النسيان
اشتعل خيالي فانفجرت موجاته في جميع الأرجاء، ولكنه لم يلمَّ بالمدينة اللانهائية. إنها تربض في أي مجال من مجالات البصر، كائنًا عملاقًا بلا حدود ولا تناسق، ملوِّحة بآلاف الأذرع والسواعد والأصابع، تستوي فوقها آلاف مؤلَّفة من الأبنية الشاهقة المجللة بطابع العصر المتعجرف التيَّاه، وأخرى متهرِّئة حال لونها في قبضة الزمن الجارف، وثالثة آيلة للسقوط يلتصق بها سُكَّانها في استسلام وإصرار، وفي فِجاجها يتلاطم الناس في صخب، ويتلاقون في غفلة وضوضاء، وتتابع الباصات والسيارات والكارو والجِمال وعربات اليد عازفة أصواتها المتضاربة. والحوادث كثيرة، والأفراح صارخة، والجنازات زاعقة، والمشاجرات دامية، والعناق حارٌّ، وحناجر تنادي على سِلَع من الشرق والغرب والجنوب والشمال، ويختلط الأنين الشاكي بشهقة الحمد والرضا.
مأوى المهاجرين من الكفر مثل طوق نجاة في البحر العاصف. يستقبلني شيخ القبيلة المهاجرة قائلًا: ابن جديد، أهلًا بك في أسرتك.
فألثم يده وأقول: شكرًا لك يا عمِّي.
ووجدت مقعدي في المعهد ينتظر أيضًا. وكنت عند حسن الظن فتُوِّجتِ الرحلة بالنجاح، وأُلحقتُ بالعمل في مصلحة المساحة، وأنا أقول «مَن جَدَّ وَجَدَ». ومن العمل تسللت إلى المقاهي والأصحاب، ولكن بحذر المتقشِّفين. وراودتني أحلام القلوب الصائمة. وفي مأوانا ورود متفتِّحة. ودارت العجلة بالأصباح والأصائل والأماسي. وحدث شيء مألوف؛ حلم عابر يُذكر أو يُغفل، ولكن يبدو أنه ومض في عيني ومضة لم تغب عن بصَر شيخنا الثاقب، فقال لي وهو متربِّع على أريكته يناجي حبات مِسبحته: في نفسك شيء يدور.
فقلت باسمًا: جاءني في المنام شخص، وحذرني من النسيان.
فتفكر مليًّا ثم قال باسمًا أيضًا: إنه يذكِّرك بالشباب!
وفطنت إلى ما يلمح إليه. وفي مهجرنا لا تَحول الصعاب بين المرء وبين ما يشتهي قلبُه. قبيلة متآخية متراحمة. والحجرة تتَّسع لزوجين بمثل ما تتسع لفرد. والعروس جاهزة منتظرة، وثمة تسهيلات جمة ومساعدات ميسرة. ويقول الشيخ: لنلتزم بالسُّنة الشريفة، وعلى بركة الله.
وتُطلى الحجرة، وتؤثَّث بالجديد المناسب، وتستقبل عروسَين في تلك المدينة الهائلة التي لا تبالي بأحد. والحياة في مهجرنا تقوم على التضامن، وتتفتَّق عن حِيَل كثيرة للتغلُّب على عسرة الأيام. وأقول لنفسي وأنا في غاية السعادة: طريقنا عبَّدَته أقدام أسلافٍ كرام.
وانهمكت في الحب والزواج والأبوة والعمل. وجعلت أقول للشيخ: الفضل لله ولك.
فيقول بامتنان: بيتُنا مثل سفينة نوح في هذا الطوفان الذي يحدِّق بنا.
فقلت له: عمي، الناس تحسدنا وتغبطنا.
– ويزداد ذلك كلما أمعنَّا في الزمن.
وانتبهت ذات ليلة على الحُلم يعود من جديد. ويحذرني ذلك الرجل من النسيان. رأيته كما رأيته في المرة الأولى أو هكذا خُيِّل إليَّ؛ الرجل هو الرجل، والكلام هو الكلام. واستمع الشيخ إليَّ باهتمام ثم قال: عوَّدتنا أن تحلم بهواجسك.
