الفصل الرابع

شعر بابلو وكارلوس بالملل. لقد أمرَتْهما آنا بالبقاء في المنزل. ولكن ما إن تأكَّدا من أن والدتهما تغطُّ في نومها حتى تسلَّلا خارج المنزل وانطلقا إلى الميناء. رأت آنا أنهما يقضيان وقتًا طويلًا في مُراقبة السفن بأشرعتها الطويلة؛ ولكنها لم تفهم السبب وراء ذلك. كل ما أراداه هو الذهاب إلى البحر.

جلس التوءمان، وكلاهما نسخة طِبق الأصل من الآخَر كحبَّات بازلاء في قرونها، على السور المُنخفِض بالقرب من الشاطئ. وهما يُؤرجِحان كِعابهما في مقابل السور، كانا يريان أيهما يستطيع قذف الحجارة إلى مسافة أبعد.

بدا الفتيان شديدَي الشَّبَه بوالدتهما. كانا ذا بِنية ضعيفة ووجهٍ شاحب، وشَعْر بُني طويل مُجعَّد يصل إلى كَتِفَيهما. كان الجميع يجد صعوبةً في تمييز أحدهما عن الآخَر. غير أن بابلو كان لدَيه ندبة صغيرة على الجزء الداخلي من مِعصمه الأيسر. فعندما كان بعُمر الست سنوات، أُصيبَت بَشْرَته بقطعة سلك شائك مُسنَّن عند محاولته سرقة التفَّاح من أحد البساتين. ونظرًا لأنه أكبر من توءمه بخمس دقائق، فقد كان دائمًا يتمتَّع بروح المُغامرة أكثر من أخيه. كان بابلو القائد وكارلوس التابع.

«أليس لدَيكما شاغل أكبر من قذف الحجارة في الماء؟»

نهض التوءم من على السور ليلُوح وجه الأرملة سيلفا من بين حبَّات الرمال السوداء أسفل منهما.

أردفت: «أنتما كبيران بما فيه الكفاية لتكونا أعقلَ من ذلك. أليس لدَيكما شيءٌ مُفيد لتفعلاه؟»

قطَّب كارلوس جبينَه. وقال: «ليس اليوم.»

لكزه بابلو في ضلوعه بمرفقه. تذكَّرَ كارلوس أنهما لم يُخبِرا أحدًا بدفن والدهما.

بادرها كارلوس بالسؤال: «كم عمرك؟»

كان كارلوس يَهاب الأرملة سيلفا دائمًا. كانت سيدة طويلة القامة وعريضة المنكبين. تُفرق شَعرها الرمادي من المنتصف وتعقصه على شكل كعكة؛ وتتسربل بالسواد من قمة رأسها إلى أخمص قدمَيها، باستثناء ياقة بيضاء صغيرة. وكان وشاح الأرملة مثبتًا بمشط في مكانٍ ما فوق رأسها وكتفَيها. وقد لفحت الشمس وجهها وحوَّلَته إلى السمرة وتقاطعَ على قسمات وجهها ألف خطٍّ وخط.

أجابته قائلة: «يجب أن تخجل من نفسك وأنت تطرح مثل هذا السؤال.»

احتقن وجه كارلوس. ورد عليها: «لكل امرئٍ عُمر.»

فأردفت: «الناس لا يُحبون أن يُسألوا عن أعمارهم.»

حجب بابلو الضوء عن عينَيه وحدَّق فيها.

سألها: «لِم لا؟»

مالت الأرملة سيلفا نحو الصبي لتُلقي بظِلٍّ على وجهه.

وقالت بهدوء: «لأنه يجعلهم يُفكِّرون في الموت. ولا أحد يروقُه ذلك.»

وعلى الرغم من أن الفتَيَين كانا صغيرَين وينعمان بصحة جيدة، ارتجف كلاهما.

قال بابلو في عجالة: «هيا بنا.» ثم جذب توءمه لينزلا من على السور، وركضا عَبْر الرمال السوداء نحو الميناء.

