الفصل الثامن عشر
بدون سابق إنذار، بدأت الأرض تهتز بعنف. ثم ظهر صَدْع في منتصف الشارع الضيِّق، أشبَه بالعلامة المُميزة للبرق.
قال كارلوس منتحبًا وهو يمسك بيد آنا: «ما الذي يحدث؟»
سمعت آنا صرخة. ثم الْتَفتَت عند منعطف الطريق ورأت الناس يفتحون أبوابهم ويخرجون إلى الساحة.
تطلَّعَت إلى الجبل الأسود الذي لاح في أفق البلدة. ارتفع صوت دَوِيٍّ آخَر، كما لو أن الأرض تتأوَّه وتئنُّ، ثم بدا الأمر وكأنه انفجار وقع تحت الأرض. كان الصوت مُدويًا مثل المدافع التي تُطلَق في الميناء لإعلان خروج سفينة مهمة للإبحار.
قال أنطونيو: «يجب علينا أن نسرع.»
تساءلت الأرملة سيلفا: «هل يجب أن نبحث عن مأوًى؟»
«كلَّا. علينا أن ننتظر ونرى في أي اتجاه ستتدفق الحمم البركانية، قد تتدفق جنوبًا — لا بل شمالًا نحو البلدة — إلا أن الرماد سيظل مُميتًا. أعتقد أننا سنكون أكثر أمانًا في عرض البحر.»
قالت آنا: «والدي كان يقول إن منسوب البحر يرتفع أحيانًا ويغرق اليابسة. هل يمكن أن يحدث ذلك؟»
أجابها أنطونيو: «قد يحدث هذا؛ ولكن أظن أنه سيكون أخف الضررَين.»
توقفت آنا لبرهة، ثم أومأت برأسها. كان يتعيَّن عليهم أن يثقوا به. وأردفت: «حسنًا. سنلتقيك على متن القارب بأسرع ما يمكن.»
قال رودي: «يجب أن نقرع جرس الإنذار. لنُنذِر الجميع بأن الجبل البركاني يثور.»
قال بابلو سأذهب معك. أريد أن أساعدك في قرع الجرس.»
رأت آنا الصبيَّين، العدوَّين اللدودَين، يَصِلان إلى نقطة تفاهُم.
وضع أنطونيو يدَه على كتف كارلوس. وأردف قائلًا: «كارلوس، تعالَ معي وساعدني في تحميل السفينة.»
افترقت بهم الطرق؛ إذ توجَّه رودي وبابلو إلى الكنيسة، واتجه أنطونيو وكارلوس إلى الميناء، تاركين آنا والأرملة سيلفا وراءهم.
قالت آنا: «لا أحد غيرنا هنا. أخبِرني ما الذي حدث.»
ومن ورائهما، ارتفع صوت الدوي الآتي من تحت الأرض أكثر فأكثر.
«آنا، تُوفيت والدتك.»
شعرت آنا أنها تجمَّدت في مكانها للحظة. بدا كل شيءٍ وكأنه يحدث بالتصوير البطيء، كما لو أنها تغرق تحت الماء. احتبست أنفاسها.
قالت الأرملة سيلفا: «لم أرغب أن أُخبرك أمام الصبيَّين. أنا آسفة جدًّا.»
غير أن آنا لم تنبس ببنت شفة. عجزت عن تصديق ما سمعته. وفي الوقت نفسه، شعرت في قرارة نفسها أنها حقيقة.
وفي الكنيسة، دق الجرس ليقرع ناقوس الخطر. قالت آنا بصوتٍ بدا أنه غريب عليها: «ينبغي أن أذهب إليها.»
قالت الأرملة سيلفا: «لا يُوجَد شيء يمكنك فعله من أجلها في الوقت الراهن.»
نظرت آنا إليها دون أن تتبيَّن أي شيء. فسألتها: «ماذا حدث، هل تعرفين؟ هل كنتِ معها؟»
هزَّت الأرملة سيلفا رأسها نافية. وقالت: «وجدتها. وكفَّنتُها على الوجه الذي كانت تتمناه.»
استفاقت آنا من غشيتها. وتابعت: «يجب أن أذهب إليها.»
أمسكت الأرملة سيلفا بذراعها. وقالت: «يجب أن تُفكِّري في أخوَيكِ، يجب أن تفكِّري في نفسك.»
