وجه مقيت
ما رأت عيني مثله رجلًا، لو تراه يمشي على الرصيف وفي يده عصا يتوكَّأ عليها بعظمة وجبروت لحسبته حاويًا أو ساحرًا من بقايا زمن عبادة العجل والأفعى، شَعْر مثَّنى ومرسل كما قال امرؤ القيس، وعينان ساهيتان تحلُمَان باللَّاشيء، وُجِد على الأرض منذ ثلاثين عامًا فخالها أوسع مدى من دهر أَبِي العلاء، أسمر مربوع على كرسي خدِّه خال أشعر تحسبه شاربًا، مغترٌّ بجماله يظن أنه فلقة قمرٍ لو بدا لحامل في طور الوحام لجاءت ببدر لم يحلُم بمثله الشعراء، يؤمن بملكوت الأدب ويرجو الخلود فيه، فهو في عين نفسه إحدى فلتات الزمان، بل شاعر العرب المسكوني.
عرفته مساء يوم معرفة وجه، فما أصبح حتى شنَّ عليَّ غارة عتادها حقيبة في شهرها التاسع، فيها شعر وفيها نثر، مقالات وقصص، قصائد طوال وقصار، وبالجملة فيها ما في قبوي المعدِّ لسقط المتاع.
صاحبنا مبتلًى بملاريا الأدب، ومتى نفضته البرداء يشتد هذيانه فيه. يأنس بأشياء من العلم الحديث فيُخَيَّل إليه أنه وجد حجر الفلسفة، إِن رأى معَّازًا أَو بقَّارًا أَو فلَّاحًا ابتسم له وحيَّاه تحيَّة صَبٍّ مشتاق، حتى إذا استأنس به انهال عليه بأسواط منظومه ومنثوره، يطمع في أن تعمَّ شهرته جميع الطبقات، فأعار الأرض اهتمامًا اقتداءً بفرجيل، ثم وصف المعارك كهومير ليسدَّ برأس قلمه ثغرة في جدار الأدب العربي.
تقرأ على مسامعه قصيدة لأعظم شاعر، فيفترَّ عن أسنان مصفرَّة ولثة مزرَقَّة، ويقول بكل وقاحة: «منو المتنبي؟ ومنو شكسبير؟ أَلَيْسَا بشرًا مثلنا؟» يفتح كشكوله ويخرج منه أَفاعي رقطاء ورقشاء دونها حيَّات أَدهى الحواة، فتسمع وأنفك راغم، وإن تثاءبت يحدجك بعين زرقاء لو رآها ابن الرومي للزم بيته شهرًا كاملًا، عليك عند سماع دُرَرِهِ اليتيمة أن تهزَّ برأسك كالضبِّ، وترَجِّع كالحمام، وتنثر زهور الاستحسان عند كل نظرة يلقيها عليك، وعند كل شدَّة يَعَضُّ عليها … ولا تحسب أنك اتَّقَيْتَ شَرَّه إن فعلت فصاحبنا مغفَّل، يخالك طربت حقًّا فيتمادى حتى يؤنسك ساعات … لا يدرك أن أحدًا مشغول لأنه بطَّال، أَدركته حرفة الأدب فلا عمل له غير النظم والنثر وكبِّ هذا «الزفت» على رأس مَن يتشبَّث به، مؤمن بأنه من عباقرة الشرق العربي، ويرجو أن تنصفه الذرية التي تُرَبَّى تربية حديثة، أما معاصروه فجُلُّهُمْ حُسَّاد، ومعظمهم غلاظ الأَكباد.
لا يستقر إنْ جلس فكأنه قاعد على خازوق، فهو يتفنن في جلسته كأنه أمام مصوِّر، وكثيرًا ما يدعم ذقنه بإبهامه ويثني السبَّابة على شفتيه، فيغطي بها السفلى ويسند العليا.
دعاني يومًا إلى زيارته وأَلحَّ عليَّ وأغراني بقوله: تعلم أن كل بلد معروف بلون من الطعام والحَلْوَيَات، وأنا عندي لون ما ذُقْتَ مثله أبدًا، ولا أبصرتَه في نومك، إنْ زرتني أذقتك إياه وعلَّمْتُك صنعه، فتأكله وتبيِّض به وجهك أحيانًا، فقلت في نفسي هذا صيَّاد ماهر يضع في صنَّارته ذبانة ليصطاد دلفينًا … وارتخت نفسي إذ سمعت بأكلة جديدة، ثم حسبت أنه سيحبسني عنده حتى الغداء، وأنه سيعدُّ لي من مطهماته خيولًا تجول في كل ميدان، فجئتُه بعد الميعاد بساعتين، تذكَّرت الأكلة الجديدة التي لم أحلُم بها، وحياتي كلها أحلام من هذا الضرب، فهان عليَّ سماع سفاسفه ثلاث ساعات.
