جريمة الشيوعي
خرج ثلاثة رجال من أسفل قوس تيودور المُنخفض المُعتِم في الواجهة العتيقة لكُلِّية ماندفيل إلى ضوء الشمس الشديد في عصرِ يومٍ صيفي بدا كأنه لن ينتهي أبدًا، ورأوا في ذلك الضوء شيئًا صادمًا كالبرق، ولائقًا تمامًا بأن يصبح أقوى صدمة في حياتهم.
وحتى قبل أن يدركوا وجود أي كارثة، أدركوا وجودَ تباينٍ ما. كانوا هم أنفسهم مُتجانسين تجانسًا هادئًا غريبًا مع مُحيطهم. صحيحٌ أن أقواس تيودور التي كانت تُحيط بحديقة الكلية كالممشى الرباعي المُغطَّى في الأديرة قد بُنِيت قبل أربعمائة عام، حين سقط الفن المعماري القوطي من السماء، وألقى بظلاله، أو يكاد يكون قد جثم، على الحجرات الأكثر دفئًا لحقبة الإنسانية ونهضة التعلُّم، وصحيحٌ أنهم كانوا يرتدون ثيابًا عصرية (أي ثيابًا كانت بشاعتها ستُدهِش أيًّا من تلك القرون الأربعة)، لكن شيئًا ما في روح المكان جعلهم مُتجانسين معه. كانت الحدائق تحظى بعنايةٍ فائقة جدًّا لدرجة أنها بدَت مُهمَلة في النهاية، وبدَت الأزهار نفسها جميلةً بالصدفة، كأنها حشائش بهيَّة المنظر، واتَّسمت الثياب العصرية بأدنى قدرٍ من الحُسنِ يمكن أن ينجمَ عن الثياب الفوضوية. كان أول الثلاثة رجلًا أصلع الرأس ذا لحية، وطويلًا كالسارية، وذا هيئةٍ مألوفة في حَرَم الكلية، وهو يعتمر قَلَنْسُوَة، كما يتَّشح بعباءةٍ مُنزلقة عن كتفه المائلة. وكان الثاني ذا كتفَين عاليتين مُنتصبتين، وهو قصير ومكتنز الجسد، وله ابتسامةٌ مرِحةٌ بعض الشيء، وعادةً ما كان يرتدي سترة مع عباءة فوق ذراعه. أما الثالث، فكان أقصر قامةً ورثَّ المظهر للغاية، كما يرتدي ثياب قَسٍّ سوداء، لكن الثلاثة جميعًا بدوا مُتلائمين مع كلية ماندفيل، والأجواء التي تفُوق الوصف لجامعتَي إنجلترا العتيقتين الفريدتين. كانوا مُتلائمين معها وذائبين فيها كجزءٍ لا يتجزَّأ منها.
كان الرجلان الجالسان على كراسي الحديقة عند طاولةٍ صغيرةٍ أشبه ببقعةٍ مُتألقة في هذا المنظر الطبيعي الأخضر الممزوج بالرمادي؛ إذ كانا مُتشحَيْن بسوادٍ شِبه تام، لكنهما يتألَّقان من رأسَيْهما إلى كعوبهما، أو من قبعتَيْهما الرسميتَيْن المصقولَتَيْن إلى حذاءَيْهما المُلمَّعَيْن للغاية. كان البعض يستاء استياءً طفيفًا من رؤية أي شخص يرتدي ثيابًا مُتأنقة هكذا في ظل التحرُّر المُهذَّب الذي كانت كلية ماندفيل تتَّسم به، لكن عُذرهما الوحيد هو أنهما أجنبيان؛ إذ كان أحدهما مليونيرًا أمريكيًّا اسمه هيك، ويرتدي ثيابًا راقيةً ناصعةً مُتألقة لا يعرفها سوى أثرياء نيويورك؛ أما الآخر، الذي أضاف إلى كل ذلك فظاعة ارتداء معطفٍ مصنوعٍ من فراء الحُمْلان المُجعَّدة (فضلًا عن سالفَتَيْه المُنمقتَيْن)؛ فهو كونت ألماني ذو ثروةٍ طائلة، وكان الجزء الأقصر من اسمه فون زيمرن. بيْدَ أن غموض هذه القصة لا يكمن في غموض سبب وجودهما هناك. فقد كانا هناك للسبب الذي عادةً ما يُفسِّر التقاء المُتناقضات، وهو أنهما كانا يعتزمان منحَ الكلية بعض الأموال؛ فقد ذهبا إلى هناك تأييدًا لخطةٍ تحظى بدعم العديد من المموِّلين وذوي الثراء والنفوذ في العديد من البُلدان لتأسيس برنامج دراسي جديد لدراسة علم الاقتصاد في كلية ماندفيل. وقد تفقَّدا الكلية في زيارةٍ تفقُّدية بمجهودٍ وافر، وفق ما يُمليه الضمير، لا يقدر عليه أيٌّ من أبناء حوَّاء سوى هذا الأمريكي وذاك الألماني. كانا يستريحان آنذاك من إرهاقهما، ويتأمَّلان الحديقة بجدية وتمعُّن. وهكذا كان كل شيء يبدو على ما يُرام حتى تلك اللحظة.
ثم مرَّ بهما الرجال الثلاثة الآخرون، الذين التقَوْا بهما بالفعل قبل ذلك، وألقَوْا عليهما تحيَّةً مُبهَمة، لكن أحدهم توقَّف، وهو أقصرهم الذي كان يرتدي ثياب قَسٍّ.
وقال بنبرة أرنب مذعور: «أودُّ أن أقول إن مظهر هذَيْنِ الرجلَيْنِ لا يُعجبني.»
فصاح الرجل الطويل الذي كان رئيس الكلية: «يا إلهي! ومن عساه يُعجَب به؟ لكن على الأقل لدينا بعض الأثرياء الذين لا يرتدون ثيابًا كتماثيل عرض الملابس لدى الخيَّاطين.»
همس القس القصير: «نعم، هذا ما أقصده. كتماثيل عرض الملابس.»
فقال أقصر الرجلين الآخرين بحدة: «عجبًا، ماذا تقصد؟»
قال القس بنبرةٍ خافتة: «أقصد أنهما كتمثالين شمعيَّيْن مروِّعين. أقصد أنهما لا يتحرَّكان.»
وأضاف: «لماذا لا يتحرَّكان؟» ثم خرج فجأةً من انطوائه ذي النبرة الخافتة، وهُرع عبر الحديقة، ولمس البارون الألماني على مرفقه. فسقط البارون الألماني بكامل جسده، وكذلك الكرسي، وكانت ساقاه اللتان عُلقتا في الهواء جامدتين كأرجل الكرسي.
ظلَّ السيد جِديون بي هيك مُحدِّقًا إلى حديقة الكلية بعينين زجاجيتين، لكن تشابُهه مع تمثالٍ شمعي أكَّد الانطباع الذي يُوحي بأنهما عينان زجاجيتان. وبطريقةٍ ما، عزَّز ضوء الشمس القوي والحديقة الملوَّنة الانطباع المروِّع الذي يُوحي بأنه دميةٌ جامدة ترتدي ثيابًا، أو دميةٌ مُتحركة بأسلاك على مسرحٍ إيطالي. فلَمسه الرجل القصير ذو الثوب الأسود، الذي كان قسًّا يُدعى براون، على كتفه بتردُّد، فسَقط المليونير جانبًا، لكنه سقط سقوطًا مروِّعًا ككتلةٍ واحدة، مثل تمثال خشبي.
قال الأب براون: «إنها حالة تيبُّس جثة الميت، لكنها حدثت بسرعةٍ كبيرة، وهو تيبسٌ مختلف كثيرًا.»
