مهاجرة
١
فرنسيس ابن بيت توارث مشيخة الصلح منذ نشأة المتصرفية، أحبَّ «هدلا» فزاحمه عليها الكثيرون من شباب القرية، فغلبهم ولم يثبت له في الميدان غير شبَّان غرباء من أبناء وجوه البلاد، فوجدوا لهم أنصارًا من المقهورين الحانِقِين، فَانْشَقَّتِ الضيعة حزبين، أَخذ أبو هدلا حذرَه فكان يزرب خيول «الساهرين» عند بنته في القبو، ويشك المفتاح في زناره مُظهِرًا نصفه، كأن لسان حاله يقول لأَنصار فرنسيس: المفتاح تحت زنادي، فلا تحلموا بجز أَذناب الخيل ونواصيها … يفرغ بيته صباحًا ويمتلئ مساء، فللسهرة عند البنات شروط: منها المجيء بعد المغرب، والرواح قبل الفجر، وعدم النوم في الضيعة لأَنه جبن وفزع …
إذا جاء فرنسيس ملأ أنصار مزاحميه البيت، وكبسوا عليه حتى الفجر، وإن جاء راغب آخَر أَقْبَل رجال فرنسيس بالعِصِيِّ والنبابيت، وخناجر بعضهم الجزينية مشكوكة في الزنانير من وراء، وفي الناحية المقابلة من الخصر تعلق أكياس التتن المخملية المطرَّزة: هدايا الحبيبات إلى الأحباب.
كَهْرَبَ جمال «هدلا» جوَّ القرية، وصارت حديث الناس في بيوتهم، وفي حقولهم، وعلى العين، وقُدَّام باب الكنيسة صباح الآحاد والأعياد، فهذه واحدة صادرة عن النبع وجرَّتُها على كتفها، تستوقفها جارتها الواردة لتقول لها: أمسِ كان عندها شَبٌّ مثل القمر، سبحان الخالق يا امرأة، صورة بورق.
فتضاحكت أُم فنيانس وقالت: بَسِّ يا أُم ضومط، نسيتِ قول المثل: «زوان بلدك ولا القمح الصليبي.» صحيح أن فرنسيس أَسمر ولكن له هيبة السباع …
فقاطعتها قائلة: قولي أَسود ولا تخافي. فلم تُعِرْ مقاطعتها اهتمامًا وقالت: نعم، هو ضخم الجثة، ولكنه أنعم من الحرير. فصرخت بها أُم ضومط: بسِّ، بسِّ، عين الحب عمياء. فتحرَّكت أُم فنيانس مظهِرة الغضب، فتمسَّكَت أُم ضومط بفستانها وقالت لها: ما سمعت قول المثل: «الذي لا يتغرَّب لا ينال غنائم.» فرنسيس ابن أكبر بيت ولكنه مكثور عليهم.
فضحكت أُم فنيانس قائلة: ومَن يدريكِ، ربما كان الذي حكيت عنه مثل قول المثل: «الذي في الصندوق على القفا ملزوق.» … لا تهوروا البنت، حرام عليكم يا بشر. ما لكم دين!
فاحتدَّت أُم ضومط وقالت: شب في السوق ولا مال في الصندوق.
وامتدَّ الحديث وطال، والجرَّة ترشح، فغار الماء، ومشى إلى حيث لا تحتمل أُم فنيانس فوحوحت وقالت: الطبخة استوت، الميعاد بعد يومين، خميس السكارى. وما مشت خطوات حتى صاحت بأُم ضومط: قولي الله يستر. فأجابتها أُم ضومط: السالم لأهله.
•••
وأخيرًا أخذ فرنسيس «هدلا» بعد معركة حمراء أصبحوا يؤرِّخون بها في الضبعة فيقولون: «خُلِق فلان سنة شر هدلا … وجاء سيدنا المطران إلى الضيعة بعد شرِّ هدلا بسنة» مثلًا، أَمَّا العريس الأحمر، فتنعم بزواجه وأمسى يزيد عدد أبناء آدم واحدًا كل عام، ومات أبوه فاستدان ألف ذهب، وصار شيخًا، فاجتمع له أمران عظيمان في القرية: زوجة «عيُّوقة»، والمشيخة.
