْ عن أرائكها فهي مبعثَرةٌ هنا وهناكَ كأشلاءِ المحاربينَ بعدَ المعركة، الأرضُ بُورٌ منذ سنوات فسيطرَ الشوكُ على مملكةِ أُم نخول، فبدتْ كالحسناء في الأطمار.
دَقَقْتُ البابَ دقةَ يائس فما ردَّ عليَّ أحد، ودفعته فانفتح فخلتُني أَمامَ بابِ قبر، البيت الذي كان لمَّاعًا مصقولًا كترائب أُمِّ الربابِ، أمسى منكوتًا كأنه وَكرُ قنفذٍ تنبعثُ منه روائحُ العفنِ وقد فارقَهُ صفاءُ القرية النقي.
في أرضه الزُبالةُ وعلى حيطانِه ستائرُ من نَسْج العَنكبوت، والرُّتَيلاء تروحُ في سقفهِ وتَجيءُ كأنها أُمُّ نخول حين كانت تُسدِّي، لم أَسمع حسَّ أَحدٍ في ذلك البيتِ القاتم الأعماق، الخالي إلَّا من الذكرياتِ الصامتة، فصِحْتُ مُحدِّثًا نفسي: «وأَينَ هيَ أُم نخول؟» فإذا بصوت يقول: «مَنْ؟» فالتفتُّ حيثُ نَجَمَ الصوتُ فرأَيتُ في الزاويةِ الغربية الشَمالية لحافًا يتحرَّك، وامرأة تصِلِّب على وجهها ثم تقول: «تفضَّل، أهلًا وسهلًا.»
وبعدَ تسليمٍ شرحُهُ طويلٌ جلستُ قُبالتها على كرسيٍّ يُصوصي تحتي ويقوقي كلَّما تحركت، فأحكمت جلستي معتمدًا على رُكبتيَّ أَكثرَ من اعتمادي على تلك الخشباتِ المفكَّكة، وقلت لها: «عرفتِ مَنْ أَنا يا أُمَّ نخول؟»
فتفرَّست بي بحدَقتينِ منفتِحتَينِ وقالت: «أمهلني.» وطالت المُهلَةُ فقلت ممهدًا طريق المعرفة: وأَين «غبار» يستقبلني ذاكَ الاستقبال الراعب؟ فضحكتْ وأَجابتْ بحسرةٍ زادتها ابتسامتُها الفاترةُ وضوحًا: «مسكين غبار! راح مع مَن راحوا.» وأطرقت تعصِر صُدغيها بيُسراها، أَردتُ أن أكفيَها مئونةَ الجُهد وأُعرِّفها بي، فأومأتْ بجمعِ يدِها أن أمهل، فقلت لها: «لا تكلِّفي نفسَك يا خالتي، يستحيلُ أن تعرفيني، الدنيا تغيَّرَت، ونحن تغيَّرْنا معها، فكيف تعرفينني؟»
فأجابت: «عرفتُكَ، عرفتُكَ، أنتَ جئتنا منذُ عشرينَ سنةً، نعم نعم، أنتَ كَبُرتَ ونحن شِخْنَا، لا تحسَب أَنَّا نسيناك، زيارتك تاريخ للضيعة، كيفَ حالُ الوالد؟»
فقلت: «وهبَك الله عمرَه.»
فأجابت: «والقائل: مَنْ خلَّف ما مات.»
والتفتُّ فعَلَق نظري بالمذبح المنصوب فوق رأسها، وهو رفٌّ عليه بضعُ صورٍ وصليب، كسوته من حياكة أُم نخول وكشكشُهُ شغل صِنَّارتها، ودخلتْ بُنيَّةٌ في يمينها إبريقٌ فراعني تطرُّفُ الدهر في جورِهِ على هذه المرأة النفيسة.
