تحت السمع والبصَر
حقًّا إن الشارع خالٍ أو شبه خالٍ فيما يبدو، ولكن لا يخلو شارع من آدميين. إنه شارع جانبي يوصل بين طريقين عموميين. وهو سكني لا توجد به إلا دكان كواء. مع هبوط المساء من فوق رءوس الأشجار على الجانبين أغلقه صاحبه وذهب. سبحت أضواء مصباحين في أول الطريق وآخره في العتمة المتزايدة، فأضفَتْ على الجو لونًا غامضًا بين النور والظلام. واستقرت سيارتان متباعدتان في موقفَيْهما بحذاء الطوار مسربلتين بغطاءين من الشمع الرمادي، وانتظرت بقية الفراغات السيارات القادمة. وخيَّم على الشارع هدوء خامل جدير بمعبر نادر الرواد، وأضاءت نوافذ المساكن بالأنوار، وهي مفتوحة لتلقِّي نسائم الربيع .. من أجل ذلك انتشرت أصوات تلك المشاجرة الزوجية من إحدى النوافذ، فبلغت النوافذ القريبة وتمادت في ذيوعها حتى كدَّرت هدوء الشارع.
– أنت وحش.
– أنتِ مجنونة.
– لن أبقى في هذا البيت ساعة أخرى.
– مجنونة.
– في يدي الدليل، مصيرك المحتوم مستشفى الأمراض العقلية.
– مصير أمك وأخواتك.
– تحطمين تحفة ثمنها مائة وخمسون جنيهًا!
– سأشعل النار في هذا البيت العفن.
ويعلو الصراخ مختلطًا بصوت هادر ومزيد من طقطقة التحطيم مصحوبة بعويل أطفال. ومر عابر بالشارع فتوقف قليلًا تحت النافذة، ثم ضحك طويلًا وواصل سيره. وتجلت أشباح آدميِّين في النوافذ القريبة. ولما استمرت المعركة نوقشت على نطاق واسع.
– خناقة حامية.
– ليست الأولى.
– لكنها الأعنف.
– ألا يمكن عمل شيء؟
– مثل ماذا؟
– أنتدخل مثلًا؟
– لكننا لا نعرفهم، نتقابل أحيانًا في مدخل العمارة فلا نتبادل تحية.
– الواجب.
– قد يسوءهم ذلك.
– لن تنتهي الليلة على خير.
– ربنا موجود.
– الرجل مجنون وبريق عينيه المخيف لا يُنسى.
– لا تبالغي، هي أيضًا لها حركات عصبية مريبة.
– هو السبب هذا واضح.
– أو العكس تمامًا وهو ما أعتقد.
– لكل رجل شيطانه.
– ولكل امرأة.
– الرجال ظالمون بالفطرة.
– ما هم إلا ضحايا.
– ضحايا؟!
– الله شهيد.
– معركة غير متكافئة وسيقع أذًى لا شكَّ فيه.
– حطمتْ في غضبها تحفةً ثمنها مائة وخمسون جنيهًا.
– من عذابها أو جنونها.
– من أدراك أنتَ؟
– أهذه حنجرة امرأة عاقلة؟!
– أفقدها وعيها.
– المعركة تشتد ولا أحد يبالي بالأطفال.
– أمه وأخواته وراء ذلك كله.
– لا، المسألة أخطر من ذلك، فتشي عن الميزانية.
– يُرى كثيرًا وهو يشتري الخمور.
– هي أيضًا متبرجة أكثر من اللازم.
– ألا ترى أن المعركة لا تقف عند حد؟
– أجل اشتد النزاع وارتفعت الأصوات أكثر، وتوكد أن الليلة لن تمر بسلام.
– اترك ذراعي يا مجرم.
– مجنونة لا تحسب حسابًا للفضيحة.
– دعني أطلب النجدة.
– إذن أطلب مستشفى الأمراض العقلية.
– تضربني؟! ستدفع ثمن اللطمة غاليًا.
وينفجر صوات مخيف، ثم ينكتم الصوت تحت ضغط راحة يدٍ فيما بدا. ولأول مرة تجيء فترة سكون عدا عويل الأطفال، وتمتد دقائق وإذا بالصوت يهبط إلى الشارع. شبح المرأة يُغادر باب العمارة مهرولًا نحو الطوار الآخر. تتبعها الأعين على ضوء المصباح البعيد.
– هربت من البيت.
– لعله الحل الوحيد. بملابس البيت وغالبًا لا تملك مليمًا.
– تُرى أين يقيم أهلها؟
– هل نتركها في الطريق؟
– لو آويناها لوجدنا أنفسنا طرفًا في المعركة.
– كيف تتصرف المسكينة؟
– تستقل تاكسي، وهناك ستجد مَن يؤدي عنها الأجرة، لم يتحرك أحد لنجدتها.
– مرةً رجل تدخل بحسن نية، فاتهمه الزوج ووقع في مصيبة.
– يا لها من دنيا مُخيفة!
