الفصل الرابع عشر
احتُجزت آنا في الطابق الأول من المجلس البلدي.
كانت قد اقتيدت إلى هناك من ساحة البلدة قبل ساعات. وقاموا بتفتيشها وحبسها بالداخل؛ ولكن لم يَمْسَسها سوء. يبدو أنهم نسوها. كانت تُحصي الساعات من خلال عدِّ مرات قرع جرس الكنيسة. الآن حلَّ الظلام، بالرغم من تسلُّل أشعة رقيقة من ضوء القمر عبر المصاريع الخشبية.
ومن بعيد، استطاعت أن تسمع الجبل الأسود يدوي.
في البداية، ذرعت آنا المكان ذهابًا وإيابًا، لتُحدِث الألواح تحت قدمَيها صريرًا. أخذت تجمع أجزاء اللغز في ذهنها. تملَّكَها شعور بالغضب، ثم الخوف. تملَّكَها شعور بالجوع والعطش. أما الآن فقد شعرت بأنها متعبة بكل بساطة.
كرِهت التفكير في أن والدتها وشقيقَيها في بيتهم الأبيض الصغير لا يعرفون شيئًا عما يحدُث لها. تمنَّت أن تكون الأرملة سيلفا قد ذهبت للجلوس معهم. ثم تذكَّرت آنا مشهد الدم الذي سال على وجه أنطونيو وتمنَّت أن يكون بخير. لم يُؤذِها الجنود، ولكنها كانت تخشى أن يكونوا أقلَّ لطفًا معه. هل احتُجز أيضًا في المجلس البلدي؟ أم اقتادوه إلى السجن الموجود في الميناء؟
سمعت آنا دقات الأجراس مُعلِنة الساعة العاشرة.
على الأقل، وهي بمفردها في هذه الساعات الطويلة، كان أمامها مُتَّسع من الوقت لتتفكر في الطريقة والسبب وراء مقتل والدها. كانت «الطريقة» بسيطة. خمَّنَت أنه تلقَّى ضربة أولًا. وبعد ذلك، كان من السهل على أي رجلَين أن يُرتِّبا المشهد ليبدو موته انتحارًا. لم تكُن تظن أن العمدة من شأنه أن يفعل هذا بنفسه؛ إلا أنها كانت واثقة حينذاك من أن الجريمة وقعت بمعرفته وبناءً على أوامره.
أما تخمين «السبب» فكان أصعب؛ لكنها رأت أنه يتعيَّن عليها أن تتفكر فيه أيضًا. لم يكُن بسبب تحذيراته بخصوص الجبل الأسود. وإنما بسبب أن والدها، خلال زياراته لفوهة الجبل لتفقُّد التغييرات، رأى شيئًا لم يكُن ينبغي أن يراه. كان هذا أكثر منطقية. الاعتداء على كرمات العنب الخاصة بهم، والشائعات حول مشكلاتهم المادية، ثم مَقتله؛ كلها أحداث وقعت لأنه تواجد على الجبل في اللحظة غير المناسبة.
من فوق مكانٍ مرتفع جدًّا، استطاع والدها أن يشاهد ما يحدث في البلدة. بل وما يحدث في البحر أيضًا. لقد عُثر على نظارته وحقيبته الجلدية إلى جوار جثته. فالاسم الذي ذكره في رسالته لم يكُن اسم شخص، وإنما اسم سفينة. سفينة غرقت قبالة الساحل الشمالي الغربي لتينيريفي في يناير.
ففي يناير الماضي، عندما هبَّت أسوأ العواصف الشتوية قبالة المحيط الأطلنطي، غرقت سفينة لا بلانكا ليس بمكانٍ بعيد عن الميناء. وغرق جميع الرجال على متنها. وغرق الكنز مع السفينة.
كانت السفينة البيضاء — لا بلانكا — واحدة من أهم السفن الإسبانية، المُحملة بالخيرات من الفضة واللؤلؤ، والحرير والتوابل. كان للسفينة خمسة صوارٍ ذات أشرعة بيضاء سامقة. وعند مؤخرة السفينة، رفرف علَم إسبانيا الملكي ذو اللون الأحمر والذهبي. كان هذا جزءًا من كنز أسطول ملك إسبانيا. وكانت قد أبحرت معها عدة سفن حربية لحماية الشحنة الثمينة — سبائك الذهب، والجواهر، والسلع الثمينة المتجهة جميعًا إلى ديارهم في الشرق.
