عندما يأتي الرَّخاء
مات الأب ففقد الابن عرشه؛ ذلك أنه كان وحيد أبوَيه، وليَّ العهد المدلل، المغموس في نعيم الحنان. ما إن بلغ الحُلم حتى زوَّجه أبوه ليفرح به، فأنجب بدوره ابنًا وحيدًا، وزوَّجه في حياة أبيه ليفرح به أيضًا. أما الأب المدلَّل فأفسده الدلع، فقعد عن التعليم دون أن يحصل على الابتدائية. وأما الحفيد فقد نال التجارة الثانوية بطلوع الروح. وعقب وفاة الأب (الجد) وجَدَ الخليفة الأول نفسه وحيدًا عاطلًا، والخليفة الثاني كاتبًا على الآلة الكاتبة.
– كان أبي سمسارًا رزقه موفور، ولكن ينفق عن سعة، عِشنا في حياته كالملوك غير أنه لم يخلِّف شيئًا.
أورثه بيتًا من ثلاثة أدوار ودكان بالسيدة، يقيم هو في دور وابنه في دور، ويقبض إيجار الدور الثالث والدكان ستة جنيهات كل شهر، مثل مرتَّب ابنه. أجل، كان المبلغ كافيًا لمعيشة أسرة في مطلع القرن، ولكنه لا يهيِّئ لها أي لون من ألوان الترفيه المشروع.
– كيف أطيق هذه الحياة؟! أنا ربيب النعيم، طعامي طعام ولائم، وملبسي أنموذج للأناقة، مجلسي في قهوة الشيشة، ونزهتي عند كشكش بك ومنيرة المهدية؛ كيف أطيق هذه الحياة؟
ويقول له ابنه معاتبًا: لِمَ عجَّلت بتزويجي؟ .. ها أنا أبٌ وأنا دون العشرين.
فيجيبه متنهِّدًا: إنما الأعمال بالنيات يا بُنَي! أنا أيضًا وجدتني زوجًا لبنت تكبرني بأعوام، قبل أن أفرِّق بين الألف والباء!
وكان المُستحقَّ الوحيد لوقفِ جدِّه للمرحومة أمه، فزار لأول مرة إدارةَ الأوقاف الأهلية مسوقًا بنبضة أمل، رغم ما سبق له علمه عن طريق أبيه. وقال له الموظف المختص: ثروتك على الورق ضخمة؛ أربع قطع أراضي فضاء بالمنشية، ومال بدل ناتج عن دخول قطعة خامسة في التنظيم مقداره أربعون ألفًا من الجنيهات.
فتساءل بصوت متهدِّج؛ كيف يمكنه الانتفاع بثروته؟ فقال الموظف: لا شيء للأسف، الأرض وقف لا تُمَس، والمال وقف لا يُمَس، وهو مُودَع في البنك بلا فوائد؛ لأن الفوائد ربًا، والربا حرام، وكل حرام في النار.
وهذه النار التي تندلع في قلبه وآماله؟! لم يعد له من حديث إلا الوقف والحرمان. ويطوف بالأراضي الفضاء المطروحة كخرائب، ويسأل عن أجر المثل، فيحسب ثمنها بما لا يقل عن ثمانين ألفًا من الجنيهات بالإضافة إلى مال البدل، وراح يهذي بالثروة والحرمان والفقر والحظ.
وقال له عمه: بِعْ بيتك واستثمِرْ ثمنه في عمل نافع.
ولكنه يقول معترفًا بالحقيقة الصخرية: لا أصلح لشيء يا عمي.
ويستطرد باسمًا في حياء: الله يغفر لك يا أبي.
والزمن يسترق الخُطى، لا يُبالي ولا يُمهل، فيتوغل الرجل في الشباب حتى يرقى ذروته ويُطل على الرجولة دون أدنى رغبة فيها. تتبلور شخصيته بين الأصحاب والأقارب نمطًا للإنسان الشاكي الباكي، مجنون الوقف ومال البدل وأجر المثل. يضحك منه في الخفاء مَن يشفق من الجهر، ويعالنه بالسخرية مَن يضيق به، ومن وراء وراء يقولون عنه: سيُجَنُّ ذات يوم.
– بل جُن فعلًا وما كان كان.
وتغزو مظاهر الحضارة حتى الأحياء الوطنية. وجاوزت السيارات حدود النُّدرة، وكذلك المطاعم والملاهي. وانطلق الرعيل الأول من الحِسان سافراتِ الوجوه بأعين مكحولة وشفاه مصبوغة. هذا وامرأته منهمكة بين الطهي والغسيل والمكنسة، فبرزت الست العاملة وتوارت الأنثى المغرية. وهو خلقه الله جميلًا يحب الجمال، فتنمَّر وتوثَّب للنزاع والنكد. تقول امرأته: ما حيلتي؟! ابتُليت به أفظع مما ابتُلي هو بالحياة.
ويقول هو: أنا غنيٌّ محكوم عليه بالفقر، والدنيا حلوة.
ويقول له عمه: الدنيا حظوظ، ولله في خلقه شئون، والسعيد من يمتثل لإرادة الله.
