مَمرُّ البُستان
بعد تردد طويل أجمعت على الذهاب.
نشدت الستر في الليل، وغُصت في عطفة السنبلة المستكنَّة تحت أمواج الظلام. عرفت طريقي بضوء الذاكرة الخفي، هاتِك الظلمة ومرشِد القدم. وتسللت من الباب الحديدي الموارب، ففغمتني رائحة بخور أليفة. ومن حسن الحظ أنني لم أجد في الدار أحدًا من الزوار، فطالعتني وحدها متربِّعة على أريكتها الفارسية، في ثوب مُزخرف بألوان شتى هادئة على هيئة أَهِلة وزهور، مرسوم بحنايا جسم مدمج فصيح، وجفنين شبه مُسدَلين، على أنامل تعبث بأوراق اللعب، لا تمل في وحدتها من استطلاع الغيب. لم ترفع عينيها نحوي، كأنما عرفَت القادم من وقع خُطاه، وكأنما تعمدت تجاهله. ولفرط شعوري بالإثم لم أجرؤ على مبادءتها بالتحية، فجلست على أقرب كرسي إليها لائذًا بالصمت. واصلتْ قراءة الورق، ومضيتُ أفكر في طريقة لفتح الحديث بعد أن تبخر من رأسي ما كنت أعددته تأثرًا بجو الحجرة المفعم بالذكريات، وبفتنة الإغراء الماثلة في تراخٍ. وتظاهرت بالاهتمام كأنما كاشفها الورق بحقيقة غير عادية، فهمست: فِعْل آخر يناطح عناده!
وندت عنها آهة مليحة، وتمتمت تُكمل الرؤيا: سيلهب ظهرَه سوطٌ مُحملة أطرافه بالرصاص!
فقلت في تسليم مجيبًا على تعريضها بي: ما مضى قد مضى، وعليَّ أن أنظر إلى الغد.
وكأنها بوغتَت بوجودي، فنظرت نحوي بدهشة وهتفت ساخرة: دستور يا أسيادي!
فوضعت مظروفًا متوسطًا بين يديها، وقلت: جئت لأسدد ديوني، وأنظر إلى الغد.
فقالت تُخاطب الورق: جاء ليسدِّد ديونه وينظر إلى الغد.
فقلت برجاء: يجمعنا العيش والملح، وأنتِ سيدة العارفين!
فقالت بجدية لأول مرة: هذه أمور تقع كل يوم.
فقلت بحرارة: لم يعد الزمن يأذن إلا بمطلب واحد.
فأجابت بهدوء: الأمان.
فقلت متشجعًا: الأمان، وكلما شاورت في الأمر صاحبًا أشار إلى رجل واحد!
فقالت باسمةً: إنه مَن يشار إليه في هذه الأيام.
فقلت بأسًى: ولم أجد مَن أستشفع به إليه؛ لِما عُرف عنه من كراهية للوساطة، ولكنهم قالوا لي إنَّ كلمتكِ أنتِ لا يمكن أن تخيب عند أي عظيم.
فقالت في مباهاة: هذا حق لو أنه كان من أصحابي.
فتنهَّدتْ، ولم أدرِ ما أقول، فقالت في ملاطفة: اعرف طريقك بنفسك.
فندت عني ضحكة ساخرة، وقلت: ها أنتِ تهزلين!
لو يجيء مرة واحدة لملكته كالآخرين، ولكن أغلب رواد حانة القمر من أصحابي إلا هو.
فقلت في حسرة: آهٍ لو تقع هذه المعجزة!
وتبادلنا النظر مليًّا. وفاضت عيناها بحيوية طارئة، وضحكتْ، ثم سألتني: ما رأيك؟
فرمقتها بنظرة متسائلة، فقالت: أن تقوم أنت بالمهمة.
– أي مهمة؟
– المجيء به إلى هنا.
– ولكن كيف؟
فقالت بجدية: إنه يغادر حانة القمر عند منتصف الليل، ثم يخترق ممر البستان إلى الميدان حيث تنتظره سيارته؛ فالممر هو أنسب مكان للقائه.
– ولكنه أبعد ما يكون عن معرفتي!