وخرق في بيته يسهر على كنزه الذي لا يفنى، كان يخبِّر في النهار مرَّات كيف كَعم الضيعة وأخذ هدلا، فصار يقصُّ عليهم أيضًا كيف دعس الرقاب وصار شيخًا، وظلَّ ينفق المال ولا يُبالي حتى رَكِبَهُ الدَّيْن، وبانت القِلَّة في البيت فعبس في وجه أهله وزوَّاره، وكان فرنسيس يتشبث بأطواق عابري السبيل ليعشيهم ويغديهم، فسموه مخزِّق الثياب، فصار يحسب ألف حساب لرغيف يكسِره في وجه ضيف ما منه مهرب، وعلا عياطه في البيت، فردَّد خصومه قول المثل: «القلة تورِّث النقار.»
ورأت هدلا برودة من زوجها فتساءَلت إن كان هنالك حب جديد، فكان الجواب: لا. فرَجُلُها لا يتردَّد على بيت أحد، من البيت إلى الكنيسة، ومن الكنيسة إلى البيت، حقوق المشيخة محفوظة … والتفتت حواليها فما رأت غير نسوان آدميات، وسمعت ما قال الرب يسوع يوم الأحد: «الويل للعالم من الشكوك، والويل لمن تأتي على يده.» فصَلَّتْ بحرارةٍ طول القداس، ورددت بصوت عالٍ سمعته حماتها: يا ربي، لا تجربني. فقلبت شفتها وهزت كتفيها.
وسرى ميكروب القلة إلى الأولاد، فهدءوا وصمتوا، وصارت هدلا تكاد تشمئِزُّ حين تُنَادَى: يا شيخة!
ودخل البيت يومًا دائنٌ ملحاح، فتجهَّم وجه فرنسيس؛ كان يغضب لأقل حركة يأتيها بنوه، حتى صفع أصغرهم على هفوة فانطبعت أصابعه الخمس في خده الطري، فاحتجت هدلا على فظاظة ابن عمها بدمعتين قفزتا من وكرهما الفتَّان وكرجتا على صحن المرمر، أما فرنسيس فما درى بما فعل لأن وجه غريمه سد عليه الأفق، كعرَّاض السماء في الليلة السوداء.
أمسك فرنسيس قلبه بيده، يخاف أن يشق غريمه حديث الدَّيْن أمام زوجته والأولاد، فكان يسد الأبواب بلباقة، ولكن الدائن جبار عنيد أن بان له خَوَرٌ في مديونه، وكان واثقًا من مناعة الموقف، وحوَّم الزائر الكريم في آفاق المطالبة، وقبل أن يقع نهض فرنسيس وقال له بنفور: «تفضل إلى الأوضة، هناك نحكي بحرية أكثر.» فأجابه هذا بفتور: هذا سر عن الشيخة والمحروسين؟
فأهوت يد فرنسيس إلى زند غريمه، فأحسَّ هذا كأن كمَّاشة أَطبقت على ذراعه، واقشعرَّ فرنسيس وقال: هذا أمر لا يعني غيري. وأشار برأسه صوب الغرفة قائلًا: قُمْ، تفضَّل.
فنهض الدائن متثاقلًا، وانشقَّ شدقه عن ربع ابتسامة نفذت إلى صدر فرنسيس كرصاصة مسدسِه المشهور في البلاد … وكان بين الرجلين حديث طويل التقطتْ منه هدلا بضع عبارات أدركت منها أن القصة قصة دَيْن استدانه زوجها بعد معركة الزواج، واستنتجت أيضًا أن أكثر زوَّارِهِم الذين كان يذبح لهم فرنسيس مواشيه هم دائنوه، وأن فتور الحب ناتج عن ضيق اليد، وأمعنت في الملاوصة فسمعت كلمة أميركا تتردَّدُ، ولكنها لم تفهم ما يعنيان فتركتهما وذهبت تعدُّ الغداء؛ لم يبقَ في البيت معزى، ولا غنم، ولا ديوك، ولا أَرانب، فذبحت الدجاجة البيَّاضة العزيزة … يقول المثل: «أطعم الفم تستحِ العين.» فما يسدُّ بوز الدائن — مؤقتًا — غير هذا.
