نفِّخ نفِّخ
منذ ألف وتسعمائة وأربع وأربعين سنة وقعت حوادثُ قِصةِ الليلة، أَمَّا مكانُها فبيتُ لحم وضواحيها، وكان رعيان يحرُسون مواشيَهم، ويتحدَّثون عن شئون وطنهم المقهور، مسَّهم القُرُّ فخَصِرت أيديهم وأرجلهم، فأوقدوا نارًا قدَّام خيمتهم المنصوبةِ بينَ بيتِ جالا وبيتِ لحم، ثم عادوا إلى حديث مُلكهم المندثر لما استدفئوا، فعللوا النفس «بانتصار الأسد من سبط يهوذا».
العهدُ عهدُ هيرودوسَ، فتذكروا سُخرةَ فِرعون ورِقَّ سبي بابل، فطَفِقوا يتمطقون بما في النبوءات من آمالٍ وأمانيَّ معسولةٍ عن عودة ملك إسرائيل، فقال أحدهم واسمه ناتان مترنِّمًا: «وأَنتِ يا بيتَ لحم، أرضَ يهوذا، لستِ الصغيرةَ في الأُمم؛ لأَن منك يخرجُ مُدبِّر يرعى شعبي إسرائيل.»
فقال منسَّى ضاحكًا: أَنبياءُ بسطاء يرجمون في الغيب، ويرشُقون في الهواءِ حجارةً طائشة تحارُ فيها الذرية.
أَحْ، أحْ، دبَّ للنارِ بالحطب يا يميِّن، الليلةُ باردةٌ جدًّا، مكتوب علينا الرِّق لأَننا عصَينا يهوه، ويهوه ربُّ ثارات، وثارات لا يغفِر ولا يرحَم.
قال هذا وأخذ يُوحوح ويُقضقض، ثم أخفى رأسه في لُبادة كما تختفي البَزَّاقةُ في حلزونها، فاستدفأَ وأَخذ ينعسُ ويهوم، فصاح به ناتان: أوع يا منسَّى، يا تعسَ شعب يُغفي رجاله حين يتحدَّثون عن حريتهم، وعن مصيرهم.
أَما يميِّنُ فاستضحكَ وانطوى ينفخ النارَ من صدر كأنه الكور، والنار تدخن ولا تشتعل، فاصفرَّت لحيته المبيضَّة وكساها الرماد طبَقَةً رقيقةً، فأضحك منظره رفيقَيْه.
وبينا هم في حالٍ كالتي يكون فيها المرء بين الغافي والواعي، إذا برجل طلع عليهم بغتة فانشقَّت أعينهم، ثم انفتحت عليه متفرسة، فإذا بنور عجيب ملأ الوادي وفاضَ على رءوس القُلل، وارتخى الفك الأَسفل فانشقَّ الفم نصف شقَّة، وأصبحت وجوه الرعيان كالزَعْفران، فقال لهم ملاك الرب: لا تخافوا، ها أَنا أُبَشِّرُكم بفرحٍ عظيم يكون لجميع الشعب، وُلِدَ لكم اليومَ في مدينة داودَ مخلِّص هو المسيح الرب، وهذه لكم العلامة: تجدون طفلًا مُقمَّطًا مُضطجِعًا في مِذْوَدٍ.
كان الرُّعيانُ الثلاثةُ يسمعون مشدوهين، لا يفهمون ما يُقال لهم لأن عقلَهم كان موزَّعًا، كانوا يفكِّرون بالنور الذي لم يبصروا مثلَه من قبلُ، وبالرجل المنتصِب أَمامهم، وما اطمأنُّوا إلى المشهد العجيب حتى تلاهُ أَعجب، دهمتهم طغماتٌ منظورةٌ وغيرُ منظورةٍ من الجند السماوي، ظهروا مع الملاك وأنشدوا جميعًا النشيد الوطني الدولي:
المجدُ لله في العلا، وعلى الأرضِ السلام، وبالناسِ المسرَّة.
وأُسدل الستار وانتهى الترتيل والتهليل، وَرَجَع سُفراء السماء ورُسُلها أَدراجَهم، وَظلَّ الرعاة مبهوتين مما رأوا وسمعوا، وبعدَ دقائق معدوداتٍ انحلَّت عقدةُ لسانِ ناتان فقال لرفاقه: يا هو، بيتُ لحم على رميةِ حجرٍ منا، فهَيُّوا بنا إليها لننظُر ما خبَّرَنا به هؤلاء.
فضحك منسى ولكنه مشى، وسار يميِّن وراءَهما متهدجًا، وما كان أشدَّ تعجب منسى حين أبصر ثَورَه وحمارَه قد سبقاه إلى الخان المعلوم، فالتفت ناتان إلى منسى التفاتةً كاد يأكلُه بها وكأنه يقول له: تأمَّلْ يا قليل الإيمان، حمارك سبقك، لقد صحَّتْ بنا كلمةُ أشعيا القائل: «عرفَ الثورُ قانيه والحمار معلِفَ صاحبه، لكن إسرائيل لم يعرف، وشعبي لم يفهم …»
وقصَّ ناتان حكاية ما رأوا وسمِعوا على يوسفَ النجَّار، وكان يعرفه من الناصرة وقد عمل له نيرًا ممتازًا، فتعجَّب كل الذين سمعوا مِمَّا قاله الرعاة، أَمَّا أُمُّ يسوعَ فكانت صامتةً تسمعُ الكَلام متفكِّرةً في قلبها، وكان نظرُ منسى لا يتحوَّل عن ثوره وحماره، وقد لحظ أنهما يأتيان عملًا كأنهما مندوبانِ له أو مُوحًى به إليهما.
