قاتل قديم
صدرت «يوميات علاء الدين القاهري» فاقتحمَتْ عزلة شيخوختي، عاصفة بهدوئها وانقطاعها عن الحياة العامة. عاد اسمه يطاردني وينكأ جرحًا في كبريائي. ويُذكرني بفترة الاحترام والتقدير، وعهد النفور والرفض، وأخيرًا الفشل. وأقتنى الكتاب، وأنهمك في قراءته، بدءًا من مقدمة ابن أخيه، فأقف على سر تأخير النشر ربع قرن عقب مصرع الرجل احترامًا لوصيته، وأغوص بين السطور؛ لعلي أعثر على حل اللغز الذي حيرني. وينبثق من إحدى اليوميات بصيص نور فأمتلئ بالاستنارة وأنتفض من الذهول، وأهتف في حجرتي المُغلقة: كان القاتل بين يدي طوال الوقت!
واخترقت الضباب إلى حجرتي في نقطة الشرطة، فرأيت رجلًا يندفع داخلًا مضطربًا شاحب الوجه بجسمه الطويل المفتول، ويقول لاهثًا: الأستاذ قتيل في فراشه.
وتفحصته بعين محترفة متسائلًا عمَّن يعني فقال: الأستاذ علاء الدين القاهري.
فأشعل اهتمامي، وأدركت في الحال أن الروتين سينحرف عن مجراه المألوف.
– أنا خادمُه، ذهبت إلى بيته صباحًا كالعادة، رأيت باب حجرة نومه مفتوحًا، فألقيت نظرة فرأيته في فراشه غارقًا في دمه.
واستجابةً لاستفسار قال: أُغادر بيته ليلًا وأعود إليه في الصباح، فأفتح الباب بمفتاح. أما المفتاح الآخر ففي حوزة الأستاذ.
لم أضيع وقتًا أكثر من ذلك، فأبلغت المأمور وذهبت إلى بيت الأستاذ بصحبة قوة من الجنود والمخبرين. وفي الطريق غمرتني ذكريات. ذكرت حماسي لفكرة أيام الدراسة، الذي زحف عليه الفتور فيما بعد وخُتم بالرفض. كان أستاذًا جامعيًّا مرموقًا، ومؤلفَ كتبٍ تعتبر المرجع الأول في الدعوة للحضارة الغربية والنقد المر للتراث، فحظِيتْ بقلة من المعجبين وكثرة من الناقمين. وجرى الزمن وتغير، فبلغ سن المعاش، واعتزل في بيته، واقتصر اتصاله بالناس على استقبال بعض الزملاء ممن على شاكلته في الرأي، وبعض الشباب من المعجبين. وعانى الجو العام من اختناق في الفكر على المستويين الرسمي والشعبي، فلم يُعِدْ طبع كتبه، ولم يتيسر الاطلاع عليها إلا في دار الكتب، وخاصة لأصحاب الرسائل الجامعية. رغم ذلك كله بقي اسمه حقيقة ثقافية ذات وزن ثقيل في الجيل المخضرم وقلة من الشباب، فلم تغب عني خطورة الجريمة وأثرها المنتظر. ودرست موقع البيت في الخارج وسط صف من بيوت مماثلة شيدَتْها جمعية تعاونية. بيت صغير أنيق أبيض من دور واحد، وحديقة صغيرة تعبق برائحة الياسمين. ورأيت الجثة منكفئة على وجهها، والغطاء منحسر عن نصفها الأعلى، والدم يُغطي مؤخَّر الرأس والقفا وينداح فوق الحشيَّة والوسادة. غلفه وجه الموت الأخرس المغترب. بهتت صلعته، وتمدد أنفه الكبير الأقنى في صفحة ضاربة للزرقة غائصة في اللامبالاة. لا أثر للمقاومة ثمة، وكل قطعة أثاث مستقرة في موضعها في طمأنينة تامة، وفي الحال لحِق بي المأمور ومدير الأمن والنائب العمومي، وجرى فحصٌ شامل للمسكن ومحتوياته. وبهرنا نظامه الدقيق وترتيبه الحسن، فلا يشذ شيء عن موضعه، عدا صينية على خوان في حجرة الاستقبال تحوي عددًا من أقداح الشاي في قراراتها شيء من السائل، ووعاء معدني مفضَّض به بقايا من البسكوت المُطعَّم بالشيكولاتة، ونافضة مليئة بأعقاب السجائر. وصوان الملابس لم يُمَسَّ، والساعة والولاعة، كما عثرنا على مظروف به مائة جنيه. وتبُودل حديث أَولي بين المسئولين: الجريمة لم تُرتكب من أجل السرقة.