كان جالسًا إلى طاولته جلسة فنيَّة، وقد نشر عليها أوراقًا تخال سطورها دروب النمل على الرمل، أو أعشاش البَقِّ في زوايا بيت لم تعرف حيطانه المكانس، انقبض صدري وأحسست بما تحسُّ به النفوس قبل الخطر والنكبات، ولكنني تجلدتُ وقلت: هما ساعتان ويليهما الغداء. فَهَبْ أني في حبس الدمِ، فما يكون مقدار ويل ساعتين ثلاث في سبيل أَكلة نتلذذ بها ونضيفها إلى معجم المطبخ.
وكان ردُّ التحية توبيخًا لطيفًا على تضييعي ساعتين أخسر بهما مشاهدة أسراب من عذارى الخلود، عنَّفني كأني غريمه، فاعتذرت بما ألفناه من أكاذيب المعاذير، زعمت له أنني التقيت بأديب آخَر استوقفني ليُسْمِعَنِي آية فنية جديدة، فتأفَّف وتمتم: ما أَشدَّ غرور الأُدباء! ما أسمجهم! يفلقون الناس بتُرَّهَاتِهِم. ثم استعجل حرصًا على الوقت وفتح دفترًا من قطع شحيم كنيستنا، فرمقت ذلك الدفتر بمؤخرة عيني، فأدركت أنه لا يزيد عن كفٍّ، فقلت في نفسي: اللطمة بكَفٍّ هينة، وقانا الله شر الكَفَّيْنِ.
شرع يقرأ ويشرح فقلت له: لا تُضَيِّعْنِي، اقرأ وعجِّلْ والمناقشةُ بعدئذٍ. ومضى هو في نثر دُرَرِهِ، وسِحْتُ أنا في دنيا اللاوعي، فكنت كالأطرش في الزفَّة.
ودقَّت الساعة الثانية وصاحبي لم يَنْتَهِ من قراءة تحليل نفسيٍّ من قصة فتاة هجرها صاحبها وأحبَّ غيرها، قال صاحبي: إنها كانت تفكر في مصيرها وخيبة آمالها. أَمَّا أنا فكنتُ أُفكِّر بالأكلة العبقرية التي وعدني بها، لم أسمع قعقعة صحون ولا وسوسة ملاعق، ولم أشمَّ غير رائحة أَدبه … فأدركت أني وقعت في الشَّرَكِ، وتذكرت المثل القائل: إنَّ الشَّقِيَّ وافِدُ البَرَاجِمِ.
وانتهت القراءة، فجاء دور التعليق، فأخذ يدُلُّنِي على مواضع الحسن، فيَئِسْتُ من حديث كلَيْلِ ابْنِ الفارِضِ، وأخذت أَتَحَيَّنُ الفرصة للفرار وهو يسدُّ عليَّ الدروب، ولا يَدَعُ لي مجالًا، وشاء القدر فسَعَلَ وانقطع سيل كلامه الجارف فوقفت، فأخذ يسعل ويؤمئ إليَّ: أنْ اقعدْ. فحييت وانصرفت لا أسمع نداء ولا ألتفت ورائي.
وبعد عامين قرع صاحبنا باب غرفتي، وكان بطني ماشيًا في ذلك النهار، فدخل عليَّ الساعة الثامنة وأخذ ينزع من كنانته الحجَّاجيَّة سهمًا إثر سهم ويصوبها إليَّ، زاعمًا أنها فتح جديد في الأدب العربي، وأنه قرأها على أئمة العواصم فقرَّظوها وأَثْنَوْا عليها، وأراني خَطَّ كل واحد منهم، وفي نيته أن يظفر بشيء مني، فقلت له وقد شَقَّنِي: الأَدب ذوق يا صاحبي، فلو كنت شيخ أُدباء العالم، وهكذا ذوقك، فإنك أَفتك من طيرٍ أبابيل الرامية بحجارة من سجيل، قُمْ عني يا أَخي؛ فجسمي مهدود لا يحتمل مُسَهِّلَيْنِ … كيت وكيت من الأدب والأُدباء، متى كان الأَدب حقنة؟ … ليتكَ تحلِّل نفسيتي بدلًا من تحليل نفسية تلك المستورة بطلة روايتك، ليتك تدرك هذا فتكتب أروع فصل تحليلي. غفر الله لبورجه وستندال ودوستويفسكي، للطاعون مصل واقٍ أَمَّا أَنت فهيهات أن يقيني منك واقٍ، ولو هاجرت إلى مدينة النحاس والواق واق. ارحمني يا صاحبي، وخَفْ ربَّك، فعندي أولادٌ عيالٌ عليَّ.
