الفصل الثاني والعشرون
مع تحوُّل صيف عام ١٧٠٦ إلى خريف، ثم تحول الخريف إلى شتاء، عادت باقي الأسر الأخرى من جديد.
أرادوا أن يُعيدوا بناء حيواتهم مرة أخرى مثلما فعلت آنا. أرادوا أن يُعيدوا بناء البلدة التي أحبُّوها. لم يكُن هناك ما يشير إلى أن هذه القرية الصغيرة القائمة على نشاط الصيد كانت فيما سبق ميناء تينيريفي الرئيسي. صارت مياه البحر ضحلة جدًّا وصار الإبحار فيه محفوفًا بالمخاطر بسبب صخور الحمم البركانية السوداء. كانت السفن لا تزال تأتي من إسبانيا، إلا أنها ترسو الآن في الميناء الصاخب على ساحل الجزيرة الشمالي الشرقي. وبمرور الوقت، صار الميناء الجديد عاصمة المدينة. ونسي الجميع قريتهم الصغيرة على الساحل الشمالي الغربي للجزيرة باستثناء أولئك الذين عاشوا هناك.
عندما برزت جرائم العمدة وأخيه إلى النور، قدم المجلس البلدي الجديد اعتذارًا إلى آنا وأسرتها. لقد اعترف السائس، الذي حاول أن يقود العمدة وأخاه إلى برِّ الأمان، بكل شيء. عُثر على عربة الخيول عند سفح الجرف ولا تزال جثتا الحصانَين متَّصِلتَين بالقوائم الخشبية للعربة. كانت جثتا العمدة والقس بداخلها. انفتح صندوق الكنز عن آخِره، ليتناثر الياقوت والأحجار الكريمة في كل مكان. أُنفق جزء منها على إعادة بناء المجلس البلدي.
وأعلن المجلس البلدي تقييد وفاة والد آنا ووالدتها كجريمة قتل. وعلى الرغم من أن جثمانيهما فُقدا أثناء انفجار البركان، كان شاهد القبر في فناء الكنيسة مكتوبًا عليه: «توماس بيريز وماريا بيريز، اللذان ماتا في خدمة البلدة التي أحباها.»
كانت آنا تزورهما مع أخويها كل أسبوع لوضع باقة الزهور على القبر.
•••
وفي يوم الأحد الموافق الخامس عشر من مايو، أُقيم قُدَّاس كنسي تخليدًا لذكرى جميع مَن رحلوا. وتأنَّق الحضور بأفضل ما لديهم من ثيابٍ وقبعات.
مرَّ عام على اليوم الذي انتهى فيه انفجار البركان. لقد مات الكثيرون، إثر الاختناق بالرماد أو دُفنوا أحياءً في بيوتهم حين تدفَّقَت الحمم البركانية إلى سفح الجبل ودُفن جزء من البلدة تحتها.
أحنت آنا رأسها. وصلَّت من أجل والدها ووالدتها، ومن أجل جميع مَن فقدوا حياتهم قبل عام. جلس بجوارها على مقاعد الكنيسة أنطونيو والأرملة سيلفا وأخواها بابلو وكارلوس وصديقهما المقرب رودي.
صار رودي الآن في الخامسة عشرة من عمره. وبما أنه صار أطول قامةً، صار عموده الفقري أقل انحناءً. وصارت ذراعه المشوهة أقوى إثر بناء البيوت وحظائر الحيوانات، وإثر مساعدة الفلاحين في زراعة بساتين الكروم الجديدة وأشجار الفاكهة. ورغم أنه لن يكون بخفة ورشاقة بابلو أو كارلوس، فإنه كان شابًّا لطيفًا عريض المنكبَين.
رفعت آنا عينَيها إلى النوافذ الزجاجية الملونة الخاصة بالكنيسة وتركت أصوات الجوقة تغمرها. رفعت الموسيقى روحها المعنوية. وانعكست أشعة الشمس على هيئة أشكال لامعة من الضوء الملوَّن فوق المذبح. وقد عرض أعضاء المجلس على آنا قطعة أرض واقعة غرب البلدة كتعويضٍ عما فقده والدها. كانت تتملك تلك الأرض كامرأة مُستقلة ذات أهلية. وعندما انتهى القُداس، تعيَّن على آنا أن تذهب بنفسها إلى المجلس البلدي للتوقيع على المستندات المطلوبة.