وعقبَ الشربَ سكوتٌ كَصمتِ المُعَزِّينَ في الخطب المُدْلَهِمِّ، قالت: «هنيئًا.» وتنهدت وأطرقتْ كأنها تتذكَّر الماضي، وأجبتُ: «هنَّاكِ الله.» ورحت أُفتِّش عن كلمة لا تُثير ذِكْرى، فما حضرتني واحدة، ولكنَّ أُم نخول استولت على الكلام فقالت: «تأمَّلْ، أين كُنَّا، وكيف صرنا.» وكرجت دمعات من عينيها ما لبثت أن تكسرت في ثلوم وجنتيها، تمرمرت قليلًا ثم قالت: «انْفَخَتَ الدفُّ وتفرَّق العشَّاق، راح جمهور البيت الذي سميته ديرًا، ما بقي إلا قريد العُشِّ — تَعني أصغرَ أولادها — دبَّ الفنا فينا، ما بقي عندنا شيءٌ يدب على الأربع. بلى، عندنا دابة يُكاري عليها الصبي لأنه قليلُ الجَلَد كثيرُ الحكي، إذا قلتُ له حُسَّ الدابة ضحِك واستهزأ، وتمغَّطَ ربعَ ساعةٍ قبل الوقوف.»
فقلتُ: «وأَيْنَ بقية العيلةِ يا أُم نخول؟» فأجابتْ: «الكِبار في ديار البلى، والصغارُ تاهوا في البلاد.» وشرعت تتولَّهُ وتبكي، وبعد دقائقَ قالت: «قصتُنا قصةٌ طويلة، راحوا كلهم وبقيتُ وحدي مثلَ البومةِ العميا، آخرة شنيعة، لا تَقُلْ خَرفت أُم نخول، عشنا مدَة الحرب بألفِ خير، الناس باعوا ما فوَقهم وما تحتهم ونحنُ اشترينا، وبعدَ الحرب دار الدولابُ بالمقلوب، بعض الناس قال حسد، وبعضهم قال إصابة عين.» وسكتتْ، فاغتنمتُ الفرصةَ وقلت: «وأَنتِ أيش قلت؟» فقالت: «أَمهل يَجِئْكَ الخبر.» وأخذت منديلًا كان عندَ مخدتِها ومسحت به دموعها، ثم أحكمت جلستها وقالت: «انتهيت الحرب وتغير كل شيء، أولادُنا كانوا طوعَ والدِهم فصاروا يردُّون الكلمة كلمتين، أعجبتهم عِيشة المدن، كان ابن جارنا يقف على بابنا حتى نُطعِمَه لُقمةً، فترك الضيعةَ بعدَ الحرب ورجع إليها كأنه خوَاجَا، لا يحكي إلا عن المغنِّيَات والرقَّاصات — حاشا قدرك — فأفسد واحدًا من أولادنا وأخذه معه، أما البقية فقضوا الأَيام مُتَكَرِّهِينَ ومُتَذَمِّرِينَ، ذاقوا طعم ركوب السيَّارات فاستخفُّوا بالدوابِّ، استنكفوا من رعايةِ المعزى وكرهوا البقر، صاروا متزنترين، فبعنا الطروش — الحيوانات الداجنة — أنفقوا كلَّ ما جمعته أم نخول، والقِلَّة تُورِّث النقار، فصار بيتنا مثل جهنمَ الحمراء، حديثهم الدائم: فلان ما عنده رزق وعيشته أحسن من عيشتنا، وفلان أفقرُ أهل الضيعة وثيابه جوخٌ وحرير شغل البلاد — تعني أوربا — ونحن نلبس من حياكتك! — الله الله من الأيام، فَضَّلُوا الشيتَ والمقصورَ على الحرير لأنه حياكتي — ابن فلان مستريح أكثر منَّا لا يمشي ربع ساعة ونحن نُقتَل من المشي قبل الوصول إلى طريق البحر، قنطار الحطب عندنا بربع ليرة، وعند غيرنا بليرتين، إجَّاصنا وتفاحنا وسفرجلنا يسقطُ تحتَ أُمهِ، الزبل ينفق عند غيرنا ونحن نختارُ كيف نصرِّف حاصلاتنا. راحت الأيام التي عرَفوا فيها قيمة الزبل، كان عندنا ولدٌ يُحبُّ الأَرضَ، أَخذه عزرايل، مات موتةً بشعة، أبعدَها الله عن كلِّ محبٍّ، كان يحطِّب لوليمة أَحَد التهنئة فهيَّأ حمل حطب وحزَمهُ بالحبل، وبدلًا من أن يحمله خطر له فكر كان سببَ موته، دفر الحمل برجله من فوقِ صخرٍ علوُّه عشرُ قاماتٍ، فعلقَ الحبلُ برجلهِ وسقط مع الحمل إلى الوادي، وصار أَحَد التهنئةِ مناحةً، البنت التي سَقَتْكَ هي بنته.»
