أم لطوف
بلغت جميلة الأربعين وحرنت هناك، تكر الأعوام وهي واقفة لا تتزحزح، فكلما سألتها عن عمرها انكسرت عينها وأجابت: حوالي الأربعين. مَن لا يعرفها يظنها أخت كنتها لا حماتها، لم تخطَّ أقلام السنين في صفحة ذلك الوجه الوضَّاح خطًّا واحدًا غليظًا، فما هنالك غير خطوط دقيقة كأنها جوهر السيف، فأم لطُّوف كانت نادرة زمانها، جمال جذَّاب وقامة طويلة مستقيمة، لا سمينة ولا رقيقة، عينان لوزيَّتان تصدقان أخبار هاروت وماروت، ظلَّت تترقرق فيهما ماويَّة الفتوة حتى انطفأتا، من يدقِّق النظر يرَ أنها ذات أنف غير قليل، ولكن عظمته ضائعة في ذلك السهل الواسع.
كانت المرحومة جبَّارة عنيدة، حاكمة بأمرها، مسيطرة على زوجها وبني عمه، لا يُعصى لها أمر، وتستشار في المعضِلَات، كلمة من فمها الصغير تُلهِب القرية، وهي إذا علق الشر تُرَاشِقُ بالحجارة وتضرب بالعصا، فلولا تكون في غير محيط القرية الضيِّق لكان لها شأن غير شأنها.
كانت كَبَنَات جيلها تعصِب رأسها بعصابة مشكوكة بها الجهاديَّات — دنانير ذهبية — فلا تكاد تفرِّق بين الذهب الإبريز وبين ذاك الجبين العريض، تضفر شعرها الطويل فيتدلَّى حتى خصرها ضفائر ضفائر، وفي رأس كل ضفيرة ثلاثة دنانير، وعلى رأسها كريشة حريرية تعقدها تحت ذقنها الحلوة، تمشي «الغندرة» كأنها بنت خمسة عشر، فاتت الستين وظلَّت نفسها خضراء، كانت تقول دائمًا: لا تأثير للعمر، الدنيا أنفس. كانت بسَّامة مشهورة بالكرم والجود، ما انشغل بالها قطُّ إلا حين فكَّرت بزواج ابنها.
حاولت أن تصاهر البيوت الكبيرة فلم تنجح، ابنها شاب جميل، وعقله راجح، ولكن بنات الناس يخفن غطرسة أُمِّه واستبدادها فأحجمن عن اقتحام بيتها.
لم تكن أُم لطُّوف تكفُّ لسانها عن بنات الناس، فكلما ذكر لها ابنها واحدة هزئت وزجرته بقولها: حسبتك تفهم، ولد قليل الذوق، «واطي»؛ هذي أبوها كذا، وتلك أُمها كذا وكذا. وهكذا تَقَضَّتِ الأيام فبلغ لطُّوف الخامسة والثلاثين ولم يتزوَّج، وما حَظِيَتْ أمه ببنت أوادم كما كانت تزعم.
لم تكن أُم لطُّوف راغبة في تزويج ولدها، تأبى أن تصير حماة، ويقشعرُّ بدنها حين تتصوَّر أنها صارت جدَّة تُنَادَى: «يا ستِّي.» كانت تغضب إذا كنَّيناها ولم نسمِّها، مَن قال لها: «يا جميلة.» أرته سنَّها وأَهلت به فكأنها أحد الفائزين بلقب دكتور في الآداب والفلسفة …
وأَخيرًا ضجر لطُّوف وملَّ، راعه المشيب القادم بطبل وزمر؛ فحمي صاحبنا في إحدى ليالي المرفع فجاء أُمَّه بالبنت التي اختارها، فرحبت به بالنعل سفقًا على وجهه وقفاه، ودخل الأب بينهما فزجرته بالعبارة المعدَّة له: «سد بوزَك، اقعد بعيدًا.» فيهز رأسه ويسكت، إنه رجل حقل تديره امرأته، وهو أطوع من الخاتم بالخنصر، ولخموله هذا نسب الناس ابنَه إلى أُمه.
أَصرَّت أُم لطُّوف على إرجاع العروس، ولكن ابنها قال لها: تزوجنا يا أمي، لا تتعبي، ما ربطه الله لا يفكُّه الإنسان.
فصرخت به: ليتك تتجنَّز بجاه الرب، صرت من الفلاسفة يا جحش! وأخذت تصفرُّ وتخضرُّ وتحمرُّ وترجف كأنها مصابة بالبرداء، وأَخيرًا أُغمي عليها، ودامت الغيبوبة واختفى النبض فدُعي الخوري، واستيقظت بعد حين فرأت المحترم قابعًا عند رأسها، فحاولت أن تأخذه بلحيته فانهزم وهو يسمع: إن وقعت عيني على عينه نتحاسب، يُكلَّل ابني ولا يسأل عني، لا بد من حشِّ لحيته.
وصفا على مر الأيام خاطر أم لطوف، ولكنَّ عيشَها تَنَغَّصَ، كانت كنتها تحاسنها فتزداد نفورًا واشمئزازًا، إن مشت انتقدتها، وإن تكلمت تغامزت عليها، وقلَّما كانت تذوق طعامها، كل هذا والكنة صابرة عليها تجاملها وتطايبها، فتطغى وتتجبر، وأخيرًا اعتدل الميزان وحميت المعارك فكانت ضارية.
