الخندق
رغم عنايتي الملحوظة بنظافة جسدي وصحتي العامة؛ فإن الإحساس بالقذارة والمرض يلح عليَّ كفكرة ثابتة أو جو ثقيل جاثم. لست أقيم في جسد وأطراف فحسب، ولكن أيضًا في شقة عتيقة بالية وعطفة هرمة تغوص في النفايات. تعرَّى السقف من الطلاء، وتكشَّف في مواضع عن عروق لا لون لها، وتشقَّقت الجدران في خطوط متوازية ومتقاطعة، وانفجرت الأرضية عن نتوءات وثغرات تلاطم باطن القدم تحت الأكلمة المتهرئة. والسقف والجدران تنضح صيفًا بالحرارة بالمُحرقة، وترشَح شتاء بالرطوبة أو برشاش المطر. والسُّلم آخِذ في التآكل، ودرجة منه تصدعت، فتهاوى نصفها وأصبحت عثرة في طريق الصاعد والهابط، وخطرًا لا يُستهان به في ظلمة الليل. هذا بالإضافة إلى الشق الطولي الذي يسوخ في جناح البيت الخارجي الملاصق لدورات المياه، وهو جناح تقشر ملطه وكلسه وبرزت أحجاره. وعطفة الحسني اختفى طوارها تمامًا، ولا أحد يذكر أنه كان لها طواران سواي بوصفي من مواليد هذا البيت، بخلاف أسرتَي إبراهيم أفندي ساكن الدور الأوسط والشيخ محرَّم ساكن الدور الأرضي، اللتين وفدتا إلى البيت منذ عشرين عامًا على أكثر تقدير. على أيام صباي كان البيت كهلًا لا بأس به، والعطفة ذات أديم مبلط بالأحجار وطوارينِ، لا تقل في رونقها عن شارع الشرفا الذي تنحدر إليه. اختفى الطواران تحت الأتربة والنفايات، وهذه تتراكم يومًا بعد يوم زاحفة من الجانبين نحو وسط الطريق الضيق. وعما قليل لن يبقى للسكان إلا ممر كالخندق يذهبون منه ويجيئون، وربما ضاقت حافتاه عن أن تسع جسم ست فوزية حرم إبراهيم أفندي. يطبق على وجداني شبح القِدم وتوقُّع الانهيار وتفشِّى القذارة، فيطاردني الإحساس بالمرض والخوف أيضًا. وحيد في شقَّة تفرَّق ساكنوها بين البيوت الجديدة والمقابر، وموظف بالإضافة. موظف وحيد في بيت آيل للسقوط، يئنُّ في قبضة الغلاء، يتساءل عن مصيره لو وقع زلزال أو غارة جوية في هذه الأيام المنذرة بالحروب، أو ماذا يحدث لو استوفى البيت عمره المتهالك فمات حتفَ أنفه، وبلا سبب خارجي. وأعقد العزم على مطاردة الهواجس بنفس القوة التي تطاردني بها، أن أسلم أمري لله، ألا أتعجَّل الهم قبل وقوعه، أتناسى همومي في المقهى بين الصحاب من الموظفين الكادحين، أو بين يدي التلفزيون، تلفزيون المقهى. غير أن الهم يرجع كأكثف ما يكون في اليوم الأول من كل شهر. يوم يحسب حسابه الشيخ محرم وست فوزية التي تنوب عن زوجها في المعاملات لقوة شخصيتها، كما أحسب حسابه ألف مرة. في هذا اليوم يهلُّ علينا عبد الفتاح أفندي ساعي البريد ومالك البيت القديم. رجل في الخمسين، ما زال متمسكًا بطربوشه، ثقيل الظل، ربما لا لعيبٍ فيه. أنتبه إلى حضوره عندما يترامى إليَّ صوت ست فوزية، وهي تنهره بخشونة وتُلقمه الحجر تلو الحجر. أما أنا فأعالجه بالكياسة ما استطعت. أستقبله وأجالسه على كنبة وحيدة، وأقدم له الشاي. ويطيب له أن يرد التحية فيسألني: بودي أن أجيء مرة، فأجدك مكملًا نصف دينك!