وطفِقتْ تنوحُ وتبكي زُهاءَ ربع ساعة، فحاولتُ أن أحوِّلَ مجرى الحديث فصاحت: «لا تقاطعني، أنا أَلتذُّ بالبكاء كما يلتَذُّ غيري بالغناء والرقص. وأَبو نخول، يا حزني عليه، عَضَّتْهُ حية فحملناه إلى جسر المدفون لنعالجه في بيروت فماتَ في بعشتا، مات بعدَ ابنه بتسعة أَشهر، ليته ماتَ قبله! كان استراح من مصيبته فيه، آخِر ولدٍ تركَ الضيعة منذُ شهرين، قدَّمْنا وأَخَّرنا فما نفعَ الحكي، خبَّروني أنه يخدم في لوكندة، تأمَّلْ ضعف العقل، كان يحكم ويأمر في بيته فصار أجيرًا للناس، وهكذا تم فينا قول المثل: راح الرزق مع أصحابه.»
– ومن أين تأكلونَ اليوم يا أم نخول؟
– من ظَهْر الدابة، أَجَلَّكَ الله. كنا نشبِّع جبيلَ والبترونَ من خيرات أرضنا فصرنا نشتهي عنقود العنب في أيدي البشر، ما بقي من العمر أكثر ممَّا مضى، ولكن يقول المثل: «تموت الدجاجة وعينها بفراخها»، عزَّ عليَّ خَرابُ بيتي قُدَّام عيني.
وأخذتْ تتفجع ولا تدري مَنْ تلوم، ثم هدأتْ ثورتُها بغتةً وشرعت تبدي نظراتٍ عمرانيةً اقتصاديةً، لو عمل بها الناس لصارت كلُّ قريةٍ جنَّة، ثم عاودتها ذكرى أيامها السالفة، أيامَ كان بيتها يضيق عن غَلَّةِ أرضها، فعلقت تعدِّدُ عقاراتِها قِطعةً قطعة، وتتفجَّع على مواسمِها واحدًا واحدًا، وتصفِّق على ركبتيها توجُّعًا والتياعًا، فنهضتُ إذ ذاك فقالت بانكسار: «اقعد.» فاعتذرتُ، فقبضت على يدي بيديها الثنتين وقالت: «كلُّ مصائبي هينةٌ عندَ خروجك من عندِنا بلا أكل، آخ من الأيام.» ثم تنهدت وقالت: «ما لك جود إلا من الموجود، لا توآخذنا.» وما بلغتُ الباب حتى سمعتها تقول لي بصوت يخالطه بكاء: «رُدَّ الباب خلفك.»
وبلغتُ التِّينَةَ التي رأيتُ تحتها أَبا نخول بين أولاده فإذا هي معصفَرة الإِزار، بعد أن كانت كعذارى دوار، فخطرت في بالي كلمةٌ قالها جبران: «مصيبة الأُمم في مَن لا يستنبتُ بذرةً، ولا يرفع حجرًا، ولا يحوك ثوبًا.»
وانتصبت قُبالتها كلمة قالتها أم نخول في بحثها العمراني: «ماذا يصير بالبلاد لو هجر الضياع أهلها، ومن أين يأكل الحكَّام والتجار إذا خربت بيوت القرى مثلَما خَرِب بيتُنا؟»
وفي صباح اليوم التالي دقَّ جرس القريةِ المعلقة حزنًا على ربةِ الحقل، ماتت سيدة الضيعة ولحقت بمَن سبقوها إلى ظلِّ السنديانة العظمى.