بعض الحوادث الأخرى
كان الأمير كرم الله قد تولى الحكم في بحر الغزال بعد لبتون وذهب إلى شقة وأقام فيها، ولكن صديقي القديم المادبو كان يحكم هذه الجهة، فاصطدم الاثنان وتنازعا السلطة.
وانتهى النزاع بالشجار وفر المادبو بعد مقاومة غير مفيدة، فقبض عليه وأرسل إلى أبي أنجة، وكان يحقد عليه لعلة سابقة؛ وذلك أن المادبو أسره أحد الأيام عندما كان يقاتل في صف سليمان زبير وكلفه حمل صندوق كبير من الذخيرة، فلما شكا إليه أبو أنجة جلده، ولما أحضر المادبو حاول أن يدافع عن نفسه بقوله إنه لم يقاتل المهدي وإنما كان يقاتل كرم الله، ولكن ما فائدة الدفاع في هذه الأوقات؟
وعرف المادبو أن الدفاع لا فائدة فيه فاستسلم لقضاء الله، وقال: «إن الله هو الذي يقتلني، وأنا لا أسأل الرحمة وإنما أطلب العدل، ولكن كبير على عبد مثلك أن يكون شريفًا، وها هي ذي آثار سوطي على ظهرك لم تزل واضحة، ومهما جاءني الموت فإنه سيجدني رجلًا هادئًا مطمئنًّا لقبوله، فأنا المادبو والقبائل تعرفني.»
وأمر أبو أنجة برده إلى السجن ولكنه لم يجلده، وفي اليوم التالي قتله أمام جيشه، وبرَّ المادبو بوعده؛ فإنه وقف في الساحة الفسيحة المعدة لقتله والسلاسل حول عنقه وكان يضحك في وجه الجنود الذين كانوا يركضون الخيول ويلوحون بالرماح في وجهه، ولما أمر بالركوع لكي يقتل صاح في الناس أن يشهدوا عليه كيف مات وتحمل الموت بشجاعة، وبعد لحظة انتهى كل شيء، وهكذا ختمت حياة المادبو وكان من أقدر شيوخ العرب في السودان.
ولما أحضر رأسه إلى أم درمان حزن عليه جنود الرزيفات الذين كانوا قد هاجروا إلى أم درمان، حتى الخليفة نفسه أسف على قتله. ولكن لما كان كل شيء قد انتهى لم يكن ثَمَّ مجال لأن يلوم أكبر أمرائه على شيء فات، ولكنه أخبرني أنه لو عاش لكان فيه منفعة كبيرة.
وكان يونس قد غادر أبا حرز إلى الغضارف والقلابات حيث أقام وكانت سلطته واسعة، وحدث أنه طلب من الخليفة أن يأذن له في الإغارة على الحبشة، ولم يكن الخليفة قد تسلم الجواب من الملك يوحنا على خطابه فأذن له. فأخذت جيوش يونس في الإغارة على القرى المتاخمة، وكان يقودها عرابي ضيف الله، فكان يقتل الرجال ويسبي النساء والأولاد. وكانت هذه الجيوش سريعة الحركة كثيرة الإغارة، حتى لقد سارت مرة عشرين ميلًا في داخل البلاد تنهب وتقتل وتفتك، ولكن يونس كان في القلابات وعلاقته بالأحباش على ما يرام، يتاجر معهم فيأتونه بالبن والعسل والشمع والطماطم وريش النعام والخيول والبغال والعبيد. وحدث مرة أن جاءت قافلة كبيرة من الجبارتة — وهو من مسلمي الأحباش — ومن المكادة ومعهم متاجر عظيمة، فلم يقوَ يونس على كبح أطماعه، فادعى أنهم جواسيس أرسلهم الرأس عدل وقبض عليهم وأخذ سلعهم، واستحسن الخليفة عمله حتى سماه «عفريت المشركين» و«مسمار الدين».
