شارع ألف صِنف
شارع ألف صنف، للأحلام والحقائق، مطهى الرغبة في سخائها وتنوعاتها، وتلخيص مركَّز معجز لشهوة الحياة. تقوم على جانبيه ذوي الطوارين العريضين المسقوفين أشياء ناطقة بألف لسان. حوانيت متلاصقة ومتراصة مُبهرة بأناقتها، ثمينة بمعادنها؛ تخطف الأبصار بشتى الألوان، فيجد كل عضو في الجسم البشري وكل نزعة في الجهاز العصبي ما يشتهيه من أغذية متعددة الجنسية ومرطبات وخمور وملابس وأدوات منزلية، وروائح عطرية، وأدوية ومقويات ولعب أطفال، وسيارات وأجهزة طبية وكهربائية ووسائط للاستهلاك والإنتاج، يضطرب بينها تيَّار من الخلق لا ينقطع من الجنسين وكافة الأعمار، سوقًا لمن يشتري، ومرتادًا لمن يتفرج. وفي وسط جناحه الأيمن يقع مقهى «عكاظ»، مقهًى وخمارة ومطعم، ولكنه يختص برجال الأعمال وعقد الصفقات، وندر أن يطوف به زبون عادي، بالإضافة إلى القوَّادين والنصَّابين وبنات الهوى ممن لا تتم صورة الوجود إلا بهم. وفي الأدوار العليا من العمائر توجد فنادق وبنسيونات، يأوي إليها عادةً رجال الأعمال غير القاهريين، وفي رحاب حصانتهم ينعم أهل الهوى بمنازل للدعارة شبه آمنة. من أجل ذلك جرى تاريخه منذ قديم في سلام نسبي، فلم ترد أخباره في صفحات الحوادث شأن غيره من الأماكن التي تلاحقها عين الشرطة الساهرة. ومن أجل ذلك أيضًا لفت مجيء ذلك الزبون الطارئ الأنظار، وبخاصة وأنه لم يزُر مقهى عكاظ زيارة عابرة لتناول فنجان قهوة أو كأس كونياك أو طبق مكرونة. كلا، لقد اختار مجلسًا في عمق المقهى غير بعيد من البوفيه. يحتله من الضحى حتى منتصف النهار، ثم يعود إليه من الخامسة حتى وقت التشطيب. ذو مظهر متواضع، ببدلة اقتصادية، ووجه أربعيني ناطق بأصله الشعبي، فلا هو من رجال الأعمال، ولا من أصحاب الصفقات، ولا من رواد الفُرجة والشراء، ولا من طلاب اللهو. يأمر بفنجان قهوة، ويجلس هادئًا مبرأً من سمات الانتظار والتململ، لا يسعى لمعرفة أحد ولا يشجع أحدًا على معرفته، كأنه غائب تمامًا عما يدور حوله. وتلك واقعة تمر، فلا تستحق الذكر في أي مقهًى إلا مقهى عكاظ الذي لم يألف إلا أعضاءه المعروفين. لذلك اكتسب شهرة منذ الأسبوع الأول لظهوره. لفت الأنظار وأثار جملة من التساؤلات. وتطوع قواد لاستخراجه من قوقعته فجلس فيما يليه وسأله عن الساعة، ولكن الرجل أشار صامتًا إلى ساعة المقهى المثبتة في الجدار فوق الميزان ولم ينبس بكلمة. وضاق به الجميع، واعتبروا حضوره غزوًا لحصنهم الحصين. ومر وقت قبل أن يُعرف اسمه بمحض الصدفة؛ إذ رن جرس التليفون، فرفع نادلٌ السماعةَ ثم نادى: السيد منصور زيان.
فقام الرجل إلى التليفون تُحدق به الآذان.
– آلو.
– …
– هات ما عندك.
– …
وطالت مكالمة المتحدث، وأخيرًا قال السيد منصور: طظ.
وأرجع السماعة إلى موضعها، وعاد إلى مجلسه دون أن يشفي غليل أحد، فازداد غموضًا وازدادوا ضجرًا. ولم يجدوا بُدًّا في النهاية من إهماله. وشُغلوا عنه بحادث يعتبر غاية في الاستثناء في هذا الشارع، وهو كبس الشرطة لبنسيون وسَوْق من وُجِدَ فيه من نساء ورجال إلى القسم. تبودلت نظرات حائرة، ونوقش الموضوع على أوسع نطاق، كيف حدث ما حدث مما يُعَدُّ خرقًا للتقاليد المرعيَّة؟! ونظر قوادٌ ناحية منصور، وهمس: جاء النحس مع النحس.
