معَّاز الضيعة
رأسه كالبطيخة، وحول أنفه الأفطس بُثورٌ زرقاء كأنها طلائعُ الزِّنجار في ذلك الوجه النُّحاسيِّ المفلطح، عينان ثعلبيتان فوق شاربين كئيبين، مفركحٌ أفرمُ يلبس عبَاءةً برَّاقة ذاتَ كُمَّيْن دونَ الكوع، ليس يتخلَّى عن عصاه، أحيانًا يعرضها كالرمح، وطورًا يمدُّها فوق كتفيه تحني عليها الأصابع، ما رأيته يتعكَّز عليها إلا بعد وقعة الذئاب.
يصفُّ قطيعه كالعسكر المُدَرَّب، إذا شرَدَت عنزة يُناديها باسمها فتعود إلى مُستقرِّها، رامٍ ماهرٌ إن شاء أصابَ القرن، وإن أرادَ أصابَ الفخذ، ويُصيب المَقتَل إن كان قَرِمًا إلى اللحم، فالويل للعاصيةِ من حجر جُليات، وإذا عصى الكَرَّازُ فهناك المسئولية العُظمى والحسابُ العسير، عصا زعرورٍ تهتَزُّ في الهواء، وراعٍ كأنه متر مكعَّب يُهرول ليُلقي على التيس دروسًا مسلكية يستفيد منها كل فردٍ من أفراد الرعيَّة، والتيوسُ تَقْبَل الآداب.
ما ألذَّ وقعَ حوافرِ القطيع عائدًا عند الغروب، فهو كحفيفِ أوراقِ الخريفِ الصفراءِ، وكتساقطِ المطر على السطوح في الليلة الخرساء. موكِبٌ صامت، القطيعُ بين مدبِرَين: الكَراز أَمَامه والراعي خلفَه، والكلبُ يروحُ ويجيء بينهما. في كتفِ الراعي سطلُه وهو مُزنَّر بالجرابِ يشكُّ في وسطه الناي، ورأسُ القَصَبَتين المضمومتين بادٍ من عبِّه. الموكب يمشي الهويناء، والزعيمانِ لا يتكلمان، لا صوتَ يُسمَعُ إلَّا رنينُ الجرس المعلَّقِ في عُنُق الكَرَّاز، وعلى الكَرَّاز مهابةٌ تفيض على جَنَبات الدرب، فهو لا يلتفت البتة كأنه يحسُّ طعم الزعامة تحت أضراسه، إذا حاول رُبَعٌ أو سَدسٌ أن يماشيه ينكُزُهُ بقرنه العظيم، فيعرف مَقامَه. أَما الأُنثى فلا يُخاشنها، ولا بأس عليها إن اخترقت خطَّ العظمة.
من رأى الكَرَّاز يمشي بأبَّهَة وجلال خَالَهُ يفكِّرُ بمشاكلَ خطيرة، كان صوتُ جرَسِه يُعلن قدومَه فأُسْرِعُ إلى استقباله، ومتى غاب عني شغلني المعَّاز الظريف، يداعب سائليه عن الحليب واللبن وعينُه على رعيته، لسانه مرٌّ وحديثه حامضٌ، يعبث الأولاد بقطيعِه ليغضَبَ ويسبَّ، ولكنه لا ينثُرُ دُرَرَه الغوالي ما لم يتحقق أنْ ليسَ هناكَ من يحتشم، كثيرًا ما كنتُ أدعوه إلى السهرة فيجيء، وكُنتُ أُوسِّع عليه في الحديث ليتبسطَ في مواضيعِه؛ مارست ذلك معه مُدَّةً، فصار يأتيني بلا دعوة، وسقطت كل كلفة ما بيننا.
عجبت لمعرفته قطيعَه واحدًا واحدًا، فقال: لا تتعجَّب، أعرفُهم مثلَما تعرف تلاميذَك، ولكل واحدةٍ اسمٌ، وفي عنزاتي المطيعةُ والعاصيةُ والهادئةُ والوَرِشة، عندي عنزة شقراءُ تتلصص مثلَ البشر، تغافلني وتغزو. السكاء آدميةٌ جدًّا، بنتُ حلال لا تُتعبني أبدًا. وقال بصوت مسموع: الله يرضى عليها! ولكن الملحاء شيطانة، بنت حرام، لها حركات تشيب الرأس، إذا غَفَلتْ عيني عنها تهجم وتنتش، الله يقصف عمرها، هي وحدها سوَّدت وجهي عند الضيعة.
