الفصل الثالث
اغرورقت عينا آنا بالدموع.
لقد مات والدها العزيز، وها هي جثته مُمدَّدة في الأرض الباردة. وحتى تلك اللحظة، لم تُطلِق آنا لنَفْسها العنان لتبكي. حينذاك، أدركت أنه لم يتركهم بإرادتِه الحرة، وهذا يعني بطريقةٍ ما أو بأخرى أنها قد تترك لدموعها العنان لتبكي.
هزَّت آنا رأسها. وكأنها تقول لنفسها كلَّا، ليس الآن. كان يتعيَّن عليها أن تبقى قوية.
مسحَتْ عينَيها بظهر يدِها، ثم هبَّت واقفة. انتابها شعور بالخوف؛ إلا أن شعورها بالغضب غلب عليها أكثر. فإذا كانت مُحقة بشأن الرسالة التي تركها والدها، فهذا يعني أنه يتعيَّن عليها أن تتوخَّى الحذر. كان أعداؤه رجالًا أُولِي قوة وبأس. فإذا عرفوا أن آنا كشفت ما اقترفته أيديهم، فإنهم سيُسكتونها لا محالة. كان الأمر ينطوي على مخاطر كبيرة. ومن شأنها أن تعرِّض حياة والدتها وشقيقَيْها للخطر أيضًا.
أدركت آنا أن فترة ما بعد الظهيرة على وشك الانقضاء من الطريقة التي تساقطت بها الظلال على سفح الجبل. كانت تعرف أنها ينبغي أن تعود إلى منزلهم الأبيض ذي المَصارع الخشبية البُنية والشرفة الأمامية، الموجود عند طرف المنحدر. وكان من شأن والدتها أن تقلق عليها وقد صارت آنا مسئولةً عنها الآن. ولكن تعيَّن على آنا أن تذهب إلى مكانٍ ما أولًا. لم يكُن هذا المكان بعيدًا.
عادت أدراجها إلى أعلى منحدرات الجبل الأسود، وهي مُمسكة بقُبعتها في يدها. كانت التربة خصبة لزراعة العنب بالنظر إلى أنها تكوَّنَت من الصخور البركانية قبل آلاف السنين. ولذا، تُنتج نبيذًا بنكهةٍ قوية ومُميزة.
ومن على مسافةٍ كبيرة، نحو الجنوب البعيد جدًّا، كان في مقدور آنا أن ترى القمة البيضاء لأكبر بركانٍ موجود في قلب تينيريفي. لم تذهب آنا مُطلقًا بعيدًا إلى هذا الحد جنوبًا. وحتى في شهر مايو، كانت الثلوج تُغطي قمَّته. قال البحارة إنه، عند الشروق وعند الغروب عندما تكون الشمس على ارتفاعٍ منخفض في السماء، يُلقي البركان ظلًّا على الجُزر الأخرى الموجودة على بُعد أميالٍ عديدة في عرض البحر.
زعم مَن عاشوا على الجزيرة قبل قدوم الإسبان أن عفريتًا كان يعيش بداخله. وعندما يغضب هذا العفريت، ينفُث نارًا وصخورًا في السماء.
كان والدُها قد حكى لهم الأسطورة عندما كانوا صغارًا. ولم تكُن الأسطورة متعلقةً بأكبر بركانٍ فقط، وإنما متعلقة أيضًا بجبلهم الأسود. كان التوءمان — بابلو وكارلوس — يسدَّان آذانهما، مُتظاهرَيْن بالخوف، إلا أن آنا كانت تُحِب القصة وتتوسَّل إلى والدها ليرويها مرةً تلوَ الأخرى.
وليلة تلوَ الأخرى، عندما كانت آنا طفلة صغيرة، كانت تجلس على الشرفة الخشبية في الجزء الخلفي من منزلهم تُراقِب الجبل الأسود. كادت تتمنَّى أن ترى العفريت يرعد وينفُث النار في السماء. عامًا تلوَ الآخَر، كانت تنتظِر، حتى أدركَتْ أنها مجرد قصة خيالية مختلقة يُخيفون بها الأطفال حتى لا يقتربوا كثيرًا من الفوهة. صحيح أن الأرض كانت ترتجُّ وتهتز في بعض الأحيان — وثمَّة حكايات عن ثوران النيران وتساقط الصخور في أجزاء أخرى من الجزيرة — لكن السماء فوق جبلهم الأسود لم تتحول إلى اللون الأحمر قط.
واصلَتْ آنا التسلُّق لأعلى. في ذلك الوقت، هبَّ نسيمٌ خفيف. استطاعَتْ سماعَه وهو يهمس بين العشب الطويل الذي ينمو فوق المنحدرات العُليا. تمايَلَ سياج القصب الأصفر والأبيض المصفر مع نسمات هواء فترة ما بعد الظهر.
أُنهِكَت ساقاها، ولكنها لم تتوقَّف عن السير. كانت آنا في سن السادسة عشرة طويلة القامة مقارنة بباقي النساء. كانت عريضة الجسد قوية المنكبَين. كانت تُشبه والدها وتفخر بذلك. لقد أحبَّت والدتها، ولكن الحُزن والفاجعة جعلا ماريا بيريز في حالةٍ من الهشاشة. لم يكُن من المُفترَض أن تكون زوجةً لمزارع. لم تتعافَ أبدًا من وفاة هذا العدد الكبير من الأطفال. كانت تمرض كثيرًا وتقضي مُعظم وقتها في الكنيسة، تُصلِّي للقديسين، أكثر من الوقت الذي تقضيه في الخارج مُستمتعةً بأشعة الشمس تغمر وجهها. أما آنا فكانت معتادةً على العمل في الحقول.
وصَلَت آنا إلى المكان. كان عبارة عن دربٍ ضيِّق شِبه مَخفي بين شجرتَين كبيرتَين من أشجار الرتم، وكانت زهورهما الصفراء تُشبه دفقةً من أشعة الشمس تسلَّلَت إلى المكان. ويُفضي هذا الدرب إلى المكان الأجرد حيث مات والدها. وصَلَت آنا إلى الموقع بعد وقوع الحادث فحسب. لم يكُن هناك شيء لتراه. على الأقل، لم يكُن هناك شيء يُنبِئ بقصةٍ مختلفة عمَّا رُوِيَت: رجل مات بيده، وبقعة دم باللون البُني الداكن تلطخ الصخور والأرض، وآثار حذائه على الغبار.
تملَّكَها شعور بالحزن والفقد.
ولكن على مدار أسبوع حتى ذلك الوقت، ظلَّ شيءٌ يؤرِّق عقل آنا. الآن، بعد أن قرأت رسالة والدها من منظور جديد، كانت تأمل أن ترى شيئًا هنا ربما تكون قد غفلت عنه من قبلُ. كانت آنا تأمُل أن تتحدَّث إليها روح والدها، فقط إذا أرهفت السمع بالقدْر الكافي.