ولم يكترث أحد لقوله. ولكن لم يكد يمر شهر على الحادث حتى استُدعي كبير من رجال الأعمال بتهمة التهرُّب من ضرائبه المستحقَّة، فاهتزت الأفئدة وانتشر الذعر مثل صرخة بِلَيلٍ. ماذا يحدث في الدنيا؟ ليس اليوم كالأمس. ثمة نذير شرٍّ يزحف. ولغير ما سبب منطقيٍّ تضاعف الضيق بالسيد منصور، باعتباره شؤمًا كما قال القواد ذات يوم. وعندما ضُبطت سلع مُهربة من الجمرك، وقُبض على أصحابها انفجر الذعر، وعقد الرجال اجتماعًا للتشاور. شعروا بأنهم مطاردون، وبأن دورهم آتٍ لا ريب فيه. وقال أحدهم: عنَّت لي فكرة، إنه ليس نحسًا فحسب!
– تعني سي منصور؟
– أجل.
– إنه مُرشد ذو دور مرسوم.
– ولكنه لا يُبارح مجلسه؟
– لا علم لنا بما يفعل قبل ذلك أو بعد ذلك.
وتراكم الشك، حتى صار يقينًا بلا دليل. لم يجئ لتزجية الفراغ. ماذا يحمله على المجيء يومًا بعد يوم؟ ما عمله؟ كيف يعيش؟ وأجمعوا على أنه مرشد لحساب جهة معادية، وأن عمله لن يتم إلا بالقضاء عليهم أجمعين. واقترح بعضهم التخلص منه. ولكن ألا يُعَدُّ ذلك حمقًا غير مُجدٍ، واستفزازًا لقوة مجهولة لا يُستهان بها؟ واقترح البعض احتواءه وشراءه بأي ثمن، ولديهم المال والنساء. ولعل مناسبة الاحتفال برأس السنة الجديدة أن يتيح فرصةً فريدة لاصطياده. وتزيَّن المقهى في الليلة السعيدة بالورد وتشكيلات المصابيح الكهربائية الملوَّنة، وتوسطته طاولة طويلة صُفت فوقها قوارير الويسكي بغير حساب، وجلس إليها في الوقت المناسب الرجال من أكبر رجل أعمال إلى أصغر قواد، وبقي الرجل وحده بمجلسه المختار. وانضمت إلى الموجودين مجموعةٌ مختارة من الحِسان في أحسن صورة وعلى أتم استعداد. وانطلقت الأنخاب كالشهب حتى تغلغل المرح في أعماق الكآبة. والتفت أحدهم نحو الرجل وقال: هلا شرَّفْتنا يا سيد منصور؟
فبسط راحته على صدره شاكرًا صامتًا مصرًّا على توحده. ولكن الآخر لم ييأس، فملأ له كأسًا ورجا أقرب الجلوس إليه — امرأة — أن تقدمها له، ففعلت برشاقة وقال رجل الأعمال: من أجل خاطرنا.
ولكنه أعاد الكأس إلى الطاولة معلنًا عن شكره بإحناءة من رأسه، لائذًا بصمته. وتساءل رجل الأعمال مداريًا وقدة غضبه: كيف تمر بك هذه الليلة كغيرها من الليالي؟
فخرج منصور من صمته، قائلًا في غير ما اكتراث: الواقع أنها كغيرها من الليالي.
فقالت المرأة محتجة: لا .. لا .. وأستطيع أن أُثبت ذلك.
وقال رجل أعمال آخر: أذكر رجلًا يُشبهك تمامًا إلا أنه يرتدي جبة وقفطانًا.
فقال منصور: لعله أنا دون سواي!
– ولكنه بجبة وقفطان؟
– هذا هو ردائي في غير فصل الشتاء!
– بدلة في الشتاء وجبة وقفطان في الصيف؟
– بالتمام والكمال!