فأغرقتْ في الضحك، وقالت: تقترب منه بأدب أولاد الناس الطيبين، وتقول هامسًا: «أتريد كأسًا جميلًا؟ بيت نظيف مكنون!»
فقطبتُ غاضبًا من سخريتها، وأشَحْت عنها بوجهي، فسألتني: ألا يعجبك اقتراحي؟
فقلت بحدة: اسخري ما شئتِ من ورطتي!
فقالت بجدية: إني جادة، إن كان الأمان يهمك حقًّا.
فصحتُ متسخطًا: كيف تتصورين أن أفعل بنفسي ذلك؟!
– ما هي إلا مغامرة عابرة يعقبها تحقيق المراد.
فتساءلتُ بازدراء: أليس لديكِ الكثيرون ممن يحترفون ذلك؟
فقالت بإباء: لست في حاجة إلى أحدٍ منهم.
– وهل أكون أنا أول مَن تختارين؟!
– ما هي إلا مغامرة عابرة، ألا تفهم؟
– كلَّا، لا أفهم.
– بل عليك أن تفهم، ولا بأس أن تختار موضعًا في الممر بعيدًا عن نور المصباح لتتشجع بالظلام.
– وكرامتي؟
– إني لا أدعوك إلى الاحتراف، ما هي إلا حيلة لمرة واحدة، ولك أن ترفضها إن يكن لديك سبيل آخر.
لدى عودتي لم أرَها ما أمامي من شدة انفعالي. لم يداخلني شك في قوة سيطرة المرأة على الرجال، ولكني رفضت السقوط بتصميم غاضب شرس، حتى خُيل إليَّ أني لم أعد أكترث للأمان، مرفأ الإنسان الأخير وهو على الحافة. وكأنما هان عليَّ أن ألقى غول الغلاء وشظف العيش والمهانة والفترة الحرجة من العمر، واشتعلت في رأسي حرب بلا هوادة ولا توقُّف، ورحت أجوب المقاهي والحانات في ليلٍ لا يريد أن يتزحزح. وقُبيل منتصف الليل بقليل وجدتني واقفًا في ممر البستان عند أقصى موقع عن نور المصباح. ماذا جاء بي؟ لعلي أردت أن أُلقي نظرة من قُرْب على ذلك الرجل الذي لم أرَ إلا صورته في الصحف في بعض المناسبات. وكأنه كان يتحرك بانضباط فلكي؛ فعند منتصف الليل تمامًا أهلَّ من ناحية حانة القمر بقامته المديدة يمزق السكون بوَقْع خطاه الثقيلة. خفق قلبي وتهاويتُ من عليائي. ولما حاذاني في مسيره تقدمت منه خطوة، وسرعان ما تشتت عقلي في مخاوف شتى، فكدتُ أرى الأصابع تشير إليَّ. عند ذلك امَّحت ذاكرتي وشلَّ لساني. وانتبه هو إليَّ فضرب بشبا عصاه الأرض محتجًّا على اقترابي المفاجئ، فتراجعت ومضى في سبيله.
ولم يدم ذلك طويلًا؛ ففي أثناء النهار لم أُعفِ نفسي من اتهام. لماذا ذهبت إلى ممر البستان؟ لِمَ اقتربت من الرجل خطوة؟ وهل منعني حقًّا من الكلام إلا تشتت عقلي ووقوعه فريسة للمخاوف؟ الحقيقة أنني أخاف الناس. هم الأشباح التي تطاردني. تُرى هل ينفعوني غدًا لو قاسيت شظف العيش والهوان؟! وانسقت بقوة إلى مطاردة الأشياء الغريبة عن ذاتي، ولم أُبالِ أن أتخذ موقفي في ممر البستان قبيل منتصف الليل. وانتظرت في تصميم وحيرة معًا حتى أقبل الرجل نحوي في طريقه إلى الميدان، واقتربت منه وأنا أهمس: لديَّ كأس ونديم جميل وبيت آمن!
والتفت نحوي التفاتةٌ سريعة. كان الظلام يفصل بيننا، ولكنه أحاط ولا شك بهيئتي.
وسرعان ما أشاح عني بوجهه، وقال وهو يمضي بنبرة غاضبة: عليك اللعنة.