لم يكُن لدى آنا عِلم بما ستفعله.
ثبَّتَت ناظرَيها على الرداء الأسود للقس الجديد، وهو شاب من جزر كناري الأخرى. كان شابًّا مُتحمسًا ولطيفًا رأت آنا أنه إضافة ممتازة لمجتمعهم المحلي الصغير.
قال القس: «باسم الآب والابن والروح القدس.» ورفع يده اليمنى في الهواء وأشار على نفسه بإشارة الصليب.
«آمين.»
أمَّن الجميع على دعائه، بعضهم بصوتٍ عالٍ، والبعض الآخَر أمَّن في سره بصوتٍ هامس مثل آنا.
«آمين.»
انتهى القدَّاس.
وقف القس عند الباب ليُحيي كل فردٍ من رعايا الكنيسة. ابتسم إلى آنا والصبِيَّين، وأومأ برأسه إلى الأرملة سيلفا وصافح أنطونيو.
وبالخارج في ساحة البلدة، كانت الشمس تشرق. وقفت آنا لدقيقة تتأمَّل المشهد. كان المجلس البلدي لا يزال قائمًا، رغم أن جدرانها تشقَّقَت. كانت تُوجَد سقالات خشبية في الحدائق الخاصة بحيث يمكن إصلاح الأضرار التي لحقت بالسقف. كُسِر درج السُّلَّم الذي وقف عليه أنطونيو عندما حاول أن يقنع أهل البلدة بالاستماع إليه. كانت تُوجَد تلال من الحِمم البركانية حيث شقت تدفقات الحمم البركانية طريقها إلى قلب البلدة. وجعلت السطح غير مستوٍ.
وبعيدًا عن الساحة، في المنطقة التي لم يلحَقْها الانفجار البركاني على الأغلب، بُنيت منازل جديدة. وافتتح التجار متاجر لبيع الملابس والكتب والأواني الفخارية، وأي شيءٍ قد يحتاج إليه الناس. لقد فقدت أغلب الأُسَر كل شيء؛ إلا أن بلدتهم البيضاء الصغيرة عادت مرةً أخرى إلى الحياة. لن تكون كما كانت أبدًا، ولكنها ستكون مكانًا جيدًا للعيش فيه على أية حال.
أدركت آنا أنها تنتمي إلى هذا المكان. ولكن هل كان هذا يَسري على أخوَيها أيضًا؟ لم تكُن متأكدة.
رفعت يدها لتحمي عينَيها من أشعة الشمس الساطعة حين جاء أنطونيو ليقف بجانبها.
سأل: «هل اتخذتِ قرارك؟»
«هذا متوقف على ما يقوله رودي.»
قال أنطونيو: «أنتِ تعرفين ما سيقوله. هل تريدين أن أذهب معكِ إلى المجلس البلدي؟»
هزت آنا رأسها. «إنه شيء يجِب أن أفعله بنفسي. هذا إن ذهبت من الأساس.» والتفتَتْ لتنظر إليه. «هل عرضك لا يزال قائمًا؟»
«بالتأكيد. بابلو وكارلوس يتحلَّيان بموهبة فطرية في التعامل مع البحر. لقد رأيتُ ذلك بعيني. وأي قبطان سيسعد بضمهما إليه. وعندما يبلغان السن المناسبة، سأشتري لكليهما سفينةً مؤهلة للإبحار.»
«شكرًا لكَ.»
جزَّت آنا على شفتَيها. بدا أخواها صغيرين جدًّا، إلا أنهما يبلغان من العمر ١٣ عامًا تقريبًا. وفي غضون عام، سيصلان إلى السن المناسبة للتطوُّع والانضمام إلى طاقم السفينة. غمرت آنا موجةٌ من العواطف. سيُبحران بعيدًا عن الجزيرة. وربما لن تراهم مرة أخرى أبدًا.
