الفَأر النرويجي
من حُسن الحظ ألا نكون وحدنا في هذه المحنة. وقد دعانا السيد «أ. م» بوصفه أقدم مُلاك الشقق في العمارة إلى اجتماع في شقته لتبادل الرأي. لم يزد عدد الحاضرين عن عشرة، بما فيهم الداعي السيد «أ. م». وهو فضلًا عن أقدميَّته أوسعنا ثراءً وأرفعنا مركزًا. ولم يتخلف عن أحد، كيف يتخلف، والمسألة تتعلق بالفئران وغزوها المُحتمل لبيوتنا وتهديدها لأمننا وسلامتنا؟ ويبدأ الداعي بصوتٍ ملؤه الجدية «تعلمون …»، ثم يسرد ما تردده الصحف عن زحف الفئران وأعدادها الهائلة وتخريبها البشِع. وترتفع أصوات من أركان الحجرة: ما يقال يفوق الخيال.
– هل رأيتم الريبورتاج التلفزيوني؟
– ليست فئرانًا عادية، ولكنها تُهاجم القطط والآدميين.
– ألا يُحتمل أن يوجد شيء من المبالغة في الموضوع؟
– لا .. لا، الواقع أكبر من أي مبالغة.
ثم يقول السيد «أ. م» بهدوء واعتزاز برياسته: على أي حال ثبت أننا لسنا وحدنا، هذا ما أكده لي السيد المحافظ.
– جميل أن نسمع ذلك.
– فما علينا إلا أن ننفذ التعليمات بدقة، ما يجيء منها عني مباشرة، أو ما يجيء عن طريق السلطة.
وخطر لأحدنا أن يسأل: هل يكبدنا ذلك تكاليف باهظة؟
فلجأ إلى الدين قائلًا: الله لا يُكلف نفسًا إلا وسعها.
– المهم ألا تكون مُرهِقة.
فلجأ إلى الحكمة قائلًا: لا يُدفَع الشرُّ بما هو شر منه!
وعند ذاك قال أكثر من صوت: ستجدنا إن شاء الله من المتعاونين.
فقال السيد «أ. م»: نحن معكم، ولكن لا تعتمدوا علينا كل الاعتماد، اعتمدوا أيضًا على أنفسكم، ابدءوا على الأقل بالبديهيات.
– عين العقل والصواب، ولكن ما البديهيات؟
– اقتناء المصايد والسموم التقليدية.
– عظيم.
– الإكثار ما أمكن من القطط في بئر السلم، وفوق السطح وفي الشقق أيضًا إذا سمحت الظروف.
– لكن يُقال إن الفأر النرويجي يهاجم القطط؟
– لن يخلو القط من فائدة.
ورجعنا إلى مساكننا بروح عالية وعزيمة صادقة. وسرعان ما غلب التفكير في الفئران على سائر همومنا. فكثر ورودها علينا في أحلامنا، وشغلت أوسع مساحة في حوارنا، وتصدَّت لنا باعتبارها المشكلة الأولى في وجودنا. ومضينا ننفِّذ ما تعهدنا به، ولبثنا ننتظر مجيء العدو. يقول بعضنا: إنه لم يبقَ من الزمن إلا أقله، ويقول آخرون: سنلمح ذات يوم فأرًا يمرق، فيكون النذير بأن الخطر قد دهم. وتضاربت التفسيرات حول تكاثر الفئران. هو في رأي نتيجة لخلو مدن القنال حين الهجرة، وفي رأي يرجع إلى سلبيات السد العالي، ورأي يحيله إلى نظام الحكم، وكثرة ترى فيه غضبًا من الله على عباده لتنكرهم لهداه. وبذلنا جهدًا مشكورًا للاستعداد الرشيد لم يتهاون فيه أحد. وفي اجتماع تالٍ بمسكن السيد الفاضل «أ. م»، قال حفظه الله: سرَّني ما اتخذتم من أسباب الوقاية، وأسعدني أن أرى مدخل عمارتنا وهو يموج بالقطط، أجل إن البعض شكا إليَّ تكاليف تغذيتها، ولكن كل شيء يهون في سبيل الأمن والأمان.
وقلَّب عينه في وجوهنا بارتياح، ثم تساءل: تُرى ما أخبار المصايد؟
فأجاب أحدنا وهو مربٍّ فاضل: سقط عندي فأر هزيل في فئراننا الوطنية.