الثور عن يمين، والحمار عن شمال، وفمواهما في المعلف ينفُخان دائمًا ليدفئا الصبي المقرور، كان على وجه الحيوانين سيماء تفكيرٍ عميق، فقال الحمار للثور: ما تقول يا سيد، أَصحيحٌ أن عهد هذا الطِفل على الأرض عهدُ سلام ورجاء ومحبة كما سمعنا من الطيور البشرية الخضراء؟ من عادة الطيور أن تُنبئنا بأشياءَ أَشياء، ولكن هذه الطيورَ غريبة، ما رأينا مثلها ولا اختبرناها بعدُ، فما قولتك؟ في الناس المسرَّة، هذا أمر مفهوم، ولكن أنا وأنت لا يهمُّنا أمر الناس، يهمنا أمرنا قبلَ أمر الآخرين … يهمنا أَن يكون على الأرض سلامٌ صحيح، فأستريحَ أنا من الأحمال الثقيلة، ولذعِ المسلاتِ في كتِفي ورقبتي، ومن ضربِ العصي على كفلي، وتستريحَ أنتَ من أَثقال النير الذي يحُزُّ رَقبَتَك، ومن لذعاتِ المَسَّاس الذي صيَّرَ جلدك كالغِربال.
وكان الثور دائبًا على التنفيخ والحمار يتدفقُ في خطابه الاجتماعي … يتساءل عن خيراتِ العهدِ الجديدِ المرجوَّة، عهد المولود الذي بشَّرت به جنودُ السماء والملائكة … وتعِبَ الحمار من خطابه الطويل كأذنيه، فقال للثور: لماذا لا تقول كلمة؟ فصاح به الثور: نفِّخْ نفِّخْ، الصبي بردان، أَنت لا يهمك إلا بطنك وجلدك، سيعود مجد إسرائيل، أَمَا سمعت بأذنيك الصغيرتين: وبالناس المسرة؟
فأقبل الحمار ينفخ بحماسة، فملأ التبن منخريه، فعطسَ عطسةً مشئومة، وعوعَ منها الصبي.
فأخذ الثور ينفخ تنفيخًا ناعمًا، فغفا الطفل الإلهي، ولم يطق الحمار سكوتًا فقال للثور: أَنتَ، يا أَخي في العبودية، أَخذتَ حِصَّتَك في زمنٍ مضى … عبدوك وقدَّسوك وطلبوا شفاعتك فنالوا بإيمانهم خيرًا جزيلًا على يدك، ولكن أنا المسكين للشطِّ واللطِّ في كل عهد … فضحك الثور وقال للحمار: وكيف كان عهدي عليك؟
فقال الحمار: أقول لك الصحيح؟
فأجاب الثور: نعم.
– وبكل حرية؟
– نعم.
– أَمِّنِّي، احلف أنك لا تنطحني.
– حلفت.
فقال الحمار: كان عهدُك أَشنعَ العهود وأَبشعَها، ضربٌ وقتلٌ وقلَّة أكل.
فسدَّد الثور نحوه قرنه اليمين، ثم ذكر الوعد فارعوى وقال: نفِّخْ نفِّخْ، الصبي بردان.
فقال الحمار: وأنا بطني فَرغَان … ثم يا صديقي الحميم، ما عرفتَ أن تنفيخك لهذا الملكِ الصغير تنازلٌ عن حقوقك الشرعية الإلهية؟
انتبه، حافظ على خط الرجعة … لا تكن مندفعًا، فقد يكُون عهدُه أَسوأَ العهود عليَّ وعليك.
فسدَّد العجل قرنه وتهيَّأ للنطاح، فتراجع الحمار قليلًا، ولما رأى الثور قد عدل رجع ينفخ.
وظلَّ في نفسه شيء يدفعه إلى الكلام، فعاد يقول: أَتظُنُّ أن شيئًا يتغيَّر في البشر ونرتاح من عبوديتهم؟ أخاف أن ننتقل من سيئٍ إلى أسوأ، أنتَ ذقتَ طعم السيادة طويلًا، ولكن أنا المسكين، أنا في كل عهد عبدُ العصا والمسلة … جعلني شعراء الناس الذين عبدوك مثلًا للذِّلَّة والهوان …
فصاح به العجل: اسكتْ يا بهلول، اشكرْ ربك، أَنت تموتُ حتفَ أنفك على الأقل، لا لحمك يُؤكَل ولا جلدك يسكف، أمَّا أنا فأنتظر الساطور كل ساعة، ولا أدري متى تأتي ساعتي، لا تحلم بالأمانيِّ الكبار، بُعْدك عنها أوفق.
والتهى الفيلسوفان بالحوار والجدل، فرجف الصبي في المهد، فعجَّ العجل قائلًا: نفِّخْ نفِّخْ، الصبي بردان، فَلْندفئه لعلَّه يغيِّر ما بنا، قد كرهنا قيصر المسوَّس الهَرِم، ولكن الناس ناس في كل الدهور، أنا للحِراثة والأكل، وأنت للركوبِ والنقل، نفِّخْ نفِّخْ، الصبي بردان.