الفصل العشرون

عمَّت الميناء موجة من الهياج. لم تكُن آنا قد رأت شيئًا كهذا من قبلُ. بدا أن هناك مئات الأشخاص. اتجه بعضهم ناحية البحر. وأخذ البعض الآخَر يبني أماكن للاختباء تحت أرصفة الميناء أو قوارب الصيد، على أمل أن يَحميهم هذا من الرماد والحِمَم البركانية.

صاح بابلو: «من هذا الطريق.»

تبعت آنا أخاها. كانت تشعر بالخدَر. ماتت أُمها، ومات أبوها. ربما ما كان لينجو أحدٌ منهما هذه الليلة. تفرع نهر النيران أولًا إلى فرعَين، ثم إلى أربعة. الآن، بدا كأنه سبعة أشرطة ضخمة من الحِمَم البركانية تتدفَّق من الفوهة باتجاه البلدة. غطت سحابة الرماد الأسود القمر والسماء. بدا الأمر كما لو أنهم يواجهون نهاية العالم.

قالت الأرملة سيلفا، وهي تناول آنا سلة: «إليكِ هذا.»

وبداخل السلة، كان هناك سمك مشوي ملفوف بقماش، ورغيف خبز. وضعت آنا فاكهةً مجفَّفة في جيبها وقطعة من جبن الماعز استطاعت العثور عليها أثناء الركض نحو الميناء. لم تكُن كمية كبيرة. ولكن ما دام لديهم ماء صالح للشرب، فإنهم سيكونون بخير إذا استطاعوا الابتعاد عن الرماد. أدركت آنا أن كل شيءٍ سيكون مرهونًا باتجاه الرياح.

ركضوا عَبْر الرمال السوداء نحو رصيف الميناء. توقَّفَت آنا للتأكد من أن رودي والأرملة سيلفا يتبعانها.

وقف أنطونيو وكارلوس ينتظران عند القارب الشراعي الصغير. فوجئت آنا. كان أكبر مما كانت تتوقَّع. قارب تجديف طويل ذو قاعٍ مُنخفض مزوَّد بسارية واحدة وشراع. ربما كانت الشائعات حول كون أنطونيو نبيلًا إسبانيًّا صحيحة.

مدَّ أنطونيو يده وساعد الأرملة سيلفا في الصعود على اللوح الخشبي المتحرك. عانق كارلوس توءمه، ثم نظر حوله.

وتساءل: «أين أمي؟»

فتحت آنا فمها، إلا أن رودي بادر بالكلام. قائلًا: «إنها مع نساء شُجاعات أُخريات في الكنيسة. يصلِّين من أجل البلدة.»

بدا أن كارلوس سلَّم بهذا مثل بابلو. شعرت آنا بالامتنان تجاه رودي. لقد خمَّن رودي أن خطبًا ما وقع لوالدتهم.

همست له وهو يأخذ السلة من يد الأرملة سيلفا: «شكرًا.»

رد عليها هامسًا: «أنا آسف.»

شعرت آنا بعاطفة غامرة تجاه الصبي المنبوذ.

ثم اندفعت من الفوَّهة دفقة أخرى من النيران والصخور.

قال أنطونيو وهو يجذب اللوح الخشبي المتحرك: «أسرعوا، علينا أن نبتعِد عن الشاطئ قدْر الإمكان.»

نظرت آنا حولها في يأس. وتساءلت: «ولكن كيف يمكننا أن نبحر بالسفينة بدون طاقم؟»

ابتسم أنطونيو، ثم غمز بعينه المُتورمة. وقال: «حسنًا، لدينا طاقم.»

أدى بابلو التحية. وقال: «نعم، نعم، يا قبطان.»

أمره أنطونيو: «كارلوس، هل يمكنك الإبحار؟»

ركض كارلوس إلى مؤخرة القارب وفكَّ حبلَ الإرساء. ثم دفعا معًا القارب بعيدًا عن الرصيف بالمجاديف ثم قفزا إلى موقعيهما.

وقف أنطونيو عند ذراع الدفة لقيادة القارب. أمسك كلٌّ من بابلو وكارلوس بمجداف وبدآ في التجديف. وببطء، بدآ يبتعدان عن الرصيف. كان الميناء مليئًا بالقوارب الصغيرة التي كانت جميعها تحاول الوصول إلى مخرج الميناء، لكن أنطونيو تمكَّن من قيادتها عَبْر مخرج الميناء ومنه إلى البحر المفتوح.

صاح قائلًا: «ارفعا الشراع.»

أرخى بابلو وكارلوس مجاديفهما، ثم قفزا وجذبا الحبال لرفع الصاري إلى مكانه. راقبَتْهما آنا وهي يملؤها الفخر. لم يكُن لديها أدنى فكرة بأنهما بحَّاران ماهران لهذه الدرجة وتمنَّت لو أن والدها عرف ذلك. وبمجرد أن رُفع الصاري، أفلت بابلو حبال الصاري وانبسط الشراع الأبيض الوحيد المربع الشكل.

تساقطت شظايا الصخور من السماء، لتُمطر على البلدة وفوق البحر. بالفعل، استطاعت آنا أن ترى شراعهم الأبيض تلوَّث بالرماد الرمادي اللون. سقط حجر كبير، أكبر من الباقي، في المياه خلف القارب على مسافةٍ ليست ببعيدة. انتشرت رائحة كبريت في الأجواء، لتنبعث بذلك دفقة من البخار المالح يُصاحبه أزيز.