فقلت له: اذبحها. فتهدَّلت شفته السفلى وقال كالمستهزئ: أذبحها! الحكي هيِّنٌ، كل سنة بطن، تخلِّف ثلاثة أربعة، اثنين ثلاثة، خلفها اليوم جَدْي، إنْ الله أعطاه العُمْرَ الكافي، كان أعظمَ فحل في المسكونة.
وجئنا ليلةً على ذكرِ الجِنِّ فتبسَّم وقال: سمعتُ عنهم وما ظهرَ لي شيءٌ منهم، قالوا إنهم اختفوا لما كَثُرتِ الأجراسُ في البلاد، ومع هذا أَنا أُصلِّب كثيرًا.
ورأيته مرةً يضرب الكَرَّاز ضربًا عنيفًا، فقلت له: ما عرفت يا مخايل؟ فأجاب بهزَّة كتف عنيفة مستغربًا، فقلت: الشريعة الحاضرة تغرِّمك وتحبِسك إذا ضربتَ الكَرَّاز كما ضربته اليوم.
فقهقه وجعل يضربُ الأَرض برجليه ويصفق على ركبتيه، وطفرت الدموع من عينيه، ولما هدأتْ ثورته قال: ومَن يربِّي الكَرَّاز كلما خرَّب؟ نتشكي إلى المدير! بأية لغة نحاكيه حتى يفهم؟ ثم أغرب في الضحك وقال: كلُّ خطرةٍ يعصي عليَّ الكَرَّاز أُقِيم عليه دعوى! ثم افتكر قليلًا وقال: طيِّب يا سيدي، ومَن يشتكي عليَّ؟ الكَرَّاز!
قلت: الناطور. فغضب وصاح: الناطور! الناطور يضرب الأولاد ولا نشتكي عليه، شريعة عوجاء.
قال هذا وسكت ينتظر حديثًا جديدًا، فقلت له: تسمعُ ما يقول هذا الشاعر الفرنجي عن الراعي؟ فقال وقد هدأت فورته: هاتِ خبرنا. فقلت: يصف الهواءَ المعطَّر الذي تتنشقه، وأشعةَ الشمس المطهرة التي تنسكب عليك حرارتها المحيية … فقاطعني قائلًا: حقًّا نارُ الشمس غنيمة، ما كان عندنا خبرُها. قلت: والمناظرَ الجميلة التي تتمتع بها والأَعشابَ المفيدةَ التي تأكلها. فقال: قُلْ له يجيء يرعى مع العنزات، عندنا ما يكفينا ويكفيه.
قلت: والقطيعَ المخلص الذي تسوسُه، والكلبَ الأمين الذي تعاشره. فقال: يحسدنا على عِشْرة الكلاب، الجنون فنون!
وترجمت له القصيدةَ كلها بلغة يفهمُها، وأسرعتُ لكيلا يقاطعَني، فكان أحيانًا يتعجبُ، وأحيانًا يستهزئ، وأحيانًا يصدِّقُ على قول الشاعر بإحناء الرأس، ولما انتهيتُ قال لي: ولكن الشاعرَ نسي زِبل المُراح وصِنَّة المعزى.
فأجبته: لست أقول لك شيئًا من عندي، هذا المكتوب أمامي. فقال: أنت صادق، ولكِن هذا مثلك لا يعرف من حياتنا إلا دقَّ القَصَب والغناء، لا يعرف أنِّي أنام مرَّاتٍ وما عندي عشاء ليلة، أمس استعرنا عشرة أرغفة. لا يذكر كيف نهرب من وجه «العدَّاد»، ولا ما يصيبنا أيام البردِ والثلج، نسي المرض الذي يُفنِي المعزى ونعلِّقُ الجرس على الكلب، تعجبكم حياة المَعَّازة في الربيع، ولما يمعكنا المطر ولا نلاقي مغارة نلطي بها، يكون الشاعر قاعدًا على النار يتدفَّأ.
