آخِر الليل
غادر الجحيم عند منتصف الليل. جميع أنوار الشارع المستقيم والشوارع المتقاطعة تنصهر في باطنه، تنفجر في نافورة من الأضواء المتضاربة، وأعلى العمائر يتراقص. لا ملمح هداية يستدل به في خط سيره، ولا علامة يسترشد بها، فر الجميع وتلاشَوا. السيارات تَقلُّ بعض الشيء، الآدميون لا ينتهون. يترك نفسه لقدميه، كما اعتاد أن يعتمد عليهما في الملمَّات، ومن تَقُدْه قدماه فلا يضل. ثمة قصة عن حمار مرموق، ولكن ما هي؟ ها هو رجل قادم من الناحية الأخرى، سيرتطم به إذا سار في خط مستقيم، لكن القادم ينتبه إليه، ينحرف، لا شبرًا أو شبرين، ولكن إلى وسط الشارع كأنما يهرب. الجبان. تضاعف شعوره بقوته الكامنة ودار رأسه تيهًا، ولم يعد يقلق لنسيان قصة الحمار المرموق. واصل سيره يخوض الليل والأنوار، يعرض عن أبواب المحالِّ المغلقة، ويتجاهل المارَّة. ووجد نفسه أمام مطعم «الرائد»، فانطلق داخله حتى وقف أمام طاولة صاحبه الذي رمقه بنظرة حذرة: الدنيا صغيرة رغم ما يقال عنها، أنا قادم إليك من آخر الدنيا.
فهزَّ الرجل رأسه متعجبًا: لن أوصيك؛ فلست في حاجة إلى توصية وأنت العليم بالزبائن، وعارف طلبي؛ تشكيلة محترمة من الكباب والكفتة والطرب مع كافة السلطات والمخلَّلات، سخِّن العيش، ولا تنسَ الحلوى. هل يطول الانتظار؟
فقال المعلم: بل نُرسلها إلى البيت كالعادة.
– تُشكر.
ودس يده في جيبه، ولكن الآخر عاجله قائلًا: سنرسل الفاتورة مع الطعام.
فرفع يده تحيةً ثم ذهب. رجع إلى خوض الليل والأنوار وتجاهل المارَّة. وعاد يحاول تذكر قصة الحمار المرموق، حتى وجد نفسه أمام محل «الكبير» الحلواني المعروف، فاندفع حتى وقف أمام صاحبه: الدنيا صغيرة رغم ما يُقال عنها.
فقال الرجل باسمًا: وأنت قادم من آخر الدنيا.
– عمرك أطول من عمري.
– أعرف المطلوب؛ تشكيلة من البسبوسة والكنافة والبقلاوة بأنواعها المختلفة.
– كبير ابن كبير.
– وستسبقك إلى البيت مع الفاتورة.
فرفع يديه شكرًا ومضى إلى العالَم الآخذ في النعاس. واقتحمته ذكرى عزيزة جدًّا؛ ذكرى ذلك الرجل الذي صاحَبه يومًا مثل ظله. شد ما يستحق الرثاء بحكايته الغريبة! وخليق به أن يقول له: شد حيلك واضرب الدنيا بالمركوب؛ فهي دنيا لا تستأهل إلا ضرب النعال. هو ثالث ثلاثة أشقاء وأصغرهم. نعم أصغرهم يا عزيزي، فاشترك الآخران في تدليلك فترة من الزمن، ولو على سبيل المجاراة ومداراة الغيرة المتأصلة. وشاء الحظ، وهو كل شيء في الدنيا، أن يوفَّقا في المدارس؛ فيصير الأكبر وكيل وزارة للمالية والأوسط كبير مفتِّشي الري، على حين أبى الحظ أن تحظى بأي قدر من التوفيق، فحتى الخط لا تفكه. ولكن ما قيمة ذلك لشخص قُدِّر له أن يملك بالوراثة مائة فدان؟! وملكتها يا عزيزي، ورحت تستمتع بها، وتغدق في الوقت نفسه على مساكين الأصدقاء وما أكثرهم! فانهالت عليك الاتهامات لا أول لها ولا آخر، ورُميت فيما رميت به بالسفَه، واستصدروا عليك حكمًا بالحَجْر. سرقوك الشياطين، وقتَّروا عليك الرزق حتى انسدت في وجهك الطرق، ولم يكن عجيبًا بعد ذلك أن تقسم لتجلبنَّ عليهم الفضيحة والعار.
ووجد نفسه أمام حانة إيديال.
هشَّ وبشَّ، واقتحم ستارها المُسدَل ذا الخيوط الخرزية البيضاء. رأى الفُرسان في الركن الأيمن حول الكئوس. وجَموا لحظة وهم ينظرون، فقال ليُذهِب عنهم الروعة: لا ترتاعوا .. أخوكم من طين مثلكم!
فغلبهم الضحك، وقال أحدهم: نقدِّم لك كأسًا؟
فقال باستعلاء: لا أسمح لقذارة بالدخول في معدتي، ولكني سأهنِّئك قريبًا بوكالة الوزارة!
