الفصل التاسع

نادت آنا: «أنطونيو.»

على الفور استطاعت أن تُخمِّن أنه ليس بالمنزل. هناك طابع من الصمت والهدوء يُوحي بأن المكان مهجور. لا أثر لنسمة هواء، أو صوتٍ واحد. ولا أثر حتى للسحالي الزاحفة تحت الشجيرات. بدا الأمر وكأن الدنيا قد توقفت.

نادت مرة أخرى: «أنطونيو؟» ما مِن مُجيب على أية حال.

كان الباب المؤدي إلى الكوخ الخشبي ومصراع النافذة مفتوحَين. هل حدث شيء ما يدعوه للمغادرة؟

مرَّت آنا على قطعة الأرض الصغيرة القاحلة أمام الكوخ. انحنت ووضعت يدَها فوق النيران. فوجدت الرماد باردًا. كانت النيران قد خمدت منذ مدةٍ طويلة. تناثر عدد قليل من الحطب المحروق وكان هناك إناء طهي من الزهر موضوعًا على الرماد.

نادت لثالث مرة: «أنطونيو؟» ولكن هذه المرة بصوتٍ هامس.

تحرَّكَت آنا ببطء نحو الكوخ الصغير وقلبُها يرتجف. أخذت نفَسًا عميقًا، ثم ألقت نظرةً إلى الداخل. ما طمأنها أن أنطونيو لم يكُن هناك. فبعد وفاة والدها، أدركت أنها صارت تقلق حيال ما قد تجده.

كان الكوخ صغيرًا وبدائيًّا، مجرد غرفة واحدة مزودة بعلية نوم في الطابق العلوي، لكنه كان نظيفًا. نظرت حولها. كل شيءٍ بدا كالمعتاد. ثمَّة صحن خشبي على الطاولة بالإضافة إلى رغيف خبز تحت قطعة قماش. وطبق وكوب خشبي. رفعَتْه وشمَّت بقايا بعض النبيذ المَحلي — هل من المُحتمل أن يكون هذا نبيذهم؟ قطَّبَت آنا جبينها. يقول أنطونيو إنه لا يملك شيئًا يستحق السرقة، لكنه دائمًا يُغلق بابه ومصراع نافذته إذا كان سيذهب إلى البلدة. ومرَّة أخرى، لم يكُن هناك أي علاماتٍ تدل على أنه قد غادر في عجلةٍ من أمره.

سمعت صوتًا. ثُغاءٌ خفيض.

ركضت آنا حول البناية إلى الجزء الخلفي من الكوخ، حيث وجدت عنزة أنطونيو. كانت العنزة مربوطةً بحبل طويل في عمود خشبي. وهناك وجدت رءوس ثمار قليلة من الخضراوات في معلف التغذية وعلى مقربة، كانت توجَد بِركة من ماء المطر تصلح للشرب. على أية حال، خمَّنَت آنا أن العنزة بحاجةٍ إلى أن تُحلَب. لم يعتد أنطونيو التقصير في الاعتناء بحيواناته.

بحثت آنا عن الكرسي المُنخفض ذي الأرجل الثلاثة والدلو المعدني وهي ما زالت تتساءل في نفسها عن المكان الذي ذهب إليه أنطونيو. كان الدلو مُغبَّرًا من الداخل بشيءٍ أشبَه بالرماد الأبيض الناعم. قلبته رأسًا على عقب ومسحته بيدِها. كان للرماد ملمس زلِق وعندما قرَّبَت أصابعها إلى وجهها، كان ثمَّة رائحة نفَّاذة مثل رائحة الليمون المحروق.

مسَحَته بطرف تنورتها، ثم بدأت تحلب العنزة. وما إن أسندت آنا وجهها على الفرو الدافئ للعنزة حتى دلَّكت ضروعها لجمع الحليب في الدلو. كانت فروتها خشِنة تَخِزُ خدها. ظنَّت أنها شعرت بهزة خفيفة تحت قدمَيها مرة أو مرتَين، لكن العنزة كانت هادئة وهذا، بدوره، طمأنها.

عندما انتهت، أطالت آنا كتفَيها وثنت أصابعها. على الأقل سيكون لدى أنطونيو حليب يتناوله على العشاء عندما يعود.

ثم لاحظت شيئًا غريبًا. لا بد أن هذا خدعة من خدع الضوء.

ذهبت آنا إلى البركة. لقد تحوَّلَت المياه إلى اللون الرمادي، كما لو أن صبغةً سُكبت فيها. غمست يدَها فيها وعلى الفور، شعرت بحكة على بشرتها. كانت هناك رائحة البيض الفاسد نفسها، بل وأسوأ من ذلك بكثير.

ثم، فجأة، شعرت آنا بالأرض تميد تحت قدمَيها. وهو ما جعلها تشعر بترنُّح عنيف، تمامًا مثلما حدث بالأمس، ولكن هذه المرَّة استمرت الهزة لفترةٍ أطول. كان الأمر أشبه بوقوفها على ظهر سفينة تتدحرج وتتأرجح في عرض البحر. ضمَّت ركبتَيها، حتى لا تسقط. الآن بدأت تشعر بشيء على مؤخرة رقبتها أيضًا. أكانت هذه قطرات مطر؟ نظرت إلى أعلى ورأت رمادًا باللون الرمادي الفاتح بدأ يُغلِّف الأجواء.

توقفت الأرض عن الاهتزاز بالسرعة نفسها التي بدأت بها. استقرَّت الأرض، كما لو أن شيئًا لم يحدُث. لكن الرماد واصل السقوط. خطرت على بالها أقوال أخرى لوالدها. ولكن لم تُطمئنها الذكرى هذه المرة.

كان سيقول: «لا داعي للخوف من الجبل حتى يتساقط الثلج الأسود.»

بالطبع، لم يكُن يقصد الثلج، وإنما الرماد. كان الرماد الرمادي اللون ينبعث من فوهة الجبل الأسود. وبعد الرماد الرمادي، يتساقط الثلج الأسود.

أدركت آنا أن هذا الأمر أكثر خطورةً من أي شيءٍ عرَفَتْه من قبلُ. تعين عليها تحذير البلدة بما يحدث على الجبل قبل فوات الأوان. ثم خطر ببالها أن هذا حتمًا المكان الذي ذهب إليه أنطونيو. كان قد رأى الخطر قادمًا وذهب لدقِّ ناقوس الخطر.

ركضت مرَّةً أخرى إلى الكوخ. وبحثت عن ورق وقطعة من الفحم، وكتبت رسالة موجزة تشرح ما حدث. وأضافت أنها بحاجة إلى التحدُّث إليه بخصوص خطاب والدها. ثم وضعت رسالتها تحت الكوب الخشبي على الطاولة وغادرت.

لم ترغب آنا في ترك العنزة، ولذا قررت أن تأخذها معها. كان بمقدور والدتها الاعتناء بها. وعلى الرغم من أن والدتها واجهت صعوبة في التحدُّث مع الناس، فقد كانت تُجيد الاعتناء بالحيوانات. فكَّت آنا الحبل الخاص بالعنزة، وربطته حول ذراعها وقادتها بسرعة لتهبط الجبل.

وطَوال الوقت، شعرت آنا بالأرض تئنُّ تحت قدمَيها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