– احتمال راجح ولكن يقتضي مزيدًا من التحرِّي.
– هناك باب الخصومة والانتقام.
– هل تدخل في هذا الباب الخصومة الفكرية؟
– لكن الأجيال الجديدة لا تكاد تعرفه، وإن وجب أن يمتد البحث لكل شيء.
– والعلاقات الخاصة المجهولة أيضًا.
وعرفت القنوات التي ستتدفق منها التحريات، ثم بدأ التحقيق باستجواب الخادم عم عبده مواهب. رجل في الخمسين، يعمل طاهيًا وشغَّالًا عند الأستاذ منذ عشرين عامًا، وهو محور البيت كما يخلق ببيت أعزب يعيش وحده. ينتهي عمله عقب تقديم العشاء في الثامنة، ثم يُغادر البيت حوالي التاسعة ليمضي إلى مسكنه بمصر القديمة ثم يرجع في الصباح قبل استيقاظ الأستاذ عادةً. ويخالف هذا النظام في الليالي التي يستقبل فيها الأستاذ جماعة من أقرانه أو مريديه من الشُّبان. فربما تأخر ميعاد ذهابه إلى منتصف الليل. وبالنسبة لليوم الذي قُتل الأستاذ في ليلته، عَقَد الأستاذ جلسة مع أربعة من الشبان ممن يترددون كثيرًا عليه، وهم طلبة دراسات عُليا، معروفون جيِّدًا بالاسم والصورة لدى عم عبده مواهب. غير أن عم عبده شعر بصداع فاستأذن في الانصراف حوالي العاشرة، ولما رجع صباحًا كالعادة اكتشف الجريمة.
– هل تشك في أحد الزوار الأربعة؟
– أبدًا .. (ثم بتوكيد) أبدًا .. أبدًا.
– لماذا؟
– كانوا يحبونه وكان يعاملهم بعطف الوالد ورعاية الأستاذ، والعِلم عند الله، والكلمة الأخيرة لك.
وقلت لنفسي: أمامنا جريمة قتل، القاتل كان في داخل البيت وجدنا مفتاح البيت الخاص بالأستاذ في درج المكتب. وجدنا باب البيت ونوافذه سليمة، وكانت النوافذ مغلقة من الداخل. وكخطوة أولى حجزت عم عبده والطلبة الأربعة، وانطلقنا في قنوات التحريات.
بحثنا مصادر الثروة فوضح لنا أنه لا يملك إلا معاشه وحسابه في المصرف المتحصل من فوائد شهادات الاستثمار، وليس في ميزانه الصرفي ما يدل على أنه سحب مبلغًا أكثر من المعتاد صرفه كل شهر لتغطية نفقاته. ولم تدلنا التحريات عن الطلبة وعم عبده مواهب على أي علاقة مريبة أو شُبهة من الشبهات، وفُتِّشت البيوت تفتيشًا دقيقًا، وكان عم عبده يعيش في مسكن صغير هو وزوجه. أما أبناؤه الثلاثة فيعملون في السعودية. ولما سئلت زوجته عن ميعاد عودته ليلة الحادث، أجابت بأنها تنام مبكرة، ووضح أنه لا فكرة لها دقيقة عن الوقت. وكان بعطفة السد القائم بها مسكنه مقهًى عند المنعطف، شهد صاحبه بأن عم عبده غشِيَ المقهى ليلتها كعادته، فلم يتناقض ذلك مع أقوال الرجل الذي قال إنه قصد المقهى؛ ليعالج صداعه بالقهوة والأينسون وخلافه. أما عن الوقت؛ فلن يستطع الرجل أن يحدده لانشغاله المتواصل بعمله. وضحت لنا براءة الطلبة، فلم يبقَ في يدي إلا عم عبده مواهب. هو الذي يمكنه دخول البيت في أي وقت ودون عائق ثم يغادره بسلام، ولكن لماذا يقتل الأستاذ؟ والحق — وأُقرر ذلك من واقع خبرة ودراسة — أنه رجل ورع طيب مستقيم، وبعيد أن يكون حزنه على الأستاذ تمثيلًا أو زائفًا، وبعيد أيضًا أن يُوحي وجهه بالجريمة أو الشر، وغضبت حيال الغموض الجاثم، وتعلق الأمل بالعلاقات الخاصة الخفية. وقلت لعم عبده مواهب: حدثني عن سلوك المرحوم كرجل لم يتزوج قط؟
فأجاب متجهمًا: لا أعرف شيئًا.