قد يُفهَم سبب انضمام الرجال الثلاثة الأوائل إلى الرجلين الآخرين في وقتٍ متأخر جدًّا (وربما بعد فوات الأوان) فهمًا أفضل بسرد ما حدث داخل المبنى خلف مدخل تيودور المقوَّس، ولكن قبل خروجهم بوقتٍ قصير؛ إذ تناولوا جميعًا الغداء في قاعة استراحة أعضاء هيئة التدريس على المائدة العُليا، لكن المُتبرعَيْن الأجنبيَّيْن، عبدَي الواجب الذي ألزمهما بتفقُّد كل شيء، عادا بجديَّة إلى الكنيسة الصغيرة المُلحَقة بالكلية، التي لم يتفقدا أحد ممرَّاتها المغطَّاة ودرَجها، ووعدا البقية بالانضمام إليهم مجددًا في الحديقة لتفحُّص سيجار الكلية بكل جدِّية. أما البقية، فاجتمعوا لتناول بعض المشروبات كالمعتاد، بروحٍ أكثر رصانة وأرشد صوابًا، حول المائدة الطويلة الضيقة المصنوعة من خشب البَلُّوط، التي كان يُوزَّع حولها النبيذ بعد الغداء لتشجيع سرد القصص، كما يعلم الجميع، منذ أن أسَّس السير جون ماندفيل الكلية في العصور الوسطى. جلس رئيس الكلية، ذو اللحية الشقراء الكبيرة والجبين الأصلع، عند رأس المائدة، فيما جلس الرجل القصير العريض ذو السترة المُربَّعة على يساره؛ لأنه كان أمين صندوق الكلية أو مُديرها المالي. وبجواره، على هذا الجانب من المائدة، جلس رجلٌ غريب المظهر ذو وجه لا يمكن وصفه إلا بأنه مُلتوٍ؛ لأن تلبُّدات شعر شاربه وحاجبَيه السوداء، التي كانت مائلة بزوايا مُتناقضة، صنعت ما يُشبِه خطًّا مُتعرِّجًا، كأن نصف وجهه مُنكمش أو مشلول. كان اسمه بايلز، وهو مُحاضِر في التاريخ الروماني ذو آراء سياسية مبنية على آراء كوريولانوس، ولا حاجة إلى ذكر أنها كانت قائمةً على آراء تاركوينيوس سوبربوس أيضًا. صحيحٌ أن هذه النزعة إلى الفلسفة المُحافِظة اللاذعة وتبنِّي آراء رجعية متعصِّبة تجاه المشكلات الحالية؛ لم تكن غريبةً إطلاقًا بين هذه النوعية من أساتذة الجامعات الأكثر مُحافظة، ولكن في حالة بايلز، كان البعض يرى تلك النزعة نتيجةً لحدَّتِه وليست سببًا لها. وقد وصل انطباع إلى أكثر من شخصٍ قويِّ الملاحظة بين الحاضرين بأن ثمة مشكلةً حقيقية لدى بايلز، مثل سرٍّ ما أو مكروهٍ شديد يُزعجه، كأن هذا الوجهَ نصف الذابل قد صار عصفًا مأكولًا. كان الأب براون جالسًا بجواره على الجانب نفسه من المائدة. أما في نهاية المائدة، فقد جلس أستاذٌ جامعي مُتخصص في الكيمياء، وهو ضخم وأشقر وباهت الملامح، وذو عينين ناعستين وربما ماكرتان قليلًا. كان من المعروف أن هذا الفيلسوف الطبيعي يعتبر الفلاسفة الآخرين، ذوي التقاليد الأكثر كلاسيكية، مُتمنطِقين قدماء إلى حدٍّ كبير. وعلى الجانب الآخر من المائدة أمام الأب براون، جلس شابٌّ صموتٌ شديد السمرة ذو لحيةٍ سوداء مدبَّبة، حضر للمرة الأولى لأن شخصًا ما أصرَّ على وجود برنامج دراسي لتدريس اللغة الفارسية في الكلية، وفي مُقابل بايلز الشرير جلس قسٌّ مُلحق بالكلية، وهو ضئيل الحجم، ولديه رأس كالبيضة لكنه لطيف المحيَّا. وفي مُقابل أمين الصندوق، على يمين رئيس الكلية، يوجد كرسيٌّ فارغ، وكان الكثيرون سعداء بفراغه.
قال رئيس الكلية مُلقيًا نظرةً خاطفةً عصبية نحو الكرسي تتناقض مع اللامبالاة الفاترة المُعتادة التي يتسم بها سلوكه: «لا أعرف ما إذا كان كراكن سيأتي أم لا. أُومن بمنح الآخرين قدرًا كبيرًا من حرية التصرُّف، لكني أعترف بأني وصلت إلى مرحلة الشعور بالسعادة حين يكون هنا، لمجرد أنه لا يكون في أيِّ مكانٍ آخر.»
فقال أمين الصندوق بابتهاج مُتحدثًا عن كراكن: «لا يعرف المرء أبدًا ما سيفعله تاليًا، خصوصًا حين يكون مُنخرطًا في تعليم الشباب.»
فقال رئيس الكلية بعودةٍ مُفاجئةٍ بعض الشيء إلى تحفُّظه: «إنه زميلٌ مُتألق، لكنه ناري الطباع بالتأكيد.»
تمتم بايلز قائلًا: «الألعاب النارية نارية، ومُتألقة أيضًا، لكني لا أريد أن أحترق في فراشي لكي يتصور كراكن نفسه جاي فوكس الحقيقي.»
سأله أمين الصندوق مُبتسمًا: «هل تظن حقًّا أنه سينضم إلى ثورةٍ عنيفة في حال اندلاعها؟»
قال بايلز بحدة: «حسنًا، إنه يظن ذلك. لقد قال في قاعةٍ مليئة بالطلاب الجامعيين منذ بضعة أيام إنه لا مفرَّ من تحوُّل الحرب الطبقية إلى حربٍ حقيقية تشهد انتشار القتل في شوارع البلدة، وإن ذلك ليس مهمًّا، ما دامت ستئول في النهاية إلى رفع راية الشيوعية وانتصار الطبقة العاملة.»
فقال رئيس الكلية مُتأملًا بنفورٍ هوَّنه تحفُّظه؛ لأنه كان يعرف ويليام موريس منذ فترةٍ طويلة، وكان على درايةٍ كافية بالاشتراكيين الأكثر إبداعًا وتمهلًا: «الحرب الطبقية. لا أستطيع أبدًا فهم الحرب الطبقية على الإطلاق، فحين كنت شابًّا كان من المفترض أن الاشتراكية تعني عدم وجود طبقات.»
قال بايلز بتلذُّذٍ كريه: «هذه طريقةٌ أخرى للقول إن الاشتراكيين ليسوا طبقة.»
فقال رئيس الكلية بنبرةٍ تُوحي بتفكيرٍ عميق: «بالطبع ستكون متحيِّزًا ضدهم أكثر مني، لكني أظن أن أيديولوجيتي الاشتراكية قديمة الطراز مثل أيديولوجيتك المُحافِظة تقريبًا؛ لذا أتساءل ما رأي أصدقائنا الشباب؟ ما رأيك يا بيكر؟» وجَّه رئيس الكلية هذا السؤال الأخير فجأة إلى أمين الصندوق الذي يجلس على يساره.
فقال أمين الصندوق ضاحكًا: «آه، ليس لديَّ رأي، كما يقول المثل العامي. يجب أن تتذكر أنني شخصٌ عاميٌّ جدًّا. أنا لست مفكِّرًا، بل مجرد موظف مالي، وأظن أن كل هذا محض هراء. لا يمكن أن تجعل البشر سواسية، ومن الأمور السيئة للغاية في مجال المال والأعمال أن تمنحهم أجورًا مُتساوية، لا سيَّما أن الكثيرين منهم لا يستحقُّون أيَّ أجرٍ إطلاقًا. وبغضِّ النظر عن ماهية المشكلة الحالية، يجب أن تتبع الحل العملي؛ لأنه الحل الوحيد. ليس ذنبنا أن الطبيعة جعلت كل شيء محل صراع وتدافُع.»
