الفصل الثاني
سارت آنا عبر صفوف أشجار الكروم، التي تضرب بجذورها الطويلة المتشابكة في الأرض، إلى الطريق المؤدِّي إلى منزلهم. أخذ رأسها يعجُّ بالأفكار المضطربة.
كان قد عُثر على والدها في أرضٍ جرداء خالية من الأشجار بمكانٍ عالٍ فوق الجبل. وعُثر إلى جواره على حقيبتِه الجلدية ونظارته الطبية. كانت بندقيتُه موضوعةً بين ركبتَيه. ويبدو أنه ضغطَ على الزناد بواسطة خيط رفيع، وقتل نفسَه إثر ذلك.
عجزت آنا عن قَبول هذه الفكرة. كانت على عِلمٍ بأنهم مدينون بالمال. ولكنها لم تُصدق أن والدها كان ليتخلى عن زوجته وأبنائه. فلدَيها شقيقان توءمان في سنِّ الحادية عشرة فحسب. كانا فتَيَين صالِحَين، وإن اتَّسما بالكسل. كانا بحاجةٍ إلى والدهما. الأهم من ذلك كله، أنها لم تكُن تتخيَّل أنه كان ليتركها لتعول الأسرة بمفردها. كان السبب الوحيد الذي جعلهم يستمرون في زراعة العنب في قطعة الأرض الصغيرة الخاصة بهم أنها كانت تعمل بكدٍّ إلى جانبه.
تمتمت بنبرة حُزن كغُصَّة في حلقها: «أبي …»
ابتلعت ريقَها بصعوبة. فعندما بلغهم خبر وفاة والدها قبل أسبوعٍ مضى، انهارت والدتُها. ووقع على عاتق آنا مهمة التعرف على جثته وجمع أغراضه. رأت الدم على يدَيه وصدره. ورأت العلامة الحمراء على إصبع سبابة يدِه اليُمنى حيث ربط الخيط بإحكام. لكن عندما رأت محجر عينِه — حيث كانت عينُه اليمنى — فارغًا، تقيَّأت آنا على الأرضية في المجلس البلدي.
جعلتها تلك الفكرة تحترق من شعورها بالخِزي. لم يكن عمدة البلدة بالشخص اللطيف. كان شقيق قس البلدة وكاثوليكيًّا مُتشددًا. انتقد والدها بوضوح شديد؛ إذ رأى أنه اختار أن يسلك طريق الجبناء.
فجأةً، شعرت آنا بالدوار. لم تكُن قد تناولت شيئًا طَوال اليوم، سوى قطعةٍ من الخبز الجافِّ وكأس صغيرة من النبيذ اللذيذ. ربما كان هذا هو السبب وراء شعورها بالدوار. كانت نسبة الرطوبة في الجو مرتفعةً جدًّا. فالهواء ساكن وثقيل. ربما كان هذا يُنذر بقدوم عاصفة، رغم نُدرة العواصف في هذا الوقت من العام.
خلعت آنا قُبعتها المصنوعة من القش. مثل جميع نساء الجزيرة، كانت تُفرق شعرها من المنتصف وتعقصه على شكل كعكةٍ عند مؤخرة عنقها. ثم كانت تسدل شَعرها الأسود الناعم الطويل. قبل قليلٍ كانت تشعر ببرودة، أما الآن فتشعر بحَرٍّ شديد. وعندما مسحت يدَيها الرطبتَين بطرف تنورتها التحتية، رأت الشريط الأحمر عند حافة الثوب قد تدلَّى. تنهَّدَت إذ أدركت أنها ستضطر لإصلاحه في وقتٍ لاحق. وها هي مهمة أخرى تضاف إلى قائمتها المتزايدة.
كانت آنا في منتصف الطريق إلى المنزل، لكنها شعرت بالإجهاد. فجلست على صخرةٍ ونظرت جهة الشمال، أسفل الوادي باتجاه البلدة. وعلى الرغم من كآبة الأجواء في فترة ما بعد الظهيرة، تناثرت الألوان في كل مكان. في العادة، كان شهر مايو هو الوقت الذي تُفضِّله آنا خلال العام. راقتها رؤية الصفوف الأولى من العنب الأرجواني والأخضر تتدلَّى من الكرمة. أحبَّت جميع أنواع الزهور البرية التي تنمو على منحدرات الجبل الأسود؛ نبات الرتم الأصفر، وزهور المنثور الوردية والبيضاء. وأحبَّت كذلك النباتات الطويلة الحمراء التي تتلألأ كأحجار الياقوت. أحبَّت أشجار دم الأخوَين وأشجار النخيل المُتمايلة مع النسيم، وأشجار الصنوبر والأرز.
أما اليوم فكل شيءٍ بدا مختلفًا.
