الفصل السابع

في الصباح التالي، استيقظت آنا قُبَيل الفجر. لم تكد عيناها تذوق طعم النوم.

كانت ليلة طويلة. تملَّك والدتَها حزنٌ شديد — بدا أن الزائرين تردَّدوا على المنزل — فعندما عادت آنا أدراجها، لم تذكُر أين كانت، ولا كيف شعرت بالأرض تهتز أسفل منها.

في ذلك الوقت، كانت آنا قد أعدَّت عشاءً بسيطًا من الجبن والخبز — وأقنعت والدتَها بتناوُل القليل من النبيذ ليُساعدها على النوم — وكان الظلام قد حلَّ. أصاب الاضطراب كلًّا من بابلو وكارلوس. تشاجرا حول نظارة والدهما حتى أخذتها آنا منهما. ومن أجل تهدئتهما، قرأت بصوتٍ عالٍ من الكتاب المقدس — كانت قصة سيدنا يونس والحوت هي القصة المُفضلة لهما — إلى أن نفد الزيت من المصباح الزيتي.

وعندما خلد التوءمان أخيرًا إلى النوم، شعرت آنا أن النوم يُجافِيها. كان عقلها يموج بكل ما حدث خلال اليوم. وبينما كانت مستلقيةً على فراشها، في انتظار الفجر، استطاعت أن تسمع صوتًا مدوِّيًا صادرًا عن الجبل الأسود من بعيد.

•••

قالت آنا، وهي تُعلق حقيبة والدها الجلدية على كتفها: «سأعود في أقرب وقتٍ مُمكن. اتركا أُمي لترتاح. وإذا جاء أيُّ شخص، فلا تسمحا له بالدخول.»

قال كارلوس: «ولكن لا يُوجَد شيء لنفعله داخل المنزل.»

أطلقت آنا ضحكةً قصيرة. ثم أردفت: «يجب تلميع الطاولة، يجب غسل البلاط، واﻟ …»

قاطعها بابلو: «هذه المهام للفتيات.»

الْتَفتَت آنا إليه. وقالت «ماذا قلت؟»

امتقع وجه بابلو. وأطرق كارلوس ببصرِه ناظرًا إلى حذائه؛ إذ كان دومًا أكثر خجلًا من توءمه.

رد بابلو: «لا يُضطر الصبية الآخَرون إلى أداء الأعمال المنزلية.»

ردَّت عليه بحِدَّة: «الصبية الآخَرون يعملون في الحقول. هل تُفضِّل ذلك؟»

هزَّ بابلو كتفَيه. وقال: «لن أبالي.»

كانت آنا تعرف أنه لا يقول الحقيقة. أراد الأب أن يُحبِّب صناعة النبيذ إلى قلب ابنَيه، بالطريقة نفسها التي أحبَّتْه بها آنا. كانت آنا تستمتع بكل خطوةٍ من خطوات العملية؛ تقليم الكروم، مُراقبة ظهور العنب لأول مرة، الحصاد والأيام والليالي الطويلة جدًّا المُستغرَقة لتحويل العنب إلى نبيذ. كانت تهوى كتابة الملصقات التي يُفترَض أن تُوضَع على كل برميلٍ خشبي مصنوع من البلوط. إلا أن شقيقَيها لم يُبدِيا أي اهتمامٍ على الإطلاق.

قالت: «حسنًا. سأتحدَّث مع رئيس العمال وأتخذ الترتيبات اللازمة لبدء العمل في الغد.»

ومن وراء ظهرها، شعرت بأن التوءمين يتبادلان نظرات جامحة.

ثم أضافت قائلة: «بالطبع هذا سيعني عدم الذهاب إلى الميناء في فترة ما بعد الظهيرة. لن يكون لديكما وقت. ولكن إذا كان هذا ما تُريدانه …»

الْتَقطَت آنا وشاحها من الشماعة الموجودة خلف الباب وهمَّت بالمغادرة.

ناداها بابلو قائلًا: «انتظري!»

رسمت آنا الصرامة على وجهها. وأردفت: «ما الخطب؟»

قال مترددًا: «كنت …» ثم عبس وجهه. وبعدها أردف: «عندما ننتهي من المطبخ، ماذا ينبغي أن نفعل بعد ذلك؟»

ابتسمت آنا. ثم قالت: «بعد الانتهاء من جميع الأعمال المنزلية، يُمكنكما الذهاب إلى الميناء وشراء السمك لنُعدَّ العَشاء. اذهبا إلى الأرملة سيلفا. أسماكها دائمًا طازجة.»

