عندما يأتي المساء
تنفجر عواصف الخماسين الغبراء الساخنة في عز أيام الربيع. توفيت الست الكبيرة عن ثمانين عامًا مُخلفةً لابنتها فيلا بالهرم وبضعة آلاف من الأموال السائلة. وكانت الابنة الستينية تقضي مع زوجها السبعيني الفترة المتبقية من العمل يظلهما الوفاق والهدوء واليسر. وحركت الثروة الطارئة الطموح إلى حياة جديدة، فقالت الزوجة: نستطيع الآن أن نعيش في فيلا جميلة بالهرم، وأن نُغادر هذا الشارع الكئيب.
فتجلت في عينَي الزوج نظرة فاترة وغمغم: الهرم؟
ثم واصل: شقتنا مريحة، عِشرة عمر طويلة، بدأ بشهر العسل، وجميع المعارف والأحباب حولنا.
فقالت بازدراء: لو تكن جنة لحق لنا أن نملَّها.
ولم تأخذ معارضته مأخذ الجد، وراحت تفكر بصوت مرتفع: الفيلا تحتاج لتجديدات بسيطة، وشيء من الديكورات، وبها أثاث يمكن الاحتفاظ به وبيع ما يماثله من أثاثنا مثل حجرة السفرة والمطبخ، ويلزمنا شيء من التنجيد أيضًا. النقود متوفرة والحمد لله، ومما يزيد من مزاياها أنها تقع في شارع داخلي مسفلت ومشجر وهادئ بالقياس إلى الشارع العمومي.
واعترت الزوجة كآبة، فراح يفكر بصوت مرتفع أيضًا: بين الجناين موقع عتيق حقًّا ولكن العمارة جديدة نسبيًّا، شُيدت منذ خمسين عامًا، ومؤكد أنها تستطيع أن تحافظ على صلاحيتها خمسين عامًا جديدة، الشقة لا ينقصها شيء، شمسها متوفرة وهواؤها طيب، وأهم من ذلك كله يوجد حولنا جيران العمر. أنا رجل عجوز، فراغي طويل، ولولا بقية من أصدقاء ما تحملت الحياة، بنتي الوحيدة وزوجها في السعودية، والأقارب لا يتلاقون في هذا الزمان إلا في الجنازات الهامة!
وحدجته بنظرة أطل منها العناد والتجهم، وتساءلت: أنُضحِّي بما أتاح الله لنا من عيشة راضية من أجل مزاجك الشخصي؟!
اشتعلت أعصابه السريعة الاشتعال، وقال بمرارة: عنادكِ يفترس إنسانيتكِ، قدِّري حال رجل لم يعُد له حظ من الدنيا إلا نفرًا من الأصدقاء.
– حسبت أن لك زوجة أيضًا!
– طبعًا .. طبعًا .. ولكن الرجل لا يستغني عن أصدقاء العمر!
– التلفزيون فيه الكفاية، ولكنك مدمن سهر.
– كُفِّي عن العناد وفكري بإنسانية.
– فكر أنت بشيء من العقل.
في البدء كان الحب. في الشباب الباكر كان الزواج. هو مهندس ري وهي ست بيت وحاملة للابتدائية أيضًا. أنجبا ابنة وحيدة، طبيبة متزوجة من طبيب، ويعملان في السعودية. عبرا سنوات التعارف والتوافق وعثرات الاختلاف في الذوق والعادات بنجاح، حتى استقرا في سَكينة الشيخوخة. رغم ذلك قال لنفسه بقلَق: إنها عنيدة، وإذا تسلطت عليها فكرة انقلبت حجرًا صلدًا لا سبيل إلى التفاهم معه. وقالت لنفسها: إنه طفل مدلل عصبي ويبيع بالدنيا مزاجه. وشرعت في تجديد الفيلا، فانقبض صدره وغشِيَته سُحب المخاوف. وقال لها: أجِّريها مفروشة تدر عليكِ الشيء الفلاني.