هزَّت آنا رأسها. وقالت: «لا أستطيع أن أتركها وحسب! هذا غير لائق! أتظنين أنني سأتركها …»
قالت الأرملة سيلفا: «أنصِتي إليَّ. لقد قتلوها يا آنا. رأيتها بأم عيني. ووضعت مسبحتها في يدها وكتابها المقدس عند رأسها. لا شيء يمكن أن يؤذِيَها. لنُصلِّ لها أن تكون مع والدك الآن. ولكن يجب أن نذهب. ألا تُدرِكين أنهم سيقتلونك إذا عثروا عليكِ؟ وكذلك بابلو وكارلوس أيضًا.» تطلَّعَت الأرملة سيلفا إلى أعلى. وأضافت: «إذا لم يَقتلنا الجبل أولًا.»
تسمَّرَت آنا في مكانها، لا تدري ماذا تفعل. كان هناك صوت هدير مدوٍّ أخير، كما لو أن العالم بأكمله ينهار. ثم، دوَّى صوت لم تسمعه من قبل؛ صوت انفجار من داخل الجبل. وبعد لحظات، انطلق من الفوهة أنبوب صخور مشتعلة ونيران، محولًا سماء الليل إلى الألوان الأحمر والبرتقالي والذهبي.
وفجأةً، امتلأت ساحة البلدة بالناس عن آخِرها. رأت آنا الجنود يُسقطون أسلحتهم ويفرُّون. ركع البعض على رُكَبهم وصلَّوا، بينما أوصد البعض الآخَر أبوابهم بصناديق خشبية، كما لو كان بمقدورهم حقًّا إيقاف جريان نهر النيران.
صرخت الأرملة سيلفا: «آنا، يجب أن نذهب!»
ومن كل حدَب وصوب، أخذ الناس يصرخون وينتحبون حولهما. تدفَّقَت النيران السائلة في كل اتجاه، مثلما ينطلق الشرر من مطرقة الحداد. تناثرت قطع كبيرة من الصخر الأسود في الهواء وتساقطت على المُنحدرات بالأسفل.
ثم وقَعَ انفجار آخَر. وبدأ نهر من الحِمم المشتعلة يتدفَّق نحو البلدة. طَفَت سحابة من الرماد الساخن فوق البلدة. لم يعُد لون الرماد رماديًّا، بل صار أسود.
قالت آنا وهي تتذكَّر تحذير والدها: «الثلج الأسود.»
صار الحزن كالغصَّة في حلقها. وأدركت آنا أنها لن تغفر لنفسها أبدًا ترك والدتها دون أن تدفنها. أدركت أنها ستُطاردها طَوال عمرها فكرة أن والدتها ماتت خائفة ووحيدة، وسقطت ضحية لرجال قُساة. كانت تعلم أن الأرملة سيلفا كانت مُحقة. كان عليهم أن يُغادروا الآن حتى تسنح لهم فرصة النجاة.
قالت الأرملة المُسِنَّة بلُطف: «آنا؟»
أقسمت آنا أنها، إذا نجوا — إذا نجا الجميع — فستُقدِّم قتلة والدها ووالدتها إلى العدالة. أومأت برأسها، قائلة: «فهمت. شكرًا لك.»
•••
عندما تطايرت الدفعة الثالثة من الحِمَم المنصهرة والصخور في سماء الليل، اندفع بابلو خارجًا من الكنيسة مع رودي، الذي تبعه، بأسرع ما تسمح له ساقه العرجاء، ولحِقا بآنا والأرملة سيلفا.
قالت آنا، قبل أن يسألها بابلو عن أُمهم: «هيا. ستبقى أُمنا لتصلِّي من أجل البلدة. إنها تُريدني أن أصحبك أنت وكارلوس إلى مكانٍ آمن. إنها تؤمن بأن الرب سيُنقذها.»
بدا أن بابلو اقتنع بهذا. فعلى مدار حياتهم، كانت أُمهم تقضي معظم وقتها في الكنيسة أكثر من أي مكانٍ آخَر. كانت أقل تعاسة هناك.
حبست آنا دموعها. وشعرت بنظرات رودي مُثبَّتة عليها وأدركت أنه يعلم أنها لم تكُن تقول الحقيقة. شعرت بارتياح عندما لم يتفوَّه بكلمة.
صرخت: «أسرعوا. ليس أمامنا مُتَّسع من الوقت.»