– تكلم. ألا تريد أن تُبرئ نفسك؟
– لي الله، لن يأخذني بجريمة غيري.
– لكل منا هفواته وعيوبه، فحذارِ أن تُدافع عن القاتل بحسن نية!
ولكنه أصرَّ على موقفه. وجاءني مُرشد باللبَّان الذي شهد بأنه رأى في بيت الأستاذ في أثناء تردده عليه امرأةً متوسطة العمر على جمال ملحوظ. وبعد مواجهة بين اللبان وعم عبده، قلت للأخير بحزم: هات ما عندك عن هذه المرأة.
فقال بقلق: ربنا أمَر بالستر.
فقلت بحزم أشد: وأمَرَ بعقاب القاتل، فتكلم لتخلص نفسك من الشبهة المُحيقة بك.
فاعترف قائلًا: هي أرملة على علاقة قديمة بالأستاذ، تعيش في أسرة فقيرة، ولكنها لا تتسامح فيما يمس العرض. ولو انكشف سرها لتعرضت للهلاك.
ووعدته بأن نستدرجها إلى التحقيق في تكتم. وعرفت ما يلزمني عن المرأة، مسكنها، أولادها، أخيها الميكانيكي المعروف بفظاظته، وغرفت أيضًا أن عم عبده كان يسفر أحيانًا بين الأستاذ والمرأة على كره شديد منه.
داخلني شعور بأن الحقيقة ستُقذف إليَّ بعد تمنعها العسير. ولما رأيت المرأة فتر حماسي. وجدت امرأة تكاد من سذاجتها أن تشارف البلاهة. وصارحتني بأنها استسلمت للرجل لشدة حاجتها ولعطفه وكرم أخلاقه، وأن موته سد في وجهها باب الرجاء. وقالت إنها كانت تزوره نهارًا تجنبًا لإثارة الشبهة عند أحد وخاصةً أخاها، وأنها لم تدخل بيته طوال الأسبوعين السابقين للحادث، مستشهدة في ذلك بعم عبده مواهب. ورجع الغموض إلى ما كان وربما أشد. ونشط خيالي في طرح الفروض، فحام حول أخيها الميكانيكي، ولكن قُطع الشك باليقين عندما أثبتت التحريات بأن الشاب كان محبوسًا في قسم الخليفة يوم الجريمة؛ لتورطه في مشاجرة. انتهى. لم يسفر التحقيق ولا التحريات عن شيء، وقُيدت الجريمة ضد مجهول. وقلت لنفسي وأنا من القهر في نهاية: هذه الأمور تحدث أيضًا!
– ها أنا أعود إلى الجريمة بعد انقضاء خمسة وعشرين عامًا على ارتكابها، وبعد أن تركتُ الخدمة منذ خمسة أعوام أو يزيد. أعادني إليها نشر «يوميات علاء الدين القاهري». ورحت أقرأ بشغف مُدركًا الأسباب التي جعلت الأستاذ يُوصي بتأخير النشر ربع قرن؛ لتعرضها لأشخاص رأى من المستحسن ألا يهتك الستر عن أفكارهم إلا بعد وفاتهم، أو في الأقل بعد انتهاء خدمتهم الرسمية. وفي إحدى اليوميات قرأت:
«عم عبده مواهب صارحني برغبته في ترك خدمتي، فانزعجت جدًّا؛ لشدة حاجتي إليه خاصة في هذه المرحلة الحرجة من العمر والوحدة، ولأمانته واستقامته وطيبة قلبه وتقواه. وقلت له: إني أعاملك كصديق يا عم عبده.
فتمتم: لا يُنكر النعمة إلا لئيم.
– إذن لا تتركني، والعمل على أي حال أفضل من الفراغ.
فغمغم: لا حيلة لي يا سيدي.
– بل يوجد سبب، لا تُخفِ عني شيئًا.
فصمت مليًّا ثم قال: قلبي يقشعرُّ مما أسمع أحيانًا في مجالس الزوَّار!