فقال أستاذ الكيمياء بلُثغةٍ بدَت طفولية في كلام رجل ضخم جدًّا مثله: «أتفق معك في ذلك؛ فالشيوعية تتظاهر بأنها عصرية جدًّا، لكنها ليست كذلك، بل هي ارتدادٌ إلى خرافات الرهبان والقبائل البدائية. وأيُّ حكومةٍ علمية، لديها مسئوليةٌ أخلاقية تجاه الأجيال القادمة، ستبحث دائمًا عن نهج الوعود المستقبلية والتقدم، وليس تسطيح كل شيء وتسويته بالوحل مجددًا. والاشتراكية عاطفية، وأخطر من الأوبئة؛ على الأقل في الأوبئة يكون البقاء للأصلح.»
ابتسم رئيس الكلية ابتسامةً مشوبة بقليل من الحزن، وقال له: «أنت تعرف أننا لن نتفق أبدًا في شعورنا حيال اختلافات الرأي. ألم يقُل شخصٌ ما هنا في حديثه عن السير مع صديق على ضفة النهر: «لا نختلف كثيرًا، إلا في الرأي.» أليس هذا شعار إحدى الجامعات؟ أن يكون لديك مئات الآراء ولا تتشبَّث بأيٍّ منها. إذا سقط الناس هنا، سيكون ذلك بسبب ماهيتهم، لا آرائهم. ربما أكون من بقايا القرن الثامن العشر، لكني أميل إلى الهرطقة العاطفية القديمة التي تقول: «دعوا المُتعصبين الفاسقين يتقاتلون على مذاهب الإيمان، فمن يحيا على الصواب لا يمكن أن يكون مخطئًا.» ما رأيك في ذلك أيها الأب براون؟»
ألقى رئيس الكلية نظرةً خاطفة نحو القس، فأُصيب ببعض الدهشة؛ وذلك لأنه دائمًا ما كان يجد القسَّ مُبتهجًا ودودًا وسهل الاجتذاب إلى مُواصلة الحديث في النقاشات، وغالبًا ما كان يرى وجهه المُستدير رصينًا مُتقِدًا بقسَماتٍ مرحة، ولكن لسببٍ ما، كان وجه القس في هذه اللحظة مُكفهرًّا بعبوسٍ أشد كآبةً من أيِّ عبوسٍ رآه البقية على وجهه من قبل، لدرجة أن ذلك المحيَّا المألوف بدا في الواقع أشدَّ عبوسًا وشؤمًا لوهلةٍ من وجه بايلز الشاحب الهزيل. وفي اللحظة التالية، بدا أن ذلك الاكفهرار قد زال، لكن الأب براون ظلَّ يتحدَّث ببعض الرزانة والجمود.
وقال بعد قليل: «لا أُومن بذلك. فكيف يمكن أن يحيا على صواب، إذا كانت وجهة نظره تجاه الحياة خاطئة؟ هذه فوضى عصرية نشبت؛ لأن الناس لا يعرفون مدى اختلاف وجهات النظر تجاه الحياة؛ فالمعمدانيون والميثوديون كانوا يعرفون أنهم لا يختلفون كثيرًا في الأخلاق، لكنهم آنذاك لم يختلفوا كثيرًا في الدين أو الفلسفة. غير أن الوضع مختلف تمامًا حين نتحدث عن الفارق بين المعمدانيين ومُجدِّدي العِماد، أو بين الثيوسوفيين وقُطاع الطُّرق؛ فالهرطقة دائمًا ما تؤثِّر في الأخلاق، إذا كانت هرطقيةً بما يكفي. أظن أن المرء قد يعتقد في قرارة نفسه بكلِّ صدقٍ أن السرقة ليست خطأً، ولكن ما جدوى القول إنه يؤمن بالكذب إيمانًا صادقًا؟»
قال بايلز بملامح اعتلاها التواءٌ شديد جدًّا يعتقد الكثيرون أنه من المفترض أن يكون ابتسامةً ودودة: «صحيح جدًّا؛ لذا أعترض على وجود برنامج دراسي للسرقة النظرية في هذه الكلية.»
قال رئيس الكلية متنهدًا: «حسنًا، جميعكم يُكنُّ عداءً شديدًا تجاه الشيوعية بالطبع. ولكن هل تظنُّون حقًّا أن قدرًا كبيرًا منها يستحق العداء؟ هل أيٌّ ممَّا تظنونه هرطقاتٍ كبيرٌ بما يكفي حقًّا ليُشكِّل خطورة؟»
قال الأب براون بجدية: «أظنُّها صارت كبيرةً جدًّا، لدرجة أن بعض الدوائر أصبح يعتبرها شيئًا مسلَّمًا به بالفعل. إنها تُعتنَق في الواقع بلا وعي، أو بالأحرى بلا ضمير.»
قال بايلز: «ونهاية ذلك ستكون خراب هذا البلد.»
فقال الأب براون: «بل ستكون النهاية أسوأ.»
ثم انطلق ظلٌّ أو انزلق سريعًا على الحائط المُقابل المكسو بالألواح، وتلته سريعًا القامة التي ألقت به على الحائط. كانت قامة طويلة، لكنها مُنحنية، ذات شكل خارجي غامض كطائرٍ جارح. وما عزَّز ذلك الانطباع أن ظهورها المُفاجئ وحركتها السريعة كانا أشبه بحركة طائر فُزِع وحلَّق فجأة من فوق شُجيرة. غير أنها لم تكن سوى قامة رجل طويل الأطراف وعالي الكتفين ذي شاربين طويلين مُتدليين، وهو مألوف في الواقع لجميع الموجودين، لكن شيئًا ما في الشفق وضوء الشموع الخافت والظل الطائر الخاطف ربط تلك القامة ربطًا غريبًا بكلمات القس العفوية عن نذير الشؤم، كأن هذه الكلمات كانت نذير شؤم بالفعل، بالمعنى الروماني القديم، وكأن علامتها كانت تحليق طائر. وربما كان بإمكان السيد بايلز أن يُلقي محاضرة عن مثل هذا النذير الروماني، لا سيَّما عن هذا الطائر الذي يُنذِر بوقوع مكروه.
على أي حال، انطلق الرجل سريعًا بجوار الحائط كظلِّه حتى ارتمى على الكرسي الفارغ على يمين رئيس الكلية، ونظر إلى أمين الصندوق والبقية بعينين غائرتين ككهفٍ عميق. صحيحٌ أن شعره المُنسدل وشاربه المتدلِّي كانا أشقرين جدًّا، لكن عينيه غائرتان جدًّا، لدرجة أنهما ربما كانتا سوداوين. وبدا أن كل الحاضرين كانوا يعرفون ذلك الوافد الجديد، أو استطاعوا تخمين هويته، ولكن وقع حادثٌ بعد مجيئه فورًا وضَّح الموقف توضيحًا كافيًا؛ إذ هبَّ أستاذ التاريخ الروماني واقفًا وخرج من الغرفة، مُشيرًا بقليل من الحنكة إلى حقيقة مشاعره تجاه الجلوس على المائدة نفسها مع أستاذ السرقة النظرية، أو الشيوعي، السيد كراكن.
