الفصل الثالث عشر
تساءل كارلوس: «ماذا سنفعل؟»
ثم نظر إلى أخيه. كان بابلو دائمًا يعرف ما الذي يجب فعله. لكنه لم ينبس ببنت شفة.
قال رودي: «لديَّ فكرة.»
ردَّ عليه بابلو: «أنتَ! وهل يُرجى منك نفع؟!»
ولأول مرة، لم يتراجع رودي. فأردف قائلًا: «هل لديك خطة؟»
حدَّق في بابلو، إلا أن بابلو، هذه المرة، أشاح بنظره بعيدًا.
قال كارلوس: «تكلم.» بدا خائفًا.
قال رودي: «ثمة طريق يؤدي إلى المجلس البلدي عَبْر الكنيسة. يمكننا أن نعرف أين تُحتجز آنا وبعد ذلك، حسنًا …»
«ماذا، نخرجها؟ هذا هراء …» قالها بابلو، ولكن كارلوس كان يستمع.
فسأله: «هلا أريتنا إيَّاه، من فضلك؟»
لم يبتسِم رودي. لم يرغب أن يكون مثل بابلو. كان دائم السخرية ويظن أنه أفضل من الجميع. ولكن ربما لم يكُن كارلوس بهذا القدْر من السوء. كان مُتحمسًا لأنه بدا أن كارلوس يثق به.
جاء صوت دَوِيٍّ من بعيد. بدا كأنه هزيم رعد، لكن لم يتأكد الصبية منه بعدُ. أخافتهم كلمات أنطونيو. لقد تحوَّلَت السحب الرمادية فوق الجبل إلى اللون الأسود. شعر كل صبيٍّ منهم أن الأرض تهتز تحت قدمَيه، لكنه لم يتفوَّه بكلمة واحدة. أرادوا أن يحفظوا ماء وجوههم أمام الآخرين.
قال رودي: «سيتعيَّن علينا الانتظار حتى تنتهي صلاة الغروب ويخلد الجميع إلى النوم. ثم سأريكما إيَّاه.»
•••
بدأ الضوء يتلاشى في السماء. انتظرت الأرملة سيلفا حتى غادر آخِر الجنود المُرابطين في الساحة قبل أن تذهب لتتفقَّد والدة آنا.
أسرعت الأرملة سيلفا الخُطى عَبْر الشوارع الخلفية للبلدة، مُتخفية في جنح العتمة، لتصعد المنحدر المؤدي إلى أرض آل بيريز. وبحلول الساعة السابعة، كانت تطرق الباب الخلفي لمنزلهم.
نادت: «سيدة بيريز؟ هلا سمحت لي بالدخول؟»
لم يكن هناك صوت.
كانت الأرملة سيلفا تؤمِن بعادات الجزيرة وتقاليدها. فالأخلاق الحميدة تقتضي عدم دخول منزل امرأة أخرى بدون دعوة منها. لكن لم تكُن هذه أوقاتًا عادية.
أدارت المقبض ودخلت وقد تملَّكَها شعور بغيض. كانت الغرفة معتمة وقد أُغلقت مصاريع النوافذ رغم رطوبة الجو في المساء. كان هناك صوت طنين غريب — أدركت أنه طنين ذباب — ثم بدأت دقات قلبها تتسارع أكثر. شعرت أن ثمة خطبًا ما.
نادت مرة أخرى: «سيدة بيريز، هل أنتِ هنا؟»
ثم سرعان ما وضعت يدها على فمها.
همست وهي تُشير بإشارة الصليب على صدرها: «رُحْماك يا رب.»
على مستوى نظرها، رأت زوجَين من الأحذية السوداء يتأرجحان في الهواء ببطء، وأصابع القدمَين مُتدلية نحو الأرضية المبلطة. ثمة جثة مُعلَّقة في الهواء الساكن. كانت هذه جثة السيدة بيريز، وقد تدلَّت يداها الشاحبتان بجوارها. أرغمت الأرملة سيلفا نفسها على النظر لأعلى. كان ثمة حبل غليظ مُلتف حول العارضة الخشبية. الْتَوى رأسها نحو أحد جانبيها حيث كُسرت رقبتها، ولكن وجهها ظلَّ مخبوءًا وراء وشاحها. شعرت الأرملة سيلفا بالامتنان لأنها على الأقل عُفِيَت من بشاعة المنظر.
بدا الأمر وكأن السيدة بيريز قد أنهَت حياتها أيضًا. هل كان هذا مفاجئًا؟ لقد كافحت من أجل التأقلم بعد وفاة زوجها. نظرت الأرملة سيلفا حولها بحثًا عن رسالة، لكنها لم تجد شيئًا.
