البَقاء للأصلح
المنة لله، لا أحمل في الدنيا همًّا. مترجِم محترَم، ومالِك بيت مكوَّن من ثلاثة أدوار وبدروم، متزوج وموفَّق، وأب لشاب وشابة متزوجينِ، وإلى هذا كله فإنني حسن الهضم لهموم الدنيا الصغيرة. في العصاري — عدا أيام الشتاء — أجلس في شُرفة الدور الأوسط برفقة زوجي والقهوة والفول السوداني واللب الأبيض، يترامى أمام أعيننا شارع البطريق بحوانيته وجراجه العمومي، نتفرج على كل مَن هبَّ ودب. من مجلسنا نرى سُكَّان بيتنا في الذهاب والإياب، علي كمال ساكن الدور الأعلى وهو محامٍ، ونُطلق عليه «الأستاذ»، وصاحب الدور الأول مدكور البقلي، ونُطلق عليه «الشيخ» رغم أنه أفندي وذلك لإرساله لحيته. أما البدروم فتقيم فيه ست محسنة رضوان وندعوها «المحمل» لسمانتها. وعلى صِغَر البيت؛ فكل أسرة مستقلة بذاتها لا تعرف من أصول الجيرة إلا التحية العابرة عند اللقاء النادر. من أجل ذلك انطوت كل أسرة على أسرارها، فلا أعرف عن أي منها شيئًا يستحق الذكر. غير أنني لاحظت دون جهد كثرة زوار الأستاذ والشيخ، أما ست «محسنة»؛ فكانت تعيش في عُزلة شبه مُطْلقة. وذات يوم طلب الأستاذ مقابلتي فاستقبلته مُرحبًا ومداريًا قلقي حيال قسماته الحادة ونظرته الثاقبة. اعتذر عن تطفله بأسلوب لبِق ثم قال: حرصًا على وقتك سأدخل في الموضوع مباشرة.
فشجَّعته بابتسامة فقال: أنا في حاجة إلى البدروم والدور الأول، وسيعود عليك ذلك بخير وفير!
فقلت وأنا في غاية الدهشة: ولكن لكلٍّ ساكنُه، وأنت أدرى بقوانين المساكن!
فقال بثقة: سيضطرون إلى إخلاء مسكنيهما، ولكن يجب أن نتفق قبل ذلك.
فتساءلت في حيرة: كيف؟
فَكَوَّرَ قبضته السمراء تحت ذقنه، وقال: ثبت لديَّ أن مدكور البقلي من الخطِرينَ، وأنه جعل من شقته مُلتقًى لنفَر من التيار المتطرف.
فتولاني خوف وقلق وقلت: لا عِلْم لي بذلك، ولا شأن لي به.
– طبعًا، سأتكفَّل بالواجب، ولكنَّا علينا أن نتفق أولًا.
– وست محسنة رضوان؟
فضحك ضحكة مقتضبة وقال: اصحَ يا نائم، إنها تنتظر حتى يجثم النوم، ثم تستقبل أهل الدعارة!
ففزعت هاتفًا: لا!
– هي الحقيقة، وسوف تلمسها بنفسك.
– إنك مُقْدِم على مغامرة خطيرة!
– إني واثق من نفسي تمامًا.
وشملنا صمت غير قصير، ولما استرددت أنفاسي سألته: وماذا تفعل بالشقَّتين؟
سأجعل من البدروم مطبعة، ومن الدور الأول دارًا للنشر، وسيكون لك عقْد مناسب.
وقلت وأنا أنفخ: تلزمني مهلة للتفكير والتشاور مع الهانم.
فقام وهو يقول: طبعًا، ولكن ليكن الموضوع سرًّا بيننا.
وأفضيت بهمي كله إلى زوجي، فقلَّبت الأمر على وجوهه، ثم انتهت إلى أنه إذا صح ما يدعيه الأستاذ ونجح تدبيره، فسوف يتطهر البيت ويضاعف الدخل. وما علينا من بأس طالما أنه لن يورطنا فيما لا نحب. ولكن قبل أن يتم اللقاء مع الأستاذ طلب الشيخ مدكور البقلي مقابلتي. توقعت من فوري مزيدًا من الارتباك والهواجس، وخُيل إليَّ أنه شعر بطريقة ما بما يدور حوله فبادر للعمل. وتقابلنا فاعتذر عن إزعاجي وقال: يقتضيني دِيني أن أُصارحك بالحق الذي علمته، فقد ثبت عندي أن الدور الأعلى ما هو إلا خلية هدامة، وأن البدروم بؤرة فسق، وسأقوم بما يفرضه عليَّ ديني وضميري.
انهالت عليَّ كلماته كطلقات الرصاص، فغرقت في دوامة صاخبة وتمتمت: أي فظاعة لم تجرِ لي في بال!
– إنك رجل طيبٌ وحسَنُ الظن بالناس، وسيكون خلاص بيتك على يديَّ إن شاء الله، وفي مقابل ذلك أرجو أن توافق على تأجير الشقَّتَين لي!
فتساءلت بذهول: ما حاجتك إليهما؟
– سأجعل من البدروم مطبعة ومن الشقة دار نشر، وعلى أن يتم الاتفاق بيننا على ذلك.
فقلت وأنا أغوص أكثر وأكثر في الدهشة والارتباك: أعطني مهلة للتفكير.