وجاءَني يومًا بسؤال غريب، سألني إن كان سماع القدَّاس في الراديو يُغنِي عن حضوره في الكنيسة، فعجزت عن الجواب، فوجم ومغمغ: ما ترقَّينا شيئًا. وبعد هنيهة قال: ما يقولُ كتابك اليومَ؟ قلتُ: فيه حكاية حلوة، حكاية مرأةٍ وأُختِها. فتربَّع وأنصت، فقلت: كان لمرأةٍ أُختٌ عزيزة عليها فمَرِضت وماتت، فركعت أُختُها قدَّامَ فراشها على جلد أسد تسأل ربَّنا بحرارةٍ أن يحمي جميعَ مَن في تلك الغرفة، فسَمِعَ ربُّنا واستجاب. كان على «برنيطتها» عصفورٌ مُحنَّط ففَرفَرَ وغنَّى، وكان على رقبتِها فرو ثعلب فعاشَ وأخذ يدور في الغرفة ليهرب، وفتحت أُختُها الميتةُ عينَيْها وطلبت الأكل، ولكن الأسد لم يمهلْها فعاشَ وأكل الجميع.
فأرخى فكَّه الأَسفلَ تعجُّبًا وقال: يا رب. ونهضَ، فقلت: ما لَك؟ اقْعُدْ. فقال: عندي في البيت جلدُ ذئبٍ وقشرةُ حيَّة كبيرة، أخاف أن تصلِّي بنتُ عمي في ساعةِ رضا، فيقوموا ويأكلوا العنزات. وخرج من الباب وهو يضحك.
وجاء مرَّة وكان يلبسُ فروًا، فقلت: فروك يذكرني بعاموس النبي. فقال: مَن يدري، ربما أصير نبي آخِر زمان. فقلت له: أكثر الأنبياء قاموا من بين الرعيان. فضحك وقال: الله يجبر خاطرك، أمسِ كنتُ مَعَّازًا واليوم صرتُ راعيًا، كلنا رعيان، من كبيرنا إلى صغيرنا، منَّا مَن يرعى في البيوت، ومنَّا مَن يرعى في العُبِّ مثلَ البراغيث، ومنَّا مَن يرعى في الجبل الأَقرع مثلَ المعزى.
فتفرستُ لأثبتَ إن كان يعني ما يقول، فما تبينت في وجهه دليلًا.
وقلت له ذاتَ يوم: في هذا الكتاب، وأشرت إلى مجلة أمامي، بعضُ سؤالات فهل تجاوب عليها؟ فقال: اسأل. قلت: ما أَلذُّ ساعةٍ في حياتك؟
فجاوب فورًا: ساعةَ ترجع المعزى إلى البيت وبطونها مزكَّرة مثل عرانيس الذرة.
فقلت: وأبشع ساعة؟ ففكَّر قليلًا وقال: ساعة أَرجع وتكون حرمتي غائبة، والمعزى عطشانة، وبطني لازق بظهري من الجوع.
فقلت: وأصعب ساعة؟ فضحك وقال: ساعة أَنسى الضبوة في البيت وتنسى أن تعطيني سيكارة.
وصعَّد دخان سيكارته حلقاتٍ حلقاتٍ، فانبسطت أسرَّته فقلت: مَن مع المعزى اليوم؟ فأجاب: الصبي. فقلت: تكثر الوحوش في الأيام الباردة. فأجاب: معه غدَّارة تفلق الصخر، وهو يصيب عين الدوري، شب يُرضي خاطرك.
وفي يوم عمَّ الثلج فيه كنت مستجيرًا بالنار فإذا بمنادٍ يصيح: يا مارون عبود. فردوا عليه، فأجاب: قولوا له يطلُّ. فأسرعت إلى الباب فصاح بي من الجبل المقابل: «أيش رأيك بحياة المعَّاز اليوم؟ قل لشاعرك الفرنجي يعمل نشيدة جديدة.»
ودام الثلج في تلك السنة زهاءَ شهر، فتضايق أصحاب المواشي وخصوصًا المعَّازة، عزَّ المرعى وتكاثرت عليهم الوحوش، فكان بينهَا وبين معَّازنا وابنهِ معركة حامية، انقضَّ ذئب ضارٍ على المعزى وكاد أن يفترس الراعي، لو لم يغامر ابنه ويصرع الذئب برصاصة من غدَّارته.
وجاء الناس لنجدتهما، فراح فريق يبحث عن القطيع المذعور المشتَّت، وفريق حملوا المعَّاز الجريح، ولما استلقى على قفاه في زاوية بيته قال لي بصوت يرتجف: أتحسد المعَّازة بعدُ؟
فقلت: السلامة غنيمة.
فأجاب: الله يسلمك، وتلحَّف.