احتوى رئيس الكلية الموقف المُحرِج بكياسةٍ عصبية؛ إذ قال مُبتسمًا: «كنت أدافع عنك، أو عن بعض جوانب شخصيتك، يا عزيزي كراكن، مع أنني مُتيقن من أنك تراني عاجزًا تمامًا عن الدفاع حتى عن نفسي. فرغم كل شيء، لا أستطيع نسيان أن الأصدقاء الاشتراكيين القُدامى الذين صاحَبتهم في شبابي ضربوا مثالًا رائعًا جدًّا في الإخاء والرفقة. وقد صاغ ويليام موريس كل ذلك في حكمة قال فيها: «الرفقة جنَّة، وانعدامها جحيم».»
قال السيد كراكن ببعض الاعتراض: «الأساتذة الجامعيون حين يكونون ديمقراطيين، تخيَّلوا معي هذا العنوان الرئيسي، وهل سيُخصِّص هيك صعب المراس البرنامج الدراسي التجاري الجديد لذكرى ويليام موريس؟»
قال الرئيس مُحتفظًا ببعض من كياسته اليائسة: «حسنًا، آملُ أن نستطيع القول، من منظورٍ ما، إن كل برامجنا الدراسية في كليتنا هي برامج رفقة طيبة.»
تمتم كراكن قائلًا: «نعم، هذه هي النسخة الأكاديمية من حكمة موريس «الزمالة جنَّة، وانعدامها جحيم».»
فقاطعه أمين الصندوق بنفاد صبر: «لا تنزعج هكذا يا كراكن. خُذ بعض النبيذ. يا تينبي، مرِّر النبيذ إلى السيد كراكن.»
قال الأستاذ الشيوعي بحدةٍ أقل بقليل: «آه حسنًا، سآخذ كأسًا. في الواقع، لقد نزلت إلى هنا لأدخِّن سيجارًا في الحديقة، ثم نظرت من النافذة ورأيت صاحبَي الملايين النفيسين يتفتَّحان في الحديقة كبراعم وليدة بريئة. ورغم كل شيء، ربما يكون من المفيد أن أصارحهما برأيي الحقيقي تجاههما.»
كان رئيس الكلية قد قام من كرسيه مُستترًا بكياسته التقليدية الأخيرة، وهو راغب بشدة في أن يترك أمين الصندوق يبذل قصارى جهده لتهدئة الرجل الغاضب المحتد. وكان بعض الحاضرين الآخرين قد قام أيضًا وبدأ الجمع ينفض، وتُرِك أمين الصندوق والسيد كراكن وحدهما تقريبًا في نهاية المائدة الطويلة؛ إذ لم يتبقَّ معهما سوى الأب براون، لكنه كان يُحدِّق في الفراغ بقسماتٍ مُكفهرةٍ بعض الشيء.
قال أمين الصندوق: «آه، بخصوص حديثك عن هذين الرجلين، أودُّ القول بكل أمانة إنني شخصيًّا سئمتهما جدًّا. لقد كنت معهما معظم أوقات اليوم نُناقش حقائق وأرقامًا وكل مهام هذا البرنامج الدراسي الجديد بالتفصيل، ولكن أصغِ إليَّ يا كراكن.» وانحنى عبر الطاولة، وقال مُتحدثًا بنبرةٍ ليِّنة: «لا داعيَ في الواقع إلى أن تستشيط غضبًا هكذا من هذا البرنامج الدراسي الجديد؛ فهو لا يتداخل في الحقيقة مع تخصُّصك؛ فأنت أستاذ الاقتصاد السياسي الوحيد في ماندفيل. ومع أنني لا أتظاهر بالاتفاق مع أفكارك، لكن يعلم الجميع أن شهرتك تسُود أوروبا. والبرنامج الجديد هو مادةٌ خاصة تُسمَّى الاقتصاد التطبيقي. حسنًا، لقد عايشت بنفسي اليوم قدرًا هائلًا من الاقتصاد التطبيقي، كما قلت لك. بعبارةٍ أخرى، اضطررت إلى مناقشة أعمال وشئون مالية مع رجلَي أعمال. فهل كنت سترغب بشدة في فعل ذلك؟ وهل كنت ستحسدني على ذلك؟ وهل كنت ستتحمَّل ذلك؟ أليس ذلك دليلًا كافيًا على أنه تخصصٌ مُنفصل، وبرنامجٌ منفصل على الأرجح؟»
فصاح كراكن بتضرُّع المُلحدين الانفعالي الحاد: «يا إله الجميع الطيِّب! هل تظنُّ أنني لا أريد تطبيق الاقتصاد؟ ولكن، حين نُطبقه نحن، تصفونه بالخراب الأحمر والفوضى السياسية، وحين تطبقونه أنتم، يصبح لي مُطلَق الحرية في وصفه بالاستغلال. إن تُرِك تطبيق الاقتصاد لكم وحدكم، فربما سيجد الناس بالكاد شيئًا يأكلونه. نحن الأشخاص العمليون؛ لهذا تخافون منَّا؛ لهذا تضطرُّون إلى أن تجعلوا شخصين رأسماليَّيْن مُتملقَيْنِ يؤسِّسان برنامجًا دراسيًّا آخر، لمجرد أنني أخرجت القط المتآمر من الحقيبة وفضحت أمره.»
فقال أمين الصندوق مُبتسمًا: «أظنُّه قطًّا مُتوحشًا؛ ذاك الذي أخرجته من الحقيبة، أليس كذلك؟»
قال كراكن: «وأظنُّها حقيبةً ذهبية؛ تلك التي تريد أن تُخفي القط داخلها مرةً أخرى، أليس كذلك؟»
قال الآخر: «حسنًا، لا أظن أننا سنتفق أبدًا بشأنِ أيٍّ من ذلك، لكن هذين الرجلين خرجا من الكنيسة المُلحَقة إلى الحديقة، وإذا كنت تريد أن تدخِّن غليونًا هناك، فمن الأفضل أن تأتي.» وظلَّ يتفرَّج بشيء من التسلية على رفيقه وهو يبحث في كل جيوبه حتى أخرج غليونًا، ثم وقف السيد كراكن مُحدِّقًا إلى غليونه بذهنٍ شارد، وحتى في أثناء وقوفه، بدا يتحسَّس كل جيوبه مرةً أخرى، ثم أنهى أمين الصندوق، السيد بيكر، الجدل بمزحةٍ من أجل التصالح؛ إذ قال: «أنتم الأشخاص العمليون، وستُفجِّرون البلدة بالديناميت، لكنكم ربما ستنسون الديناميت على الأرجح، مثلما أراهن على أنك نسيت التبغ. لا بأس، خذ بعض التبغ مني لتحشو به غليونك. ألديك ثقاب؟» ثم ألقى جِرابًا يحوي بعض التبغ ومُلحقاته عبر المائدة، فتلقَّفه السيد كراكن ببراعةٍ لا ينساها لاعب كريكيت أبدًا، حتى وهو يتبنَّى آراءً يراها الكثيرون غير لائقة. قام الرجلان معًا، لكن بيكر لم يستطع أن يمنع نفسه من التعليق قائلًا: «هل أنتم الأشخاص العمليون الوحيدون حقًّا؟ ألا يوجد ما يمكن أن يُقال للاقتصاد التطبيقي، كي يتذكَّر جِراب التبغ مثلما تذكر الغليون؟»
نَظر كراكن إليه بعينين تستشيطان غضبًا، وقال أخيرًا بعد ارتشاف آخر جرعة من النبيذ ببطء: «لنقُل إن هناك نوعًا آخر من النهج العملي. أعتقد أنني أنسى التفاصيل وما إلى ذلك، لكن ما أريدك أن تفهمه هو أنه …» وأعاد إليه الجراب بعفوية، لكن عينيه كانتا تنظران بعيدًا وتقدحان شررًا بشكلٍ فظيع «لأن جوهر فكرنا قد تغيَّر، ولأن لدينا فكرةً جديدة حقًّا عن الصواب، فسوف نفعل أشياء تظنُّونها خاطئة بالفعل، لكنها ستكون عملية جدًّا.»