وكان الحديث على المائدة طريًّا ناعمًا، وكانت الوجوه طلقة، وكان الدائن ينظر هدلا كمن عنده سرٌّ يتردَّد في إذاعته، رأى أدَّلة النجاح الباهر في المهجر متجمعة في ذلك الوجه الحلو، فحلم بالاستيفاء نقدًا وعدًّا، ليرات إنكليزية تكرج على حروفها … وكان زوجها جالسًا قبالته يبتسم ابتسامة أخرق حتى إذا عاودته الفكرة قطَّب وعبس، ثم يذكر أنه في موقف لا يجوز فيه التعبيس، فينطلق وجهه كجواد يقف لحظة ثم يجري، فقالت هدلا لزوجها: في وجهكم حكي. فمغمغ الدائن كلامه وقال: لا، الأمر بسيط.
فأجابت هدلا: بلى، قولوا ما عندكم بسيطًا كان أو مركَّبًا. فأجاب الدائن كالمتلعثم: «أَنتِ … عارفة أَنتِ … زوجك …» وسَكَتَ، فاتَّسعت حدقتا هدلا منتظرة الحكم فقال الرجل: مغلوب. ومغطها، فأطرقت هدلا، فقال: أبديتُ له رأيًا لا أعرف إذا كنتِ توافقيننا عليه.
انتفضت هدلا انتفاضة مستغرِبٍ، وكيف لا تستغرب كلمة «مغلوب» فهي معتقدة أنها تزوَّجت ابن روكفلر، وازدحمت في رأسها خواطر أعجز عن تحليلها، ودَقَّ قلبها دقاتٍ أخافتها، فالتفتت إلى الرجل تسأله بسكوتها الإفصاح عمَّا يريد، فقال لها: لا يخلِّصكم غير أميركا.
فأطرقت المرأة وقالت بصوت ضعيف: أميركا! إذن صرنا مثل غيرنا.
فقال الدائن: نعم أميركا، فلان كان مثلكم وخلصته أميركا، وفلان عمَّر القصور من مال أميركا، وفلان اشترى الضياع، وفلان لولا مال أميركا ما صار مدير ناحية وتغدَّى عنده الباشا …
فقاطعته المرأة قائلة: وفلانة راح زوجها إلى أميركا وانقطع خبره، وفلان باع بيته المرهون لأن زوجته ما ردت له «الناولون»، وأمسِ جاء خبر فلان وفلان من أميركا.
وطال الحديث بين هدلا والرجل، وزوجها مطرق كأنه أخرس أطرش، فهزته كالمداعِبة: ما قولتك أنت؟ فتنهد وقال: حيران والله، الفرقة صعبة، لا الصبر هيِّن ولا كيد العدا هيِّن.
فصاحت هدلا: قوِّ قلبك، نشحذ ونعيش، رجلي ورجلك، أنتم الرجال لا يركن لكم …
فضحك فرنسيس وقال: روحي أنتِ. فاصفرَّ وجه هدلا كالزعفران.
وبعد أسابيع كتب صكَّ الرهن وقبض فرنسيس مبلغًا كبيرًا جهز «الشيخة» الراحلة، وبقي له قسم ينفق منه إلى أن يفرجها المولى، ويرد المال من خلف البحر.
الباخرة تتهيأ وقد لَمَّت مراسيها، وهدلا تقبض بيسراها على درابزين الباخرة، وتلوِّح بيمناها تلويحات تزداد شدة وعنفًا كلما ازدادت السفينة صفيرًا، وزوجها وأولادها على المرفأ يلوِّحون بالمناديل مثلها، وتحركت الباخرة فصرخت هدلا وهوت، فتلقاها ابن الجيران المسافر أيضًا، فارتمت فوق صدره وهوى رأسها على كتفه مستنِدًا إلى خده، وثنى الشاب يديه على خصرها فكانتا له كنطاق.
شاهد ذلك الشيخ فرنسيس، فكادت الغَيْرَةُ تأكل قلبه، انتظر ختام المشهد العنيف فإذا به يمتد ويتطور ويلح في استفزازه … تمنى لو تحول السفينة عنه وجهها فيستريح، ولكن السفينة ليست من أبناء ضيعته لتُغْضِي من مهابته، فهي تجري على عينيه وتريه بوضوح كل الحركات الهستيرية المثيرة للشعور.
