الفصل السابع عشر

استغرقت الأرملة سيلفا وقتًا طويلًا حتى تجد شخصًا يساعدها في إنزال جثة السيدة بيريز من فوق العارضة الخشبية. دفعت للرجال مقابلًا ماديًّا يفوق قُدرتها على التحمُّل. ثم، مدَّدَت جسد والدة آنا على الطاولة بمفردها. وأضاءت الشموع عند رأسها وقدمَيها. ضمَّت ذراعَي السيدة بيريز على صدرِها ووضعت المسبحة في يدَيها. وأخيرًا، غطَّت وجه السيدة بيريز الشاحب بوشاحها الأسود ووضعت الكتاب المُقدس بجانبها.

شعرت الأرملة سيلفا بالتوتر عندما تركت السيدة بيريز وحدَها — كان العرف السائد أنه ينبغي على نساء البلدة أن يجلسنَ لحراسة الجثة — ولكن لم تكُن هذه أوقاتًا عادية. كان يتعيَّن عليها التفكير في الأحياء. ازداد الصوت المدوِّي الصادر عن الجبل الأسود لساعات.

وعندما أنجزت مُهمتها، غادرت الأرملة سيلفا منزل آل بيريز وهي تخشى أن تكون المرة الأخيرة على الإطلاق. ثم اتجهت إلى المجلس البلدي وهي تتوارى عن أنظار الجنود القليلين الذين ما يزالون يجوبون الساحة في دورية الحراسة.

•••

تسلَّلَت آنا وكارلوس من الباب الخشبي الصغير المؤدي إلى المُصلَّى الجانبي.

لم يكُن هناك أحد في المكان.

قالت آنا: «لا تقلق، إننا بمأمن»، ثم أضافت في سِرها: «حتى الآن.» كان كارلوس بطبيعته شجاعًا جدًّا، إلا أنه كان بمقدورها أن تستشعِر مدى خوفه.

ركضا عَبْر صحن الكنيسة وخرجا إلى الزقاق مُتشابكَي اليدَين. أطلَّت آنا من عند الناصية، لترى ما يحدث، بينما ظهرت الأرملة سيلفا عند الناصية البعيدة من ساحة البلدة. لوَّحَت آنا لها لتجذب انتباهها. وحين بدا أنها لا تراهما، نادت آنا عليها باسمها.

«نحن هنا!»

راقبت — هي وكارلوس — الأرملة سيلفا وهي تبحث عنهما في أجواءٍ شِبه مُظلِمة — إذ غُطي الجزء الأكبر من القمر بسحابة من الرماد — ثم رفعت ذراعها ردًّا عليها. أشارت آنا إلى ناصية الشارع المؤدي إلى الميناء.

وبعد لحظات قليلة، الْتَقوا معًا.

قالت الأرملة سيلفا وهي تضع يدَها الهرمة على ذراع آنا: «الحمد لله، أنتما بمأمن.»

أجابتها: «أنا بخير بفضل كارلوس.»

شعرت أن وجه أخيها تخضَّب خجلًا. وأردف: «لم أفعل الكثير …»

«لقد أظهرت شجاعةً كبيرة. كان من شأن والدك أن يكون فخورًا بك.»

تطلَّعَت آنا إلى الساحة الفارغة. كانت تظنُّ بطريقةٍ ما أو بأخرى أن البلدة ستزدحِم بالأشخاص الذين يستعدون للرحيل.

«أين ذهب الجميع؟»

راقبت آنا الأرملة سيلفا وهي تضع إصبعها على شفتَيها وتُشير. تابعت آنا نظرتها ثم رأت جندِيَّين يتحركان في الظلام بالقرب من المجلس البلدي.

أوضحت الأرملة سيلفا قائلة: «لقد فرض العمدة حظر التجوال بحلول الغسق. الناس يهابون جدًّا الخروج من منازلهم.»

استشاطت آنا غضبًا. «يا للخبث! وأي شخصٍ يمكث هنا يُعرِّض حياته للخطر.»

«أجل. لكن، للأسف، لم يقنع أنطونيو الكثيرين بأن الخطر كان حقيقيًّا. اتخذ رجل أو رجلان إجراءاتٍ وقائية لحماية قواربهما، وجمع البعض الآخَر الماء من المضخة لاستعماله في حالة الطوارئ، ولكن بالنسبة للأغلبية …»

هزَّت آنا رأسها. «ألا يرَون أن الوضع مختلف؟ أليس لديهم عيون يبصرون بها؟ أو آذان يسمعون بها؟»

تنهَّدَت العجوز. وأردفت: «كان هناك عدة إنذارات كاذبة.»