•••

راقبتهما الأرملة سيلفا وهما يرحلان، مُتسائلةً في نفسها عن السبب الذي جعل توءمَي آل بيريز مُضطربَين للغاية.

نظرت من حولها، لكن لم يكُن ثمَّة علامة على وجود والدتهما في أي مكان. لم يكُن ذلك مفاجئًا. كانت إنسانة خوَّافة. نادرًا ما كانت ماريا بيريز تخرج من المنزل، وكان مقصدها الكنيسة فحسب. كانت تذهب للاعتراف بخطاياها أيام الجمعة وإلى القدَّاس أيام الأحد. لم تكُن تذهب أبدًا إلى الميناء.

وحتى قبل الاضطرابات الأخيرة التي واجهتها الأسرة، بدَت السيدة بيريز خائفةً من ظلها. فمنذ الاعتداء الذي وقع على مزارع الكروم الخاصة بهم في يناير الماضي، أصبحت أكثر انغلاقًا وانسحابًا. ولا بد أن وفاة زوجها، توماس، كانت القشة التي قصمت ظهر البعير وكان الجميع يعلم أن ثمة مشكلاتٍ مالية تُواجهها الأسرة.

هزَّت الأرملة سيلفا رأسها. كانت تعرف ما يَعنيه فقدان الزوج — فقد فقدت زوجها في عرض البحر — لكن الحياة استمرَّت. لم يكُن أمام المرأة خيار سوى الاستمرار.

في ذاك اليوم، كانت تشعر بأن كل سنةٍ من سنوات عمرها الستين قد أنهكتها. لم يكُن ثمة شيء سهل. أحكمت وشاحها على كتفَيها وتحسَّسَت طريقها على الرمال السوداء في اتجاه قوارب الصيد المحلية. تساءلت في نفسها أين تكون آنا. عادةً ما تحرص آنا على مراقبة أخوَيها، في محاولةٍ منها لإبعادهما عن المشكلات. جزَّت العجوز على أسنانها. كانت آنا مُنشغلةً جدًّا بهذَين الفتيَين.

وبعد لحظات قليلة، وصَلَت الأرملة سيلفا إلى صاجات الشواء والتدخين الخاصة بها. ووضعت سلَّتَها المليئة بالأعشاب البحرية المُجفَّفة وجلست بكل ثقلها على كرسيها. أخرجت علبة البارود الخاصة بها، وحكَّت حجر الصوَّان بظَهر شفرة سِكِّينها. فتطاير الشرر بعيدًا عن حجر الصوَّان واستقر على الصوفان الجاف. انحنت ونفخت في الشرر. كان الصوفان في دائرة صغيرة من الحجارة السوداء. فبدأ يتوهَّج ثم تحوَّل الوَهَج إلى لهب.

قالت: «ناوِلْني تلك الأعشاب البحرية الجافة.»

قفز الصبي النحيل الذي كان يختبئ خلف قارب الصيد مرتديًا أسمالًا بالية. وقال: «كيف عرفتِ أنني هنا؟»

زمجرت العجوز. وتابعت قولها: «أنت تَظهر دائمًا عندما أُشعل النار.»

أمسك رودي بحفنة من الأعشاب البحرية. وسألها: «هل هذا كافٍ؟»

«يكفي حتى هذه اللحظة.»

تحاشت النظر إليه، ووضعت الأعشاب البحرية فوق الصوفان المشتعل. بدأت تحترق، وبدأت تنطلِق منها رائحة زكية تجمع بين رائحتَي الملح والتراب. ناولَتْ رودي الركائز الخشبية الرقيقة الخاصة برف الشواء.

وقالت: «أمسِك هذا.»

تراجع الصبي كما لو أن حيَّةً لدغته. وصاح: «لا أستطيع.»

قالت بحزم: «بل تستطيع»، وأشاحت ببصرها إلى الجانب الآخَر بينما كان يُجاهد لموازنة القِطَع الخشبية على ذراعه المشوَّهة. وُلد رودي قبل موعِده بوقتٍ طويل، وكانت ذراعه اليسرى وقدمه اليسرى مُلتويتَين مثل جذور الكرمة. لم يكُن باستطاعته التسلُّق أو الركض مثل الصبية الآخَرين، لكنه كان يتمتَّع بذكاءٍ حادٍّ كنصل السيف.