وفي اليوم التالي، عندما تحسَّن الطقس قليلًا، أرسل العمدة بعثة إنقاذ إلى البحر المُضطرب. كان الميناء محميًّا بسور عالٍ. وبأوامر من العمدة، لم يُسمح لأحد بالوقوف على سور المرفأ ذلك اليوم. كانت الأمواج عاتية جدًّا، والبحر شديد الاضطراب. أو على الأقل، كان هذا السبب المُعلن. ولكن الآن أدركت آنا أن السبب الحقيقي هو ألا يرى أحد ما كانت بعثة الإنقاذ تنجزه.
لم تستعِد البعثة أي شيء.
وبعد أسبوع، عقد العمدة اجتماعًا في المجلس البلدي لرفع تقرير عن الوضع. وفشل في توضيح سبب غرق السفينة — رغم أنها كانت متينة البناء — ولم تصطدم بالصخور. ولم يكُن هناك سفن للعدو في المنطقة القريبة. ولم يتمكن أحد من تفسير سبب فقدان السفينة وطاقمها بالكامل.
الآن، لم تستطع آنا أن تُصدق إلى أي مدى كانت غافلة.
لم يكُن بالإمكان رؤية أي شيءٍ من على الشاطئ؛ كان سور المرفأ يَحُول دون ذلك. ولكن إذا اعتلى والدها الجبل في ذلك اليوم من يناير، لربما كان قد رأى شيئًا. كان يحمل معه نظارته المُعظِّمة دائمًا. وكان بمقدوره أن يرى ما حدث للسفينة. وما حدث للكنز كذلك.
لقد تغيَّر والدها بعد حادثة غرق السفينة. وبدأ يطرح الأسئلة داخل الميناء وفي البلدة حول سفينة «لا بلانكا». ولم يمضِ وقت طويل حتى تعرَّض بستان كرمة العنب للاعتداء، ثم سَرَت الشائعات بأنهم مدينون.
وفجأةً، في وسط هدوء زنزانتها، سمعت آنا صوتًا. كان هذا صوت طرقات. هبَّت واقفة على قدمَيها. هل عاد الجنود أخيرًا؟
سمعت الصوت مرة أخرى وأدركت أنه يأتي من خارج النافذة. زحفت عَبْر الغرفة.
وتساءلت: «مَن الطارق؟»
جاء الرد: «هذا أنا.»
تعرفت على الصوت. «كارلوس!»
همس الصوت قائلًا: «هل يمكنك فتح مصاريع النافذة؟»
فتحت آنا المصاريع وحدَّقَت إلى الخارج في الظلام. لم يكُن باستطاعتها رؤية أي شيءٍ سوى قمة رأس أخيها. كان يحاول الوقوف متوازنًا على حافة ضيِّقة أسفل أسكفة نافذة. وأدناه امتدَّت الحديقة الخاصة في الجزء الخلفي من المجلس البلدي.
سألته: «كيف تسلَّقت لأعلى؟ الجدار عالٍ جدًّا.»
قال كارلوس رغم حشرجة صوته بسبب الجهد المبذول: «الأمر ليس صعبًا للغاية.»
سألته: «أين بابلو؟»
«مع رودي، يحاول العثور على أنطونيو. سمِعنا الحراس يتحدثون. أنطونيو ليس محتجزًا هنا. أخذوه إلى السجن الموجود في الميناء.» ثم توقف لبرهة. وسألها: «هل يمكنك التسلق إلى الخارج؟»
نظرت آنا لأسفل. قبل قليل، لم تكُن أبدًا لتتمرَّد على العمدة وقوانين البلدة. ولكن الآن اختلفت الأوضاع.
قالت آنا: «لا أعرف.»
ومن بعيد، كان هناك صوت ضجيج عالٍ. أشبَه بهزيم الرعد الحاد.
قال كارلوس: «أكره هذا الصوت.» كان يُوحي بأن صاحبه صغير جدًّا وخائف جدًّا. وأردف: «أشبه بصوت انطلاق قذيفةٍ من مدفع.»
استطاعت آنا أن ترى كيف توهَّجَت السماء فوق الجبل الأسود باللون الأحمر. ظهر فجٌّ أحمر عميق وسط السحاب. كان الوقت يُداهمهما.
«أنا قادمة.»
طوت آنا تنُّورتها الطويلة داخل ملابسها التحتية وأخذت نفَسًا عميقًا. ثم رفعت ساقها برشاقة إلى أسكفة النافذة وأنزلت نفسها إلى الحافة.