القتل والضحك
ما أكثر الراحلين! أُدهش وأتحير كلما طافت أشباحهم بذاكرتي، أسباب متنوعة، متضاربة وأحيانًا متناقضة، ولكنها تفضي إلى نهاية واحدة، ويطاردني حلم ثابت. يلح عليَّ في أوقات الفراغ، وما أطولها، حلم خليق بصاحب ثأر تخلَّى عن إنجاز مهمته. وهو لا يفارقني حتى في ذلك البيت الخلوي الذي صادفته ذات يوم ناشدًا النسيان ساعة أو بعض ساعة. أجلس إلى جانب المعلمة المتربعة فوق كنبة تركية مثل قاعدة تمثال — ضمن زوار — وأتفحص بعنايةٍ المكان ومعروضاته. أتصفح الوجوه البيضاء والسمراء والسوداء، البدينة والملفوفة والنحيلة، وهن جميعًا على أتم الاستعداد، على مألوف التقاليد بتقديم الشراب، فتهش المعلمة وتثني على الأصل الطيب قائلة: إن جل زبائنها يجيئون عادة من بين الصفوة. والشهادة لله أن المكان أنيق والأثاث كريم والنظافة متألقة ورائحة البخور مخدرة مقدسة. أما السيدة اللحيمة، فتُباهي قبل كل شيء بالأمن والأمان. وأظلني الحلم القديم بجناح يقطر دمًا، وبهمسات داعية للخير والفلاح. ووقع الاختيار على بيضاء نحيلة لا حول لها، فقلت للمعلمة «الحمراء»، أي ذات الفستان الأحمر: سرعان ما صرنا وحدنا في الحجرة الصغيرة الكاملة، فراحت تتجرد من فستانها وقميصها وتستلقي في تسليم وسلامة. اقتربت من الفراش بكامل ملابسي يقودني الحلم القديم. أعابث الخد والعُنق وأغوص في اللحظة الحاسمة. وبسرعةٍ أُطوِّق العنق الرقيق الطويل بقبضتي، وأشد عليه بكل ما أوتيت من قوة، غير متأثر بمقاومة يديها وعنف ركلات قدميها في الهواء، واستغاثة عينيها الجاحظتين البائسة الملهوفة على النجاة. ولم أفكَّ قبضتي حتى سكن كل شيء سكون الموت. وأقف وأنظر وقلبي يلهث في دقات متتابعة. وأرى الموت وهو يضع قناعه فوق الوجود المتهالك، ويرسم على صفحته النائية آي البعد واللامبالاة. وأفكر في النجاة مؤجلًا ما عداه. دون عجلة كيلا أثير التساؤل. ونظرت إلى نفسي في مرآة صغيرة في موضع عاكس للفراش والجثة. وأجهضت قشعريرة اقتحمتني بقوة غير حميدة. وقلت لنفسي مُعزيًا ومُشجعًا: أديتُ ما كان عليَّ أن أؤديه. ها أنا أمضي نحو الباب أفتحه، أتركه مواربًا زيادة في إبعاد الشُّبهات، وأسير متمهلًا نحو الباب الخارجي متجاهلًا المكان والحاضرين. وعندما أنتهى إلى الطريق النائم في ليل الصيف، أحث الخُطى مدفوعًا برغبة طارئة في الهرب نحو الشارع الرئيسي. وأبلُغ بنسيون ليدا وسط المدينة في الهزيع الأخير من الليل. أتناول حبة منوِّم لا أتعامل معه عادة إلا عند الشدائد. صحوت من نومي قبيل الظهر مشتعل الرأس بالكسل والذكريات. طلبت الإفطار ولكني حسوت الشاي وحده، وأنا أقول لنفسي: أنت من الآن فصاعدًا قاتلٌ جارٍ البحثُ عنه. تُرى هل أحل مشكلتي بقوة الإرادة أو أنني أسير من سيِّئ إلى أسوأ؟ وماذا عن حياتي الجديرة بالتأمل في هذه الساعة الفاصلة الدامية؟ فَرْدٌ أُعد للخيَّال، ولكنه يتعيش من السمسرة. معارفه بلا حصر ولا صديق له، يمقت فكرة الزواج والإنجاب. وذهبت إلى البلفدير بالهرم لأنفرد بنفسي وأفكر. جو لطيف في أواخر الربيع والجلوس يحلو في حديقة النخيل وأُصص القرنفل. غالبًا لم يعرفني أحد من الزبائن المعدودين. هناك لا يُسأل أحد عن هويته، ولكن حتمًا ستحصر التهمة في جريمة يود الجميع أن تندثر وتختفي. أرفع قدح البيرة وأتخيل ما حدث. المُعلمة تتساءل عما أخر البنت عن الرجوع إلى الصالة. تُرسل في طلبها. إما تَفَضح صرخة فزع الجريمة، وإما يُحبس الفزع في الصدور، ويُدفن السر في بئر. في الحال الأولى يَنفضُّ السامر في عجلة ولَهْوجة، ويفر كلٌّ إلى حال سبيله. في الحال الثانية يتواصل العمل في أمان. وفي الحالتين تفكِّر المعلمة كيف تخفي الجثة وتحمي نفسها وعملها من قبضة القانون. الجميع الآن يعملون على طمس أي أثر يمكن أن يؤدي إليَّ، يتمنون لي السلامة ضمانًا لسلامتهم وسمعتهم. أستطيع أن أُهددهم وهم لا يستطيعون. لكن هل تنجح المعلمة في إخفاء معالم الجريمة؟ ألا ينسرب إليها الخطر من منفذ لم يجرِ لحذرها في خاطر؟ تناولت غدائي في البلفدير مع مزيد من البيرة والنشوة. وعند هبوط العتمة مضيت في تاكسي إلى الشارع. وتفحصت البيت وأنا أمر به. وجدته مُسربلًا في هدوئه ورأيت النور يشع في نافذتين، وكأنما يواصل تقديم خدماته اليومية. ولم يكدر صفوي في الليلة التالية إلا أنني رأيت في نومي استغاثة الفتاة البائسة، وهي تغوص في الانكسار بين قبضتي. ولكن ذلك كان أهون ما توقعت. وتساءلت عن مُستقرها الأخير: أيكون قعر النيل أم مفازة في الصحراء، أم مدفنًا في باطن حديقة البيت الخلفية؟ سيشترك الجميع في جريمة الإخفاء بدافع الرغبة في النجاة والدفاع عن لُقمة العيش. وأفظع من ذلك يُنسى في وقت أقصر من ذلك. وأتصفح الجرائد بعناية دون العثور على ما يكدر الطمأنينة. رغم ذلك لم يغِب عن وجداني ما حصل دقيقة واحدة. إنه حي بكل تفاصيله هناك. وهو يزعجني أيما إزعاج؛ ولذلك تخطر لي أفكار جنونية لا بهدف التنفيذ ولكن حبًّا في استعراضها ليس إلَّا، كأن أبعث برسالة من مجهول إلى قسم الشرطة. ولكني وجدت وسيلة للترويح عن النفس مأمونة العواقب في مقهى «العائلات»؛ حيث تجمعني الأماسي ببعض الصحاب. رويت لهم تفاصيل الجريمة باعتبارها من بنات الخيال، واستطلعت تصوراتهم عما يمكن أن يحدث. أجمعوا على أن مصلحة الجميع تقتضي إخفاء آثارها، غير أن أحدهم قال: ويُعثر على الجثة ولو بعد حين، وربما بمصادفة لا تجري على بال، ثم يُنتزع القاتل من مكمنه الآمن.
ضايقني ذلك بطبيعة الحال، وخِفتُ أن يتلاشى الأمل، بارتكاب الجريمة، في حياة أشد معاناة. وما الحيلة وكلما نظر نحوي رجل توهمت أنه كان هنالك تلك الليلة؟ أو كلما سمعت وَقْع قدم ورائي تصورت أن أحدهم يتبعني؟! وضاعف صاحبي من كربي عندما قال لي: أتذكر جريمتك الخيالية؟ .. حكيتها لصديق مخرج تلفزيون، فأثارت خياله، وقرر أن يجعل منها نواة فيلمه القادم.
ضايقني ذلك، وآيسني بصفة قاطعة من النسيان.
وضايقني أكثر أن جاء المخرج مع صاحبي ذات مساء للمناقشة. قال: أنت صاحب الفكرة وتستحق مكافأة رمزية، هل تستطيع أن تصيغها في قصة؟
فحركت رأسي نفيًا فقال: طبعًا هي بصورتها الراهنة مستحيلة.
– مستحيلة؟!
– لا بد من باعث على الجريمة، الحب والخيانة مثلًا، أو يكون القاتل مهزوز العقل، فيتصور أنه بقتلِ امرأة من هذا النوع، فهو يحارب الرذيلة مثلًا.