– أيًّا تكن هوية الفأر فهو مؤذٍ، أما اليوم فيهمني أن أبلغكم بوجوب المزيد من الحيطة بعد أن أصبح العدو على الأبواب، وسوف تُوزَّع علينا كميات من السم الجديد المطحون في الذرة، يوضع في الأماكن الحساسة مثل المطبخ مع الحذر الشديد لحماية الأطفال والدواجن والحيوانات المستأنسة.
وحصل فعلًا ما وعد به الرجل، وقلنا حقًّا: لسنا وحدنا في المعركة، وتدفق منا الثناء على جارنا الهُمام، ومحافظنا الجليل. أجل حَمَّلنا ذلك الكثير من الانتباه يُضاف إلى همومنا اليومية. كذلك وقعت أخطاء لا مفر منها، فقُتلت قطة في إحدى الشقق، وعدد من الدجاج في شقة أخرى. ولكن لم تحدث خسائر في أرواح البشر. وكلما مضى وقت اشتدَّ توتر أعصابنا ويقظتنا، وثقل على قلوبنا هم الانتظار، فقلنا: وقوع البلاء ولا انتظاره. ويقابلني جار ذات يوم في محطة الباص، فيقول لي: سمعت من ثقة أن الفئران أهلكت قرية وزمامها كله.
– لا أثر لهذا الخبر في الجرائد!
فحدجني بنظرة ساخرة ولم ينبِسْ. وتخيلت الأرض سائلة بحشود من الفئران لا أول لها ولا آخر، وجموعًا من المهاجرين تهيم على وجهها في الصحراء، أيمكن أن يقع هذا يا ربي؟! ولكن ما وجه الاستحالة في ذلك؟ ألم يُرسل الله من قبلُ الطوفانَ والطير الأبابيل؟ هل يكُف الناس غدًا عن كفاحهم اليومي ليرموا بما يملكون في أتون المعركة؟ وهل ينتصرون أو تكون النهاية؟
في الاجتماع الثالث بدا السيد «أ. م» منشرحًا وراح يقول: تهانيَّ يا سادة، النشاط متقد على أكمل وجه، والخسائر ضئيلة لا تُذكر ولن تتكرر بإذن الله، وسوف نُصبح من أهل الخبرة في مقاومة الفئران، وربما استعانوا بنا في المستقبل في أماكن أخرى، والسيد المحافظ في غاية من السعادة.
وأراد أحدنا أن يشكو قائلًا: الحق في أعصابنا …
ولكن السيد «أ. م» قاطعه: أعصابنا؟! .. لا تُفسد نجاحنا بكلمة طائشة!
– متى يبدأ الهجوم الفأري؟
– لا أحد يستطيع أن يقطع برأي، ولا أهمية لذلك، طالما أننا مستعدون للمعركة.
ثم واصل بعد فينة صمت: التعليمات الجديدة ذات خطورة خاصة، وهي تتعلق بالنوافذ والأبواب وأي ثقب في جدار أو غيره. أغلقوا النوافذ والأبواب، افحصوا حافة الباب السُّفلية بصفة خاصة، فإن وُجد زيق تنفذ منه قشَّة أقيموا وراءه عوارض خشبية لتسده بالكامل، وعند التنظيف صباحًا يبدأ بحجرة فتُفتح نوافذها، يكنس فرد ويقف آخر مسلحًا بعصًا للمراقبة، ثم تُغلَق النوافذ ويُنتقل إلى حجرة تالية بنفس الأسلوب، وبانتهاء التنظيف تكون الشقة علبة محكمة الإغلاق أيًّا كان المناخ.
وتبادلنا النظرات في وجوم، وقال صوت: من المتعذر الاستمرار في ذلك.
فقال الرجل بوضوح: بل عليكم أن تلتزموا بالدقة البالغة في التنفيذ.
– حتى في الزنزانة توجد …
وسرعان ما قاطعه بحدة: نحن في حرب، أي في حال طوارئ، وليس الخراب فقط ما يهددنا، ولكن الأوبئة أيضًا والعياذ بالله يجب أن نحسب حسابها!
