الفصل الحادي والعشرون
أبحروا بعيدًا بالقارب الشراعي الخاص بأنطونيو في الساعات الأولى من فجر الأربعاء ٥ مايو؛ أي اليوم الذي بدأ فيه ثوران البركان. انطلق أنطونيو — مُتخذًا بابلو وكارلوس طاقمًا له وبمساعدةٍ من جانب رودي وآنا — في اتجاه الشمال الشرقي مسايرًا الرياح التجارية وأبحر بهم حول اللسان البحري بحثًا عن مأوًى آمِن.
ووصلوا إلى الشاطئ في اليوم التالي، وبعد أن استغرقوا بضع ساعاتٍ للتسلق إلى أعلى الساحل، وجدوا كوخًا مهجورًا خاصًّا بأحد الرعاة يقع إلى غرب الجبل الأسود. لقد انسابت الحِمَم البركانية نحو الشمال والشرق، لتترك اليابسة الواقعة غربًا بلا مساس تقريبًا. كانت السماء مُعتمة. لا ليل ولا نهار. إلا أنهم ما زالوا على قيد الحياة، وفي مأمنٍ من الخطر.
ومن بعيد، استطاعوا أن يرَوا النار لا تزال تنبعث من قلب البركان. استطاعوا أن يسمعوا صوت انشقاق الأرض. إلا أن الحمم البركانية لم تصل إلى مكانٍ قريب منهم وإنما ذرَّت الريح الرماد الأسود الخانق في الاتجاه المعاكس. كان هناك ماء عذب. بدا الكوخ المهجور مكانًا جيدًا بالقدر الكافي مثل أي مكان آخَر لاتخاذه مأوًى وانتظار ما سيحدث.
أخذوا ينتظرون لمدة ١٠ أيام.
وفي فجر يوم السبت، ١٥ مايو، خطت آنا خارج الكوخ المتواضع الذي اتخذوه بيتًا لهم. لقد استيقظ أنطونيو مبكرًا وخرج، أما الأرملة سيلفا فكانت لا تزال نائمة. شعرت آنا، على الفور، أن ثمة شيئًا مختلفًا. أخذت نفَسًا عميقًا، ثم أدركت هذا الشيء. في صبيحة يوم السبت هذا، كانت السماء زرقاء. والهواء كان نقيًّا. كانت الشمس مُشرِقة. استطاعت أن ترى ما هو أمامها على بُعد أميال وأميال.
لقد خمد الجبل البركاني الأسود.
حدَّقَت آنا بكل بساطة في المكان من حولها لمدة دقيقة. لم ترَ أبدًا شيئًا بهذا الجمال من قبلُ. كادت ألا تصدق عينَيها. ثم غمرها شعور بالبهجة والارتياح ونادت من فوق كتفها دون أن تلتفت.
«استيقظوا! بابلو، كارلوس، رودي — استيقظوا!»
ومن داخل الكوخ، رفع الصبية الثلاثة النائمون رءوسهم من على حشية القش المفروشة على الأرض، وهم يطرفون بأعينهم استقبالًا لليوم الجديد. تحركت الأرملة سيلفا، التي غفَت على كرسي ذي مسندَين بجوار المدفأة الفارغة، من مهجعها. وقفت متصلِّبة في مكانها ثم خرجت أيضًا.
تساءلت: «ماذا هنالك؟ هل ثمة خطب ما؟»
ردَّت آنا: «أظن أن الخطر قد زال. زال الخطر.»
ثم انحشرت الكلمات في حلقها عندما أدركت ما قصدته. استندت على يد الأرملة سيلفا لتتمالك نفسها من السقوط. لقد أخبرها أنطونيو أن البراكين أحيانًا تثور لسنوات. لقد ظنَّت أنهم ربما لن يتمكنوا أبدًا من العودة إلى الديار. لقد مرَّت ١٠ أيام فقط. وفي النهاية، حالفهم الحظ على أية حال. كما قد وعدها والدها تمامًا.
قالت في نفسها مرة أخرى: «زال الخطر.»
في تلك اللحظة، خرج بابلو وكارلوس مُسرعَين من الكوخ، يتبعهما رودي.
قالت آنا وهي تلوح بذراعَيها في رحابة لتستوعب المشهد. لقد عاشوا، لأكثر من أسبوع، في حالة من الشك والترقُّب والخوف. أما، الآن، ثمة عالم جديد تحت أقدامهم.
وقفت المجموعة الصغيرة في صمتٍ لبرهة. كان هناك الكثير من الأشياء التي يمكن أن تُقال، لكن الألسنة عجزت عن التعبير عنه. كانت آنا بحاجة لتستكشف أكثر وترى بنفسها.
«هلا تسلَّقنا لنصل إلى اللسان البحري ونرى ما إذا كان بمقدورنا العثور على أنطونيو؟»
اتَّقدَت عيون الصبية بالحماس.
قالت الأرملة سيلفا: «سأمكث هنا وأشعل النار.» رأت آنا الدموع في عينيها.
•••
انطلقوا.
استطاعت آنا أن ترى الجزيرة وقد بدا عليها الاختلاف. حلَّت صخرة سوداء مُتعرِّجة محل ما كانت حقول خضراء يانعة ذات يوم. وحلَّت أعمدة من الحمم البركانية والكثبان السوداء محل ما كانت أشجارًا سامقة ذات يوم. وفي كل مكان رأت أشجار دم الأخوَين لا تزال أو أيكة أشجار الأرز في مكانها.