فأسأله وأنا أداري غصة: عندك عروس وزيجة بالمجَّان؟
فينفخ بخار الشاي ويحسو حسوة ذات فحيح، ويهز رأسه دون أن ينبس. وأقدم له الإيجار، ثلاثة جنيهات، فيتناولها باسمًا في سخرية، يفنِّدها بين أصابعه، يقول: أقل من ثمن كيلو لحمة، والاسم مالك بيت.
ثم يواصل متشجعًا بصمتي: أموال أيتام يعلم الله.
فأقول: مظلومان يتناطحان، ولكن ما الحيلة؟!
– لولا احتلالكم للبيت لبِعتُه بالشيء الفلاني.
ثم بنبرة وعظية: وهو آيل للسقوط، ألم تنذركم اللجنة؟
فأتساءل: وهل نُلقي بأنفسنا إلى الشارع؟!
أفتقد دائمًا الشعور بالاستقرار والأمان كما أفتقد الإحساس بالنظافة والصحة. على ذاك فحالي خير من الآخرين، فإني على الأقل وحيد. عن عجز لا عن رغبة ولكني وحيد. حبيس كَبْت ووحدة وبيت آيل للسقوط وعطفة تُدفن تحت النفايات. أقوم بالمعجزات لأفوز بلقمة هنية ولو على فترات من الزمن، وكسوة تستر ماء وجه مدير إدارة فرعية. أحلم بمسكن مما أرى في إعلانات الجمعيات التعاونية، وعروس مما أشاهد في صفحة العرائس الأسبوعية، أو حتى مثل ست فوزية. أتعزى بقراءة «حلية الأولياء»، بحياة الأولياء الصالحين الزاهدين المتوكلين الطارحين لهموم الدنيا تحت أقدامهم واللائذين بطمأنينة خالدة. غير أن خبرًا عارضًا عن سقوط منزل أو عن إخلاء عمارة بقوة الشرطة عقب تصدُّع جانب منها، يهزني من الأعماق، يستردني من فردوس الأولياء، يملؤني بالرعب، أين يذهبون؟ ماذا يبقى لهم من المتاع؟ كيف يتصرفون؟! ويتضاعف إحساسي بالوحدة رغم انتمائي إلى أسرة كالقبيلة متناثرة في أنحاء المدينة الكبيرة. إخوة وأخوات وأقارب ووحدة خانقة! العواطف طيبة، ولكن لا بيت يُرحب بجديد. كل بيت بالكاد يسع سكانه. وكل فرع ينوء بهمومه. قد أجد ملاذًا ليوم أو أسبوع. أما الإقامة الدائمة فهي ورم سرطاني لا يُحتمل. وأُهرع إلى المقهى فهو جنة المأوى. أجتمع بالزملاء فأستروح العزاء في تبادل الشكوى. ومن عجب أنني معدود بينهم من المحظوظين لتوحُّدِي وخفة حمولتي. وحدتي المرعبة قيمة محسودة. يا بختك لا زوجة ولا بنت ولا ولد. لا مشكلة أجيال ولا زواج بنات ولا دروس خصوصية. بوسعك أن تأكل لحمة مرة في الأسبوع وربما مرتين. مسكنك الوحيد الذي لا يشهد شجارًا ولا نقاشًا. وأهزُّ رأسي في رضًا ولكني أتساءل في باطني: هل نسوا آلام الكبت والوحدة؟! غير أني أجد في أنينهم المتواصل سلوى مثل دفقة ضوء تُلقَى على قبر. ويقول لي أحدهم مرة: عندي حل لكافة مشكلاتك.
فأنظر إليه باهتمام وأنتظر، فيقول: زيجة، توفر المسكن واليسر، ولا تكلفك مليمًا واحدًا.
ثم فيما يشبه الهمس: امرأة تناسب المقام.