احترقتُ حياءً وخِزيًا فلم يغمض لي جفن. لقد بعتُ أعز ما أملك بلا ثمن. رضيت بالهوان ولكنه أعرض عني بكل ازدراء. ومع الليل ذهبت إلى عطفة السنبلة، وما إن رأتني مقبلًا على مجلسها حتى هتفت: الخيبة مسطورة على وجهك!
فقلت وأنا أنحط فوق الكرسي يائسًا: لنبحث عن وسيلة أخرى.
وحكيت لها ما حصل، فقهقهتْ ساخرة، وقالت: يا لكَ من بغل! تتعرض لجنابه بهذا المظهر الوقور الأنيق؟!
فسألتها حانقًا: وماذا كان بوسعي أن أفعل؟
فاسترسلتْ في الضحك، ثم قالت: لعله ظنك شخصًا من خصومه يروم الإيقاع به.
– على أي حال، فإن ذلك يؤكد وجوب البحث عن سبيل آخر.
فقالت بجدية: لا سبيل لك غير ذلك؛ فلتصحح التجربة.
فتفرست في وجهها الجميل غير مصدق، فقالت: البس الرداء المناسب لغايتك.
رجعت غاضبًا عليها، وغاضبًا على نفسي، غاضبًا على رغبتي المُلحَّة في الأمان. ومضت أيام وأنا مستغرق في حوار مجنون مع ذاتي، حتى وجدتني مرتديًا جلبابًا وطاقية وحذاءً باليًا، أنتظر في ذات الموقع بممر البستان قبيل منتصف الليل. ومن شدة إحساسي بالهوان هان عليَّ فلم أعد أُبالي به. ولما أزفت الساعة أقبل بقامته المديدة، فتوثبت للعمل حتى حاذاني، فدنوت منه وأنا أقول: عندي ما يسر العين وتشتهيه النفس.
فلوَّح بعصاه حتى تقهقرت مذعورًا، وقال بامتعاض وسخرية: ماذا قلت يا صاحب السمو؟!
ورجعت إلى داري وأنا أُلملم نفسي المبعثرة، وأغوص في أعماق خيبة جامعة. وتضاعف سخطي ولكن تضاعف تصميمي أيضًا. وذهبت إلى السيدة وقصصت عليها قصتي متحديًا، غير أنها هزت رأسها في أسف وقالت: حقًّا إنك لبغل، وفي حاجة إلى مَن يسندك لدى كل خطوة تخطوها.
فقلت ثائرًا: اقتربت منه لا فرق بيني وبين أحقر صعلوك.
فتساءلت ساخرة: وصوتك؟
– صوتي؟
– خاطبته يا حضرة بالصوت الذي اعتدت أن تخاطب به مرءوسيك؟!
فقلت بارتياب: لا أظن.
فقاطعتني: لا تُبدد الوقت، إني خبيرة بهذه الشئون!
وغبتُ أيامًا قضيتها في التفكير والحزن والتدريب دون أدنى تفكير في التراجع. وكيف أتراجع بعد أن بعت كل شيء بلا ثمن؟ ولما رجعت إلى موقعي بممر البستان كان الصبر قد أنهكني، وكذلك القلق والأسى. ولما حانت اللحظة المرتقبة تقدمت بخفَّة وحنيت رأسي بذل، وقلت بانكسار ولكن بمرارة لم أستطع التخلص منها: عندي شيء طيب، في مكان محترم وآمن.
فمضى دون اكتراث بي. ولما هممت بإسماعه صوتي من جديد نهرني قائلًا: الأجدر أن تدعو الناس إلى المآتم!
وسرعان ما فطنتُ إلى زلتي، بل الحق أنني حنقت على نفسي لغلبة المرارة على صوتي، واعترفت بكل شيء للسيدة لأتقي سخريتها، وقلت بتسليم: لن أعود إلى المحاولة.
فتساءلت في استنكار: أتيئَس بعد أن لم يبقَ إلا قيراط من الصبر؟
فنفخت قائلًا: لا نهاية للأخطاء، وقد مللت!