وهجم الهَرَم على أم لطوف فاندحرت أمامه، فارقها مرحها إذ فارقها السلطان، وقل الزحام على المورد الذي كان عذبًا، فكانت ترد على الجماعة بقولها: كبرت جميلة، وحنة صبية.
واستعدت السيدة جميلة لهجوم معاكس علَّها تسترد شيئًا من حصون جمالها، فحنَّت شعرها، وتَبَوْدَرَتْ وتَحَمَّرَتْ وتَخَطَّطَتْ، كانت ترتاع كلما رأت ذلك الحسن يندحر ويجدُّ في الهرب، فعزمت بغتة على زيارة بيروت، ما درى أحد بما تنويه حتى عادت بعد جمعة وقد بدلت بثيابها الهرقلية أزياء جديدة، ولم تنسَ الجزدان والشمسية، باعت شكتها وضفائرها واشترت أطرف الأنسجة وأغلاها، وعادت إلى الضيعة كأنها عروس، رمت الزنار وعصبت رأسها المحنَّى بمنديل وردي كأنها تنافس كنَّتها وتزهو عليها، ولكِنها لم تلقَ التفاتًا من الناس، فكانت تقتلها الضحكات الصفراء الممزوجة باستهزاء مُرٍّ، فحارت بأمرها ولجَّت في الخصام.
نفرت من بيتها بل من كل بيت، وخالت الناس كلهم أخصامها، كانت تقعد تحت سنديانة تاريخية طالما قعدت تحتها حماتُها من قبلُ … فتحدِّث نفسها كأَنها تحدِّث شخصًا آخَر، تتذكر أيام العز والمجد وتبكي، الناس عندها غدَّارون يُظاهرون كنتها عليها لأنها صبية، وقد جفاها الجميع حتى الأحباب.
ودخلت عليَّ يومًا ومعها حفيدُها، أجلسته حدَّها وقعدت، لا حيَّا الله ولا سلَّم الله، كانت ساهية كأنها لا تريد أن تقول شيئًا أو أنها تجهل أين هي، فلم أتحرش بها لئلا تقلق الحارة، ولما طال الانتظار قلت لها باسمًا: يظهر أنك بالعة لسانك، الله معك.
فأجابت بفتور يخالطه نفور: لا الله معك ولا السلام عليك، كلكم عليَّ، المولِّي ما له صاحب. قالت هذا وأخرجت من عبِّها كعكَة باقية ممَّا تحوجته من بيروت، ناولتها الولد وقالت: تعرف سبب محبتي لهذا الصبي؟
فهززت كتفي اليسرى نافيًا، فقهقهت قهقهة بلهاء وقالت: لأَنه غدًا يأخذ بثأري، ربيت وما لقيت.
فقلت لها: تريدين الصحيح يا جميلة، الحق كله عليكِ، اتركي، راح دورك.
فهزَّت برأسها وقالت: أَنا تعبانة، كنَّتي حمارة وابني جحش، أَنا عمَّرت البيت وأَنا صيَّرته بيتًا، تجيء شقفة دابة، بنت غريبة تتحكَّم فيه، ولا تسأل عني، هذا ما أَنزله الله بكتاب.
فقلت لها: الدنيا أدوار، راح دورك.
فقالت: لا تأكل إلا مثلما تريد، كلامها كله بلا طعمه، حديثها طق حنك، أثقل من المرسنك، لا تشاورني بشيء كأني كلبة، ما افتكرت بنت الحرام أني أنا صاحبة البيت.
فقلت لها: الدنيا أدوار، راح دورك يا جميلة.
فاحتدمت لسماعها: «راح دورك.» كانت قاعدة فوقفت واندفعت في حديثها، تارة تهجم عليَّ فتضع أصابعها في وجهي، وأحيانًا تتأخر كالهر، وأخيرًا قالت: «ابني يحب امرأته أكثر من أمه، ولد ناكر الجميل، قال المثل: الدنيا أم، المثل كذَّاب، الدنيا مرأة.»
فقلت لها: لا توروري، راح دورك يا جميلة.
فصرخت كالمجنونة: وعن قريب يروح دوركَ. وانفتلت غضبانة وسفقت الباب خلفها، وسمعتها تقول: «مَن يقصَّ من جلد غيره يوسع، كلهم في الهوى سوا، الناس مع الواقف.»
وصرخ الولد حين استحال عليه فتح الباب، فعادت وشفتاها ترقصان «التشارلستون»، ونتشته نتشًا وقالت وهي تعض شفتها السفلى: «القرود تسحب روح أمك.»
فاستوقفتها لأَقول لها: ابنك يموت يا أم لطوف، صار مثل المسلول. ولكنها لم تقف فرشقتها بما قلت رشقًا، فهرولت وهي تقول: «البغل موتُه أستر له.»
وكان لطوف في جهد جهيد من حياته مع أمه وزوجته، كان دائمًا صامتًا كالسمكة لا يبدي ولا يعيد، يروز مشكلته ولا يهتدي إلى أهون الشَّرَّيْنِ.
وكانت معركة فاصلة بين الحماة وكنَّتها، فصوَّب لطوف مسدسه إلى رأسه متهددًا، فصرخت أمه وتعلقت بيده، فانطلق المسدس وبقر البطن الذي حمله تسعة أشهر، فانحلت عقدة الرواية هكذا: الأم في القبر، والابن مات في الحبس، وصارت المرأة تحت رَجُل آخَر.