الفصل الثاني عشر

وبعدما غادر الرجلان، ظنَّت آنا أن ساقَيها قد تنهاران في أي لحظة.

بالتأكيد، كانت خائفة؛ ولكن شعور الغضب غالَبَها. أخذت تستعرض الأحداث في ذهنها. ولذا، تملَّكَها الندم بسبب عدم الدفاع عن والدها؛ ولكنها كانت تعلم أنها ليس أمامها خيار آخَر إن كانوا بصدد أن يُطرَدوا من أرضهم.

قالت والدتها باكية: «أنا آسفة. لم أستطع منعهم من الدخول.»

قالت آنا وهي تُطوِّق كتفَي والدتها بذراعها: «ليست غلطتك، يا أمي. ليست غلطتك.»

الْتَقطَت آنا قُبعتها.

قالت أُمها في ذُعر: «إلى أين تذهبين؟»

«إلى الميناء لأحضر بابلو وكارلوس. سأرسلهما ليجلسا معكِ بينما أبحث أنا عن أنطونيو.»

هزَّت أُمُّها رأسها. «لا، لا. المشكلات ظهرت عندما بدأ والدكِ يستمع إلى أنطونيو. إنه يجلب النحس على هذه الأسرة.»

جثَتْ آنا على ركبتَيها وأمسكت يدَي أُمها بين يدَيها. وقالت: «إذا كان أبي وأنطونيو على حق — وأعتقد أنهما كذلك — فلا يُهِم ما يظنُّه القس، أو ما يقوله العمدة. إذا ثار الجبل الأسود، سيُباد كل شيء. أرضنا، هذا البيت، بل وحتى البلدة بأكملها. يجب أن نفعل شيئًا.»

صاحت والدتها قائلة: «لم يحدث ذلك قطُّ. كان والدكِ دائمًا يتحدَّث عن ثوَرَان الجبل، ولكنه لم يحدث. كان مخطئًا.»

قبَّلَت آنا أُمها. وأردفت: «سأعود في أقرب وقتٍ ممكن.»

•••

تجمَّعَت حشود كبيرة على درجات سُلَّم المجلس البلدي. كان من بينهم صيادون، وربات بيوت يحملنَ سلال تسوُّق مُمتلئة عن آخِرها بمشتريات، وتجار، وأطفال يلعبون بالأطواق الخشبية في الشارع. بالإضافة إلى عددٍ قليل من البحارة، الذين نزلوا توًّا من القوارب المُتجهة إلى المُستعمرات، يُثرثرون بالهولندية والإنجليزية. تساءلت آنا في نفسها عما يحدث.

عندما دلفت إلى الساحة، رأت أخوَيها، بابلو وكارلوس، يجلسان يُراقبان الموقف من عند السور المجاور للكنيسة. وقف رودي المسكين على مسافةٍ بعيدة قليلًا. لوَّحت لجذب انتباههم، ولكن لم يلتفت إليها أيٌّ من الصبية. ثم رأت الأرملة سيلفا في مقدمة الحشد فذهبت للانضمام إليها.

سألتها آنا: «هل رأيت أنطونيو؟ أريد أن أتحدث إليه. إنها مسألة عاجلة.»

أجابت الأرملة سيلفا، وهي تُشير إلى هيئة الشخص الهزيل الذي يرتدي معطفًا أسود طويلًا وسروالًا فضفاضًا يصعد درجات السلم المؤدية إلى واجهة المجلس البلدي، قائلة: «سيتعيَّن عليكِ الانتظار. سيتحدث.»

أخرجت آنا رسالة والدها من جيبها وعرضتها على العجوز. ثم علَّقَت قائلة: «هل تستطيعين رؤية هذه الأحرف الستة؟»

هزَّت الأرملة سيلفا رأسها. وقالت: «لا أفهمها.»

أشارت آنا. «هل ترينها الآن؟ إذا رتبتها ترتيبًا صحيحًا؟ ب - ل - ا - ن - ك - ا.»

حدَّقَت العجوز، ثم أومأت برأسها. «أجل.»

«أترين الآن كيف أخفى والدي الاسم؟»

قالت آنا، وهي تُشير إلى الخطاب: «أعتقد أن هذا هو السبب في مقتل والدي. أعتقد أنه رأى شيئًا من الجبل.» صمتت برهة. ثم تابعت: «أتى العمدة والقس إلى منزلنا في وقت سابق يسألان عن هذا الخطاب.»