فقالت لي بنبرة مشجعة متجنبة أي إثارة من السخرية: فكِّر قليلًا يا صاحبي القديم، كيف يمكن أن تستسلم لليأس وأنت على قيد خطوة من النجاح؟ إنك متوهم أنك صبرت بما فيه الكفاية، ولكن ما قيمة الصبر بغير الرضا؟ وقد أبديت إصرارًا لا بأس به؛ إذ من كان يتصور أنك تُقدم على ما أقدمت عليه؟ ولا تنسَ في النهاية أنك تسعى إلى اصطياد رجل ولا كل الرجال.
فقلت بريبة: يخيَّل إليَّ أنه ليس من أهل ذلك؟
فقالت ضاحكة: بل هو ذلك نفسه!
ثم مواصلةً بجدية: ولولا ثقتي من ذلك ما عرَّضتك للتجربة، وأنا لست ممن يخونون العيش والملح.
وتركتها بروح منتعشة، وتفتَّح الورد في صدري من جديد، فصبرت أيامًا ولا هَم لي في الحياة إلا ممر البستان، حتى وجدتني في الموقع أنتظر. ورأيته مقبلًا بقامته المديدة، فالتزمت موقفي حتى مرَّ .. ثم تبعته بخشوع وأنا أهمس: لا تدَعْ فرصة العمر تفوتك!
فلم يلتفت نحوي ومضى. فتبعته بعِناد وأنا أهمس: بيت آمن ويليق بجنابك.
وإذا به يسألني فجأة: أين؟
فقلت بسرور لم أجرِّبه من قبل في حياتي كلها: عطفة السنبلة، البيت الثالث إلى يمين الداخل.
وكنا اقتربنا من الميدان فنادى سائق سيارته، ولما جاء مهرولًا، صاح به آمرًا: اقبض على هذا الرجل ونادِ الشرطي!
فوضعت راحتي على فم السائق باستماتة، وقلت وأنا أنتفض كالمصعوق: كلَّا .. انتظر .. لست منهم .. أنا رجل محترم.
فأمره بإشارة أن يدعني وشأني، وتساءل متهكمًا: محترم؟
فقلت وما زلت أنتفض كالمصعوق: إليك بطاقتي.
وتناولها وراح ينظر فيها ثم تساءل: كأنك محتال.
فاندفعت أقص عليه قصتي بصراحة كاملة، مذ اجتاحني نشدان الأمان، فأزاح بقية مطالب الحياة عن كاهلي. وصمت مليًّا وهو يتفحصني على ضوء الشعاع الهابط من مصباح في الميدان، ثم قال ببرود: إياك أن تريني وجهك مرة أخرى!
•••
وعقب أيام لم أحصِها جررت قدمي إلى عطفة السنبلة، وكأنما قد طعنت في العمر أعوامًا مديدة. ولما شارفت مدخل الدار برزت من تلافيف الظلام عجوز، واعترضت سبيلي قائلة بصوتها الهرم: السيدة معتكفة.
فعرفت صاحبة الصوت وتساءلت: ماذا وراءك يا أم بركة؟
فعرفت بدورها صوتي، وقالت: السيدة تُطالبك بتجنب الزيارة حتى تُرسل في طلبك.
فخفق قلبي وتساءلت: هل تنتظر السيدة زائرًا مهمًّا؟
فقالت أم بركة: لا عِلْم لي بشيء، اذهب مصحوبًا بالسلامة.
ولم أجد مفرًّا من الرجوع. وتكشفت لي سُحب الغموض عن أمل. ما كانت تتخذ هذا القرار لو لم تكن تنتظر زيارة هامة. وما معنى قولها «حتى تُرسل في طلبك» لو لم يكن للأمر علاقة بمشكلتي؟ أسفر الظلام عن أمل، وخفق قلبي بالرؤى، ولاح لي الأمان بوجهه المشرق وراء غبش الظلام. لم يبقَ إلا التحلي بالصبر. وها هو التلهُّف يحيل الصبر عذابًا حقيقيًّا. ومرت الأيام، وعذاب الصبر يتفجر ويزداد افتراسًا. همي الوحيد هو الانتظار، وتساؤلي المتردد هو: متى يجيء الرسول؟!