إلا أنهم انطلقوا مع هبوب الرياح وتوغَّلوا في إبحارهم وسط المياه المتلاطمة الأمواج. دعَت آنا أن تكون هذه المسافة بعيدة بما فيه الكفاية.

•••

تساقطت كُتَل من الصخور السوداء المشتعلة — يبلغ حجمها حجم رأس إنسان — هادرة على سفح الجبل.

أما على الطريق الساحلي المُتجه شرقًا، فقد أوسع السائس الحصانَين ضربًا بالسوط ليُسرعا أكثر. فمن جهة، أحاطَهم جدار جبلي شاهق. ومن الجهة الأخرى، أحاطهم مُنحدر عميق نحو البحر. فجأةً، شد السائس اللجام ليُوقف الحصانين. رأى أمامه الطريق مُغلقًا جزئيًّا. لا بد أن هناك انهيارًا أرضيًّا.

ترجرجت العربة حتى توقفت.

أطل العمدة برأسه من النافذة.

صاح السائس: «سيدي، لا يُمكننا المرور من هنا! الأمر في منتهى الخطورة.»

أشاح العمدة بيده. وقال: «هراء. هناك مساحة كافية لمرور العربة.»

«عجلات العربة عريضة جدًّا.»

أخرج القس رأسه من النافذة الأخرى للعربة. وبدا عليه القلق.

«إنه مُحق. يجب أن نعود أدراجنا يا أخي.»

صرخ العمدة قائلًا: «هل جُننت؟ الحِمَم تنساب في اتجاه البلدة. كلَّا، هذه هي أفضل فرصة أمامنا. إذا استطعنا العبور إلى الجانب الآخَر من اللسان البحري، سنكون في مأمنٍ من الخطر.»

تراجع القس في مقعده.

صرخ العمدة في السائس قائلًا: «انزل. يمكنك أن تقود الحصانين عَبْر الطريق. الطريق خالٍ من العوائق على الجانب الآخَر من الصخور.»

شرع السائس يقول: «سيدي، مع كامل الاحترام …»

سحب العمدة خنجرًا من حزامه. وقال: «افعل ما أمرتُك به. إلا إذا كنت تريدني أن أتخذ القرار بدلًا منك.»

قفز السائس من مقعده نظرًا لأنه لم يعُد أمامه أي خيار. وربط اللجام فوق رأسَي الحصانين وحاول أن يقودهما عَبْر المنحدر الصخري. تمايلت العربة، ثم تأرجحت. بدأت العجلات تدور. لاحظ السائس كيف اتسعت عيون الخيل عن آخِرها من الخوف، لكنه تحدَّث إليهما بصوتٍ مُنخفض وأطاعا أمره. بسط معطف الفروسية الفضفاض فوق رأسيهما لحمايتهما من الرماد المتساقط.

تقدَّمَت العربة بحذَر وتُؤَدة خطوة تلوَ الأخرى. كانوا على وشك الاجتياز عندما نظر السائس إلى أعلى ورأى صخرة سوداء ضخمة تتهاوى من السماء نحوهم. صرخ، ورفع ذراعَه. ارتفع الحصانان على أرجلهما الخلفية، وتراقصت حوافرهما في الهواء الخانق. أصاب أحد الحوافر صدغ السائس فسقط على الأرض مذهولًا.

ارتفع كِلا الحصانَين مرة أخرى في الهواء بعدما أفزعتهما الضوضاء والصخور المُتساقطة. حاولا التحرُّر من القائم الخشبي الذي يربطهما بالعربة. وفي غمرة شعورهما بالرعب الجامح، انزلقت حوافر الحصان الأول في الرماد، وسقط عند الحافة. عجز عن الحفاظ على موطئ قدم على الحجارة والصخور، فانزلق لأسفل على حافة الجرف، ليسحب معه الحصان الآخَر والعربة.

كان هناك توقُّف غريب لبرهة، تبعه صمتٌ شِبه كامل. بعد ذلك، جلس السائس، مذهولًا. أدرك على الفور كم حالفه الحظ السعيد.

•••

من على متن مؤخرة القارب، نظرت آنا عَبْر المياه إلى البلدة.

كان العالم يحترق. مُحِيَت ملامح كل شيء عرفته آنا. اشتعل سفح الجبل بالكامل. واستمرت تدفُّقات النيران المنصهرة تندفع من الفوهة.

ابتلعت آنا ريقها بصعوبة. المنحدرات التي كانوا يلعبون عليها في صغرهم، منزلهم الأبيض الصغير المُطل على بساتين الكروم، والعنزة التي أنقذتها من كوخ أنطونيو، وقعت جميعها مباشرة في مرمى أحد أشرطة النيران السبعة. غُطِّيت مراعيهم الخضراء بالحمم. وتحوَّلت الأرض إلى اللون الأسود وظل الرماد يتساقط. لتختنق السماء والقمر والناس والدواب.

أبقت آنا عينَيها مثبَّتَتين على الجبل الأسود وتساءلت ما إذا كان سينجو أي شيء. هذا إن نجوا هم أنفسهم.

كانت كلمات والدها يتردَّد صداها في رأسها — العذارى السبع في السماء، مثل الجزر السبع على الأرض. في تلك الليلة في شهر يناير، قبل خمسة أشهر، قال لها إن الحظ كان حليفهم.

قالت آنا وهي تقاوم دموعها: «أما الآن، فماذا ستقول يا أبي؟»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