وأتخيل في الحال امرأة لا تملك من الأنوثة إلا شهادة السجل المدني. وسيلة شاذَّة من وسائل الإنقاذ مثل الانحراف والجرائم الخفية، طوق نجاة مثل جثَّة طافية. الحق أنني فقدت الأمل، ولكني ما زلت محتفظًا بالكبرياء. من أجل ذلك يَصِفونني بالطيبة كمرادف للبلاهة. أتصبَّر وأقاوم. أعود إلى كتاب «حلية الأولياء» وأقرأ جرائد المعارضة. ربما ألجأ أحيانًا إلى حيل الطُّفَيليين ولكنها زلة تُغتفر. أزور بيوت الأهل في غير أوقات الغداء؛ إمعانًا في إظهار البراءة على أمل أن أُدعى إلى وليمة، ولكن روح العصر لم تعُد تؤمن بهذه التقاليد العريقة. ويختلف الأمر بالنسبة للمواسم والأعياد فيسعدني الحظ بوليمة أو وليمتين في العام. وما إن يتهادى إليَّ صوت ربة البيت وهي تقول: ما أنت بالغريب ولا بالضيف، اعتبر نفسك في بيتك.
ما إن تلوح هذه الإشارة الخضراء، حتى أنقضَّ على المائدة مثل نسر جائع، وكأنما أشهد العشاء الأخير. الأدهى من ذلك كله أنني مواطن عادي، لا طموح عنده ولا خيال. نلت من التعليم ما يكفي، وألحقتني القوى العاملة بإدارة ما. ما تمنيت بعد ذلك إلا بنتًا طيبة وشقة صغيرة. انقلبت الدنيا، لا أدري كيف، وماجت بالعجائب. وتحددت إقامتي في البيت المتهالك. وكلما ارتفع مرتبي انخفض كأنه فزورة من فوازير رمضان. ذاب شبابي في التضخم، وكل يوم أغالب أمواجًا هادرة تهددني بالغرق. ويقال لي: هاجر ففي الأسفار مليون فائدة.
ولكني بطيء الحركة ومشدود للأرض، ولم أستسلم لقبضة اليأس. من حين لآخر تومض في سمائي المُظلمة بارقة. تنعشني تصريحات الوزراء وطلقات المعارضة ونوادر الأولياء. ألم يكن ابن حنبل يتصدق بالجوائز السنية وهو يتضوَّر جوعًا؟ وأتسلى أحيانًا في نافذتي، وأنا أرقب ست فوزية وهي تتبختر في الخندق بين حافتيه المطبقتين. وذات يوم قررت أن أزور مدفن الأسرة بعد انقطاع طويل باعتباره الملجأ الأخير إذا وقعت الواقعة. هناك توجد حجرة الرحمة كما توجد دورة للمياه، فهي مأوى من لا مأوى له.
رأيت القبرين القديمين تحت السماء وشُجيرات الصبار في الأركان. أما حجرة الرحمة إلى يمين القادم؛ فقد انقلبت خلية نحل تموج بالنساء والأطفال والأثاث البالي المكوم ومواقد الغاز والحلل، وتعبق بروائح التقلية والفول والباذنجان والزيت المقلي. رمقتني أعين المستوطنين بتوجس، وقرأت في أعماقها نذر التحدي. ابتسمت في استسلام، ووقفت قبالتهم متحررًا من القوة والمجد. وقلت لامرأة ذكرني حجمها بست فوزية: لا بأس، ولكن ما العمل لو احتجت إلى الحجرة كمأوى؟
فقالت ضاحكة: أنت صاحب حق ونحن ضيوفك، ننزل لك عن ركن، والناس للناس.
فقلت ممتنًا في الظاهر: جوزيتِ خيرًا.
ومرقت إلى القبرين لأتلو الفاتحة. تخيلت الأجيال التي لم يبقَ منها إلا هياكل عظمية. رعيل من أهل الحِرَف والتجار والموظفين وستات البيوت، وخالٌ لم أُدرك عصره، ولكني سمعت الرواة يحكون أسطورة استشهاده في ثورة ١٩١٩.
وقفت مليًّا وأنا أناجيهم بصوت غير مسموع: أمدوني يرحمكم الله بإيمانكم، وهبني يا خالي شيئًا من شجاعتك!