المسخ والوَحْش
أعجبتني حكاية الشاطر حسن في بلاد الواق الواق. غادر ذات يوم أسرته كما يغادر الفرخ بيضته وراء حلم غامض، فأسعده حظه الميمون بلقاء سيدنا الخضر. وقرأ سيدنا في وجهه براءة الفطرة ونقاء الحلم، فحدثه عن مأساة مسوخ تُعساء مسخهم وحش آدمي أحجارًا غير كريمة، فأشعل في قلبه رحمة وهِمَّة. ووهبه فرصة فريدة لتحرير المسوخ وإرجاعها إلى إنسانيتها المهدرة، وذلك بقتل الوحش. ودله على المكان الملقاةِ فيه الأحجار الممسوخة، والوسيلة التي يقتل بها الوحش، فمضى إلى بلاد الواق الواق، ورأى بعينيه الحزينتين الأحجار الآدمية. وتربص بالوحش حتى جاء في وقته المعلوم فأكل وشرب ونام، فوثب عليه وقتله. وفي الحال تلاشت الصفة الحجرية واستوت الأحجار بشرًا يُهلِّلون فرحًا ببركة الحياة المُستردة. ورحتُ أتذكر الحكاية وأنا بمجلسي المعهود في خمَّارة نجمة الصبح ورأسي مشعشع بالنشوة. وكالعادة غِبتُ في أعطاف حلم ورديٍّ، ثم انتبهت على رجلٍ يجلس إلى جانبي يمزج النبيذ بعصير الليمون، ملتفٍّ بعباءة أرجوانية، معتَمٍّ بعِمامة خضراء، يبهر الناظر بلحية بيضاء مسترسلة، حتى ثغرة صدره. ولم يكن التطفل من شيم أهل خمارتنا، ولكن الأُنس حل بي، فحدس قلبي أنه صديق يشعُّ الخير من ومضات عينيه. قلت مُرحبًا: أهلًا.
فقال بنبرة باسمة: صحتك.
واستسلمت للنشوة إلى مراقيها حتى هتفت: هذه ليلة ولا كل الليالي.
فسألني بعذوبة: كيف اهتديت إلى هذه الخمارة التي بالكاد لا يعرفها إلا رُوادها؟
فقلت جذلًا: بحسن الحظ وحده، ومن يومها لم يعد يؤرقني شيء.
فتساءل بصوت يمتزج فيه الحنان بالسخرية، كما يمتزج في قدحه النبيذ بالليمون: ولا المسوخ؟!
دقت كلمة المُسوخ ناقوس اليقظة في قلبي، فتساءلت: أي مسوخ تعني؟
– هم مسوخ ذوو مسوخ من ضحاياهم، ولا نجاة لهؤلاء أو أولئك إلا بقتل الوحش!
فتهدَّج صوتي وأنا أقول: لعمري إنك لَسيدنا الخضر دون غيره!
– لا أهمية لذلك، المهم مَن يكون الشاطر حسن؟
وهم بالقيام فأمسكت براحته، وسألته بشغف: متى أراك ثانية؟
فقال واقفًا معلنًا عن قامته الطويلة النحيلة: لا أهمية لذلك.
وذهب مشيَّعًا بمودتي الخالصة. وبقوة آسرة، ودون مقدمات، آمنت بأنني صاحب رسالة، وأنه آنَ لي أن أودع أحلام اليقظة. ولكن من يكون المسوخ؟ ومن يكون مسوخ المسوخ؟ ومن يكون الوحش؟ وكيف فاتني أن أستجوبه؟ ولم يغِبْ عني السر، فالحقيقة أن محضره يشتت الإرادة. وجدتني في محضره طوع خواطره، مسلوب المنطق، لا أزيد عما يريد حرفًا. هذه هي الحقيقة. ولذلك لم يداخلني شك في أنه ولي من الأولياء. وأدركت بعد فوات الوقت أنني لم أنتبه لقيمة الوقت، وأنني عبرت معه لحظة من اللحظات التي تُسترجع فيما بعد بشق الأنفُس، فيعتدُّها الخيال إحدى الفرص التي لا تتكرر ولا يجدي معها الندم. واستَدعيتُ بإشارةٍ النادلَ عم زياد البرلسي، ثم سألته: هل تعرف الشيخ الذي كان يجلس إلى جانبي؟
فقطَّب متذكرًا وقال: شغلني العمل عن ذلك.
– ولكنك قمت بخدمته، وقدمت إليه طلبه؟
– لعله كان يجلس في مكان ما ثم انتقل إليك بقدحه.