– ما باليد حيلة.
وقبل أن تبلغ المرأة منتصف الشارع، اندفع شبح الزوج من باب العمارة، فاشتعل الاهتمام لأقصى حد. جرى نحو المرأة حتى أمسك بها، تراءت وهي تقاومه وتراءى وهو يجذبها بشدة. صرخت مستغيثة بالناس فاشتد في جذبها، وبلغ الصراع أعنف أحواله. ويمر عابر جديد للشارع، فيقف على مبعدة ويهتف: كفَى هذا لا يليق.
فصاح به الزوج: ابعد وإلا حطمت رأسك.
يبتعد الرجل خطوات، يتردد قليلًا ثم يمضي في طريقه. وتنطلق من حنجرة الزوج صرخة كالعواء: تعضينني يا كلبة .. سأقتلك.
ويركلها ركلة حانقة غاضبة متأججة بالرغبة في الانتقام، فتقع المرأة متلوية صارخة. ولم يقنع الرجل بذلك، فما زال ألمه الحاد يستفزه إلى المزيد، فعدا نحو العمارة صائحًا: سأذبحك عليكِ اللعنة، وعلى الدنيا ألف لعنة.
وسرى الرعب في المُطلين من النوافذ.
– ركلها ركلة قاتلة.
– ولكنه جُن وسيرجع بسكين يُجهز بها عليها.
– لا، مجرد كلام.
– نطلب النجدة.
– سنصبح أسرى إجراءات معقدة حتى يصدر الحكم.
– لا بد من طلب النجدة.
– سيصدق علينا المثل القائل: خيرًا تفعل شرًّا تلقى.
– هل نتركها ملقاة حتى تُذبح؟
– لن يحدث شيء، هي عضته وهو ركلها وانتهى الأمر.
– نذهب إليها؛ فقد تكون في حاجة إلى إسعاف.
– ليس الآن فقد يرجع المجنون!
وأصر رجل في العمارة المقابلة على الطوار الآخر على طلب النجدة. وطلبها بالفعل، وحثها على الإسراع، وسُئل عن اسمه ورقم تليفونه، وهمس لزوجه بذلك، فحذرته العواقب فأغلق السكة. أما الزوجة فمضت تزحف على أربع، وتئن وتستغيث وقد بُح صوتها. وهرع نحوها عابر جديد فانحنى فوقها، وحاول مساعدتها على القيام وهو يتساءل عما حل بها. وعند ذاك ظهر الزوج مرة أخرى، وانقضَّ نحو المرأة رافعًا يده بالسكين. رآه الرجل الذي خف لمساعدة الزوجة ففزع من منظره، وفزع أكثر لما رأى السكين في يده. وتراجع مهرولًا وهو يهتف: اعقل .. ستُلقي بنفسك إلى الهلاك.
ولكن الجنون كان قد تسلط تمامًا على وعي الزوج، وأصدر قراره بالخراب الشامل. هَوَت يده بالسكين في الرقبة فغاصت فيها حتى مقبضها، منتزعة صرخة غليظة يائسة ذات نبرة عدمية، مصحوبة بحركة عنيفة نهائية لا أمل بعدها. ورغم أنه كان يلهث إلا أنه وقف في غاية من الهدوء والاستسلام والبلادة والزهد ملقيًا بكل شيء وراء ظهره. صوتت امرأة في النافذة. سقطت أخرى مغمًى عليها. اشتد توتر الأعصاب.
– لا بد من الاتصال بالنجدة.
– ما الفائدة؟ ستجيء عاجلًا أو آجلًا.
– لعله ما زال يوجد أمل في إنقاذها.
– هيهات! إنهم يحققون مع الشهود كما لو كانوا متهَمين. وربما وجدت نفسك متورطًا في خطأ لا يفطن إليه إلا رجال القانون.
– مهما يكن من أمر؛ فعلينا أن نعترف بأن موقفنا شاذ، وأنه لا يُصدَّق.
– عندي أمثلة بالعشرات تشهد بحماقة من يحشرون أنفسهم في مثل هذا الأمر.
– الحق أننا أخطأنا ولا عذر لنا.
– ما جدوى الكلام؟ ضاعت الست. وضاع الرجل، وضاع الأطفال. وربما لم نُعْفَ بعد ذلك كله من الاستجواب.
وقد حصل فتحققت مخاوفهم. وأدلى كلٌّ بشهادته منتحلًا لنفسه شتى المعاذير. فمن كان يظن أن خلافًا زوجيًّا يفضي إلى تلك النهاية؟ ومن يجرؤ على التعرض لقاتل تلبَّسته حال جنونية؟ وكلهم أنكر واقعة الاتصال بالنجدة، وأكثر من واحد قال: إنه القدر، وأن الحذر لا ينجي من القدر.
ويحكي الضابط الحادثة في مجالسه ويقول بمرارة: كان من الممكن إنقاذ المرأة والرجل، ولكن ذلك ما حدث دون زيادة!