«حتى وإن كان الأمر كذلك …»

شعرت آنا بكارلوس بجانبها يجذب كمَّها. «هل تعتقدين أن بابلو ورودي بخير؟»

ضغطت آنا على يده. وقالت بثقة أكبر مما كانت تشعر به فعليًّا: «أنا واثقة من أنهما بخير.» ثم الْتَفتت إلى الأرملة سيلفا وسألتها: «هل رأيتِهما؟»

أجابتها الأرملة: «لم أرَهما منذ بضع ساعات.»

قال كارلوس: «اتفقنا أن نلتقي عند الشاطئ بجانب طاولات صيد الأسماك، هل يُمكننا الذهاب هناك؟»

أومأت آنا برأسها. وقالت: «هذه فكرة سديدة. اذهب إلى الميناء. ونحن سنعود إلى المنزل لنُحضر …»

صاحت الأرملة سيلفا مقاطعة إياها: «كلَّا!» ثم وضعت يدَها على فمها.

نظرت آنا إليها في دهشة. الآن تذكرت أن كارلوس قد أخبرها بأن الأرملة سيلفا كانت تُرافق والدتها. فلماذا إذَن لم تكُن ترافقها حتى الآن؟

قالت آنا: «سيدة سيلفا؟» استشفَّت آنا من نظرةٍ واحدة إلى وجه العجوز أن ثمة خطبًا جللًا. تساءلت آنا: «ما الخطب؟ أرجوكِ أخبريني.»

أجابتها الأرملة: «آنا، أنا …»

نظرت آنا إليها. وقالت: «علينا أن نذهب لإحضار والدتي، لماذا لا تريدين أن أذهب …؟»

لكن قبل أن تُعطيها الأرملة سيلفا جوابًا، شعرت آنا بكارلوس يتقافز.

قال بصوت هامس عالٍ: «انظرا! ها هم أولاء! هناك.»

تابعت آنا نظراته ورأت أنطونيو وبابلو ورودي يقطعون الشارع الضيِّق المؤدي إلى الميناء. استطاعت أن تجذب ذراع كارلوس بشدة قبل أن يبرُز من مكان مخبئهم.

قالت آنا: «الجنود سيرونك.»

عندما اقتربت الجماعة الصغيرة، رأت آنا وجه أنطونيو مخضبًا بالدماء والكدمات. وكان بابلو يعرج. أما رودي، بخطواته البطيئة والمتأنية، فكان الوحيد الذي لم يمسَسْه سوء.

سأل كارلوس أخاه التوءم عندما وصلوا إلى مكانه: «ما الذي حدث؟»

ابتسم بابلو ابتسامة واسعة. وقال: «لقد الْتَوى كاحلي عندما قفزت فوق السور هربًا من الجندي. لكنني كنت أسرع منه.»

ابتسم أنطونيو ابتسامة صفراء. وقال: «يجب أن تكوني فخورة جدًّا بهؤلاء الشباب.» ثم نظر إلى رودي وقال: «ثلاثتهم.»

قالت آنا: «أنا فخورة فعلًا بهم.»

لاحظت آنا كيف أن إحدى عينَيه مغمضة ومتورِّمة وشَعره متكتل بالدماء. قالت بصوتٍ خفيض: «لقد فهمت ما حدث لوالدي، والسبب وراء ذلك.»

قال أنطونيو: «سنتحدَّث عن ذلك لاحقًا، بمجرد أن نصل إلى مكان آمن. القارب جاهز للإبحار.»

قالت آنا: «القارب؟»

أوضح بابلو قائلًا: «لدَيه مركب شراعي صغير. مزود بزوج من المجاديف.»

أضاف كارلوس: «ومزود أيضًا بسارية وشراع.»

رفعت آنا حاجبيها.

فقال أنطونيو: «كنت أمتلكه منذ فترة. هو راسٍ على الرصيف الأول بعد صاجات الشواء والتدخين.»

قالت آنا: «فهمت.» ثم نظرت إلى شقيقَيها، وابتسمت. ثم أردفت: «يبدو أن الوقت الذي قضيتموه في الميناء لم يذهب سُدًى على أية حال.»

ابتسم بابلو ابتسامة واسعة. وقال: «علَّمَنا أنطونيو كيف نُبقي المجاديف مستوية في الماء.»

قالت آنا: «في هذه الحالة، اذهبا الآن مع أنطونيو — وأنت أيضًا، يا رودي اذهب معهم.» ثم الْتَفتَتْ إلى الأرملة سيلفا. وقالت: «ونحن سنذهب لإحضار أُمي، وأكبر كمية ممكنة من الطعام، ثم نلتقيكم على رصيف الميناء.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