وكان من الممكن أن أعتبر المسألة حالًا من أحوال السُّكْر تذهب بذهابه، ولكن لا جدوى من مخادعة النفس، فالأمر أخطر مما يُتصوَّر. نفذ السهم إلى مركز اليقين. وما كان في وسعي أن أتحلل من مهمة ألقتها الأقدار على عاتقي، فأرضى هانئًا بالعودة إلى آفة اللاشيء. وألقيت نظرة على مَن حولي من السكارى، فإذا بهم يسبحون فوق تيار من الهموم المتضاربة، ويناقشونها بندًا بندًا بغير ملل. الأسعار، التهريب، الاستيلاء على أراضي الدولة، الثروات غير المشروعة، سوء المعاملة، الطوابير، الديون، النفوذ الأجنبي، القذارة، المجاري، المذابح، وغيره مما لا يحيط به حصر، ولكن لا أحد يتحدث عن مسوخ أو مسوخ المسوخ أو الوحش. ومتشجعًا بحنان الليالي المتتابعة سألت: هل رأى أحد منكم الشيخ ذا العباءة الأرجوانية؟
فانطرحتْ لحظة صمت، ثم اندفعت أصوات ضاحكة تُغني:
لم يبلَّ أحد ريقي، وغرقوا في الضحك والهناء، فعدت أسأل: مَن المسوخ؟ هل جرى لكم عِلم بذلك؟
فماجوا بحركات الضحك الراقصة، غير أنني سألت بإصرار: ومن يكون الوحش؟
فصاح أحدهم: أخوكم وصل، فلتحفظنا بركة دعاء الوالدين!
أقلعت عن السؤال. وغادرت الخمَّارة وأنا أعد نفسي من مواليد تلك الليلة العجيبة. وكلما أقبلتُ على الخمارة أقبلت على أمل في أن أرى الشيخ من جديد، ولكن دون جدوى. وطيلة نهاري أتساءل عمن يكون المسوخ وعمن يكون الوحش. وكلما مررت بحيوان أو شجرة أو حجر استحوذ على خيالي، ولمحت في صميم جوهره مسخًا من بني آدم يئن ويتعذب. وساءتني التفرقة في المعاملة بيني وبين الشاطر حسن، فبقدر ما أعَانَه الخضر على أداء مهمته بقدر ما أعرض عني، تاركًا إياي للكدح والعذاب. وانتهت بي الحيرة إلى اتخاذ قرار جريء، وهو أن أسأل أهل الرأي والخبرة، مستشهدًا بقول القائل «لا خاب من استرشد.» واتجه ذهني أول ما اتجه نحو السيد «م» وهو من البارزين في الحزب الوطني الديمقراطي. توسلت إلى مقابلته بصديق، ثم عرضت عليه حيرتي، وسألته: من هم المسوخ؟ ومن هم مسوخ المسوخ؟ ومن هو الوَحش؟
ولم يأخذ من التفكير إلا أقصر وقت ثم قال بثقة: عندنا نوعان منهم، مسوخ من العملاء الملاحدة، ومسوخ المسوخ هم المخدوعون من أتباعهم، والوحش في هذه الحال هو الشيوعية أو إن شئت الاتحاد السوفييتي. ومسوخ من التيار الديني المنحرف، ومسوخ المسوخ هم أتباعهم من المخدوعين. والوحش في هذه الحال بعض الدول مثل إيران وليبيا.
وتركته شاكرًا وبي غصة من خيبة الأمل؛ إذ مهما تكن ثقتي في نفسي ورسالتي؛ فمن أين لي بالقوة التي أقتل بها الاتحاد السوفييتي وإيران وليبيا؟ ولكن همتي لم تفتُرْ، فاتجه تفكيري في الحال نحو الأستاذ «أ» المُعترَف بحكمته في حزب التجمع، واستقبلني سيادته بلا أدنى صعوبة، فعرضت عليه حيرتي، ثم سألته: من هم في رأيك المسوخ ومسوخ المسوخ، ومن هو الوحش؟
فاعتدل في جلسته، وابتسم ابتسامة العالم بكل شيء، وقال: يستوي عندي أن تكون سائلًا بريئًا، أو أن تكون قادمًا من طرف السيد وزير الداخلية، ولكن ذلك لن يمنعني من إجابتك، طالما أننا نعمل في وضح النهار، فاعلم أن المسوخ هم عملاء الغرب، ولا يوجد مسوخ المسوخ؛ لأنه لا أتباع لهم، وما الملتفُّون حولهم إلا مجموعة من الانتهازيين، تجدهم بأشخاصهم في رحاب كل حكومة، أما الوحش فهو الإمبريالية العالمية أو إن شئت الولايات المتحدة الأمريكية.