فقلت بدهشة: لن يأخذك الله بذنوب غيرك، لك عليَّ أن أُسكت الحوار إذا دخلت الحجرة لخدمة …
وما زلت به حتى عَدَل عن رأيه. ولكن يبدو أنه لم يكفَّ عن التنصت، وقد ضبطته مرة لِصْق الباب، وأنا ذاهب لبعض شأني فعاتبته عتابًا مرًّا، وذات يوم وهو يقوم على خدمة إفطاري، حانت مني التفاتة إلى مرآة، فلمحت صورته المعكوسة تنطق بالحنق والغضب، فاعترضتني كآبة وتساءلت: كيف أحتفظ برجل يضمر لي هذا الشعور الأسود؟!»
وفي مكان آخر من اليوميات وكظرف مشابه، قرأت هذه العبارة عن عم عبده مواهب:
«يجب التخلص منه في أقرب فرصة، وقد ناقشت مشكلته في إحدى الجلسات الثقافية، فأثنى الزوار عليه وقالوا: إنه مثَلٌ للاستقامة والطيبة، ولكني على خبرة بما يمكن أن يصدر عن هذه الأنماط إذا جُرحت ضمائرها، يجب التخلص منه في أقرب فرصة، مهما صادفني من صعوبات في إحلال آخر محله.»
امتلأت بالاستنارة متأخرًا جدًّا، وهتفت: كان القاتل بين يديَّ طوال الوقت!
الآن قد سقطت العقوبة، واندثر التحقيق، وتُوفِّي الكبار الذين باشروا التحقيق أو أشرفوا عليه، ولعل القاتل قد لَحِق بهم أو سبقهم إلى جوار ربه. وأمكنني أخيرًا أن أقف على الباعث على الجريمة الذي ضللته وقتها، تُرى هل مات الرجل أو ما زال حيًّا؟ ولم أستطع مقاومة الرغبة في السعي وراءه رغم إفلاته القانوني من العقوبة. تمنَّيت أن أعثر عليه، ولو لأعلن انتصاري العقيم. ولن يتضح عقمه — لجهله غالبًا بالقانون — حتى أكاشفه بذلك.
وانتقلت من مصر الجديدة إلى مصر القديمة مدفوعًا بحب استطلاع ورغبة متوارية في الانتقام. وجدت عطفة السد كما كانت ببيوتها العتيقة، والمقهى القائم عند المنعطف لم يكد يتغير إلا وجه صاحبه. وكان عم عبده انقطع عن زيارة المقهى منذ سنوات، فطرقت بابه واقتحمت مسكنه .. استقبلني بدهشة، ببصر ضعيف، ولم يتذكرني، وطالعني بوجه كثير الغضون وسوالف ناصعة البياض، كالزغب تبرز من حافة طاقية بيضاء قلت له: إنك لا تتذكرني.
فبسط راحته متسائلًا فقلت: ولكنك لم تنسَ، ولا شك مصرع الأستاذ علاء الدين القاهري!
فومضَتْ في سحابة عينه نقطة لامعة، وقطَّب في حذر.
– أنا ضابط التحقيق، كلانا تقدم به العمر.
فتحرَّكت شفتاه من همس لم أتبينه، ولكني قرأت في صفحته أمارات الانسحاق.
وقلت بثقة: أخيرًا انكشفت الحقيقة، وثبت أنك قاتله!
واتسعت عيناه في ذهول، ولكنه خرِس فلم ينبس. وقام بجهد وصعوبة، ولكنه ما لبث أن انحط فوق الكنبة. أسند رأسه إلى الجدار ومدَّ ساقيه، وتقلصت عضلات وجهه نافثة زرقة ترابية، وفتح فاه، ربما ليقول شيئًا لم يقله أبدًا، ثم استسلم أمام قوة مجهولة، فمال رأسه على كتفه.
وجزعت فهتفت به: لا تخف. انقضى زمان الجريمة، اعتبر حديثي مزاحًا.
ولكنه كان قد أسلم الروح.
•••
أقدمت على مغامرة لأحقق نصرًا عقيمًا، فبُؤْت بهزيمة جديدة أفقدتني ما كنت أحظى به من راحة البال. ومن حين لآخر أتساءل في ضيق: ألا أُعتَبر أنا أيضًا قاتلًا؟!