ولما طال تَقَلُّصُ هدلا وتمدُّدُها بين ذراعي ذلك العُتُلِّ، زَفَرَ الشيخ فرنسيس زفرة تحرق العشب وقال: اقبض يا فرنسيس، هذي أول دفعة من مال أمريكا …
٢
الفراق مُرٌّ وأَمَرُّ منه شماتة الأَعداء، رأى فرنسيس الشماتة على جميع وجوه القرية حتى كاد يراها ممزوجة بشيء من الازْدِرَاءِ في عيون أَخلص أصحابه، فأمسى يحسب كل ابتسامة هُزءًا به، رأى في بنيه — وخصوصًا بنته — ذلًّا وانكسارًا، فتعاظم اضطرابه، فطفق يفوه في مجلسه بكلمات متقطِّعة تُفلِتُ من محابسها عفوًا، وشاء أخلص خلصائه أن يهوِّن عليه فراق زوجته، وحاول فرنسيس أن يتجمل فخانته دموعه.
وتحلحل الناس عن مقاعدهم إيذانًا بالانصراف، فما استمهلهم ولا استبقاهم، ولما خلا ببيته شرع يطوف فيه كالمجنون، ينادي بنته فيهتف باسم أُمِّها، ويدرك خطأه فيعبِّر عن غيظه بصريف أسنانه، كانت مصيبته أَشدَّ لو لم تكن بنته تستطيع قضاء حاجات البيت البسيطة.
وهال فرنسيس موقفه الصعب، فنام على غيظ عازمًا على أن يُبْرِقَ إلى هدلا لترجع، وفي الصباح رأى جارته سلطانة منهمِكة في تهيئة القهوة والفطور بعدما نظمت ما تشوش من أثاث البيت، فأعجبته منها هذه المروءة فشجَّعها بالشكر الجزيل، فنظرت إليه بعينين فاترتين مهدتا الطريق لهدلا، فمزَّق فرنسيس البرقية …
أما هدلا فكانت مضطربة ساهمة، روَّعها البحر وآلمَهَا فراق زوجها وأولادها، فما جفَّت دموعها، لم يَرُقْ لها شيء ممَّا حولها من شخوص وأشياء، هل يا تُرَى نرجع إلى الأوطان، ونرى سنديانة الكنيسة وندبك حولها ليلة العيد؟ قالت هذا عفوًا وبصوت مسموع، فوضع الجار المتهيئ للمُلِمَّات ذراعه الجبَّارة على كتفيها وكادت تطوِّق عنقها، فأحسَّت برعشة غير مألوفة وأبدت حركةَ تَمَلُّصٍ، ولكنها لم تتملَّص بل أجهشت إليه، وظلَّ الجار يحاسنها ويطايبها حتى لانت وأفرخ روعها.
كانت هدلا تحسب بيروت سيدة مدن العالم، فإذا بها تتضاءل في نظرها أمام مدينة مرسيليا، ولفتت نظرها طيورٌ غريبة متجهة صوب الشطِّ، فقالت بسذاجة: تُرَى هذه الطيور مهاجرة مثلنا، وهل الصغيرة منها أولاد لها؟ وكادت تبكي فامتدَّتْ ذِراع الجار ولكنها ارتدَّت هذه المرَّة، وبعد أَيام قضتها هدلا في مرسيليا انفكت بضع عُقَدٍ من جبينها المقطب، فأصبح منظرها طريًّا لينًا مألوفًا، فحامت حولها العيون، أرسلت كتابًا حادَّ العواطف، ولكنَّ خط الجار العكش وبيانه المبتذل قلَّل من روعتها، ولولا بيتُ «عتابا» أرادت هدلا أن يختم به الكتاب، لكانت الرسالة جوفاء.
ما أخذ فرنسيس المكتوب حتى صرخ: «هذا خطُّه!» دبَّتِ الغَيرة إلى قلبه فاحمرَّ وجهه وازرقَّ، وأخذ يتخيل الغرفة التي اخْتَلَتْ بها زوجته بالجار حتى كتبا هذا الكتاب، كان يقف عند كل عبارة ويقول: كيف تناظرا عندما كتبا إليَّ هذه الجملة؟ وظلَّ يردِّدُ مثل هذه العبارات حتى نهاية الكتاب، وأخيرًا ألقاه على الطارحة إلى جانبه وقال: «مَن يسكر لا يعدُّ الأقداح.» ثم صرخ بجارته: «هاتي قهوة مرَّة، مرة حاذقة يا سلطانة.» وبينا هو يحسو القهوة كالمفكر ويدخن النارجيلة مع المصطبحين عنده، سمع هُتاف صبيان فأصغى، وتعالى الهتاف: «يا يسوع شد طلوع، شيخ الضيعة مات الجوع.»