ومضينا ننفذ ما أُمرنا به صاغرين. وغُصنا أكثر في مستنقع الترقب والحذر، وما يصحبه من ضيق وملل. واشتد توتر الأعصاب، فتُرجم إلى منازعات حادة يومية بين رب البيت وربتها والأبناء. ورُحنا نتابع الأنباء فصار الفأر النرويجي بجسمه الضخم وشاربه الطويل ونظرته المُنذرة الزجاجية نجمًا من نجوم الشر يجول في أخيلتنا وأحلامنا، ويستقطب جل أحاديثنا. وفي آخر اجتماع قال السيد «أ. م»: بشرى، خُصِّصت فرقة من أهل الخبرة؛ لتفقُّد العمائر والشقق والمحالِّ المعرضة للخطر، وذلك دون المطالبة بأية رسوم إضافية.
وكان خبرًا سارًّا استقبلناه بارتياح عام، وأملنا أن نزيح عن صدورنا بعض العَناء الذي تعانيه. وذات يوم أخبرنا البوَّاب أن المندوب تفقَّد مدخل العمارة وبئر السلم والسطح والجراج، فبارك جماعات القطط المنتشرة هنا وهناك، ونبه عليه بالمزيد من اليقظة والإبلاغ عن أي فأر يظهر، نرويجيًّا كان أو مصريًّا. وعقب انقضاء أسبوع واحد على الاجتماع دق جرس الشقة، وإذا بالبواب يبشرنا بقدوم المندوب مستأذنًا في التفتيش. لم يكن الوقت مناسبًا؛ إذ كانت زوجي قد فرغت لتوها من إعداد الغداء، غير أنني هُرعتُ إلى الخارج لأُرحب بالقادم. وجدتني أمام رجل متوسط العمر مكتنز الجسم ذي شارب غليظ يُذكِّر وجهه المربع بوجهِ قطٍّ بأنفه القصير المطموس ونظرته الزجاجية. رحبت به مداريًا ابتسامة كادت تنقلب إلى ضحكة، وقلت لنفسي: حقًّا إنهم يحسنون الاختيار. وسرت بين يديه ومضى يتفقد المصائد والسموم والنوافذ والأبواب، ويهز رأسه بارتياح. غير أنه رأى في المطبخ نافذة صغيرة مصفحة بغشاء سلكيٍّ ذي ثقوب بالغة الصغر، فقال بحزم: أغلقوا النافذة.
وهمت زوجي بالاحتجاج، ولكنه بادرها قائلًا: الفأر النرويجي يقرض السلك!
ولما اطمأنَّ إلى نفاذ أمره راح يتشمم رائحة الطعام معلنًا استحسانه، فقلت له: تفضل.
فقال ببساطة: لا يأبى الكرامةَ إلا لئيم!
وفي الحال أعددنا له مائدة وحده، زاعمين له أننا سبقناه. وجلس إلى المائدة، وكأنما يجلس في بيته، وجعل يلتهم الطعام بلا حرَج ولا حياء وبنَهَمٍ عجيب. ومن باب الذوق غادرناه وحده، غير أنني رأيت بعد حين أن أطوف به؛ لعله في حاجة إلى شيء. وفعلًا جدَّدت له طبقًا، وفي أثناء ذلك لاحظت تغيرًا مثيرًا في منظره شد إليه عينيَّ بقوة وذهول. خُيل إليَّ أن هيئة وجهه لم تعد تُذكر بالقط، ولكنها تُذكر بالفأر، بل الفأر النرويجي نفسه. ورجعت إلى زوجي ورأسي يدور، لم أصرح لها بما رأيت ولكنني طالبتها بأن تشجِّعه وترحب به، فغابت دقيقة أو دقيقتين، ثم رجعت شاحبة اللون وحملقت في وجهي ذاهلة، ثم تمتمت: أرأيت شكله وهو يأكل؟
فأحنيت رأسي بالإيجاب فهمست: إنه لأمر مذهل يعز عليَّ التصديق.
فوافقتها على رأيها بهزة من رأسي الدائر. ويبدو أن إغراقنا في الذهول أنسانا مرور الوقت، فانتبهنا مع صوته آتيًا من الصالة، وهو يقول بمرح: عامرًا!
فاندفعنا نحوه ولكنه كان قد سبقنا إلى الباب الخارجي وذهب. لم نلمح منه إلا ظهره المترجرج، ثم التفاتة سريعة ودَّعتنا بابتسامة نرويجية خاطفة. ووقفنا وراء الباب المُغلق نتبادل نظرات حائرة.