قال أنطونيو بلُطف: «تحدَّثي مع رودي.»
لم تكُن آنا واثقة من نفسها كي تتحدَّث ولذا أومأت برأسها.
قال لها: «عودي إلى المنزل عندما تنتهين.»
كان أنطونيو يمتلك الآن منزلًا جميلًا به شرفات خشبية تطل على المياه. لقد أخبر آنا بقصة حياته. كان الابن الوحيد لتاجر ثري من جنوب الجزيرة. ترك أنطونيو منزل العائلة بعد مشاجرة ولم يعُد أبدًا. وبوفاة والده، أصبح رجلًا ثريًّا. لقد ورث أملاك والده، التي باعها، واشترى بدلًا من ذلك منزلًا وأرضًا في شمال تينيريفي. ولم يعُد أنطونيو بحاجةٍ إلى الاختباء بعيدًا في أحضان الجبل. وبدلًا من ذلك، تبوَّأ مكانته بصفته أحد القادة الذين أعادوا بناء البلدة.
قال أنطونيو وهو يُربِّت على كتفها: «تحلَّي بالشجاعة.» ثم التفت ليجد الصبيين يستندان إلى سور الكنيسة.
«بابلو وكارلوس، هل أنتما جائعان؟»
قال بابلو: «أنا أتضوَّر جوعًا.»
«ما رأيكما لو تُشاركانني الغداء؟ السيدة سيلفا كانت لطيفة بالقدر الكافي إذ قالت إنها ستأتي.»
تساءل كارلوس: «ماذا عن رودي وآنا؟»
وكزه بابلو في قفصه الصدري بمرفقه. أطرق كارلوس ببصره إلى حذائه كالمعتاد.
قال أنطونيو: «سينضمَّان إلينا في أقرب وقتٍ ممكن. تعاليا. هيا نذهب ونرى ما أعدَّته مُدبرة المنزل لنا.»
عندما رأت آنا أسرتها الصغيرة تسير مبتعدةً في اتجاه الشاطئ، أدركت أنها تتلكأ. شعرت بالتوتر بشأن المحادثات القادمة.
تساءل رودي: «هل ثمة مشكلة؟»
قالت آنا: «هلا سرت معي لدقيقة؟»
أجابها رودي: «حسبما تشائين.»
سارا بخُطًى متمهلة. كان رودي لا يزال يعرج في مشيته، إلا أن الأمر كان أقل وضوحًا. أخذا يقطعان الشوارع الضيقة جيئةً وذهابًا، ليُلقيا بظلال جسديهما على الأرض وهما يقتربان من الشمس تارة ويتبعِدان تارة.
بدأ جرس الكنيسة يدقُّ معلنًا الساعة الثانية عشرة. نظرت آنا إلى الساعة. كان المجلس البلدي في انتظارها. ما كانت لتجعلهم ينتظرون أكثر من ذلك. ما كان ينبغي لها أن تتأخَّر أكثر من ذلك.
أخذت نفسًا عميقًا. «رودي، أتمنَّى أن تعرف أنني أعتبرك أخًا آخر لي.»
شعرت أن وجنتَيه تتخضَّبان بحُمرة الخجل إلى جوارها. أجابها قائلًا: «ولطالما تمنيتُ أن تعتبريني كذلك.»
«لقد عايشنا الكثير من التجارب معًا.»
«أجل.»
كانت آنا تنتقي كلماتها بعناية. وأردفت: «بابلو وكارلوس فتيان صالحان …»
أومأ رودي برأسه. قائلًا: «الأفضل على الإطلاق.»
«ومع ذلك، إنهما لا يُحبَّان الأرض بقدْر ما أُحبها أنا. أو بقدر ما تُحبها أنت.»
ابتسم رودي ابتسامةً واسعة. وأردف قائلًا: «كلَّا إنهما يفضلان البحر.»
فضحكت آنا وتابعت قولها: «لطالما كان هذا حالهما»، «لم يستطع والدي أن يتفهم هذا الأمر مطلقًا، على الرغم من تقبُّله. لم يُبديا أي اهتمام بزراعة كرمات العنب. ولهذا السبب علَّمَني كل شيء عرفه.»
