الفصل الخامس
في المنطقة الجرداء الخالية من الأشجار أعلى الجبل الأسود، حدَّقَت آنا في المكان الذي مات والدها عنده.
أحبَّت آنا تغريدات العصافير. وعشقت مُراقبة الطيور الزرقاء الصغيرة وهي تحطُّ على الأشجار وترحل منها، أو رؤية أسراب الكناري البري. أما اليوم، فقد ساد المكان هدوء تام. ولم يكسر حاجزَ الصمت أيُّ شيءٍ ولا حتى صقر العويسق المُحلِّق عاليًا في السماء. تساءلت في نَفْسها: ربما عرفت الطيور ما حدث هنا وكانت تُبدي احترامها.
في تلك اللحظة، بزغت أشعة الشمس من خلف الغيوم وحوَّلَت الأرض إلى اللون الذهبي. أطلقت آنا العنان لابتسامتها. فالطبيعة لا تأبَهُ بحياة النساء أو الرجال على الإطلاق.
في تلك اللحظة، صارت السماء رقعةً بيضاء شاسعة بفعل توهُّج الشمس خلفها. خيَّمَ على الأجواء ضباب من نوعٍ غريب. ومن هذا الارتفاع كان من السهل تخيُّل جميع الجزر الأخرى المحيطة بتينيريفي. أطلق والدها عليها دائمًا «النجوم السبعة في سماء زرقاء».
تذكَّرَت كلمات والدها، وكأنها طعنات سدَّدتها إليها الذاكرة، في ليلة الهجوم على بستان كرم العنب الخاص بهم. أربعة رجال، مُلثَّمون بقلنسوات سوداء، كانوا قد تسلَّلوا إلى أرضهم حامِلين في أيديهم مشاعل. ولولا أن صديقهم أنطونيو كان حاضرًا، لخسروا كل شيءٍ إثر ذلك.
وبعدما زال الخطر، أخذ أنطونيو والدتها وشقيقَيها إلى البيت. وبقِيَتْ آنا في بستان الكرم مع والدها لتُراقب الأجواء مخافة أن يعود المُهاجمون.
كانت ليلةً باردة من ليالي شهر يناير وكان والدها قد دثَّرَها ببطانية ذات لونٍ بُني فاتح لتظلَّ شاعرة بالدفء. كان جميع العمال على الجزيرة يرتدون الوشاح الصوفي الطويل نَفْسه ذا التقليمات الزرقاء عند الحواف.
وبينما كانا يجلسان في الظلام، أشار والدها إلى سماء الليل وأخبرها أنها ليلة شديدة الخصوصية. شعرَتْ آنا بالغضب. لم تفهم كيف استطاع أن يظلَّ هادئًا بعد ما حدث للتو. لقد خسروا كل شيءٍ تقريبًا.
قال لها: «اسأليني عن السبب.»
وعندما لَمْ تُعطِه جوابًا، ضحك.
فأردف قائلًا: «حسنًا، سأُخبرك على أية حال. السماء صافية جدًّا الليلة، ولذا يمكنك رؤية كوكبة العذراء. انظري.»
أمالت آنا رأسها إلى الخلف، رغمًا عنها، وحدَّقَت في السماء.
سألها والدها: «كم عدد النجوم التي ترينها؟»
أجابت: «سبعة.»
أومأ برأسه. وأردف: «كوكبة السبع عذارى في السماء بالجزر السبع على الأرض. هذه هي حياتنا يا آنا. حياتنا هنا على جزر الحظ السعيد. وتينيريفي هي الجزيرة الأوفر حظًّا بينها جميعًا.»
كوَّرَت آنا قبضتها. «حتى بعد ما حدث للتو، يا أبي، كيف يتسنَّى لك أن ترانا محظوظين؟ لماذا لا تشعر بالغضب؟ لماذا لا …»
ربَّت بيدِه في لُطف على ذراعها.
وقال: «الحياة صعبة على معظم الناس يا آنا. نحن محظوظون بقدْر ما نستحقُّ أن نكون. إننا على قَيْد الحياة. ولا يزال لدينا بستان الكروم. لم ينتصروا علينا.»
في تلك اللحظة، كانت تقِفُ في المنطقة الجرداء الخالية من الأشجار، تذكَّرَت صوت والدها العزيز، وشعرت أن عينَيها اغرورقت بالدموع مرة أخرى.