فقلت: قلبي مطمئنٌّ وخالٍ من الهواجس.
– حقًّا؟! ألا تفكر في مستقبل أسرتك؟
فقلت كالمحتج: سعيد في هذا الزمان من يستعدُّ ليومه.
– وماذا تفعل غدًا إذا ألحَّت عليك المطالب؟
فلُذْت بالصمت في كآبة، فقال: افعل كما يفعل كثيرون، استعِنْ بعمل إضافي.
ويسَّر لي بنفوذه التدريب في مركز سباكة. وبرعت في ذلك براعة محمودة، ورحت أستثمر خبرتي الجديدة مساءً بعد فراغي من عملي الرسمي، وتوفَّرت أرباحي فتراكمت مدَّخراتي. وتابَع الشيخ نجاحي بارتياح وهو يقول: هذا خير من الانحراف، وزماننا يطالبنا بأن نكون كالقطط بسبعة أرواح.
ودبَّ في أوصالي نشاط باهر، وانتشيت بحب الحياة، وتغافلت عن فوضاها الضاربة في كل موضع؛ وأغراني ذلك باكتراء شقة غُرمت فيها خُلوًّا لا يُستهان به. وودَّعني عمِّي في شيء من الفتور وهو يقول: هكذا تجري الأمور.
وآمنت بأنه لا طمأنينة لحي بغير العمل والمال، وبأن أسعد ما نناله في دنيانا مستقبَل مأمون. وحافظت على اعتدالي بقدر الإمكان، فلم يجدَّ جديد في حياتي سوى التدخين واللحوم الدسمة والحلوى الشرقية. وتخرَّج أبنائي وبناتي في مدارس اللغات، وأقبل مع الأيام كلُّ شيء حسن. وفي غمرة حياتي العذبة انتبهت ذات ليلة على الحلم يعود للمرة الثالثة، ويحذرني الرجل من النسيان كعادته. رأيته كما رأيته في المرتين السابقتين، أو هكذا خُيِّل إليَّ؛ الرجل هو الرجل، والكلام هو الكلام. وعجبت ولم أفلح في الاستخفاف به. ولم يكن الشيخ قريبًا لأحاوره. وكنت قد انقطعت عنه فترةً غير قصيرة لانهماكي في العمل، فكرهت أن أزوره زيارة غير بريئة لمنفعة. وساورني قلق تسلَّل لسلوكي، فعانت منه زوجتي، وقالت لي: خير من ربنا وشر من أنفسنا!
فقلت باستهانة: ما هو إلا حلم على أي حال!
فقالت مصدقة: ولا أراك تنسى شيئًا.
ولكني لم أستطع التملص من قبضة الحلم العجيب. ظل يطاردني ويشغل بالي، وتحت تأثيره اندفعت من الطوار إلى الطريق لأعبره دون انتباه لحركة المرور. فجأة وبلا انتباه، وانقضَّت عليَّ سيارة من قريب، فلم تستطع أن تتحاماني أو تفرمل قبل أن تصدمني وتطيح بي كالكرة. فقدت الوعي تمامًا، حتى استيقظت في المستشفى على حال لا يُرجى معها أمل.
•••
ومن منطلق العِبرة والأسى يحدِّثنا الشيخ فيقول: نُقل إلى المستشفى تُظلُّه سحابة الموت السوداء، فأُجريت له جراحة خطيرة، وثبت من التحقيق وشهادة الشهود بأنه اندفع إلى الطريق فجأة وكأنما يقصد الانتحار، وبأنْ لا مؤاخذة ألبتة على السائق. وجلست جنب فراشه وقد علمت بأنه لا أمل في نجاته، وزارنا صاحب السيارة مواسيًا ومتطوعًا لمدِّ يد المساعدة، فمكث قليلًا ثم ذهب. وتحرَّك جَفنَا ابن أخي، وتجلَّت ومضة ضعيفة في عينَيه، فأدنيت أذني من فيه، وسمعته يهمس: إنه الرجل، هو هو صاحب الحلم.
وكانت آخر كلمات ندَّت عن شفتَيه.