فزفر زفرة وأظهر أنه لا يسمع شيئًا، وأخذ يرفع صوته ليخفي الأغنية عنهم، وأخيرًا سكت الصبيان فهدأت أعصاب الشيخ بعد قليل، وتنفَّس كمصاب بضيق الصدر وقد زالت عنه الأزمة.
يقول المثل اللبناني: «من تزوج بالدَّيْن باع أولاده بالفائدة.» الفائدة ترهب الفلاح والرهن أعظم نكبة تحل به، فصاحبنا فرنسيس ينظر إلى جارته نظرة حامية، ولكن تذكُّر البيت المرهون يبردها، يخاف أن يكتب أولاد الحلال إلى زوجته، كما هي العادة في القرى، فتبرد حرارته، ولا يتمنَّى على الله إلا توفيق هدلا إلى مبلغ يفك الرهن، فالبيت كما يقول الفلاح اللبناني: «أول المقتنى وآخِر المبيع.» كان على فرنسيس أن يرهن كل ما يملك ما عدا البيت، ولكن ما بات فات، وعلى هدلا المعوَّل.
إنها في ميناء نويرك، شدهت لرؤية التمثال العظيم وراعتها ناطحات السحاب، وظلت تضرب في الولايات المتحدة حتى استقرَّتْ في مدينة سنسناتي، وبعد لُبْثِ أشهر فيها ذهبت عنها سيماء القرية، جمال عربي، شَعْر كالفحم، وعين سوداء مكحَّلة تذبح ذبحًا، وابتسامة فيها كل ما خلق ربنا من جاذبية، تهبط آيات جمالها على القاسية قلوبُهم فتلين وتنفتح لها أبواب الخزائن.
عشقها لأول نظرة فتى من أغنى أغنياء بلاد الدولار، فنصب شراكه في دربها فوقعت الحمامة في الشبكة وتركت «الجار» في بلواه … كانت الشبكة مرصَّعة بالذهب والألماس، فرفلت بالحرير والديباج، وسكنت بيتًا مفعمًا بالرياش الثمينة والرسوم الفنية المغرية المثيرة، صار ذلك العش الأدونيسي هيكل عشتروت لبنان، يتركه الشاب صباحًا ليأوي إليه مساء، حيث يتهجد ويسجد لدميته، فانتقلت هدلا من دار زعامة الضيعة إلى دار زعامة شامخة تشد بنيانها ملايين الدولارات، وفكَّرت ليلة بزوجها وبنيها، فبكرت إلى البنك فكانت حوالتها عشرين ألف ريال: عشرة آلاف لفك الرهن، وخمسة آلاف دوطة لبنتها، وخمسة آلاف لمصروف الشيخ فرنسيس وتعليم الأولاد.
وقبض فرانسيس المبلغ وهو لا يشك أبدًا بطهارة ذيل بنت عمه، وكان دائمًا يقول للناس: ما نظرت عيني امرأة أحرصَ من بنت عمي هدلا. والتفَّ الناس حوله بعدما جَفَوْه، وعاد الشيخ شيخًا، ولم يسمع في القرية بعد ذلك: يا يسوع شد طلوع …
وطال الأمد فأنفق الشيخ المال — حتى ما اختصت به بنته — على التي حلت محل زوجته بعد هجرتها، وانتظر الحوالة الثانية فإذا بحرب سنة ١٩١٤ تُعلَن، وانسدت أبواب البحر على لبنان، واشتدَّ الضيق ثم كانت المجاعة التي ذهبت بثلث السكان، فبيع باب البيت برغيف خبز شعير، ودونم الأرض بأقَّة طحين، وأكل الناس الفئران والجراذين والحمير الميتة، وكنتَ ترى البائسين على طرق العربات صفوفًا كالتي تخيَّلها الفرزدق حول سماط جنوده، صفوفًا حول روث الخيل ينقون منه الحب الذي لم يُهضَم، أما الشيخ فرنسيس فانصرف إلى عقاراته الواسعة يستغلها ويفي من ريعها ما بقي من ديون، كل ليرة ذهبية بليرة ورقًا أو أقل.