وكان يونس قد أرسل إليه جميع الفتيات الجميلات اللاتي سبين في الغارات كما أنه أرسل إليه عددًا من الخيول والبغال، وطمع الخليفة في التوسع، وكان أيضًا مغتاظًا من الملك يوحنا؛ لأنه لم يجب على خطابه، فعزم على أن يضم جيش يونس إلى جيش أبي أنجة ويغير بهما على الحبشة، وطلب من يونس أن يبقى بجيشه ويتخذ خطة الدفاع إلى أن تأتيه أوامره.
وأرسلت الأوامر إلى أبي أنجة لكي يرسل ١٥٠٠ من جنوده المسلحين ببنادق منجتون إلى عثمان واد آدم الذي عين أميرًا لكردوفان ودارفور، وطلب منه أن يحضر هو بنفسه مع سائر جيشه إلى أم درمان.
وقبل هذه الحوادث بمدة قليلة كانت قبيلة الكبابيش التي تقيم بين كردوفان ودنقلة قد ظهر منها شيء من العصيان، فأرسلت إليهم تجريدة نجحت في إخضاعهم وغنمت منهم مقادير كبيرة من الماشية والعبيد، ولجأ شيخ القبيلة الشيخ صالح إلى أم بدر؛ وهي بقعة بعيدة، ومعه عدد قليل من أتباعه.
وأرسل الشيخ صالح إلى وادي حلفا يستنجد بالحكومة المصرية، فسلمت لوكيله مائتي بندقية وأربعين صندوقًا من الذخيرة ومائتي جنيه وبعض المسدسات الملبسة بالمعدن.
وكان في أسوان في ذلك الوقت تاجر ألمانيٌّ يدعى شارل نيوفلد، وكان يعرف ضيف الله أجيل شقيق إلياس باشا الذي فر حديثًا من السودان. وعلم منه أن في كردوفان مقادير كبيرة من الصمغ لم يستطع التجار إصدارها بالنسبة للثورة، وأنه يمكن بمعاونة الشيخ صالح أن تنقل إلى وادي حلفا، فأغراه الطمع في المال أن يذهب بنفسه إلى الشيخ صالح، ويظهر أنه لم يجد صعوبة كبيرة في الحصول على إذن بالسفر إلى السودان بعد أن وعد بكتابة تقرير عن الحالة في السودان، وفي أوائل أبريل ١٨٨٧ غادر وادي حلفا قاصدًا الشيخ صالح.
وكان النجومي عارفًا بقيام القافلة فوضع أناسًا على الطرق لكي يخبروه بالطريق التي تسلكها القافلة، ومما زاد الطين بلة أن الدليل ضل في طريقه فقاست القافلة عذابًا كبيرًا من العطش، ولما وصلوا إلى آبار الكاب وجدوا بضعة دراويش في انتظارهم، فنشب قتال انهزم فيه رجال صالح لما كان بهم من الإعياء والعطش، وأسر بعضهم وكان بين الأسرى نيوفلد، وفي بدء القتال عزم نيوفلد على ألا يبيع حياته رخيصة؛ فإنه اتخذ مكانًا وراء القافلة وكانت معه خادمة حبشية، ولكن القتال لم يبلغ إليه.
وعند انتهاء القتال عرض عليه الدراويش أن يعفوا عنه إذا سلم نفسه، فرضي وأخذ إلى النجومي في دنقلة مع سائر الأسرى، وقتل النجومي جميع الأسرى ما عدا نيوفلد؛ فإنه حقن دمه لكي يرسله إلى أم درمان.
وكنت قد سمعت أن أسيرًا أوروبيًّا سيرسل إلى أم درمان، وفي أحد الأيام في شهر مايو رأيت جمهورًا يسير نحو دار الخليفة وفي وسطه رجل أوروبيٌّ قد ركب جملًا، وكان المشاع على ألسنة الناس أنه الباشا حاكم وادي حلفا، وكان بين المسجد وبين دار الخليفة بناء يدعى رقوبة، يجلس فيه الملازمون، وإلى هذا البناء أدخل إلينا نيوفلد.