ثم، عاودت التفكير مرة أخرى. فعلى الرغم من كل الخسائر التي تكبَّدَتها السيدة بيريز والمآسي التي عايشتها في حياتها، فإنها لم تفقد إيمانها الكاثوليكي مطلقًا. ومهما اشتد عليها البلاء، ما كانت لتنتحِر أبدًا. فمن وجهة نظرها، كانت هذه الفعلة خطيئة مُميتة وذنبًا عظيمًا. من شأنها أن تحرمها من دخول الجنة.
إلا أنه ثمة شيء أكبر من ذلك. استطاعت الأرملة سيلفا أن تلاحظ الخطأ الذي اقترفوه بأيديهم. تراصَّت جميع الكراسي الستة حول طاولة المطبخ. فلو أن السيدة بيريز قد شنقت نفسها، لتعين عليها أن تقف على أحد هذه الكراسي وتركُله من أسفلها.
تحسَّسَت الأرملة سيلفا جيب مِئزرها بيدها. كانت آنا قد قذفت إليها خطاب والدها عندما اقترب الجنود منها. من الواضح أنها كانت مُحقَّة في تصرُّفها هذا. كانت شكوك آنا في محلها. هذه جريمة قتل. لقد قُتل والدا آنا كلاهما. أولًا والدها، ثم الآن والدتها.
ولكن ما الذي رآه توماس بيريز تحديدًا؟ ما الذي ظنوا أنه ربما قد أخبر زوجته به؟
غمغمت الأرملة سيلفا بالدعاء ورسمت الصليب على صدرها مرة أخرى. كرهت أن تترك السيدة بيريز على وضعها هذا؛ ولكن كان يتعيَّن عليها طلب المساعدة. عجزت عن إنزال الجثة بمفردها. فغادرت الأرملة سيلفا مثلما جاءت تاركةً كل شيء كما وجدَتْه. بعد أن كفنت السيدة بيريز، كان يتعين عليها إيجاد طريقة للتحدث إلى أنطونيو. أينما كانوا قد اقتادوه. وبعد ذلك، وبمعونة الرب، سيتعين عليها البحث عن آنا وإخبارها أن والدتها ماتت.
سَرَت البرودة في أوصالها. ماذا لو وقع مكروه لآنا أيضًا؟
في الأفق البعيد فوق الجبل، تصاعدت غيمة من الرماد الأسود في طبقات الهواء الساكن. نظرت الأرملة سيلفا لأعلى. كان الوقت يداهمهم. ولذا، أسرعت.
•••
جلس رودي وكارلوس وبابلو في صمتٍ على قارعة الزقاق المار خلف الكنيسة، وهم يُنصتون إلى المُصلين المغادرين بعد أداء صلاة الغروب. ولمدة ساعة، مكثوا كأن على رءوسهم الطير.
وبمجرد أن تأكد من أن الطريق خالٍ، وقف رودي وأشار لبابلو وكارلوس كي يتبعاه. فوجئ رودي بأنهما نفَّذا ما قاله بدون تذمُّر، وهو ما أسعده. تسلل الصبية الثلاثة إلى الكنيسة، شعر كلٌّ منهم بالتوتر؛ إلا أنه حاول إخفاء ذلك. تلفَّت رودي بعينَيه يمينًا ويسارًا، ليتأكد أن القس ليس موجودًا في المكان. إلا أن صحن الكنيسة كان خاليًا والصمت يُخيِّم على الأجواء. لم يكُن هناك شيء سوى رائحة البخور.
قادهما رودي إلى المُصلَّى الجانبي. فهناك مذبح خاص، حيث يُصلِّي الناس من أجل الصيادين والبحارة، مُزدان بتمثالَين للقديس فرانسيس والقديس نيكولاس. وخلف المذبح كان هناك مكان صغير وهادئ، يكفي للاختباء فيه عندما يكون العالَم قاسيًا. وكثيرًا ما اختبأ رودي هناك.
وراء هذا المكان، وقف باب خشبي صغير.
قال رودي: «صُنع هذا من أجل القس في الأيام الخوالي، لكي يتمكَّن من التحرُّك والانتقال بين الكنيسة والمجلس البلدي دون أن يراه أحد. ويقود إلى الحديقة الخاصة الموجودة في الجزء الخلفي من المبنى. ولا يُوجَد هناك حرَّاس أبدًا.»
تطلَّع الصبية الثلاثة إلى الباب الخشبي.
«يُمكننا الاختباء في الحدائق حتى يحلَّ الظلام. إنها حدائق خاصة. ولا أحد يدخل هناك.»
همس بابلو، وقد استعاد طبيعته قليلًا: «ثم ماذا بعد ذلك؟ ماذا سنفعل؟»
حدَّق رودي في عينَيه مباشرةً. وأردف: «سنُنقِذ آنا. وأنطونيو كذلك.»