قال الأب براون مُستفيقًا من شروده فجأة: «نعم، هذا ما قلتُه بالضبط.»
ونظر إلى كراكن بعينين مُتبلدتين لامعتين، وابتسامةٍ مُخيفةٍ بعض الشيء، قائلًا: «أنا والسيد كراكن مُتفقان تمامًا.»
قال بيكر: «حسنًا، كراكن سيخرج لتدخين غليون مع الرجلين البلوتوقراطيين، لكني لا أظنه سيكون غليونَ سلام.»
ثم استدار فجأة، ونادى خادمًا مُسنًّا كان يقف في الخلفية. كانت ماندفيل واحدةً من الكليات القديمة جدًّا، وحتى كراكن كان واحدًا من أوائل الشيوعيين، قبل بلشفية العصر الحاضر. قال أمين الصندوق بعدما نادى الخادم: «هذا يُذكِّرني بأننا يجب أن نُرسِل السيجار إلى ضيفَينا البارزين؛ لأنك لن تُعطيهما غليون السلام الذي تُدخِّنه. فلا شك أنهما يتلهَّفان إلى التدخين، إذا كانا مُدخِّنين؛ لأنهما يتشمَّمان كل شيء في الكنيسة المُلحَقة بالكلية منذ وقت الغداء.»
انفجر كراكن ضاحكًا ضحكةً فظَّة مُفزِعة، وقال: «أوه، سآخذ إليهما سيجارهما، فأنا مجرَّد بروليتاري.»
كان بيكر وبراون والخادم جميعهم شهودًا على أن الشيوعي سار غاضبًا بخطًى واسعةٍ نحو الحديقة ليُواجه صاحبَي الملايين، ولكن لم يُرَ أو يُسمَع أيُّ شيءٍ آخر بعد ذلك، حتى وجدهما الأب براون ميتين في كرسييهما، كما ذُكِر سلفًا.
اتُّفق على أن يبقى رئيس الكلية والقس ليحرسا مسرح الفاجعة، بينما ركض أمين الصندوق، الأصغر سنًّا والأسرع حركة، لإحضار الأطباء ورجال الشرطة. اقترب الأب براون من الطاولة التي التهَم فيها أحد السيجارين نفسه باستثناء بوصة أو اثنتين، فيما سقط السيجار الآخر من يد صاحبه، وتناثر إلى شراراتٍ تحتضر على الرصيف ذي الأحجار غير المُنتظمة. وجلس رئيس الكلية مُرتجفًا على كرسيٍّ بعيد بما يكفي، ودفن جبينه الأصلع بين يديه، ثم نظر إلى أعلى بإرهاقٍ شديد في البداية، قبل أن يُحدِّق مذهولًا، ويكسر سكون الحديقة بكلمةٍ مُدوية كانفجارٍ صغير من فرط الذعر بسبب تصرُّف الأب براون.
كان الأب براون يتسم بخَصْلةٍ معيَّنة ربما يصفها البعض أحيانًا بأنها مُرعِبة؛ إذ دائمًا ما يُفكِّر فيما يفعله، ولا يُفكِّر أبدًا فيما إذا كانت هذه الأفعال مُستساغة اجتماعيًّا أم لا؛ لذا كان يفعل أقبح الأشياء وأرذلها وأقذرها وأكثرها ترويعًا بهدوء الجرَّاحين، حيث يغفل عقله البسيط عن كل تلك الأشياء التي عادةً ما ترتبط بالمؤمنين بالخرافات أو العاطفيين. على أي حال، لقد جلس على الكرسي الذي سقطت من فوقه الجثة، وأمسك السيجار الذي دخَّن الرجل الميت جزءًا منه، وفصل عنه الرماد برفق وفحص العُقب، ثم دفع السيجار داخل فمه وأشعله. بدا ذلك في العموم سلوكًا كريهًا بذيئًا ينطوي على سخرية من الموتى، لكنه بدا للأب براون تصرفًا راشدًا عاديًّا للغاية. ارتقت غيمةٌ من دخان السيجار إلى أعلى كدخان القرابين البربرية أو الطقوس الوثنية، لكنها بدَت للأب براون حقيقةً بديهية تمامًا مفادها أن الطريقة الوحيدة لمعرفة ماهية سيجار هي تدخينه. ولم يُهدِّئ من روع صديقه المُسِن، رئيس الكلية، أنه رأى، في تخمينٍ مُتشائم لكنه مُتبصِّر، أن الأب براون يُعرِّض حياته للخطر، بناءً على احتمالات سبب وفاة الرجلين.
فقال القس واضعًا العقب في مكانه مرةً أخرى: «كلَّا، أظنُّ أن لا مشكلة في ذلك. سيجارٌ ممتاز. وهو من سيجاركم. ليس أمريكيًّا ولا ألمانيًّا. لا أظن أن السيجار نفسه فيه أيُّ شيءٍ غريب، ولكن من الأفضل أن يهتموا بالرماد. لقد سُمِّم هذان الرجلان بطريقةٍ ما بمادةٍ تُيبِّس الجثة سريعًا … بالمناسبة، يوجد شخصٌ أدرى منَّا بذلك.»
انتصب رئيس الكلية في جلسته بحركةٍ عنيفة تُوحي بانزعاجه وفضوله؛ لأن الظل الكبير الذي سقط على ممشى الحديقة سبق شخصًا يتحرَّك بخطواتٍ هادئةٍ خفيفة كظلِّه تقريبًا، مع أنه كان ضخم البنيان. وصحيحٌ أن الأستاذ وُودَم، المسئول البارز عن البرنامج الدراسي لمادة الكيمياء، دائمًا ما كان يتحرك بهدوءٍ شديد بالرغم من حجمه، وأن تسكُّعه في الحديقة لم يكن فيه شيءٌ غريب، لكن ظهوره في اللحظة نفسها التي ذُكِرت فيها الكيمياء بدا مُرتَّبًا ترتيبًا غير طبيعي.
عادةً ما يفتخر الأستاذ بهدوئه، الذي يصفه البعض بأنه لامبالاة؛ إذ لم تهتز شعرة في رأسه المسطَّح ذي الشعر الأصفر الشاحب عند رؤية الجثتين، بل وقف ينظر إليهما بشيء من اللامبالاة على وجهه الكبير الشبيه بوجه الضفدع. ولم يتحرَّك إلا حين نظر إلى رماد السيجار، الذي حفظه القس، إذ لمسه بإصبعٍ واحد، ثم بدا أنه يقف جامدًا أكثر من ذي قبل، لكن عينيه بدتا جاحظتين لوهلة في ظل وجهه كعدسات المِقْرَاب وكأنهما أحد المجاهر التي يستخدمها؛ ومن ثَم، بدا أنه أدرك شيئًا أو عرف خطبًا ما بكل تأكيد، لكنه لم ينبس ببنت شفة.
قال رئيس الكلية: «لا أعرف من أين يبدأ أي أحد في هذه القضية.»
فقال الأب براون: «ينبغي أن أبدأ بالسؤال عن أماكن وجود هذين الرجلين التعيسين معظم أوقات اليوم.»
قال وُودَم مُتحدثًا لأول مرة: «كانا يعبثان في مُختبري وقتًا طويلًا. فكثيرًا ما يأتي بيكر إلى المُختبر لنتحدث معًا، غير أنه أحضر معه راعيَيه هذه المرة ليتفقَّدا قِسمي، لكني أظن أنهما ذهبا إلى كل مكان في الكلية كالسياح الحقيقيين؛ إذ عرفت أنهما ذهبا إلى الكنيسة المُلحَقة، بل وإلى النفق القابع تحت قبوها، حيث يتعيَّن على المرء إشعال الشموع، وبدلًا من أن يهضما غداءهما كالرجال العقلاء. يبدو أن بيكر قد اصطحبهما إلى كل مكان.»