فلما رأيته صمت؛ لأني كنت أعرف أخلاق الخليفة وجواسيسه، وتظاهرت بالمجانة لا أكترث لما يجري أمامي.
ولما سمع الخليفة بوصول نيوفلد بعث في طلب الخليفتين والقاضيين طاهر المجذوب والأمير بخيت ونور أنجرة، الذي كان قد وصل حديثًا من كردوفان حيث كان يحارب مع أبي أنجة، وأرسل أيضًا في طلب يعقوب أخيه. وعندما دخلوا همست في أذن نور أنجرة قائلًا: «افعل جهدك لكي ينجو الرجل.»
وطلبني الخليفة وأمرني بأن أجلس مع المجتمعين معه، ثم أخبرنا بأن الرجل جاسوس إنجليزيٌّ وطلب من الشيخ طاهر المجذوب أن يستجوبه، وطلبت أنا في الحال أن يؤذن لي بأن أخاطبه بلغة أوروبية فأذن لي، وذهبت أنا وطاهر إلى الرقوبة حيث كان نيوفلد.
ولما ذكر اسمي قام نيوفلد وصافحني وهو فرح، فنبهته إلى وجوب مخاطبته الشيخ طاهر الذي وكلت إليه محاكمته، وأنه يجب عليه الخضوع كل الخضوع لما يقال له. وكان يجيد التكلم بالعربية وأحدث استعداده للكلام أثرًا سيئًا في نفوس سامعيه، فطلبوا أن يرسل إلى الخليفة وكان حكمهم أنه جاسوس يجب أن يقتل، ولما صرنا جميعًا في حضرة الخليفة قال لي: «وما رأيك أنت فيه؟»
فقلت: «كل ما أعرفه أنه ألمانيٌّ؛ أي إنه ينتسب لأمة لا تهتم بمصر.»
وسلم إليَّ الخليفة أوراقًا وطلب مني قراءتها، ورأيت في عينيه أنه يحدق النظر فيَّ لكي يعرف ضميري.
فوجدتها تحتوي على كشف أدوية مكتوب باللغة الألمانية، وخطاب بالإنجليزية إلى نيوفلد فيه أخبار عن الحالة في السودان، كذلك خطاب طويل من الجنرال «استيفنسن» ينبئ فيه بأنه منحه الإذن بدخول السودان مع القافلة القادمة، وفي الوقت نفسه يطلب معرفة أخبار وافية عن الحالة عمومًا.
ترجمت هذا الخطاب للخليفة غير أني تكتمت ما طلبه الجنرال من معرفة الأخبار، فقلت له إن ما يطلبه هذا الرجل هو السماح له في دخوله البلاد وهو يشتغل في التجارة كما أخبر الشيخ طاهر. وقد رأيت الخليفة في تلك اللحظة يحدق النظر بي، ثم أمرنا بالانصراف انتظارًا لأوامره خارج الدار.
وقد اجتمع في ذلك الأوان عند البناء المسمى «الرقوبة» آلاف الناس بقصد رؤية الباشا الإنجليزي، وما هي إلا هنيهة حتى جاء بعض الضباط السود وأوثقوا يدي نيوفلد وأمروه بمغادرة الرقوبة، فوقفت أنا والقاضي «نور أنجرة» على كومة من الأحجار نرقب ما سيحدث.
وفي تلك اللحظة التي ظنها نيوفلد آخر حياته حدق بنظره إلى السماء ثم خر ساجدًا دون أن يطلب إليه ذلك، فأمروه بالنهوض ومن ثم تقدم رجل يحمل أرغونًا وابتدأ يعزف أنغامًا مطربة فوق رأس نيوفلد. ولقد دهشت لما رأيت أن ذلك لم يربكه قط، واندفعت خادمته الحبشية بدافع الإخلاص لسيدها طالبة أن تقتل معه، ولكنها أعيدت إلى الرقوبة في الحال، وقد تيقنت حينئذ أنا والقاضي بأن الخليفة يداعب نيوفلد كما يداعب القط الفأر، وأن الحكم بإعدامه لم يصدر بعد، فحاولت أن أشير إليه ولكنه يظهر أنه لم يتنبه إلى إشارتي.