لفَّ كارلوس ذراعَيه حول خصرها.

وقال: «شكرًا لك!»

طبَعَت آنا قُبلة على قمة رأس كارلوس وربَّتت بيدِها على كتف بابلو.

ثم قالت: «ما دُمتما تَعِيان أنه لم يعُد هناك مهام للصبية وأخرى للفتيات في هذا المنزل، وإنما هي مهام يجب إنجازها وحسب. هل تفهمان؟»

أومأ التوءمان برأسَيهما موافَقة.

ابتسمت آنا. وتابعت قولها: «الآن، هلا ناولتني قُبعتي؟»

نظر كارلوس إلى الشماعة. وقال: «ليست هنا.»

قَطَّبت جَبينها. وأردفت: «لا بد أن تكون عندك. أنا دائمًا ما أضعها في هذا المكان.»

قال بابلو: «انظري بنفسك.»

أدركت آنا أنها ربما تركتها في المنطقة الجرداء الخالية من الأشجار بعد ظهيرة أمس. أيًّا ما كان، يُمكنها أن تحضرها بعد زيارة أنطونيو. فحُسن خلقه سيمنعه من إبداء الاستياء عند رؤية شَعرها مكشوفًا بلا غطاء.

قالت: «سأعود إلى المنزل في وقتٍ مبكر من فترة ما بعد الظهير. لا تفتعِلا المشكلات.»

•••

على الرغم من أن حُزنها على والدها كان كحجرٍ ثقيل جاثم باستمرار فوق صدرها يسلبها أنفاسها شعرت آنا بارتفاع معنوياتها عندما شرعت في الصعود إلى الجبل.

مرَّت على مزرعة الكروم الخاصة بهم، لتُومِئ برأسها إلى عمَّال المزرعة. وأثناء الليل، تساءلت في نفسها عما إذا كان المال هو السبب وراء مجيء الرجال أمس إلى المنزل. ما كانت آنا لتحتمِل فكرة أنهم سيُضطرون إلى بيع أرض العائلة، بَيْد أن الحقيقة القائمة تقول إنهم سيواجهون صعوبةً في دفع فواتيرهم المستحقة بحلول نهاية الربع التالي من العام. كانت الظروف تُحتِّم عليهم جَنْي محصولٍ جيِّد من العنب هذا العام.

حاولت أن تُرتِّب كل شيءٍ في ذهنها بينما كانت تهم بصعود الجبل. وبخُطًى ثابتة، صعدت إلى أعلى أكثر فأكثر، تسحق الأرض الجافة بحذائها. وزاد انحدار المنحدَر. كان السطح عبارة عن مزيجٍ من الحصى والحجَر وظلَّ حذاء آنا ينزلق فوقهما، ولكنها واصلت المسير.

قَضَت آنا حياتها كلها وسط هذا المشهد الطبيعي. اعتادت آنا تغيير الألوان حسب الفصول. وكانت تحفظ الروائح والأصوات عن ظهر قلب كما تحفظ ملامح وجهها في المرآة. ولكن اليوم يبدو أن تلالًا ظهرت في مواضع كانت الأرض مسطحة فيها من قبلُ، كما ظهرت تجاويف ضحلة غريبة لم يكُن لها وجود من قبلُ. لا شيء يبدو على حاله.

كانت السماء عبارة عن امتدادٍ شاسع من اللون الأبيض وظهر بريق غريب كما لو أن الضباب البحري قد استقرَّ فوق القمة. بقيت الأجواء رطبة أكثر مما هو معتاد في هذا الوقت من اليوم، على الرغم من أنه لم يكُن هناك أي علامة تدلُّ على هبوب عاصفة. غطَّت السحب الرمادية أعلى قِمَم الجبل الأسود. وبَدَت أقرب إلى بُخار يتصاعد من قِدْر للماء المغلي.

تجهمت آنا. لو كان والدها موجودًا هنا، لسألته عما يَعنيه ذلك. فبصفته مزارعًا، كان دائمًا يَنتبه لأي تغيير يطرأ على حالة الطقس. كانت تسأله أيضًا عن الهزة التي شعرت بها أمس.

وكان من شأنه أن يُخبرها، مثلما كان عهده دومًا: «كل ما هنالك أن الأرض تُخبرنا مَن الذي يمسك بزمام الأمور»، وكانت آنا تشعر بالاطمئنان حينها. وكان يردف قائلًا: «الأرض تُذكِّرنا بأن نَعتني بها جيدًا.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