فيقول: أنا مظلوم .. مظلوم .. مظلوم.
– وما الحيلة يا ابن أخي؟
– أحرام أيضًا أن أشكو الظلم؟!
فيقول الرجل مداريًا ضيقه بابتسامة لا لون لها: أليس لكل إنسانٍ همومه؟!
وتتوثق العلاقة بينه وبين إدارة الأوقاف؛ يصبح نجمًا في سمائها المنسوجة من خيوط العنكبوت، ويمدون له في حبل الأمل.
– ألا تتابع حملات الجرائد على جمود الوقف؟
– انتظر خيرًا قريبًا.
وتنشب الحرب العالمية الثانية، يتسنَّم ذروة الرجولة فينحدر نحو الكهولة، ويتلقى من الغيب نُذرًا في صورة شُعيرات بيضاء لمعت في سوالفه وشاربه الذي يعتز به أيَّما اعتزاز. وتشرئب الأسعار برءوسها في بُطء واستمرار، فيهتز الباقي من أمنه. على حين تنتشر مظاهر الحضارة واللهو، وتتلألأ الشوارع بالسيقان والأذرع والنحور، ويتدفق المنهل العذب يدعو الشاربين للورود، وتُسرع زوجته إلى الكهولة والخراب.
– كان في البيت رجل واحد، فأمسى فيه اثنان!
وتقول امرأته لجارة لها: لو تحقَّقت أمنيته في الصباح لتزوج عليَّ قبل مجيء المساء، لا حقَّق الله أمنيته!
ويقول له ابنه: لم تعد الحياة كما كانت، القروش مثل العصافير سرعان ما تطير.
ويقول له موظف الوقف الأهلي: لا يمكن مواجهة أعباء الحياة برِيع بيتك، انزل عن كبريائك وحرَّر عريضة بطلب شيء من الخيرات.
وبعد تردد راقت له الفكرة. ولما لم يكن يُحسن الكتابة، فقد تولاها عنه الرجل. وقال له برجاء: ربنا أمر بالستر.
فقال له الموظف: سرُّك في بئر.
وتزوره مندوبة الوزارة لإجراء التحريات التقليدية. تتفقد البيت وأثاثه القديم وهو يتابعها بكآبة، ثم يقول لها بدافع من كبريائه: سلي يا ابنتي عن أصلي في إدارة الأوقاف.
فتقول له بعذوبة: أعرف كل شيء.
وانتبه إلى نضارة وجهها وهندسة جسمها لأول مرة.
سألها في دعابة: ألا تمنح الوزارة بدلًا من المرتب أشياء عينية؟
فتساءلت في براءة: مثل ماذا؟
فقال ضاحكًا: مثلك يا ابنتي!
فودَّعته ضاحكةً. وصرخت زوجته: تحت سمعي وبصري ولا تتورع عن المغازلة؟!
فقال بجدية مصطنَعة: غازلتها بالأصالة عن نفسي، ونيابة عنك أيضًا.
فصاحت: ما يؤدِّبك إلا الفقر.
وتقرَّر له مرتب من الخيرات مقداره ثلاثة جنيهات شهريًّا.
وسأل الموظف ممتعضًا: ثلاثة جنيهات؟!
فقال الرجل: مناسب جدًّا بالقياس إلى أمثاله.
– لا يساوي ما بذلت من كرامتي.
– الأُسَر التي أناخ عليها الدهر أكثر مما تتصور.
على أي حال زار المفتِّشة في إدارة التحريات؛ في الظاهر ليشكرها، وفي الحقيقة ليتملى شبابها ونضارتها. ورجع إلى بيته وفي قلبه حلم، وأنجب الحلم أحلامًا أخرى عن فيلا وسيارة ومائدة. أما الواقع فلم يتمخَّض إلا عن غلاء يرتفع، ومغريات تنتشر، وشيب يتفشَّى، وضغط دم — ذلك الداء المتوارث في أسرته — يستقر. وتمزقت روابط الزوجية حتى حل الكره محل الرحمة. تقول له: لا أرى في وجهك إلا العُبوس.
فيقول: حب الحياة ليس جريمة.
– اشكر ربك على الابن والصحة.
– ابني يتأوه وصحتي تلِفَت.
– إني رفيقة عمرك.
– هذه هي المصيبة.
– تأخذني برتقالة وتعرض عني قشرة.
– بل قشرة من أول يوم.
ورقَّ الابن لأمه، فاقترح عليها أن تقيم معه بعض الوقت، ولكنها قالت له معتذرة: سيبحث عن خادمة، ولا أستبعد أن يتزوجها.
وتتقدم الأيام فيكثر كل شيء سيِّئ، ويقل كل شيء حسن. ويتلقى الرجال أنباء قيام ثورة يوليو وهو يعاني من أوجاعه، فلا يثير اهتمامَه أيُّ حدث عام.
ويتلقى بعد ذلك أنباء حل الوقف وتوزيعه على أصحابه، وهو طريح الفراش بصفة نهائية. ويسرِّح بصره في الغيب طويلًا، طويلًا، طويلًا، ثم يتُمتم: حكمتك يا رب!