فندَّت عن منكبي حركة استهانة فقال: لا جريمة بلا باعث، ولا بد أن ينال القاتل جزاءه أيضًا.
فقلت وأنا أداري غيظي: هذا قانون الجرائم الخيالية، أعني الروائية.
– العمل يجب أن يكون معقولًا وأخلاقيًّا.
فندت عن منكبي حركة الاستهانة، فقال ضاحكًا: يبدو أنك لا تصلُح أن تكون مؤلفًا.
فقلت ساخرًا: ولكني أصلح أن أكون قاتلًا.
فقهقه ضاحكًا، وتفرس في وجهي بمودة، وقال: على كل حال فالفكرة تعد بقصة جيدة إذا اهتدينا إلى باعث مثير ومقنع، واقترحنا خطة محكمة؛ للكشف عن الجثة والقبض على القاتل.
فتساءلت بكآبة باطنة: مثل ماذا؟
الخطة المحكمة لا تُرتجل، ولكنها تُسبَق بتأمل وتفكير ومراجعة الأفلام المشابهة، غير أنه على سبيل المثال يمكن أن نتصور للضحية عاشقًا مخلصًا يحفزه اختفاؤها للعمل، أو أن تُكتشف الجثة بالمصادفة عن طريق بستاني الحديقة أو صياد في النيل، الفروض هنا لا حصر لها.
انتهت المناقشة وانتهى اللقاء، فسقطتُ في دوامة الظنون، وغلبني ميل جامح لملاحظة الناس والأشياء. أسير متمهلًا رغم الزحام أو أجلس قريبًا من الطريق لأتصفح الوجوه والحركات ووسائل المواصلات والسِّلَع وواجهات المحالِّ والمباني. أتصفحها بعناية عالِم مُكلف بوصفها وتحليلها.
ووجدتُني وجهًا لوجه مع المعلمة في بقَّالة السعادة بشارع البستان. رغم السيادة والخبرة والدهاء شحب لونها وانهزمت أمام خوف جاثم. تجاهلتْني فخانها الاضطراب غير أنه لم يلمس هزيمتها سواي. ولما انتهينا من التسويق وقفنا أمام الدكان متقاربين، فقالت همسًا: ها أنت حقيقة لا خيال.
نظرت نحوها كالمُنكر. فتساءلتْ: لِمَ فعلتَ فعلتك المنكرة؟
تساءلت كالداهش: حضرتك تكلِّمينني؟
فمضت عني وهي تقول: منك لله!
كدت أضحك، وغمرني إحساس بالأمان، بل فكرت في تكرار التجربة في بيت جديد. غير أنه كان إحساسًا عابرًا. وارتددت إلى الملاحظة والغوص في صميم الأشياء. وفي أوقات الفراغ أتذكر قول المخرج: «الفروض لا حصر لها.» هذه هي الحقيقة الغائبة عن ملاحظتي، ولكنها تتضارب في عقل أو أكثر ليلَ نهار. يوجد فاعل أصلي هو أنا، وشركاء هم المعلمة ومن ساعدها على إخفاء الجريمة، وتوجد الضحية أيضًا. لا يمكن أن تبقى هذه الأشلاء مبعثرة إلى الأبد. وغير محتمل أن أظل منفردًا بنفسي بلا نهاية. وقمت بزيارة غير متوقعة للمخرج في مكتبه. استقبلني بابتسامة عريضة قائلًا: حُلت المشكلات كلها تقريبًا. فأعلنت رضاي متمتمًا: مبارك!
– وجدنا الخطة المحكمة، اكتُشفت الجثة وقُبض على المعلمة، وقرأ القاتل قصته خبرًا في الجرائد فقرر الانتحار، تُرى ما رأيك في أفضل وسيلة للانتحار؟
فاقشعر بدني وتساءلت: ماذا تقصد؟
– نحن أمام عدة اختيارات، ضع نفسك في مكانه، فماذا كنت تختار؟
فازدردت ريقي وقلت: أخفها ألمًا!
فقال ضاحكًا: أنت تُفكِّر في نفسك، ولكني أفكر في أمرين، أولًا: أشدهما تأثيرًا في الجمهور. وثانيًا: أصلَحُهما من الناحية الجمالية للكاميرا!
وقلت لنفسي: يا له من رجل سعيد!