سأله القس: «هل كانا مهتمين بأيِّ شيءٍ خاص في قِسمك؟ وماذا كنت تفعل هناك آنذاك؟»
تَمتم أستاذ الكيمياء بصيغةٍ كيميائية تبدأ ﺑ «كبريتات» وتنتهي بكلمةٍ أشبه ﺑ «السيلينيوم»، بدَت غير مفهومة لكلا المُستمعين إليه، ثم تمشَّى بعيدًا بإرهاقٍ يبدو على جسده، وجلس على دكةٍ بعيدة تحت الشمس، وأغلق عينيه، لكنه رفع وجهه الكبير برباطةِ جأشٍ شديدة.
ومن موضعه، وعلى نقيض تام منه، ظهر شخصٌ خفيف الحركة يتخطَّى مروج الحديقة بسرعة واستقامة كالرصاصة، وعرف الأب براون أنه الطبيب الشرعي، الذي كان ذا ثيابٍ سوداء أنيقة ووجهٍ فطنٍ شبيه بوجه الكلب؛ لأنه التقاه سابقًا في بعض المناطق الأفقر في البلدة. وكان أول الواصلين من السُّلطات الرسمية.
قال رئيس الكلية للقس قبل أن يصبح الطبيب في مرمى السمع: «أصغِ إليَّ، لا بد أن أعرف شيئًا. هل كنت تعني حقًّا ما قلته عن أن الشيوعية خطرٌ حقيقي وقد تؤدِّي إلى جريمة؟»
فقال الأب براون مُبتسمًا ومُحتفظًا ببعض التجهم: «نعم، لقد لاحظت في الواقع انتشار بعض الطُّرق والتأثيرات الشيوعية، ومن منظورٍ ما، هذه جريمةٌ شيوعية.»
قال رئيس الكلية: «شكرًا لك. إذن، يجب أن أذهب لأرى شيئًا في الحال. أخبِر السُّلطات بأنني سأعود في غضون عشر دقائق.»
توارى رئيس الكلية داخل أحد أقواس تيودور في اللحظة نفسها التي وصل فيها الطبيب الشرعي إلى الطاولة وابتهج حين وجد الأب براون. وبينما اقترح الأخير أن يجلسا عند الطاولة التي شهدت الفاجعة، ألقى الطبيب بليك نظرةً حادَّة مُرتابة إلى الكيميائي الضخم المُتبلد الذي بدا نائمًا، وكان يجلس على دكةٍ أبعد. فعرف الطبيب من الأب براون هوية البروفيسير كما هو متوقَّع، وما جُمِع حتى الآن من أقواله، وكان يُصغي إلى كلام القس بصمت وهو يُجري فحصًا أوليًّا للجثتين. وبطبيعة الحال، بدا أكثر تركيزًا على الجثتين الفعليتين من الأقوال التي كان الأب براون ينقلها إلى مسامعه، حتى شتَّتت إحدى التفاصيل انتباهه فجأةً عن علم التشريح تمامًا.
إذ سأل قائلًا: «ما الصيغة الكيميائية التي قال البروفيسير إنه كان يعمل عليها؟»
فكرَّر الأب براون الصيغة الكيميائية التي لم يفهمها بصبر.
فصاح الطبيب بليك فجأةً بكلمةٍ خرجت منه كالرصاصة: «ماذا؟ يا إلهي! هذا أمرٌ مُرعِب جدًّا!»
فسأله الأب براون: «بسبب أنها صيغة سم؟»
قال الطبيب بليك: «بل لأنها صيغة هراء. إنها محض هراء. هذا البروفيسير كيميائيٌّ مشهور جدًّا، فلماذا يقول كيميائيٌّ مشهور هذا الهراء عمدًا؟»
أجاب الأب براون بهدوء: «حسنًا، أظن أنني أعرف إجابة هذا السؤال. إنه يقول هراءً لأنه يكذب. إنه يُخفي شيئًا، وأراد إخفاءه بالأخص عن هذين الرجلين ووكلائهما.»
رفع الطبيب عينيه عن الجثتين ونظر إلى قامة الكيميائي المشهور التي كانت شِبه جامدة جمودًا غير طبيعي. ربما كان نائمًا؛ إذ استقرَّت عليه إحدى فراشات الحديقة، وبدا أنها حوَّلت جموده إلى جمودِ صنمٍ حجري. وذكَّرت التجاعيد الكبيرة في وجهه، الذي يُشبه وجه الضفدع، الطبيب بالجلود المُتدلية لوحيد القرن.
قال الأب براون بصوتٍ خفيض جدًّا: «نعم، إنه رجلٌ خبيث.»
فصاح الطبيب، ساقطًا فجأةً إلى أدنى أعماق أخلاقه: «لعنة الله على كل ذلك! هل تقصد أن عالمًا بارزًا كهذا يمكن أن يُشارك في جريمة قتل؟»
فقال القس بحياديةٍ خالية من أي عواطف: «إن النُّقاد المُدقِّقين الذين يصعُب إرضاؤهم سينتقدون اشتراكه في جريمة قتل. ولا أقول إنني شخصيًّا مُغرَم جدًّا بمن يُشاركون في جريمة قتل بهذه الطريقة، لكن الأهم من ذلك بكثير أنني مُتيقن من أن هذين الرجلين كانا من مُنتقديه المُدقِّقين الذين يصعُب إرضاؤهم.»
قال بليك بعبوس: «أتقصد أنهما كشفا سرَّه فأسكتهما؟ لكنني أتعجب؛ ما هو سرُّه هذا؟ وكيف يمكن لرجلٍ أن يقتل وسط حشد كبير في مكان كهذا؟»
قال القس: «لقد أخبرتك بسرِّه. إنه سرُّ الروح. إنه رجلٌ سيئ. ومن أجل الله، لا تظن أنني أقول ذلك لأنه وإياي ننتمي إلى مذاهب فكرية مُتناقضة أو تقاليد مُتعارضة؛ فأنا لديَّ مجموعةٌ كبيرة من الأصدقاء العِلميين، ومعظمهم لا يتأثَّر بمصالحه أو اعتباراته الشخصية. وحتى عن أعتى المُشككين، سأقول إنهم لا يتأثَّرون بمصالحهم الشخصية على نحوٍ غير منطقي، ولكن بين الحين والآخر، يظهر رجلٌ مادي، بمعنى أنه يكون وحشًا همجيًّا. وأكرِّر أنه رجلٌ سيئ، بل أسوأ بكثير من …» وهنا بدا الأب براون مُترددًا في قولِ كلمةٍ ما.
فاقترح الآخر قائلًا: «أتقصد أسوأ بكثير من الشيوعي؟»
قال الأب براون: «كلَّا، بل أقصد أسوأ بكثير من القاتل.»
وقام من كرسيه بذهنٍ شارد، ولم يكد يُدرك أن رفيقه كان يُحدِّق إليه.
ثم سأله بليك أخيرًا: «ولكن ألم تقصد أن ذلك المدعو وودَم هو القاتل؟»
قال الأب براون بابتهاجٍ أكبر: «آه، كلَّا، بل القاتل أكثر تعاطفًا وقابليةً للفهم بكثير، لكنه كان يائسًا، وكان لديه عُذره في الشعور بغضب ويأس مُفاجئين.»
