الفصل الحادي عشر

نادت آنا من الحديقة الخلفية حالما وصلَت إلى المنزل: «أمي! لقد عُدت.»

«آها، الآنسة بيريز. تفضلي بالدخول.»

كان هذا صوتًا رجاليًّا. جاء في صورة أمر، لا طلب.

شعرت آنا بالتوتُّر، ربطت العنزة وغسلت يدَيها تحت مضخة الماء. كانت تعلم أنها تبدو بمظهرٍ غير لائق. فتنورتها الصوفية ملطخة، وقميصها الأبيض مُغبر بالتراب ورأسها مكشوف بلا غطاء. وبدافعٍ غريزي، دسَّت خطاب والدها في حقيبته الجلدية وتركتها بالخارج. ثم، ضفرت شَعرها ودخلت الغرفة الرئيسية.

كانت الغرفة عبارة عن غرفةٍ مربعة ذات جدران بيضاء وعوارض خشبية، تؤدي وظيفة غرفة معيشة ومطبخ في آنٍ واحد. كان بها موقد من القرميد مفتوح يعلوه غلاية سوداء. ووُضِعت الأواني والمقالي النحاسية على خزانة، وأسفل منها وُضِعَت الأطباق الخشبية والصحون وقماش الكتان. وفي منتصف الغرفة كانت هناك طاولة كبيرة متهالكة ومكشوطة نظرًا لاستخدامها لسنوات طويلة، وستة كراسي ذات ظهر سُلَّميِّ الشكل. وعُلِّق على الجدار صليب خشبي.

نادت آنا: «أمي؟»

ألقت نظرة على والدتها. كانت تجلس إلى جوار المدفأة الباردة وهي تمسك بمسبحتها. تُخفي وجهها وراء الحجاب الأسود المميز للأرامل. وعندما انحنت آنا وقبَّلَت خدَّها، أدركت أن ثمَّة رجلَين يقفان في الظل إلى جوار الباب الأمامي.

قالت والدتها بفزع: «هؤلاء السادة يريدون التحدُّث إليك.»

شعرت آنا بقشعريرة تَسْري في أوصالها.

لم يكُن الزائران مزارعَين مثلهم، وإنما رجلان مهمَّان. رجلان ذوا نفوذ. التفتت آنا عندما دخل القس أولًا، ثم تبِعَه أخوه — العمدة بنفسه — إلى دائرة الضوء.

دفعتها والدتها إلى الأمام. «سلِّمي على ضيفَينا، يا آنا.»

مدَّ القس البدين يده، وهو يتصبَّب عرقًا بسبب الحرارة. كانت أظافره مُتسخة. تحاملت آنا على نفسها لتنحني أمامه وتُقبِّل خاتمه إرضاءً لوالدتها فحسب. أما العمدة فكل شيء يخصُّه كان يشي بتفاخُره بثروته وأهميته. فقد ارتدى سترة ذهبية طويلة، ومُطرزة بخيوط من الحرير الأسود، وسروالًا أحمر، وأحزمة بيضاء وحذاءً بمقدمة مربعة. بدا أشبه برجل نبيل من إسبانيا. فشعره المستعار، المصنوع من شَعرٍ بشري حقيقي، عبارة عن كتلة من الخصل السوداء؛ مفروقة من المنتصف ومثبَّتة في مكانها بواسطة معجون الدقيق. استطاعت آنا أن ترى قطرات الدقيق منزلقة على جبينه.

انحنت آنا انحناءةً قصيرة. وأردفت: «كيف يُمكنني أن أساعدكما، يا سيدي؟»

أشار العمدة بيده.

فجاء القس. وقال: «تناهى إلى مسامعنا أنكم دفنتم والدكم.»

حافظت آنا على رباطة جأشها. وقالت: «أجل، أمس.»

«هل حصلتم على تصريح بدفنه؟»

شعرت آنا باضطرابٍ في معدتها. وأردفت: «القبر على أرضنا، وبما أنه لم يكُن مسموحًا لنا بدفنه في الأرض المقدسة …»

قاطعها القس قائلًا: «هذه شريعة الرب.»

رفع العمدة يده. وقال: «آها، أرضكم. أخشى أن أقول إن هذه هي المشكلة، آنسة بيريز. كانت الأرض باسم والدك.»

حبست آنا أنفاسها. ثم عقَّبَت: «لا أفهم مقصدك، يا سيدي.»

ابتسم لها ابتسامةً مُصطنَعة. وأردف: «أوه، أنا متأكد أنكِ تفهمين ما أرمي إليه. فتاة ذكية مثلك لا بد أنها تفهم.»

قالت له وهي تتحامل على نفسها لمواجهة نظراته: «أنت تُداهنني.»

قال القس بحدة: «لم يكُن هذا ما يرمي إليه أخي. يجب أن تُبدي الاحترام.»