فقام وهو يقول: لك هذا يا أخي في الإسلام، وليكن الأمر سرًّا بيننا، ولكن تذكَّر أن خير البر عاجله.
ولما علمتْ زوجي بما دار بيننا بردَ حماسها الأول، وبدا لها الأمر أشد تعقُّدًا وخطورة، فخافت التورط فيما لا تُحمد عقباه، وتفكرَتْ مليًّا ثم انتهت إلى رأي، فقالت: علينا أن نمتنع عن أي اتفاق ثم ننتظر.
فارتحت إلى رأيها، وعزمت على مصارحة الرجلينِ بأنه لا شأن لنا بالموضوع. ولا اتفاق نرتبط به قبل أن ينجلي الموقف. ولم تكد تمضي ساعات على ذهاب الشيخ حتى رنَّ جرس الشقة، وإذا بست محسنة رضوان تطالعني بجسمها المترامي، في فستان بُني محتشم، معتمرة بخمار أبيض. تمتمت: دستوركم.
ثم مضت نحو حجرة الاستقبال تتبختر كالتختروان، وجلست وهي تقول: أود الاجتماع بك والست حرمك.
وقد كان. وفي أثناء الجلسة استرقتُ النظر مستطلعًا، فبدَتْ لي غير ما تبدو من بعيد، لا لحسنها ونضجها الأنثوي فحسب، ولكن لتلك النظرة التي لا يخفيها التصنع، نظرة مليئة بالخبرة والمجون. فقلت لنفسي: إنها ولا شك كما يُقال عنها. وقالت المرأة بنبرة جريئة وناعمة: كان يجب أن نتعارف من قبل كما يليق بامرأة وحيدة مثلي، ولكني شعرت بأنكما تُؤْثِران العزلة.
ثم مغيرةً درجة صوتها إلى مقام أدنى مشحون باهتمام أكثر: ما علينا، ها هي الضرورة تسوقني إليكم، وتدعونا جميعًا للدفاع عن النفس!
فأقبلتْ زوجي نحوها بتركيز أكثر قائلة: خيرًا؟
– يصدق على بيتنا المثل القائل: يا ما تحت السواهي دواهي، وبفضل من سهري المعتاد وراء الشيش المُغلق عرفت أشياء وأشياء.
وتساءلت أعيننا دون أن تنبس شفاهنا، فواصلت المرأة: تبين لي أن الدور الأعلى وَكْر هدامين، وأن الدور الأول وكر منحرفين، رأيت بعيني وسمعت بأذني، وأخْوف ما أخاف أن يكون المسكنان قد تحوَّلا إلى مخزنينِ للذخيرة، وأن نكون عرضة للهلاك ونحن لا ندري!
فاستعاذت زوجي بالله بصوت متهدِّج، فقالت ست محسنة: اطمئني فإني أعرف كيف أدافع عن نفسي، وعن الناس الطيبين، غير أنه لي رجاء، هو أن أستأجر شقتيهما بعد خلوهما!
فتسرعت زوجي قائلة: لكِ هذا، يا ست محسنة.
أما أنا فسألتها: وما حاجتكِ إليهما؟
فقالت باسمة كاشفة عن سِنَّتين ذهبيتين لأول مرة: بصراحة سأجعل الدور الأول كافتيريا، والآخر مطعمًا على أحدث طراز، وسيدر العقد الجديد عليكم أكثر مما تُدر عمارة؛ ولذلك يجب أن يتم بيننا اتفاق مبدئي!
ومن منطلق تجربتي السابقة بالموقف نفسه، قلت: تلزمنا مهلة للتفكير.
– صدقني لا ضرورة لذلك، سيتم كل شيء بأسرع مما تتصور!
فتمتمتُ: مهلة قصيرة.
– أمهلك ولا تنسَ صاحبة الفضل في تخليصك من شر مؤكد.
ثم وهي تمضي في سبيلها: يكفيني كلمة شرف!
فقالت زوجي بحرارة: كلمة شرف لا رجوع عنها!
وحقًّا تتابعت الأحداث بأسرع مما تصورنا. في تلك الليلة اقتحم رجال الأمن الشقتين، وسمعنا أنهم عثروا على أدلة بينة، وخُتمت الشقتان بالشمع الأحمر. ولما زايلنا الذهول والانفعال، قلت لزوجي: ستطالبنا بإتمام الاتفاق.
فقالت بثقة: إنها صفقة رابحة، ولعله من الأوفق أن ننتقل نحن إلى الدور الأعلى بعيدًا عن الضجة:
فقلت بقلق: ولكني أُرجِّح أن ما قيل عنها حق وصدق.
– لو صح ذلك لقُبض عليها أيضًا!
– لها عينان فاجرتان.
– إنها بالنسبة إليَّ صاحبة فضل، ولسنا المسئولين عن الأخلاق في البلد.
وكان للمرأة ما أرادت. وتحول بيتنا إلى كافيتريا ومطعم على أحدث طراز. في بادئ الأمر ساورني شك في نجاح المشروع؛ لبُعد مكانه عن وسط المدينة، ولكن سرعان ما أذهلني نجاحه، وإقبال السيارات الفارهة عليه، حاملة أناسًا ما كان يخطر ببال أنهم سيشرفون بيتي المتواضع بحال من الأحوال.
المنة الله، لا أحمل في الدنيا همًّا.