ثم عدنا بعد ذلك في حضرة الخليفة، فبادر الشيخ طاهر بقوله: «هل أنتم تصرون على إعدام هذا الرجل؟» ثم التفت إلى نور أنجرة وقال له: «ما رأيك وأنت الذي طلبت العفو عن نيوفلد وقلت إنه شجاع؟» ثم التفت إليَّ وقال: «ما رأيك أنت يا عبد القادر؟» فقلت: يا مولاي إن الرجل يستحق القتل، ولو كان هناك أي حاكم غيرك ما تأخر عن قتله، ولكن علوَّ نفس مولاي الخليفة ورحمته لا شك بأنهما سيشملانه، خصوصًا أنه اعتنق الدين الإسلامي، وأن رحمة الخليفة به لا محالة ستقوي عقيدته. وقد عفا عنه القاضي أحمد من قبل، كما أن الخليفة لم يكن في عزمه قط أن يقتله كما ظهر لي.
وحينئذ أمر الخليفة بإعادة نيوفلد إلى الرقوبة بعد أن فكت أغلاله، إلا أنه أصدر الأمر بأن يعرض على أنظار الجمهور، ثم أن يسجن بعد ذلك حتى صدور أوامر أخرى. ثم التفت الخليفة إليَّ وأمرني بألا أختلط مع نيوفلد بعد الآن، فانسحبنا جميعًا ولكني لم أعدم الفرصة لأبلغ نيوفلد بما قضاه الخليفة من أنه سيعرض على أنظار الجمهور، وبعد ذلك نفذ الأمر وعرض على الأنظار.
وفي اليوم التالي استدعاني الخليفة وأبلغني أن النجومي يقول إن نيوفلد أغري بواسطة الحكومة ليتصل بالشيخ صالح الكباشي ويساعده على محاربة المهديين، فأوضحت للخليفة عدم صحة هذه الرواية؛ إذ إن أوراق نيوفلد صحيحة مستوفاة، وإن الحكومة على أي الحالات لا يعقل أن تعهد إليه بعمل كهذا. وقد تبادر إلى ذهني في أول الأمر أنه صدق قولي في هذا الصدد، ولكني تيقنت من الضد بما أظهره لي من الاحتقار وعدم الثقة مدة من الزمن.
وبعد أيام قليلة عقد الخليفة استعراضًا كبيرًا أخذ إليه نيوفلد مكبلًا بالحديد وراكبًا جملًا، ولما التقى بالخليفة سأله عن آرائه فيما يختص بكتائبه، فأجابه بأنها بالرغم من وفرة عددها لا تزال الجيوش المصرية أحسن نظامًا منها وتدريبًا. وعند ذلك أمر الخليفة برده إلى «الرقوبة» سجينًا.
ورغبة في الانتقام من الشيخ صالح الذي لم يقدم ولاءه للخليفة، أُرسلت إليه حملة قضت على حياته وفرقت رجاله؛ وبهذا قضي على حياة آخر شيخ مخلص للحكومة المصرية.
وفي أواخر يوليو وصل «أبو أنجة» إلى أم درمان مصحوبًا بقوة تقدر بعشرين ألف رجل، وبعد أسابيع قليلة أرسل جزء من هذه القوة تحت قيادة «زكي طومال» لإخضاع «أبوروف» شيخ قبيلة جهينة الذي لم يلب نداء الخليفة ويذهب إلى أم درمان، فدحر زكي طومال معظم رجال تلك القبيلة، وأرسل كثيرًا من السبايا وأسرى الأطفال هدايا للخليفة، وأحضر الباقي بعد ذلك إلى أم درمان؛ حيث اشتغلوا في نقل الماء وعمل الحصر. وبيعت قطعانهم بأبخس الأثمان في الأسواق؛ فبيع الثور أو الجمل الذي قيمته ٤٠ أو ٦٠ ريالًا بريالين أو ثلاثة.