ضحك العمدة. ثم صدر عنه صوت أجوف وقبيح. قائلًا: «أنتِ تعرفين، كما أعرف، أنه لا يحق لأية امرأة أن تمتلك أرضًا.»

قالت آنا: «ولكن تُستثنى بعض الحالات. أمي تحتفظ بالأرض على سبيل الوصاية حتى يبلغ شقيقاي سِن الرشد.»

«وهذا لن يحدث قبل أربع سنوات.»

أخذ يُحدِّق كلٌّ منهما في الآخَر. بإمكان العمدة أن يسمح لأُمِّها بالاحتفاظ بالأرض — معظم الأرامل يُسمح لهن بذلك — إلا أن آنا كانت تعرف أنهم لا يستطيعون جمع المال من أجل الرشوة. إذا كان هذا ما يريده.

أخرج العمدة قُبعتها القشية من خلف ظهره. اتسعت عينا آنا في دهشة.

وقال لها: «هل هذه تخصُّك؟»

تظاهرت آنا بأنها تُلقي نظرة. ثم أردفت: «ربما تخصني يا سيدي. لقد فقدتُ قُبعتي قبل بضعة أيام.»

«أين؟» انطلق السؤال بسرعةٍ وحِدَّة كالسهم.

لم تكُن آنا مُتيقنة حيال ما يدور الأمر حوله؛ لكنها حافظت على نبرة صوتها ثابتة. لم تكُن راغبة في الإفصاح بأي شيء.

«في غمار حزني على وفاة والدي، كنتُ أتجوَّل على الجزء السفلي من المنحدرات السفلية بالقرب من بساتين الكروم الخاصة بنا. من أجل تصفية ذهني من الأفكار. لقد أسقطتها حتمًا آنذاك.»

ضيَّق العمدة عينَيه. وسألها: «ليس في منطقة أعلى من ذلك على الجبل؟»

حينذاك فهمت آنا. لا بد أن رجاله قد وجدوها في المنطقة الجرداء الخالية من الأشجار، ولا بد أن هذا أزعجه لسببٍ ما. ولكن لماذا؟ نظرت آنا إلى أُمها وسمِعَتها وهي تحرِّك مسبحتها.

قالت آنا: «كلَّا يا سيدي. يجب عليَّ البقاء بالقرب من المنزل. لأكون على مقربةٍ من أمي حين تحتاج إليَّ.»

باغتها بسؤال غيَّر مجرى الحديث: «رسالة الانتحار التي تركها والدك. أما زالت معكِ؟»

شعرت آنا بأن ساقَيها بدأتا ترتجفان، إلا أنها تمالكت نفسها ووقفت بثبات. قالت كاذبة: «ليست معي يا سيدي. أحرقتُها لأُخفِّف عن أُمي وطأة الألم.»

أطال العمدة النظر إليها لدقيقة، ثم وضع القبعة على الطاولة.

«قبل انتحار والدك ببضعة أيام، سمعه البعض يخوض في حديث متهوِّر. وهو ما أثار المشكلات بعد ذلك.»

سمعت آنا أُمَّها تتململ في جلستها.

تابع العمدة حديثه قائلًا: «بالطبع، كان ينشر الأكاذيب. ويحثُّ الناس على مغادرة البلدة. ويدَّعي أن الجبل الأسود سيثور. ألحق هذا بالتجارة ضررًا بالغًا. فإذا لم تتمكَّن السفن من الرسو في الميناء، ستعاني الجزيرة بأكملها.»

صاحت آنا قبل أن تتمالك نفسها قائلة: «ولكن ماذا لو كان محقًّا؟ جميع العلامات متحقِّقة. يجب أن نحذِّر الناس.»

أشار العمدة بإصبعه نحوها. وأردف قائلًا: «لا تقعي في خطأ ترديد هذه الأكاذيب، آنسة بيريز. لا سيما أن موضوع أرضكِ قيد النقاش.»

حينذاك أدركت آنا الحقيقة. لم يكُن راغبًا في المال وإنما كان راغبًا في شراء صمتها. سيسمح لهم العمدة بالبقاء ما دامت لن تنبس ببِنت شفة. كان يتعيَّن عليها أن تلتزِم الصمت حيال وفاة والدها وحيال التغييرات التي طرأت على الجبل.

واستطرد قائلًا: «أتفهمين؟»

رفعت آنا رأسها وحدَّقَت في عينَيه مباشرة. وأردفت: «أجل. فهمت.»

وما إن أدركت أُمها أن ثمَّة صفقة عُقدت حتى أمسكت بيد القس.

قالت: «باركك الرب، أبانا. شكرًا لك، شكرًا لك.»

وضع الكاهن يده البغيضة على رأس السيدة بيريز. ثم قال: «الرب يرعى أولئك الذين يُخلِصون في خدمته. سأصلِّي من أجلك.» ثم نظر إلى آنا. وأردف: «سأُصلِّي من أجلكم جميعًا.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