– ربنا يسمع منك!
وسأله آخر: أصحيح ما يُقال؟
– وما هو؟
– أنه عُرضت عليك وزارة الصناعة فرفضتها؟
فقال بإباء: لست ممن يبيعون أنفسهم عند أول طلب!
– حتمًا ستقبلها في ظروف أفضل؟
– وعند ذاك تهنأ البلد قبل أن أهنأ أنا.
– رَجُل ولا كل الرجال!
– أنتم مدعوُّون عندي لقضاء سهرة رأس السنة.
– وستكون ليلة ولا كل الليالي.
وغادر الحانة إلى عالم التيه. ومرة أخرى ذكر الرجل الذي صاحبه يومًا مثل ظله. من الجحود ألا يزوره ليعزِّيه بكلمتين. إن موقفك يوم عزمت على أن تلطِّخ غرورهم بالعار موقف لا يُنسى. خلعت البدلة يا بطل واستبدلت بها جلبابًا أزرق، واقتنيت عربة يد وسرحت ببطيخ في مجالهم الحيوي، وعلى مرأًى من الذاهب والجائي. وارتعدت منهم المفاصل، وساقوا عليك الأهل والأصدقاء، ولكنك صمدت صمود الأبطال، واضطُرُّوا في النهاية أن يتجاهلوك متظاهرين باللامبالاة، فتماديت في التحدي، وقضيت لياليك في غُرَز عرب المحمدي. يا فارس الفرسان وضارب الدنيا بنعلك، وحتى يتاح لي لقاؤك، تقبَّل على البعد إعجابي وتقديري. أما أنتِ يا نوسة، يا سليلة الشرف، وكنز الجمال والفتنة، فحسبنا تعذيبًا لأنفسنا. الدلال له حد، أو هذا ما ينبغي له. اخترتكِ من بين آلاف من كريمات الأسر العريقة، ولم أختركِ للأسباب التي يجري وراءها الجشعون؛ لا لأصلكِ الطيب، أو أخلاقكِ الكريمة، أو تعليمكِ الراقي، ولكني اخترتكِ من أجل الحقيقة السافرة؛ عينيكِ اللوزيتين السوداوين بكحلهما الرباني، وصدركِ الملهم، وخلفيتكِ التي تجلُّ عن الوصف. ما يجوز أن نفترق بعد اليوم دقيقةً واحدة يا زينة نساء الأرض. ضاع منا وقت طويل بلا طائل، وضياعه كفر بالنعمة. إني قادم يا نوسة، فارجعي إلى قسمتك ونصيبك؛ فإن جميع طلباتك مستجابة. سر المأساة كلها في كلمة؛ أنني وُلدت في عصر يتشرد فيه الملوك في بلاد الغربة كالمتسوِّلين بعد أن خلَّفوا عروشهم وراءهم بيد السُّوقة، ثم إنهم بعد ذلك لا يأمنون الغدر ولا ينجون من المؤامرات. بذلك تنبَّأ قارئ الكف، ولكنني لم آخذه مأخذ الجد في وقته، وتركت الزمن يجري كيف شاء حتى استحكم الحصار.
وقادته قدماه في تجواله إلى البنك الأهلي الغارق في نومه مُسدل الأجفان. لعله من الحكمة أن يسحب من حسابه بعض المال ليواجه نفقاته الكثيرة، ولكنه لا يستطيع أن ينتظر حتى الصباح. وخُيل إليه أنه أصبح على حال تمكِّنه من الاهتداء إلى منزله العامر، وأن هيئة الأشياء آخذة في التغير رويدًا رويدًا، وأن رأسه يتغير أيضًا؛ حتى المشي لم يعد مستساغًا إلى غير ما نهاية، وأن جسمه يطالب بحظه من الراحة. ألعن الساعات ساعةٌ تعرف فيها مَن تكون وكم يتبقى من الزمن، وتعرف أيضًا أن الوقت صيف، وأن الجو عدو الإنسان، وأنه يُرغم على التسليم دون شرط. ها هو النيل يجري في حال من الكآبة والاستسلام، بعد أن كُبِّل بالأغلال وأذعن لمشيئة البشر. وتحت الكوبري توجد أريكة من الصوان خالية، لم يشغلها صعلوك من صعاليك الليل بعد. تحسَّسها براحته، ومضى إلى شاطئ النيل، فعبر الحاجز الحجري ثم انحدر نحو الماء. خلع جلبابه مُبهَم اللون وعلَّقه بفرع شجرة، فبدا عاريًا كما ولدته أمه، وراح يغوص في الماء حتى غمر صدره ليزيل عن جسده الحرارة والعرق في تلك الساعة من الليل، وغنى بصوت كالخوار «البحر بيضحك ليه»، وغسل وجهه ورأسه الأصلع، ثم صعد راجعًا إلى الطوار آخذًا جلبابه بيده، وانتظر حتى جف جلده وارتدى الجلباب، واستلقى فوق الأريكة. وما لبث أن تلاشى في الغيب فتصاعد شخيره مثل نقيق الضفدع.