قالت له وهي تأخذ الركيزة الأخيرة من يدِه وتضعها في مكانها: «شكرًا لك.»

مدَّت يدها إلى داخل قِدرٍ عتيق، مَليء بالماء المالح. أخرجَت عشرات الأسماك صغيرة الحجم فضية الظهر ذات عيون غائمة نافقة، ووضعتها على صاجات الشواء والتدخين واحدةً تلو الأخرى.

اقترب رودي أكثر فأكثر.

ثم سألها: «بمجرد أن تجف، كم ستستغرق من الوقت؟»

«المدة الكافية لتخزينها في حالة إذا ما عجزت قوارب الصيد عن الإبحار.»

«هل من عاصفة قادمة؟»

تطلَّعَت الأرملة سيلفا إلى الأفق عَبْر الفجوة الموجودة في السور المُرتفع الذي يحمي الميناء. كان سطح المحيط الأطلنطي مستويًا ومُعتِمًا. ولكن حتى في هذه البقعة، مباشرة بالأسفل بالقُرب من الماء، كان الهواء رطبًا وثقيلًا. ثمَّة شيء مُقلِق في هذا السكون.

قالت: «لا أعتقد ذلك …» ثم التفتت وولَّت وجهها شطر اليابسة نحو الجبل الأسود. وأردفت: «لكنْ ثمَّة شيء قادم.»

تابع رودي نظراتها. كانت جميع المنحدرات السفلية خضراء مكسوَّة بالعشب. أما الجزء العلوي من اليابسة فكان جافًّا وقاحلًا. أما السماء التي تعلو الجبل، فكانت بيضاء. بَدَا له كل شيءٍ على حاله.

سألها: «ماذا تقصدين؟»

هزَّت العجوز رأسها. وأجابته: «لا أعرف. أنا امرأة مُسِنَّة، ولربما يُخيَّل إليَّ ما ليس له وجود» ضغطت بيدَيها على رُكبتَيها، وهبَّتْ واقفةً على قدمَيها. وأردفت تقول: «ابقَ هنا وتولَّ أَمْر الأسماك بالنيابة عني.»

سألها: «إلى أين تذهبين؟»

بَدَا أن الأرملة لا تسمعه. وتابعت قولها: «اجعلها قريبة من الدخان، ولكن بعيدةً عن اللهب.»

كرَّرَ سؤاله: «إلى أين تذهبين؟»

جاء ردُّها: «لا تدَعِ النار تنطفئ.»

•••

في البداية، استمتع رودي بمهمته.

كان من المُمتع أن يكدِّس الأعشاب البحرية على اللهب ويُراقب الأسماك يتغيَّر لونها في أثناء تجفيفها. ولكن بعد ذلك قذف كميةً كبيرة من الأعشاب البحرية في النار دفعة واحدة فارتفعت ألسنة اللهب وتأجَّجَت، لتحرق زعانف ذيل الأسماك. اندفع مُتعثِرًّا إلى البرك الصخرية والْتَقط بعض الأعشاب الرطبة ليخمد بها ألسنة اللهب. بَدَا أنها أدَّت الغرض، حتى أدرك أن ثمة رائحة مختلفة تنبعث. كانت تفوح من الأعشاب الجافة رائحة الملح والتراب. أما الأعشاب الرطبة فكانت تفوح منها رائحة عفنة.

عضَّ رودي على شفتِه ليمنع نفسه من البكاء. كان الفشل يُلازمه بغضِّ النظر عما يفعله. وكان الصبية الآخَرون يسخرون منه. كان الجميع يُخبرونه بأنه عديم الفائدة. وبابلو أولهم وأسوءُهم في ذلك. وها هو مرَّة أخرى، يثبت لهم أنهم مُحقُّون في قولهم. إنه عاجز حتى عن الإبقاء على النار مشتعلة.

تمنَّى أن تنشق الأرض وتبتلِعه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