وتلقى أبو أنجة الأوامر لكي يوالي السير من أم درمان إلى القلابات بعد تشتيت شمل قبيلة جهينة، ويتولى هناك قيادة الجيوش. فعند وصوله جَمَعَ القوات المرابطة في المراكز الجنوبية عند أبي هرر، وأخذ ينظمها ويعد العدة للأخذ بثأر «واد أرباب» من الأحباش، واجتمعت تحت إمرته أكبر قوة جمعت من عهد الخليفة عبد الله؛ إذ كان مجموع ما تحت قيادته ٤٥ ألفًا من حاملي الرماح و٨٠٠ من الخيالة و٥٠ ألف بندقية، فغادر القلابات بهذه القوة مخترقًا ممر «منتك» قاصدًا «رأس أوال»، ولست أعلم حتى هذه اللحظة لماذا لم يهاجم الأحباش أعداءهم أثناء اختراقهم هذه الممرات الضيقة والوديان السحيقة التي كان يتعذر عليهم فيها استعمال نيران بنادقهم، فإذا لم يتمكنوا من صد أعدائهم فإنهم على الأقل يستطيعون أن يلحقوا بالدراويش خسائر تذكر. وكل ما أمكنني إدراكه هو أن الأحباش ربما تأكدوا من فوزهم النهائي وعملوا على جرهم بعيدًا داخل المملكة حتى يقطعوا عليهم خط رجعتهم، وبذلك يبيدونهم عن آخرهم. فابتدأ القتال على سهل «دبراش»، وكان تحت قيادة الرأس «عدل» ألفان من المحاربين، واتخذ له موقعًا يهدد به جناح أبو أنجة الشمالي، ولكن أبو أنجة كان لديه من الوقت ما يسمح له بالانسحاب من التلول وأن ينظم صفوفه وهو يتقهقر، فحمل الأحباش المرة تلو الأخرى على الدراويش إلا أن هؤلاء تمكنوا من صدهم بعد أن حملوهم خسائر فادحة، وأخذ أبو أنجة بعد ذلك في الهجوم حتى انتصر في معركة حاسمة.
وكان يتولى القيادة في كسلا «أبو حرجة»، وقد أمر باللحاق «بعثمان دجنة» ليعاونه في القتال، وترك «أحمد واد علي» نيابة عنه في كسلا، وعرج في طريقه على أم درمان ليرفع إلى الخليفة تقريرًا عن حالة القبائل العربية النازلة بشرقي السودان، ورغم أنه وصل إلى أم درمان في ساعة متأخرة من الليل، إلا أن الخليفة قابله مقابلة طويلة خصوصية، وقد أبلغني أثناء خروجه أن خطابًا ورد لي من أهلي.
وبعد بضع دقائق طُلبت عند الخليفة وأبلغت بأن حاكم سواكن بعث بخطاب إلى «عثمان دجنة» يظن أنه من عند أهلي، وأمرني الخليفة بفتحه في الحال وإخباره عما يحتويه، فتصفحته بسرعة وأشد ما آلمني خبر وفاة والدتي، وقد أخبرني إخوتي بأنها ما كانت تطلب في آخر حياتها وهي على فراش الموت إلا أن يجمع البارئ بيني وبينهم.
ولما لاحظ الخليفة طول الوقت الذي استغرقته في مطالعة الخطاب سألني عن اسم من أرسله لي، وما هي محتوياته، فأجبته بأن إخوتي هم الذين بعثوا به إليَّ وأني سأترجمه؛ إذ لم يكن هناك داعٍ لكتمان أي شيء فيه؛ فهو عبارة عن بضعة أسطر سطرها إخوة بؤساء إلى أخ بعيد عنهم.