اتسعت عينا الأرملة سيلفا من هول الصدمة. ونصحتها قائلة: «يجب أن تتوخَّي الحذَر يا آنا.»

لم تسنح لهما الفرصة ليستطردا في حديثهما أكثر من ذلك. كان أنطونيو قد وصل إلى أعلى الدرج وأخذ يُصفِّق بيدَيه لجذب انتباه الحشد.

«رفاقي، هل ستستمعون إليَّ؟»

سار الحشد بخُطًى متثاقلة.

حاول أنطونيو جذب الانتباه مرَّة أخرى: «أيها الرفاق، أهل الجزيرة الكرام. هل ستستمعون إليَّ؟»

صاح رجل مُلتحٍ في المقدمة. قال: «دعونا نسمع ما يريد أن يقوله.»

خيَّم الوجوم على الحشد. وغشِيَهم الصمت واحدًا تلو الآخر.

قال أنطونيو، وهو يرفع صوته حتى يتمكن الواقفون بالخلف من سماعه: «شكرًا لك. أيها الرفاق، يَسوءُني أن أقول هذا، ولكن نحن يَحيق بنا خطر.»

قال أحدهم مازحًا: «بسبب الضرائب الإسبانية فحسب!»

تابع أنطونيو حديثه. وقال: «نحن نعيش في ظل الجبل الأسود.»

صاح صبي الجزار قائلًا: «نحن نعرف ذلك!» فضحك الجميع.

واصل أنطونيو: «ظلَّ يَحمينا لسنوات. منحنا تُربة خصبة لنزرع الخضراوات والفاكهة. وبساتين كرمات العنب. لم يحدث أن عانَينا مثلما عانى الآخرون في أنحاء أخرى من الجزيرة.»

قال الرجل الملتحي: «وعسى أن يستمر ذلك!»

بسط أنطونيو ذراعَيه. رأت آنا أنه يبدو كالواعظ وشعرت أن الحشد يتفاعل معه.

تابع حديثه: «الأمور تتغير. أنا أعيش فوق الجبل الأسود. لاحظتُ على مدار أسابيع الآن كيف تنمو النباتات، وتعيش الحيوانات، وتتغير الأجواء. الأرض نفسها غير مُستقرة. وقعت هزات أرضية.»

صاح صبي الجزار: «الهزات الأرضية موجودة دائمًا.»

قال صديقه هازئًا: «هذا يحدث معك أنت فقط عندما تُسرف في شرب البيرة ليلة السبت»، فهلَّل الحشد.

رفع أنطونيو صوته. «ما تقوله صحيح يا صديقي. هناك دائمًا هزات أرضية. الطبيعة تتغيَّر مع تغيُّر الفصول. نحن جميعًا نعرف هذا.» والْتَفتَ ليرنو إلى الجبل الأسود، ثم عاد ليواجِه الحشد مرة أخرى. «لكن هذه المرَّة مختلفة. وسادتنا، أصحاب الأمر والنهي في هذه البلدة، يعرفون هذا. كان هناك العديد من الإفادات ومن أشخاص مختلفين. ولكنهم يُخبرونكم بالعكس. يقولون إنه لا يُوجَد خطر، ولكنهم مخطئون.»

صاح رجل ذو وجه مُمتقِع: «لا تصدِّقوا كلمة منه!»

كانت آنا تعرفه بكونه واحدًا من أوفى التابعين للقس. كان خيَّاطًا ثريًّا، يشير دومًا ببنانه إلى الآثام. ويتحدَّث بسوء عن النساء اللاتي يَخرُجن بشَعر مكشوف بلا غطاء رأس، أو الرجال الذين يُسرفون في معاقرة الخمر، أو الأطفال الذين لا يجلسون بهدوء في الكنيسة. لقد نال بابلو منه الأذى أكثر من مرة.

قال أنطونيو: «أتُنكر الأدلة التي تراها بأم عينك؟ ألا ترى الرماد الرمادي؟ ألا ترى الغيوم الرمادية فوق الفوهة؟ الرجال الذين يحكمون هذه البلدة يعرفون أن الخطر يَحيق بنا. ومع ذلك، يُنكرون ما يحدث بسبب أطماعهم.»

قال الخيَّاط عاقدًا ذراعَيه أمام صدره: «لقد رأينا تغييرات مثل هذه من قبلُ. ولم يحدُث شيء. ستُدمر أعمالنا التجارية إذا ظللتَ على موقفك هذا. العمدة معه كل الحقِّ في حماية تجارتنا. ويعود إليه الفضل في ثراء بلدتنا.»