قال رودي بإخلاص: «أنتِ تعرفين كل شيءٍ يخصُّ الزراعة بقدر ما يعرفه أي رجل. بل وأكثر.»
توقفت آنا عن الحديث لبرهة. كانت هذه هي اللحظة الفاصلة. لم ترغب أن تعرِّض رودي للإحراج. وفي الوقت نفسه، إذا رغب عن القبول بعرضها، فمن الأفضل أن تعرف هذا. من الأفضل أن تعرف عاجلًا وليس آجلًا.
قالت وهي تتطلع إلى المجلس البلدي: «عرض المجلس البلدي عليَّ قطعة أرض لزراعة كرمات العنب فيها. إنهم ينتظرونني للتوقيع على الأوراق اليوم. سأمتلك الأرض بالكامل وبصفتي الشخصية.»
قال رودي بحرص: «لقد سمعتُ ذلك.»
التفتت آنا لتنظر إليه. وقالت: «الفكرة، يا رودي أنني لا يمكنني أن أفعل هذا بمفردي. سأحتاج إلى رئيس للعمال، شخص يساعد في زراعة كرمات العنب، ويشرف على العمال، ويحصد العنب.»
«حسنًا؟»
في تلك اللحظة، ظنت أنها شعرت ببارقة أمل في صوته. شجعها هذا على مواصلة حديثها.
تابعت حديثها قائلة: «ما أودُّ أن أعرفه هو ما إذا كنت ترغب أن تكون ذلك الشخص يا رودي. يجب ألا تتردَّد في الرفض. لا أريدك أن تشعر بأنك مدين لي بشيء.» أدركت آنا أنها تتحدث بسرعةٍ كبيرة جدًّا. «لا أستطيع أن أفكر في أي شخصٍ أفضل منك ليُساعدني في إعادة تأسيس مشروع والدي. ستستمر الأرملة سيلفا في العيش معنا وإدارة المنزل. يمكنك إما أن تبقى في منزل أنطونيو، أو أن تأتي وتعيش في المنزل معي ومع الصبيين، إذا كنتَ ترغب في ذلك، وسيكون هناك …»
شعرت آنا أن لِسانها انعقد عندما أحاطها رودي بذارعه وعانقها، قبل أن يتراجع إلى الوراء.
صاح قائلًا: «أجل! لا أُصدق أنكِ توقعتِ أن يكون ردي أيَّ شيء بخلاف الموافقة.»
تنفَّسَت آنا الصعداء وهي تقول: «أوه … أوه، أنا سعيدة للغاية.»
أمال رودي رأسه قليلًا. «ما رأي بابلو وكارلوس؟ هل يُوافقان على هذه الخطة؟»
أومأت آنا برأسها. وأردفت: «أجل. ناقشتُ الأمر معهما أولًا، ثم ناقشتُه مع أنطونيو والأرملة سيلفا. الجميع يرى أنها فكرة رائعة.»
ارتسمت ابتسامة كبيرة على وجه رودي. وأحنى رأسه إليها باحترامٍ شديد. وقال: «في هذه الحالة، آنسة بيريز، يُشرفني أن أقبل عرضك.»
تأبَّطت آنا ذراع رودي وعادا معًا أدراجهما إلى المجلس البلدي. رأت آنا أن اليوم هو بداية المغامرة التالية. فعلى الرغم من كل ما حدث، وكل الخسائر التي تكبَّدتها، والمعاناة التي عايشتها البلدة، شعرت ببارقة أملٍ جديد قد يأتي بها المستقبل.
وفوق البحر، تابعت طيور النورس أسطول الصيد. ظهرت بواكير الزهور الصيفية بألوانها البراقة الوردية والحمراء والصفراء في أصيصات الزرع الموضوع على نوافذ البلدة. وباتجاه الجنوب وفوق رءوسهم، كان الجبل الأسود يقف في هدوء شامخًا وسط السماء الزرقاء.
أو هكذا كان حتى تلك اللحظة.