وقد أبلغته مقدار جزعهم عليَّ لطول غيابي عنهم، وكيف أنهم على استعداد لعمل أي تضحية في سبيل خلاصي واستردادي لحريتي، ولما وصلت في الخطاب إلى الجزء الخاص بوالدتي قلت للخليفة إنه بسبب بعدي عنها كانت في كل أوقات مرضها تتضرع إلى الباري كي تراني قبل موتها، كانت تتمنى ذلك ولكن أمنيتها لم تتحقق ففاضت روحها قبل أن تراني، وفي تلك اللحظة التي نضب فيها لعابي ولم أقوَ على الاستمرار في الكلام، بادرني الخليفة قائلًا: «ألا تعلم والدتك بأني أرحم عليك من أي مخلوق كان؟ وعلى كل حال إني لا أتصور أنها كانت على ما تذكر من الحال، فعليك أن تحزن لوفاتها، ولكن يجب أن تعلم أنها ماتت مسيحية ولم تعتقد في الرسول والمهدي، وعلى ذلك هي لا تلاقي رحمة ربها.»
فهاجت أعصابي عند سماع قوله هذا ولكني لم أفُه بكلمة، ثم استرجعت قواي وصرت أتلو عليه ما جاء في الخطاب عن زواج أخي هنري، وأن «أودلف» وأخواتي البنات بخير، وطلبوا إليَّ في آخر خطابهم أن أكتب إليهم عن الطريقة التي يمكن عملها لاسترداد حريتي، كما طلبوا إليَّ الإسراع في الإجابة عليهم. فقال لي الخليفة: «اكتب إلى واحد من إخوتك كي يسرع في الحضور إلى هنا وأخبره بأنه سيكون موضع إجلال واحترام، وسوف لا يحتاج إلى شيء بالمرة ما دام مقيمًا هنا، ومع ذلك سأتكلم معك في هذا الشأن مرة أخرى.» وبعد ذلك أشار عليَّ بالانصراف، فانصرفت وكان رفاقي الذين علموا بوصول هذا الخطاب ينتظرونني بفارغ الصبر ليسمعوا مني ما حواه، وبمجرد أن تلاقوا معي وجهوا لي عدة أسئلة كنت أجاوبهم عليها بكل اقتضاب.
ولما ذهب الخليفة إلى راحته اتكأت على سريري «عنجريبي»، فسألني خدمي عن الأخبار فكنت أطلب إليهم عدم محادثتي.
إني على استعداد لملاقاة الخالق، إني على استعداد للموت، ولكني أرجو أن أرى وأقبِّل رودلف قبل أن تفيض روحي.
إنني كلما تذكرت أنه في قبضة أعدائه تزداد آلامي.
آه، إني أتذكر جيدًا كلماتها التي فاهت بها لما عولت على القدوم إلى السودان، لقد كانت تقول لي: «يا بني إن روحك المضطربة تدفعك إلى المغامرة بحياتك في بلاد بعيدة لا تعلم عنها شيئًا، وربما يأتي الوقت الذي تنتهي فيه من كل ذلك وتقبل على حياة هادئة.» فما أصدق كلماتك يا والدتي! وما أعظم الشقاء الذي سببتُه لك!
وبعد أن فكرت في هذا كله صرت أنوح ثم أنوح، لا بالنسبة لما أنا عليه من حال سيئ بل من أجل أمي العزيزة التي فاضت روحها بسببي.
وفي صباح اليوم التالي أرسل لي الخليفة وطلب مني مرة أخرى أن أترجم له الخطاب، وأمرني أن أرد في الحال على إخوتي لأخبرهم بأني في رغد من العيش، فنفذت ما طلبه وكتبت خطابًا كله ثناء على الخليفة وإعجاب بخصاله وكم أنا سعيد بجواره، ولكني كنت أضع كل كلمات المدح والإطراء وحسن الحال داخل أقواس وبجوارها علامات استفهام. وكتبت في ذيل الخطاب ما يشير إلى أن تلك الكلمات الموضوعة بين الأقواس هي عكس الحقيقة.