أدركَت آنا أن انتباه الحشد يتشتَّت بعيدًا عن أنطونيو.

قال أنطونيو، رافعًا صوته ليسمعه الحشد: «احتفظوا، يا رفاقي، بأكبر كميةٍ مُمكنة من المياه وخزِّنوها وادَّخِروها. فحيثما ينزل الرماد، لن يكون هناك ماء صالح للشرب. اقلبوا قواربكم رأسًا على عقب وإلا ستمتلئ بالرماد.»

«لن تُخيفنا!»

واصل أنطونيو حديثه: «عندما يثور الجبل الأسود لن يكون هناك مُتسع من الوقت.»

«هذا إذا ثار من الأساس!»

نظرت آنا إلى أنطونيو وهو يقف وحده — بهيئة نحيلةٍ متشحة بالسواد — ثم حوَّلَت بصرها إلى حشد الرجال والنساء الواقفين أمامها أسفل الدرج.

صاحت آنا من مؤخرة الحشد قائلة: «يجب أن نستمع إليه. لقد رأى هذه الأمور بأم عينِه. ويعرف ما يتحدَّث عنه!»

أعربت الأرملة سيلفا عن دعمها. وقالت: «نعم، دعوه يُنهي حديثه. أريد أن أسمع ما رأى.»

رأت آنا الخياط يهز رأسه باشمئزاز، إلا أن الهدوء خيَّم على معظم الناس مرَّة أخرى.

استهلَّ أنطونيو الحديث قائلًا: «حدث هذا شمال شرق الجزيرة. قبل نحو عامَين. كانوا قد اعتادوا على هزات جبالهم مثلما اعتدناها. ولم يتوقَّعوا أن تتغيَّر الأحداث، مثلنا تمامًا. كان صباح يوم عادي، مثل يومِنا هذا. كانت السماء بيضاء، والشمس ساطعة وراء السحاب، ولم تهبَّ أية رياح. حينئذٍ بدأ البركان ينثر غبارًا دقيقًا، ثم غبارًا أكثر كثافة. يُسمى حجر الخُفاف، أشبَه بالحجر المحروق. ولكن ليس أسود فاحمًا. إنه حجر أبيض يُعرِّضك للاختناق إذا دخل في فمك وأنفك.»

قالت امرأة: «كثيرًا ما ينبعث غبار أبيض من الجبل.»

واصل أنطونيو حديثه. قائلًا: «بدأ الأمر بالغبار، ثم أصبحت ذرَّات الغبار أكثر سُمكًا، حتى وصل حجمها إلى حجم حبات القمح أو الأرز. ثم بدأ الضجيج، كثير من الضجيج، أصوات انفجارات مثل صوت إطلاق قذيفة من مدفع، ولكن تحت الأرض. ثم بدأت تتساقط قِطَع أكبر من السماء، بحجم قبضة اليد. ولو كنت تعيس الحظ، فإنها تكسر القراميد فوق سقفك. حاوَلَت كل الحيوانات الهروب من أقفاصها. إنها تدرك جيدًا.»

استشعرت آنا أن الاضطراب يزداد أكثر بين الحشد. أرادت أن يواصل أنطونيو كلامه.

صاح أنطونيو: «ثم هبط الظلام، لم يحدث الأمر دفعة واحدة، ولكن رويدًا رويدًا، امتلأت السماء بالرماد وكسفت الشمس حتى اختفت تمامًا. لدرجة أنك لا تستطيع أن تتبيَّن يدك أمام وجهك. اختبأ بعض الناس داخل منازلهم. وهرب الآخرون إلى قواربهم. وركع البعض الآخَر على ركبتَيه في الشوارع ليُصلُّوا أو يبكوا. وأخيرًا، انبعث صوت وكأنه يُنذِر بنهاية العالم وتفجَّر الجبل. بدأت النيران تنساب على المنحدرات، كرة متدحرجة من النيران، كنهرٍ بطيء الجريان، ولكن على هيئة صخرة حمراء متوهِّجة.»

خيَّم الصمت للحظة على المكان. كانوا يمكنهم سماع طيور النورس والطيور البحرية في الميناء من بعيد.

ثم، فجأةً، بدأ الجميع يتحدَّثون، ويصيحون، ويتجادلون فيما بينهم في آنٍ واحد. علَت أصوات كثيرة جدًّا وملأت الأجواء من حولهم.