وتبادلوا نظرات ساخرة، غير أنهم تقدَّموا خطوة جديدة مع تماديهم في الشراب، فراحوا يقدمون أشخاصهم واحدًا في أثر واحد؛ ليحملوه على تقديم نفسه، ولكنه تابعهم في غير اكتراث، وتحدَّى عربدتهم بالإصرار على الصمت. أي إهانة؟! وقالت المرأة: إن هذا يعادل أن تتعرى امرأة أمام رجل، فيتخذ من جسدها مسندًا لرسالة يروم كتابتها. وسأله الرجل واجمًا: ألا ترغب في تقديم نفسك؟
فأجاب في برود: كلَّا.
أيقنوا من أنه يتكلم من موقع قوة وثقة، وأن وقاحته لن تقف عند حد. وانقلب الرجل غاضبًا فهتف: اغرُب عنا قبل أن تُفسد علينا ليلتنا!
فقال بتحدٍّ: الواقع أنكم تفسدون عليَّ ليلتي.
– لا خير فيمن لا يحب الناس.
فكرَّر ساخرًا: لا خير فيمن لا يحب الناس.
وخافوا إن استسلموا للطعام والشراب أن تنحل عُقدة ألسنتهم، فتبوح له بأسرار ينفذ بها إلى مصارعهم، ففسدت السهرة بالفعل ومضت في توتر وتعاسة. وأقسموا ليهتكنَّ سره. وعهدوا إلى قواد معروف بالنشاط أن يتجسس عليه ليوافيهم بخبره. وانطلق الرجل في أثره وانتظروا.
ومرت أيام وكل شيء يجري على حاله، ولكن الرجل لم يرجع من رحلته ولم يظهر له أثر. وانتظروا أكثر وسحابة سوداء تمطرهم بالقلق، ولم يُسفر الانتظار عن شيء. فُقِد المرشد لا ريب في ذلك، وفي أثناء ذلك سقط مُتهرِّب آخر ومهرِّب مخدرات ذو وزن في الهيئة الاجتماعية. وأظل الذعر الشارعَ العتيد فانطفأت أنواره. وتطوع قواد جديد بالعمل مدعمًا بحذَر أشد، ولكن ظُلمة المجهول ابتلعته كما ابتلعت صاحبه. وتمطى كابوس الخوف فاختفى القوادون، وتعطلت الدعارة، وانكمش الانحراف. ولبث الرجل الغامض بمجلسه، أفنديًّا في الشتاء وبلديًّا بقية العام. وتتابع السقوط وهرب مَن هرب. وقال له أحدهم، وهو يتأهب للذهاب: عرفتك، ما أنت إلا عميل لدولة أجنبية، اختارتك لتحطيم القوى الوطنية.
فهز الرجل رأسه في دهشة وتساءل: عمَّ تتكلم أيها السيد الفاضل؟!
وتحير صاحب المقهى العجوز الذي رأى كثيرًا وسمع كثيرًا. رأى الحادثات وهي تقع، ولكنه لم يعرف لها تفسيرًا. دالت دولة الرجال الأقوياء فتساقطوا مثل أوراق الشجر الجافة. انقلب الشارع من حال إلى حال، ذهب أناس وجاء أناس، تراجع زبائن وقَدِمَ زبائن، أُلغيت وظائف ونشطت وظائف جديدة، واستقبل المقهى روادًا عاديِّين لا علم لهم بسابقيهم، ولم يبرح الرجل الغامض مكانه، ولا بدا عليه أنه يدرك من حقائق الأمور أكثر مما يدرك هو. ويجيء قوم من هواة المعرفة فيحدقون بصاحب المقهى، ويقولون: كل شيء حدث تحت سمعك وبصرك، فخبرنا عما حصل يرحمك الله.
فيقول الرجل ببراءة: عِلْمي علمكم يا سادة، وها هو الرجل الذي جعلوا منه أسطورة، مثلي ومثلكم، ما سمعت منه كلمة غريبة ولا شهدت منه فعلًا غير مألوف، فلست أملك علمًا أضن به عليكم، وما أعرف أكثر مما تعرفون من أن دنيا برمتها اختفت كما تختفي مدينة في أعقاب زلزال مُدمر، ونشأت مكانها دنيا جديدة، فسبحانَ علام الغيوب!