وبينما كانوا يتسلقون لأعلى، بدأت آنا ترى أجزاءً من الأرض بقيت سليمة أيضًا. لقد انقسمت تدفقات الحمم البركانية، لتحفر طريقًا مباشرًا نحو الشمال من الجبل إلى البحر. لقد غطى الرماد الأسود الأرض الواقعة شرقًا. ومع ذلك، نجا عدد قليل من كرمات العنب المزروعة في قطع الأراضي الواقعة على الجبل ناحيتهم.
صاح كارلوس وهو يشير أمامه: «ها هو أنطونيو.»
رأت آنا أنطونيو واقفًا على حافة الجبل. لا بد أنه استيقظ في وقتٍ مبكر أكثر منها وذهب ليرى ما إذا كان هناك أي شيء يمكن إنقاذه. بدأت آنا تتمنَّى أن يكون هنا شيء يمكن إنقاذه.
ابتسم عندما رآها هي والصِّبيان يصعدون إليه.
قال كارلوس وهو ينظر إلى أخيه التوءم: «اختفى كل شيء. الميناء، وجميع السفن، اختفى كل شيء.»
وقفوا معًا يتطلعون لأسفل إلى ما كان قبل ذلك أهم ميناء في جزيرة تينيريفي. انجرفت الحواجز البحرية بعيدًا وظهرت العديد من جُزر الحِمَم السوداء الصغيرة في الخليج. دُفنت أغلب أجزاء البلدة تحت نهر النيران والرماد. الْتَقطت آنا أنفاسها، وهي تتخيَّل الخوف واليأس اللذَين شعر بهما مَن تخلفوا عن الفرار.
قال أنطونيو: «ليس تمامًا. انظروا مرة أخرى.»
في أماكن متفرقة، تلألأت بضعة أبنية بيضاء اللون في البلدة. كانت مُحترقة وبعضها كان أشبَه بالأنقاض؛ إلا أنها لا تزال شامخة. لم ينجرف منزل ناظر الميناء. استطاعت آنا أن تُميز بعض قوارب الصيد المقلوبة على الشاطئ.
قال رودي: «أظن أنني أستطيع أن أرى برج الكنيسة.»
قال بابلو: «وأنا أستطيع أن أرى سطح المجلس البلدي.»
تطلَّع كارلوس إلى أخته. وسألها: «هل هذا يعني أنه يُمكننا العودة إلى المنزل والعثور على أمي؟»
شعرت آنا أن أنطونيو ينظر إليها. فأخبرته بكلِّ شيء. كيف اكتشف والدها أن العمدة نفسه قد خطط لإغراق سفينة «لا بلانكا». وأخبرته بأنها تعتقد أن رجال العمدة سرقوا الكنز، أثناء تظاهُرهم بأنهم بعثة إنقاذ. وأغرقوا السفينة من خلال إبادة كل من كانوا على متنها، ولقد رأى أبوها كل هذا من المنطقة الجرداء الخالية من الأشجار على سفح الجبل.
كما أخبرت آنا أنطونيو أنها تظن أن والدتها قد أخبرت القس بما رآه زوجها عندما ذهبت للاعتراف في الكنيسة. ولقد أخبر القس، بدوره، أخاه العمدة. وهكذا، كُتبت شهادة وفاة السيدة بيريز أيضًا.
كانت آنا قد عزمت على إخبار الصَّبِيَّين بوفاة والدتهما عندما يحين الوقت المناسب. هذا بمجرد أن تتأكد من أن خطر البركان قد زال. جاء هذا في وقتٍ أقرب مما توقعَت؛ إلا أن آنا كانت تعلم أنه لم يكن لديها خيار آخر.
قالت وهي تُربِّت على العشب بجوارها: «تعاليا، اجلس إلى جواري يا كارلوس. وأنت أيضًا، يا بابلو.»
تبادل التوءمان نظرةً متوترة. ذهب رودي ليقف مع أنطونيو.
بدأت آنا حديثها قائلة: «كان والدنا رجلًا شجاعًا. كان يدافع دومًا عمَّا يؤمن به. تمتع بالشجاعة ولهذا السبب …» أخذت نفَسًا عميقًا. ثم تابعت: «ولهذا السبب قُتل.»
تساءل بابلو: «قُتل؟» أطرق كارلوس ببصره إلى الأرض.
انتظرت آنا، ولكن لم يطرح أيٌّ منهما المزيد من الأسئلة. تفهمت. رغِبا في الاستماع إليها؛ ولكنهما لم يستطيعا أيضًا تحمُّل ما هما بصدد الاستماع إليه. لا يزال التوءمان صغيرَين. ستُخبرهم بكل شيءٍ عندما يتقدَّمان في العمر. ولكن ليس حينذاك.
قالت بحذَر: «كما تعرفان، رأت والدتنا الحياة صعبة؛ إلا أنها كانت تتمتع أيضًا بقدْر كبير من الشجاعة. كانت تعرف الصواب. لقد ماتت وهي تدافع عن ذكرى زوجها. ماتت لتحمينا.»
بدأ كارلوس يبكي بجوارها في هدوء. أحاطته بذراعِها وأحسَّت ببابلو يستند على كتفها.
ومن مكانٍ بعيد، بالوادي، دق جرس الكنيسة في البلدة القديمة ليتردد صداه في أرجاء الأرض المتفحمة.