فأكدتُ لسيادته أن حيرتي نابعة من ذاتي، ولا علاقة لها بالسيد وزير الداخلية، وشكرت له بيانه، ثم غادرته مُوقنًا بأن الصعود إلى القمر بلا تكنولوجيا أيسر عليَّ من قتل ذلك الوحش الجديد. ومع ذلك صمَّمت على السير في طريقي حتى نهايته. تذكرت صديقًا قديمًا انخرط منذ أعوام في تيار ديني متطرف، فقصدته دون تردد. استقبلني مداريًا فُتورَه؛ إكرامًا للعهد القديم، ولكنه امتنع في الوقت نفسه عن مصافحتي متمتمًا: معذرة، لا أصافح كافرًا!
وكنت موطِّنًا نفسي على تحمُّل أي سلوك يجيئني منه، فقبلت عذره. وعرضت عليه حيرتي ثم سألته: مَن هم المسوخ؟ ومَن مسوخ المسوخ؟ ومَن يكون الوحش؟!
فقال من فوره: المسوخ هم حُكام البلاد الإسلامية ورجال الدين بها، ومسوخ المسوخ هم جمهرة المسلمين، وأما الوحش فهو نظام الحكم في كل مكان.
وغادرت موضعه مغموسًا في المرارة. خُيل إليَّ أن القضاء على الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة معًا أيسر من القضاء على الوحش الجديد، ولكني لم أنثنِ عن مسيرتي. وتذكرت الأستاذ «ن» الذي يُمثل فكر الوفد كخير ما يكون التمثيل. واستقبلني سيادته بحرارةٍ لا توهب عادة إلا للأصدقاء. وعرضت عليه حيرتي، ثم سألته: مَن هم المسوخ، ومَن هم مسوخ المسوخ، ومن هو الوحش؟
فقال باسمًا في ثقة تامة: المسوخ هم جميع السياسيين غير الوفديين، ولا أتباع لهم في الحقيقة، فالبلد وفدي مائة في المائة، أما الوحش فهو النظام الدكتاتوري الذي لم يُوفَّق بعدُ إلى قناع يُخفي به وجهه.
وتركته شاكرًا، وأنا أقول لنفسي حقًّا: إن هذا الوحش يبدو أقرب إلى اليد من الوحوش الأخرى، ولكن بالقياس إلى قوتي الذاتية يمكن القول بأن «سي أحمد أخو الحاج أحمد». ولم يبقَ في جدولي إلا المثقفون، فاخترت الأستاذ «أ»؛ لمنزلته المعترف بها من الجميع. واستقبلني بحياد، فعرضت عليه حيرتي ثم سألته: من هم يا أستاذ المسوخ؟ ومن هم مسوخ المسوخ؟ ومن هو الوحش؟
فأجابني بجفاء: المسوخ هم الجهلة، وتجدهم في كل موقع لا بقاء لهم إلا بالقوة، ومسوخ المسوخ أتباعهم، وهم أجهل منهم ولكنهم أكبر دهاء وانتهازية، أما الوحش فهو الجهل.
وتركته وأنا أتساءل، وكيف يمكنني قتل الجهل؟ أجل إني أعتبر الأستاذ «و» خير من يُجسد الجهل، ولكن هل يزول الجهل بقتله؟ ووجدتني أغوص أكثر وأكثر في دوامة لا فكاك منها، حتى ورد على خيالي مولاي العارف بالله الشيخ «ص» فقصدته من فوري، واستقبلني — كالعادة — باسمًا مُرحبًا، ولكنه بادرني قائلًا: أعرف ما ساقك إليَّ اليوم!
فلم أُدهش لسابق علمي بقدرته على النفاذ إلى أعماق القلوب. وقال متعني الله بعمره ونورانيته: ما المسوخ إلا عُشاق هذه الدنيا الفانية، ومسوخ المسوخ هم المبهورون بما يملك سادتهم من زخارف زائلة، أما الوحش فهو النفس الضالة.
وعُدتُ إلى بيتي وأنا أقول لنفسي: حقًّا إن هذا الوحش لا يُستهان بأمره، ولكن قتله ممكن، ولن يعرضني لقبضة القانون. وأعلنت الحرب، وأقسمت على الصمود والتصدي مهما طال بي الزمن. ولم أهجر بطبيعة الحال خمارةَ نجمة الصبح التي عرفتُ أستاذي العارف بالله في ركن من أركانها. وفي ذات ليلة وأنا ثمل بنشوتي في مجلسي المختار انتبهت على وجود صاحب العباءة الأرجوانية إلى جانبي، وهو يمزج النبيذ بالليمون. وهتفت: يا للسعادة! لقد جئت أخيرًا.
ولكنه لم يُعِرني أدنى اهتمام، فقلت: لقد عملت بمشورتك، وها أنا أقاتل الوحش حتى أقتله.
وأصرَّ على تجاهلي تمامًا، ولم يُلقِ عليَّ نظرة واحدة، ولم تهب عليَّ من ناحيته نسمة أُنس أو مودة.
وأفرغ قدحه في فِيهِ، ثم نهض متجهِّمًا وذهب.
تركني لحيرة لم تخطر لي في بال.