تركت عينَيها تُركزان على المحيط الأطلنطي. ومن هذا الارتفاع، كان المنظر يشغل نطاقًا واسعًا لدرجة أنها كان بمقدورها أن ترى أن خطَّ الأفق لم يكُن مستقيمًا وإنما كان منحنيًا. كان سُمكه يزداد عند المنتصف ويقل عند الحواف. كان البحر عاتيًا في فصل الشتاء؛ إذ تلاطمت أمواجه على الصخور. أما اليوم فكانت المياه ساكنة.
كان مسقط رأسها يُعَد أهم ميناء في تينيريفي، حيث تُستقبل السفن التجارية من مختلف أقطار العالم. أتت هذه السفن محمَّلة بالسُّكَّر وأصباغ الأقمشة وغادرت محملةً بالنبيذ الشهير. كانت جزر الكناري ترسل النبيذ إلى مختلف أنحاء العالم. ولذا كان هذا ميناءً مهمًّا وغنيًّا.
عرفت آنا أن الصيادين من شأنهم أن يعكفوا على إصلاح شباكهم في هذا الوقت من اليوم. أما زوجاتهم فكان من شأنهن أن يُدخِّنَّ الأعشاب البحرية ويُنظفن أحشاء السمك. كان الميناء هو المكان الذي غالبًا ما تجِد فيه أخوَيها التوءمَين — بابلو وكارلوس — يُراقبان السفن بأشرعتها الباسقة في السماء. كانا يحلمان بقضاء حياتهما في عرض البحر، لا في حراثة الأرض. وكان كل حديثهما يدور حول حبال الصواري والأشرعة، وعن البلدان الموجودة على الجانب البعيد من العالَم.
من تلك النقطة، استطاعت آنا رؤية الأبنية البيضاء المتناثِرة في أرجاء البلدة والبرج العالي المُستدق لكنيسة القديسة آنا. كان والداها قد سمَّيَاها على اسم القديسة آنا — تيمُّنًا بالقديسة الشفيعة للأمهات — امتنانًا منهما لإنجابهما أخيرًا طفلةً قُدِّر لها أن تعيش. فقبل ولادة آنا، كانا قد حصلا على أربعة أطفال وُلِدوا ميِّتين أو عاشوا بضع ساعات فقط بعد الولادة. وتُوفي اثنان آخَران بعدها، ثم جاء التوءمان. كانت تفكر فيهم كثيرًا، هؤلاء الإخوة والأخوات الأموات الذين لم تتعرف إليهم مطلقًا.
يا لها من أشباح كثيرة جدًّا!
اتخذت آنا من قُبعتها مروحةً تروِّح بها على نفسها، رغم أن هذا لم يُحدِث أي فارق. سادت فترةَ ما بعد الظهيرة أجواءٌ غريبة، وكأن شيئًا ما على وشك الحدوث، وتصاعدت رائحة غريبة. أخذت تتشمَّم الهواء. كانت الرائحة أشبَهَ برائحة بيضٍ فاسد.
كانت أفكارها مشوَّشة ومشاعرها مُضطرِبة. انتظرت حتى تنتهي مراسم الدفن، ولكن حينذاك لم يكُن هناك عُذر. تعيَّن عليها أن تُقرِّر ما الذي ستفعله إن كان هناك أي شيءٍ بيدِها على الإطلاق. لقد شعرت، وهي تقف بجوار قبر والدها، أنها يمكن أن تتحدَّى العالم وتنتصر عليه. أما الآن، فهي ليست متأكدة من ذلك.
ليتها تتأكد فحسب.
دسَّت آنا يدها في جيب تنورتها الصوفية المخطَّطة. وبداخله كانت الرسالة التي تركها والدها صبيحة يومِه الأخير. وضع رسالته في منتصف رفِّ المدفأة فوق النيران، بحيث لا يمكن تجاهلها. أخرجَتْ آنا الرسالة من جيبها. وقرأتها عدة مرات، حتى حفظتها عن ظهر قلب.
هذه المرة، رأت شيئًا جديدًا. الدليل الذي كانت تبحث عنه.
أخذَت نفَسًا عميقًا، ثم قرأت الكلمات مرة أخيرة. فارتسمت على وجهها ابتسامة مُتجهمة. أدركت آنا الأمر. كانت محقَّة منذ البداية. فرسالة والدها كانت مخبوءةً في مكان يسهل الوصول إليه. والرسالة عبارة عن اسم. مرَّرَت إصبعها على الأحرف الستة.
ثم زفرت آنا.
من وجهة نظر أصحاب الأمر والنهي في البلدة — بملابسهم التي تنم عن الثراء، والشعر المستعار الناعم، والعصي ذات الأطراف الفضية — كانت هذه الرسالة دليلًا آخَر على أن والدها كان ينوي الانتحار. كانت دليلًا على أن موته لم يكُن حادثة صيد. لقد جاء هؤلاء الحكام من إسبانيا، وليسوا سُكانًا أصليين من داخل الجزيرة، وأُرسلوا إلى هنا من أجل السيطرة على نشاط التجارة. وقضوا بأن والدها سلك طريق الجبناء.
لم تكُن آنا تُصدِّق أن وفاة والدها كانت حادثة أيضًا.
وإنما هي جريمة قتل.