فصاح الطبيب: «عجبًا! أتقصد أنه الشيوعي في النهاية؟»
وفي هذه اللحظة نفسها، ظهر رجال الشرطة في الوقت المناسب، وأعلنوا نبأً بدا أنه أنهى القضية نهايةً حاسمة ومُقنعة للغاية؛ إذ تبيَّن أن السبب الوحيد الذي أخَّرهم بعض الشيء في الوصول إلى مسرح الجريمة أنهم قبضوا على المجرم بالفعل؛ لقد قبضوا عليه عند أبواب مقرهم الرسمي تقريبًا؛ إذ كان لديهم بالفعل سبب للاشتباه في أنشطة كراكن الشيوعي في أثناء الاضطرابات العديدة في البلدة، وحين سمعوا بهذه الجريمة الصادمة، شعروا باطمئنانٍ حيال اعتقاله، ووجدوا اعتقاله مُبرَّرًا تمامًا؛ وذلك لأنهم حالما فتَّشوا الشيوعي السيئ السمعة، وجدوا أنه يحمل علبةً من أعواد الثقاب المسمومة، حسبما أوضح المُفتش كوك بتألقٍ للأساتذة والأطباء الموجودين في مرج حديقة ماندفيل.
وحالما سمع الأب براون كلمة «ثقاب»، هبَّ من كرسيه كأن عود ثقاب قد اشتعل تحته.
وصاح بتعبيراتٍ اعتلاها نوع من التوهج الكوني: «آه، والآن اتضح كل شيء.»
فسأله رئيس الكلية، الذي عاد إلى الحديقة بكامل أبَّهة منصبه الرسمي ليُضاهي أبَّهة رجال الشرطة الذين كانوا يحتلون الكلية آنذاك كجيشٍ مُنتصر: «ماذا تقصد بأن كل شيء اتضح؟ هل تقصد أنك صِرت مُقتنعًا بأن حُجة إدانة كراكن باتت واضحة؟»
قال الأب براون بحزم: «بل أقصد أن ساحة كراكن قد بُرِّئت تبرئةً واضحة، وأن حجة إدانة كراكن قد تلاشت تلاشيًا جليًّا. هل تعتقد حقًّا أن كراكن من النوع الذي قد يُسمِّم الآخرين بأعواد الثقاب؟»
فقال رئيس الكلية بالتعبيرات المُنزعجة التي لم تُفارقه قط منذ تأثُّره الأول بالفاجعة حين علم بوقوعها: «يبدو هذا منطقيًّا في حد ذاته، لكنك أنت من قال إن المُتعصبين ذوي المبادئ الزائفة قد يرتكبون أفعالًا خبيثة. وفوق ذلك، أنت من قال إن الشيوعية تزحف في كل مكان، وإن العادات الشيوعية تنتشر.»
فضحك الأب براون ضحكةً خجولةً بعض الشيء.
وقال: «بخصوص النقطة الأخيرة، أظن أنني مَدين لكم جميعًا باعتذار؛ إذ يبدو أنني دائمًا ما أُحدِث التباسًا بمزحاتي البسيطة السخيفة.»
فكرَّر رئيس الكلية كلمة القس، مُحدِّقًا إليه ببعض الاستياء: «مزحاتك!»
أوضح القس مقصده وهو يحكُّ رأسه: «حسنًا، حين تحدثت عن انتشارِ عادةٍ شيوعية، كنت أقصد عادةً لاحظتها اليوم مرَّتين أو ثلاثًا. إنها عادةٌ شيوعية لكنها لا تقتصر على الشيوعيين إطلاقًا؛ فقد صارت عادةً غريبة لدى الكثيرين، لا سيَّما الإنجليز، أن يضعوا عُلَب ثقاب الآخرين في جيوبهم وينسوا أن يُعيدوها إليهم. صحيحٌ أن هذه العادة تبدو تافهةً سخيفة وغير جديرة بالذكر، ولكن تصادَف أن هذه هي الطريقة التي ارتُكبت بها الجريمة.»
فقال الطبيب: «أرى ذلك جنونيًّا تمامًا.»
قال القس: «حسنًا، إذا كان أي رجل مُعرَّضًا لنسيان إعادة الثقاب إلى أصحابها، يمكنك أن تتيقَّن تمامًا من أن كراكن قد نسي إعادتها إلى صاحبها؛ لذا فواضع السم في الثقاب تخلَّص منها ببساطة بإعطائها لكراكن ثم لم يستعدها منه. وهذه طريقةٌ رائعة جدًّا للتخلص من المسئولية؛ لأن كراكن نفسه لن يتمكن إطلاقًا من تصوُّر المكان الذي وصلت منه تلك الثقاب إلى جيبه، ولكن حين استخدمها بمنتهى البراءة ليُشعِل السيجارين اللذين قدَّمهما لزائرينا، وقع في فخٍّ واضح، واحدٌ من تلك الفخاخ الأوضح من اللازم؛ إذ أصبح الثوري السيئ الجريء الذي قتل صاحبي الملايين.»
تمتم الطبيب: «حسنًا، ومن سواه أراد قتلهما؟»
قال القس وقد تغيَّر صوته إلى نبرةٍ أشد جدِّية بكثير: «آه، مَن حقًّا؟ هنا ننتقل إلى الأمر الآخر الذي أخبرتكم به، ودَعوني أقُل لكم إنه لم يكن مزحة. لقد أخبرتكم بأن الهرطقات والمذاهب الزائفة صارت شائعةً ومنتشرةً في أحاديث عامة الناس، وأن الجميع قد اعتادها، وأن لا أحدَ يُدرك وجودها حقًّا. فهل ظننتم أنني كنت أقصد الشيوعية حين قلتُ ذلك؟ يا للدهشة! بل قصدت العكس تمامًا. لقد كنتم جميعًا قلِقون جدًّا من الشيوعية، ورأيتم كراكن كذئب. صحيحٌ أن الشيوعية هرطقة، لكنها ليست من الهرطقات التي تعتبرونها، يا أيُّها الناس، شيئًا مُسلَّمًا به، بل الرأسمالية هي ما تعتبرونه شيئًا مُسلَّمًا به، أو بالأحرى رذائل الرأسمالية المُتنكرة في شكل داروينية ميتة. هل تتذكرون ما كنتم تقولونه جميعًا في غرفة استراحة أعضاء هيئة التدريس عن أن الحياة محض تدافُع، وأن الطبيعة تتطلَّب بقاء الأصلح، وأن مسألة حصول الفقراء على أجورٍ عادلة أو جائرةٍ غير مهمة؟ حسنًا، هذه هي الهرطقة التي أصبحتم تعتادونها يا أصدقائي، وهي هرطقةٌ مثلها مثل الشيوعية تمامًا. هذا هو المذهب الأخلاقي المخالف للمسيحية، أو المذهب اللاأخلاقي الذي صِرتم تعتادونه، وهذا هو المذهب اللاأخلاقي الذي جعل أحد الرجال قاتلًا اليوم.»