وفي الوقت نفسه طلبت إلى إخوتي أن يكتبوا إلى الخليفة خطاب شكر على حسن معاملته لي! وأن يرسلوا له كيس سفر كبير، ويرسلوا لي مبلغ ٢٠٠ جنيه و١٢ ساعة اعتيادية تستحق أن تكون هدايا لأقدِّمها إلى أمراء الخليفة الذين يسرون بها كثيرًا، وطلبت نسخة القرآن مترجمة إلى اللغة الألمانية، ولكي لا يجزعوا قلت لهم إني أرجو أن تسمح الظروف بملاقاتنا قريبًا.
طلبت إليهم أن يرسلوا تلك الطلبات إلى قنصل النمسا في القاهرة الذي يرسلها إلى حاكم سواكن، وهذا يبعث بها إلى عثمان دجنة ومنه تصل إليَّ. وقد سلمت هذا الخطاب إلى الخليفة فبعث به رسولًا كان ذاهبًا إلى عثمان دجنة ليرسله إلى سواكن.
وقد حزنت قبل وصول الخطاب المحزن بنحو شهر تقريبًا لما أصاب صديقي «لبتون»، الذي كان يشتغل في جمرك الخرطوم وأرغمته حالته الصحية على أن يترك عمله وعاد بعد ذلك إلى أم درمان يشكو الفاقة، ولكن لحسن حظه كان قد عاد صديقه «صالح واد الحاج علي» من القاهرة ومعه بعض النقود أرسلها إليه بعض أفراد أسرته من القاهرة مع صالح المذكور.
وكان واد الحاج علي هذا طماعًا في ابتزاز الأموال، حرامها وحلالها؛ فقد أعطى «لبتون» قبل ذلك مبلغ ١٠٠ ريال وأخذ منه تحويلًا على أخيه بالقاهرة بمبلغ ٢٠٠ ريال قبضها بمجرد وصوله، ولما عاد إلى أم درمان أعطى لبتون ٢٠٠ دولار واغتصب لنفسه باقي ما أرسله أخو «لبتون» وهو ما يقرب من ٨٠٠ دولار. وقد ساعد هذا المبلغ الضئيل «لبتون» نوعًا على فك ضيقه، وهذا مع ما كان يؤمله من أن هناك مخاطبات دائرة بشأن إطلاق حريته؛ كانا سببًا في تخفيف شيء من آلامه. وكان هذا المسكين قد حضر معي ذات يوم من المسجد عقيب الصلاة إلى المنزل، وأخذ يستشيرني في انتقاء شخص يضع عنده مبلغ اﻟ ٢٠٠ دولار؛ بحيث يأخذ منه ما يريده كلما شاء؛ إذ إنه يخشى إذا بقيت معه أن يندفع في الظهور بالبذخ والإسراف؛ ومن ثم يفتضح أمره وتعرف صلاته بالقاهرة فيلاقي حتفه.
كنا نتحادث عن حالتنا وما نحن عليه، وقد كان في تلك اللحظة منشرح الصدر أكثر من عادته، رغم ما كان ينتابه من الآلام في ظهره والضعف العام في كل جسمه.
وقد تركته حوالي الظهر. وفي يوم الثلاثاء التالي أرسل لي خادمه يطلب أن أذهب إليه لأنه يشكو مرضًا شديدًا، وأبلغني خادمه أن سيده مصاب بحمى شديدة، وأنه ملازم الفراش من ثلاثة أيام، فوعدت الخادم بأني قادم إليه سريعًا. وفي المساء طلبت إلى الخليفة أن يسمح لي في الذهاب. وفي صبيحة اليوم التالي — وقد حصلت على الإذن بقضاء عامة اليوم مع هذا المريض — ذهبت في الحال إلى منزله فوجدته في حالة يرثى لها؛ وجدته يشكو ألم حمى التيفوس، وحالته شديدة لدرجة أنه لم يتمكن من معرفتي لما دخلت في أول الأمر، وقد حدثني بعد ذلك بألفاظ متقطعة موصيًا بأن أعتني بأخته، ثم تمتم كلامًا عن والده.