قال أحدهم: «الجزء الشمالي الشرقي مُختلف عن هنا.»

وردَّ آخَر: «هذا لن يحدُث لنا أبدًا. الجبل الأسود خامل دائمًا.»

وعلَّق ثالث: «كفاك اختلاقًا!»

صاح أنطونيو مجاهدًا ليجهر بصوته: «قالوا الشيء نفسه في الجزء الشمالي الشرقي. غير أن نهرًا من النيران انساب عبر الوادي باتجاه البلدة. أباد الجميع عن بَكْرةِ أبيهم، سواء مَنْ خشيَ الجبل أم مَن ظنَّ أنه لا يُشكِّل خطرًا. اختفت تلك البلدة من على وجه الأرض. جرَفَها نهر النيران إلى البحر بعد أن احترقت بالكامل.»

صاح الخياط من مؤخرة الحشد قائلًا: «ليس لديك أي دليل على تغيُّر الأحوال.» في تلك اللحظة، كان قد جمع المزيد من الناس إلى صفِّه.

وقبل أن تُمهِل آنا نفسها الوقت لتفكِّر فيما ستئول إليه الأمور إذ أفصحت عن رأيها، سمعت نفسها تصرخ. «بلى لدَيه دليل.»

أحسَّت أن الناس يُولُّون وجوههم شطرها.

فأردفت: «كما أنني رأيتُ ذلك بأم عيني. الهزات الأرضية أقوى على سفح الجبل. وتستمر لفترةٍ أطول. والماء مُسمَّم، والأرض مفرطة السخونة. لدى أنطونيو دليل …» توقَّفَت عن الحديث لبُرهة. ثم أردفت: «كما كان لدى والدي دليل.»

صاح الخياط قائلًا: «كان والدك جبانًا وآثمًا.»

رأت آنا بابلو يقفز السور، ثم تبِعَه كارلوس. وفي لمح البصر، رأت آنا كل شيءٍ كأنها لوحة تُصوِّر ما يحدث: القلق علا وجه الأرملة سيلفا، هيئة أنطونيو النحيلة المُتشحة بالسواد أعلى الدرج، ثم جاء جنود العمدة، من جميع الجهات في الساحة، ليُفرِّقوا الحشد.

كانت آنا بين خيارين لا ثالث لهما. تعيَّن عليها إما أن تضع عائلتها فوق كل شيء، وتُمسك لسانها، وإما أن تفعل ما تراه صوابًا. بغض النظر عما قد يحدث، أدركت آنا أنها يجب عليها مواصلة مسيرة والدها. كان هذا ما سيُريده.

قالت وهي تدسُّ خطاب والدها في يدي الأرملة سيلفا: «خذي هذا.» ثم تقدَّمَت إلى الأمام.

صاحت آنا قائلة: «قُتل والدي لمنعه من المُجاهرة برأيه. يجب أن نُغادر البلدة. قبل أن يفوت الأوان.»

شعرت آنا بأيادٍ خشِنة تُمسكها وتسحبها إلى الخلف ليختلَّ توازُنها. فانطلق بابلو وكارلوس نحو الجنود، لكنهما تلقَّيا الضربات مثل الذباب لإبعادهما عن الطريق.

صاح رودي، محاولًا الإمساك بذراعها: «دعوها تذهب!» وبعد ثوانٍ، كان هو أيضًا مُسجًّى على الأرض والدم ينزف من شفته.

في تلك اللحظة، فُرِض حصار حول الحشد. أشهَرَ الجنود بنادقهم ليمنعوا أي شخصٍ من المقاومة.

قالوا لهم آمِرين: «عودوا إلى بيوتكم! هذه أوامر العمدة. سيُلقَى القبض على أي شخصٍ يبقى في الساحة.»

اقتِيدَت آنا إلى أعلى درج سُلَّم المجلس البلدي. ورأت أن أنطونيو قد جرى اعتقاله أيضًا. كانت ذراعاه مرفوعتَين خلف ظهره وأنفه ينزف. بَيْد أن آنا كانت على يقينٍ بأنهم فعلوا الصواب. حاولوا تحذير البلدة. لقد أخرسوا والدها، قطعًا، وحاولوا ترويعها. ولكنها قاومت.

بينما كانوا يَجُرُّونها إلى الداخل، سمعت جرس الكنيسة يرنُّ مُعلِنًا موعد صلاة الغروب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