ولكنها قالت بإصرار: ما حاجتنا إلى النقود في هذه السن؟ ولا ابنتنا في حاجة إليها، ولكن من حقنا أن ننعم بشيء من الراحة والجمال وحسن الختام.
– وأصحابي؟! تذكِّري أزمة المواصلات، الانتقال معناه العُزلة، وفي العزلة قضاء عليَّ!
– ربنا يكملك بالعقل وسداد الرأي.
لم يعشق هواية مما تثري الفراغ. تُرك لتيار الزمن بلا طوق نجاة. يستيقظ من نومه حوالي الظهر وينتظر المساء. تديُّنه صادق وبسيط لا يشغل له بالًا. يُهرَع مع الليل إلى منظرة صديق على المعاش كان مُعلم لغة عربية، يملك بيتًا صغيرًا ذا حديقة صغيرة، ويوافيهما ضابط جيش عجوز على المعاش أيضًا وصيدلي قبطي اعتزل العمل. يتسامرون، يلعبون النرد، يحتسون الشاي أو المرطِّبات تبعًا للفصول، يدخنون، ثم يفترقون عند اقتراب الفجر إلى مساكنهم المتقاربة في «بين الجناين». في الزمان الأول كانت البيوت تطل على الحقول والحدائق، وتعبق بشذا الحِناء وتغوص في الهدوء. اليوم اكتظَّت بالبيوت والسكان، والخرائب الموقوفة التي انقلبت أسواقًا لتجارة الخردة وقطع الغيار القديمة، وازدحم الطريق بالصِّبْية، وصار ناديًا أهليًّا للعب الكرة، ولكن القلب ما زال يجِد سلواه في المناجاة والسَّمَر. ماذا يتبقَّى لي في الحياة إذا حُرم من هذه السلوى الباقية؟! وقال لها أخيرًا بنبرة حاسمة: لن أُغادر هذه الشقة إلا إلى القبر.
فقالت بحنَق: إذا تم إعداد الفيلا؛ فلن أبقى هنا لحظة واحدة.
فارتفع صوته وهو يقول: أنتِ امرأة عنيدة بلا قلب.
فهتفت: أنت أناني لا يهمك إلا مزاجك.
– لي عليكِ حق الطاعة.
– الطاعة من حق العاقل.
– قلة أدب.
– أنا بنت ناس علموا الناس الأدب.
– لي الجنة على احتمال عِشرتكِ.
– الحق أني أنا الشهيدة، لولا صبري لعشت طيلة عمرك وحيدًا.
– أنا؟!
– نعم .. آه لو أفرغَ قلبي ما فيه!
– جنس جاحد حقيقة.
– أَجْري عند الله وحده، هل نسيت افتضاح سلوكك عام ١٩٢٦؟!
– ١٩٢٦! يا ألطاف الله! إني لا أتذكر ما يقع بالأمس.
– ولكنني لا أنسى، ولا أنسى فجورك، وأنت مفتِّش ري بكفر الشيخ في ١٩٣٠!
– حقًّا إنكِ ذاكرة مذهلة لحفظ أنباء السوء، وتنسين ما عدا ذلك، نسيتِ على سبيل المثال أنني ضحيت بأجمل عروس من أجلك.
– بل سال لعابك دائمًا طمعًا في مساعدات بابا الله يرحمه .. أناني ونفعي!
– قذارة وقلة أدب.
– اخرس!
وانتفض واقفًا ووجهه يموج بالغضب، فانتصب عنقها في تحدٍّ رغم توقعها عدوانًا قياسًا على مرات متباعدة، لا تستطيع أن تنساها أبدًا. غير أنه كظَم غيظه، وقال وهو يغادر الحجرة: ليكن في علمك أن مغادرة الشقة تعني الطلاق.
فصرخت: إني أُرحب به، وإن جاء متأخرًا.