وانفتح باب جديد، فتسَّرب مال المهجر عن طريق المطبعة الأميركية، فأصبح اسم المستر دانا والمعلم أسعد خير الله على كل لسان، ثم انفتح باب آخَر عن يد القومندان ترابو، كان يرسل الذهبات عينًا فيستبدلها عماله بالورق هربًا … من المسئولية، فمات أصحاب المال جوعًا، واغتنى السماسرة إلى ولد الولد.
وأخيرًا ورد إلى فرنسيس مبلغ ألف ريال عن يد المطبعة الأميركية، فما فرح به كثيرًا، أغنته غلة عقاراته عن هدلا وحوالاتها، فكان يقول: نشكر الله كل ساعة، زيادة الخير خير، وانقطع الحبل بين الزوجين، كُلٌّ يعمل في حقله … ثم سكنت الحرب، فورد كتاب من أحد أبناء القرية في المهجر يروي خبر اقتران هدلا رسميًّا برجل أميركي، فألحَّتْ سلطانة بدورها على الشيخ فرنسيس أن يتزوجها أيضًا رسميًّا، أفهمها أن ذلك مستحيل، وأن وضح زواج هدلا كعين الشمس، فجفته، ولم يطق صبرًا، فنزل أخيرًا على إرادتها، وكانت المؤامرة التي ورد على أثرها كتاب إلى فرنسيس من المهجر ينبئه بموت زوجته ويعزيه أَحَرَّ التعزية، فتسلح فرنسيس بالرسالة وأقام جنازًا حافلًا جدًّا، وبعد أشهر التمس إجازة زواج من أسقفه، فتم إكليله باحتفال لم يقلَّ أبَّهة عن العرس الأول مع أنه أرمل. أما بنوه فبكوا أُمهم ثم نسوها، ولكنهم لم ينسَوْا بؤسهم، البنت عنست لأن سُمعة أُمها ساءت، ولأن أباها أكل دوطتها، فأمست كالخادمة لخالتها سلطانة، وأما إخوتها فهجروا الضيعة بعد اعتداء البِكر على أَبيه، ورُزِق فرنسيس غلامًا من سلطانة أَحَبَّه جدًّا.
وبعد سنتين شاع — على أَثر وصول البريد — خبرٌ مآلُه: أن هدلا ستعود من «البلاد» في أَول أيلول، فاضطرب فرنسيس وارتاعت سلطانة؛ استشارت معلم ذمتها فوجم أَيضًا ولكنه صَدَقَها الفتوى، فقالت: بأي حق؟ فأجابها الخوري: هذا هو اللاهوت يا بنتي، ما في اليد حيلة، السماء والأرض تزولان وحرف من الناموس لا يزول، الزوجة الأُولى أحقُّ برجلها.
فقالت المرأة: والأولاد؟ فتنهد الكاهن وقال: على الله يا بنتي. فنبشت المرأة شعرها وتفجَّعت ما شاءت، ولكن اللاهوت ظلَّ لاهوتًا، ورجعت إلى بيتها كالمجنونة.
ورفعت هدلا الدعوى على زوجها، فاستغرب ذلك راعي الأبرشية وقال لها: يا بنتي، أنتِ مُتِّ، لا تموتوا وترجعوا إليَّ.
وأثبتت أنها لم تمت، فسمع الديوان دعواها وحكم ببطلان زواج فرنسيس الثاني، وقضى بعودة زوجته الأولى إليه، ولكن القدر فكَّاك المشاكل، فقضت المسكينة نحبها تحت سقف بيت آخَر غير بيتها، فأسرع فرنسيس إلى حيث ماتت واعترف أنه خاضع لأحكام الديوان الأسقفي، بعدما تمرَّد ورشق بالحرم الكبير.
قعد للعزاء بلا حياء، فعظَّم الناس أجره وشكَر هو سعيهم، ولما دنت ساعة الميراث عثروا على حوالة قيمتها عشرة آلاف ليرة إنكليزية أبرق لها وجه فرنسيس، إلا أنه ما عتم أن اسودَّ عندما قرءوا على قفاها: «وعنَّا دفع المبلغ إلى ولدَيْنا جميل وأنيس وبنتنا ليلى، والقيمة وصلتنا نقدًا.»