فَاخْضَوْضَرَ وَاحْمَوْمَرَ، كما عبَّر أصحابنا الرمزيون، ولكنه كان أدهى مني فشَنَّ عَلَيَّ هجومًا معاكسًا، وسألني كأنه لم يسمع ما قلت: ما قولك في الكلمة؟ فأجبته جبرًا لخاطره المكسور وإصلاحًا لما أفسده الغيظ وارتفاع الضغط من أدبي معه فقلت: الكلمة! الكلمة بنت سفر التكوين العجيبة وهي أعظم أسرار الله، إنْ صدرت عن نفس خَيِّرَة كانت نعمة وبركة، وإنْ قذفها قلب أسود كانت لهبًا أزرق يلتهم الناس كالهشيم.
الكلمة يا صاحبي، أبدعت كل شيء كان، صارت الكلمة فعلًا فكان الكون، أَمَا قال الله للكائنات كوني فكانت؟ … أَلَمْ يقل يسوع للرياح اهدئي اسكتي، فهدأت وسكتت، ومشى على الماء؟ الكلمة وشاح الرسالة والنبوة، ودرع القواد وعدة الساسة وضالَّة الأديب مثلك، بها اقتاد النوابغ البشرية وبها خلدوا، فأسأل الله أن يقول كلمته، ويكتب اسمك في سفر الخلود.
واستأذنت بالخروج لاستنشاق الهواء وإفراغ ما في صدري وبطني، كنت لا أدري في تلك الساعة أهو عندي أم أنا عنده، وعُدْتُ فإذا به يُخرج حية من عبه وأنشدنيها فور دخولي، فقلت: لا حول ولا … آخِر الدواء الكيُّ. وإذا بصاحبي يستطرد من واحدة إلى أخرى، فعلمت أنه لا يحسُّ إلا بالمساس، فقلت له: وماذا تبتغي مني بعد هذا الاضطهاد والتنكيل؟
قال: أريد رأيك.
فقلتُ: لا رأيَ لمن لا يُطَاعُ، أَقْسِمْ لي بشرفك أنك تطيعني، إن هذه الرزم التي شنفت بسواها آذان أئمة العواصم، كما يعبر الكذابون، لا تصلح إلا لذلك الموضع وذاك الغرض … فَتِّشْ يا عزيزي عن رزقك، فالله يرزق من يشاء — الضمير يعود إلى المسترزق — ولئن قطع غيري لسانك بثنائه عليك فأنا أَصْدُقُكَ الخبر وسُبَّنِي ما شئت. أنت تعتمد على عبارات معلوكة معروكة، وعلى صور أبدعها الإنسان الأولي، وتراها كما يراها غيرك ملاك البلاغة العربية، أمَّا أنا فأحاربها، وأحفر الخنادق كل يوم لأقبرها فيها أفواجًا، ليس لي رأي في المومياءات، بل أتقزز ممَّن ينبشون قبورها، وأكاد أتقيأ إذا نظرت إليها.
وبعد شهور حمل إليَّ البريد كتابًا ضخمًا الْتَأَمَ بين دفتيه شمل تلك الوريقات المشئومة، وفي طليعتها مقدمة فضفاضة كفساتين راقصات النوَرِ، كتبها أديب موقَّر فحشاها ألفاظًا ورواسم مألوفة جعل بها المؤلف من قادة الفكر وأصحاب الفتح المبين، فأوهمنا أنَّا ما سرينا في ظهور جدودنا إلا لنرى هذا الأديب الكبير، كما زعم المتنبي لكافور.
فقلت للذين حولي في تلك الساعة: ما أكثر الدجالين! إن زجاجة عرقٍ من عيار ثلاثين أقل إسكارًا من لقب الأديب الكبير، ويا ويل الأدب والأدباء من أشباه ابن القارح!