وعلى أثر رسالتين تلقتهما من الأم والأب، حضرت الابنة من السعودية دون إبطاء. انفردت بالأم محاولة إقناعها ففشلت، ولم تكن أكثر توفيقًا مع أبيها. وجمعت بينهما وقالت: من المُبكي والمضحك معًا أن يجري للطلاق ذكر بينكما في هذه المرحلة من العمر، فليغفر الله لكما هذه السقطة اللسانية الشنيعة.
ونقَّلت بينهما عينًا حزينة وواصلت: انتقلي يا ماما إلى الفيلا، وابقَ يا بابا في الشقة، وأجِّلا قراركما الأخير للزمن والوحدة.
وشملهم صمت ثقيل خفَّفته بدعابات متكلفة صدرت عن نفس مليئة بالشجن، ثم ودعتهما راجعة إلى مقر عملها، وقد اقتنع كل طرف بأنها منحازة إليه في أعماقها، وإن أبت أن تُعلن رأيها مجاملة للطرف الآخر.
ووقع الانفصال ممزِّقًا لأول مرة وحدةَ حياة مشتركة طويلة العمر. انتقلت الزوجة لتستقبل حياة أنيقة ثرية مترعة بالوحشة. ولبث الزوج في شقة مقفرة عارية الحجرات إلا حجرة نومه المكونة من فراش مفرد وصُوان قديم وكليم صغير، واقتصر المطبخ على الأوعية والأواني الضرورية وموقد بوتاجاز صغير ومائدة ذات مقعد وحيد وفريجدير لحفظ الطعام. وتم الاتفاق على أن تُجهِّز له طعامَه الأسبوعي طاهيةُ الأسرة في يوم معين، على أن يقوم هو بإعداد الوجبات وغسل الأواني. وكان ينام نهاره كله هربًا من وحدته، وينتظر على لهف ميعاد السهرة التي يمارس فيها حياته الحقيقية. وحاول الأصدقاء أن يجدوا للمشكلة حلًّا آخر ولكنه قال: لا تشغلوا بالكم يا جماعة، المهم أن تسعفني الصحة حتى النهاية.
واعتبرت الزوجة أن كل يوم يفوت من غير أن يُقِرَّ بخطئه إهانةً مُتجددة لكرامتها وجرحًا يغوص في كبريائها. ويشتد حقدها وغضبها، وتعالج الوقت الطويل الملقى عليها بزيارة الأقارب لتشريحه بلا رحمة وفضح ما خفي من مساوئه. ويبلغه ذلك فيرد اللطمة بعشر أمثالها، حتى تجسدت حياتهما المشتركة في صورة سوداء تثير الفزع. وجرى الزمن والخصام يزداد سوءًا وفظاعة. وانعقدت السهرة ذات ليلة وهو غائب على غير عادة، ولكنه جاء متأخرًا عن موعده، وهم يتجاذبون القلق والظنون. وقال كالمعتذر: شعرت بوعكة مما يطرأ في تغير الفصول.
وكانت الوحدة التي يعيش مهملًا في طياتها تحزنهم، فأقبلوا يناقشونها بجدية: لا تأمن للحاضر، وعليك أن تفكر في المستقبل.
فقال بهدوء وهو يداري ضيقه: فعلت ذلك كثيرًا!
– وكيف انتهيت؟
– قررت أن أكف عن التفكير.
وضحك ثم واصل: أعرف ما يقلقكم، ماذا أفعل لو أقعدني المرض، أو حضرني الموت! سأكون سعيدًا إذا قدر لي موت خاطف، وإن تكن الأخرى؛ فما جدوى التفكير إلا مكابدة الهم قبل وقوعه؟
– ولكن لكل مشكلة حل.
فهتف: فات أوان الوفاق، ثم إنها عنيدة، والاستسلام يعني بالنسبة لي انتحارًا بطيئًا.
وضحك عاليًا وقال: إذا حم القضاء، وجدني الموت وحيدًا لا مفرَّ، وما عليكم إذا تخلَّفتُ ليلة، ولم يُفتح بابي إلا أن تتخذوا الإجراءات المألوفة، وآسف مقدمًا على إزعاجكم.