فجأةً، شعرت آنا بالأرض تميد وتهتز بها فخانتها ساقاها من تحتها. أدركت آنا بعد ذلك أنها تمرغت في التراب وانقطعت أنفاسها.
أحيانًا، كانت الأرض تنوء بالشكوى. كل طفل في الجزيرة يعرف هذا، والكبار يتحدثون عنه أيضًا. فمن حينٍ إلى آخَر، عصفت بالجبل هزات أرضية، رغم أن هذا لم يُغيِّر شيئًا أبدًا. لكنها لم تشعر بشيءٍ بهذه القوة البالِغة من قبل.
وضعَتْ آنا كِلتا يدَيها مُستويتَين على الأرض. لا حركة، لا صوت، لا شيء. استمعت، ثم انتظرت، وتوقَّعَت حدوث هزة أخرى. ميل آخَر، واهتزاز للأرض. لكن لم يحدث شيء. كان كل شيء هادئًا، كان كل شيء ساكنًا.
ولكن انتابها في تلك اللحظة شعور بالغثيان. أدركت أنها قد سقطت تحديدًا في المكان الذي عُثر فيه على والدها. حاولت آنا ألا تستغرق في التفكير بمنظر رأس والدها المهشم بقوة اختراق الرصاصة له. أو شعره الأسود الطويل المُلبَّد بالدماء. كان مشهدًا لن تنساه أبدًا طوال حياتها. وبدلًا من ذلك، أرغمت نفسها على النظر إلى البقعة الحمراء الموجودة على الصخرة، والتي تحوَّلَت الآن إلى لونٍ بُني مائل إلى الصدأ بِفعل شمس جزيرة تينيريفي الحارقة.
جلست مُستندة بظهرها على السطح الخشن للجلمود. أغمضت عينَيها، في محاولةٍ منها لتخيُّل لحظاته الأخيرة. هل كان هناك قاتل واحد أم أكثر؟ هل كان والدها يعلم أنه في خطر؟ هل كانت لحظاته الأخيرة مليئة بالخوف أم الحب لأسرته؟
وإنْ كان قد أطلق النار على نفسه، كيف فعل ذلك؟ كانت فوهة بندقيته طويلة. سيكون من الصعب جدًّا إطلاق النار. كانت الفوهة طويلةً بنفس طول قامة والدها تقريبًا. ضمَّت آنا ركبتَيها وتخيَّلَته يحشر البندقية بين حذاءَيه. تخيَّلَت العلامة الغائرة في إصبعه حيث أحدثَ الخيطُ الملفوف ندبةً على جلده. قلَّدَت الطريقة التي ربما استخدمها للفِّ الخيط حول الزناد، رابطًا إيَّاه حول قاعدة البندقية لكي يُبعدها عنه بمسافةٍ مناسبة.
فجأةً فتحت عينَيها. بالطبع! هكذا وقع الحادث.
بينما كانت تقف بالمجلس البلدي، تنظر إلى جثة والدها المُسجَّاة على الأرض، رأت الخطأ الذي اقترفه قاتلوه. في ذلك الوقت، لم تكُن قد استوعبتِ الأمر. كانت العلامة الحمراء التي أحدثَ فيها الخيط قطعًا في جلد والدها موجودة على سبابته اليُمنى، لكن تلك كانت السقطة.
كان والدها أعسر في كل شيءٍ باستثناء الكتابة. فعندما كان صبيًّا، ربط الكاهن يدَه اليسرى خلف ظهره ليُجبره على استخدام يدِه اليمنى أثناء استذكار الدروس. وكان يتعرَّض للضرب عندما يرتكب خطأً. إلا أن هذا الدرس القاسي آتى ثماره. كان والدها يوقع الوثائق بيده اليُمنى. فعندما أبلغ في المجلس البلدي عن الهجوم الذي تعرَّض له بستان الكروم خاصته، استخدم يدَه اليُمنى لتوقيع اسمه؛ توماس بيريز. لكنه كان يستخدِم يدَه اليسرى في كل شيء آخَر؛ من أجل تقطيع الخشب، وتشذيب أشجار الكروم، والرماية.
ما كان والدها ليُطلِق الرصاص على نَفْسه من بندقيته باستخدام يدِه اليُمنى أبدًا، إلا أن القتلة لم يعرفوا ذلك. لقد ربطوا الخيط بالإصبع الخطأ.