صاح رئيس الكلية ثم تحشرج صوته بوهنٍ مُفاجئ: «أي رجل؟»
قال القس بهدوء: «دعوني أوضِّح ذلك بطريقةٍ أخرى. تتحدثون جميعكم عن كراكن كأنه حاول الهرب، لكنه لم يفعل. فحين انهار الرجلان على كرسيَّيهما، هرع إلى الشارع، واستدعى الطبيب بمجرد مُناداته عبر النافذة، وبعد ذلك بلحظات، كان يُحاول استدعاء الشرطة. وهكذا قُبِض عليه، ولكن ألَا يُدهشكم، وقد خطر ذلك ببال المرء الآن فجأة، أن السيد بيكر، أمين الصندوق، ذهب منذ وقتٍ طويل لاستدعاء الشرطة ولم يأتِ بعد؟»
قال رئيس الكلية بنبرةٍ حادَّة: «فماذا يفعل إذن؟»
قال الأب براون: «أظن أنه يُتلِف بعض الأوراق، أو ربما يُفتِّش غرفتَيْ هذين الرجلين بدقة ليتيقَّن من أنهما لم يتركا لنا أيَّ رسالة، أو ربما لديه شيءٌ ما ليُنجزه مع صديقنا وودَم. فكيف تورَّط في الأمر إذن؟ الإجابة بسيطة جدًّا، بل وأشبه بالمزحة أيضًا. إن السيد وودَم يجري تجارب على بعض السموم استعدادًا للحرب القادمة، ولديه مادةٌ يؤدي استنشاق نفحة من لهبها إلى الموت وتيبُّس الجثة. صحيحٌ أنه ليس له علاقة بقتل هذين الرجلين، لكنه أخفى سرَّه الكيميائي لسببٍ بسيط جدًّا؛ فأحد هذين الرجلين كان أمريكيًّا بيوريتانيًّا، والآخر كان يهوديًّا كوزموبوليتيًّا، وهذان النوعان غالبًا ما يكونان من دعاة السلام المتعصِّبين؛ لذا كانا سيصفان هذه التجارب بأنها تخطيط للقتل؛ ومن ثَم كانا سيرفضان مساعدة الكلية على الأرجح، لكن بيكر كان صديق وودَم؛ لذا من السهل عليه أن يغمس أعواد الثقاب في المادة الجديدة.»
كانت إحدى السمات الخاصة الأخرى التي يتصف بها القسُّ الضئيل الحجم أن عقله كان مُتجانسًا كقطعةٍ واحدة، ولم يكن يعي العديد من التنافرات؛ لذا فهو أحيانًا يُغيِّر موضوع حديثه من كلامٍ عام جدًّا إلى كلامٍ خاص جدًّا دون أي حرج. وفي هذه المناسبة، جعل معظم الموجودين يُحدِّقون إليه بتحيُّر حين بدأ يتحدَّث إلى شخصٍ واحد منهم فجأةً بعدما كان يتحدث إلى عشرة، غير مُبالٍ إطلاقًا بأن هذا الشخص فقط هو الذي قد يفهم حديثه.
إذ قال بنبرةٍ اعتذارية: «آسفٌ إذا ضلَّلتك، أيها الطبيب، بذلك الاستطراد الماورائي المُضلِّل الذي تحدَّثتُ فيه عن الرجل الخبيث. صحيحٌ أن ذلك الحديث لم يكن له علاقة بالجريمة، لكن الحقيقة أنني نسيت الجريمة تمامًا آنذاك، بل نسيت كل شيء، كما ترى، باستثناء مشهد ذلك الرجل بوجهه الكبير اللابشري جاثمًا بين الزهور كوحشٍ أعمى من العصر الحجري. لقد كنت أفكر آنذاك في أن بعض الرجال وحشيون جدًّا، كرجال العصر الحجري، لكن ذلك لم يكن له صلة بالجريمة إطلاقًا؛ فسُوء جوهر المرء من الداخل ليس له علاقة بأن يرتكب جرائم بجوارحه من الخارج. وأسوأ المجرمين لم يرتكبوا جرائم. غير أن بيت القصيد الفعلي هو لماذا ارتكب المجرم الفعلي هذه الجريمة. لماذا أراد بيكر، أمين الصندوق، قتل هذين الرجلين؟ هذا كل ما يهمُّنا الآن، وإجابته تكمن في إجابة السؤال الذي طرحته مرتين؛ أين كان هذان الرجلان معظم اليوم، باستثناء الوقت الذي كانا يتفقَّدان فيه الكنيسة المُلحَقة أو المُختبر؟ حسبما قال أمين الصندوق بلسانه، فقد كانا يُناقشان بعض الأمور المالية معه.
والآن، مع كل الاحترام لحُرمة الموتى، لن أتملَّق فكر هذين الممولين؛ فآراؤهما في الاقتصاد والأخلاق كانت وثنية وعديمة الشفقة، وآراؤهما في السلام كانت محض هراء، وآراؤهما في النبيذ كانت أشد جدارةً بالاستحقار، لكنهما كانا يفهمان شيئًا واحدًا، وهو الشئون المالية. وسرعان ما اكتشفا أن المسئول عن الموارد المالية في هذه الكلية مُحتال، أو يمكنني القول إنه مُريدٌ حقيقي لمبدأ الصراع غير المحدود على الحياة وبقاء الأصلح.»
فقال الطبيب بعبوس: «تقصد أنهما كانا سيفضحانه فقتلهما قبل أن يتكلَّما ويكشفا أمره، لكن هناك تفاصيل كثيرة لا أفهمها.»
قال القس بصراحة: «أنا نفسي لست مُتيقنًا من بعض التفاصيل. أظن أن مسألة إضاءة الشموع في القبو كانت تهدف إلى تجريد صاحبَي الملايين من أعواد ثقابهما، أو ربما التيقن من عدم وجود أعواد ثقاب لديهما، لكني على يقين من البادرة الرئيسية؛ تلك البادرة الطريفة المُستهترة التي ألقى فيها بيكر أعواد ثقابه إلى كراكن المُستهتر. فهذه البادرة كانت الضربة القاتلة.»
قال المُفتش: «يوجد شيءٌ واحد لا أفهمه؛ كيف عرف بيكر أن كراكن لن يُشعل غليونه آنذاك وهناك على المائدة ويصبح جثةً غير مرغوب فيها؟»
وهنا صار وجه الأب براون شِبه مُثقَل بتعبيرات الاستنكار، وامتزجت نبرته بشيءٍ من دفءٍ حزين لكنه سخيٌّ.
وقال: «حسنًا، سُحقًا، لقد كان مجرَّد مُلحِد.»
قال المُفتش بأدب: «يؤسفني القول إنني لا أفهم قصدك.»
شرح الأب براون قصده بنبرةٍ منطقية يكسوها ضبط النفس: «لم يُرِد سوى أن يلغيَ وجود الله. لم يُرِد سوى أن يُدمِّر الوصايا العشر، ويجتثَّ كل جذور الدين والحضارة اللذين صنعاه، ويمحو كل معالم الفطرة السليمة التي تميل إلى مُراعاة حق الحيازة والأمانة، ويترك مُتوحشَيْن قادمَيْن من أقاصي الأرض يقضيان على ثقافته وبلده. هذا كل ما أراده. ولا يحق لكم اتهامه بأي شيء سوى ذلك. سُحقًا، كل شخص لديه حدودٌ لا يمكن تجاوُزها! وأنت تأتي الآن وتقول بكل هدوء إن أحد رجال ماندفيل المُنتمين إلى الجيل القديم (لأن كراكن من الجيل القديم، بغضِّ النظر عن آرائه) كان من الممكن أن يبدأ في التدخين، أو يُشعل عود ثقاب حتى، وهو ما زال يشرب نبيذ الكلية، المُعتَّق منذ عام ١٩٠٨، كلَّا وألف كلَّا، فالبشر ليسوا بلا قوانين وحدود نهائيًّا إلى هذا الحد! لقد كنتُ هناك ورأيته، لم يكن قد أنهى كأسه من النبيذ، وأنت تسألني لماذا لم يُدخِّن! لم يهزَّ سؤالٌ فوضوي كهذا أقواس كلية ماندفيل من قبل. كلية ماندفيل مكانٌ مُتفرد، وجامعة أكسفورد مكانٌ مُتفرد، وإنجلترا مكانٌ مُتفرد.»
سأله الطبيب بفضول: «لكنك لستَ ذا صلةٍ بأكسفورد، أليس كذلك؟»
قال الأب براون: «إنني ذو صلة بإنجلترا؛ إذ أتيتُ من هناك. والشيء الأكثر إضحاكًا أنك حتى إذا كنت تُحبها وتنتمي إليها، فستظل عاجزًا عن فهمها.»