حملة الأحباش
وما كان يدور بخلد أحد أن انتصارات المهديين يُسكت عليها من جانب الأحباش؛ فقد أعد الملك «جان» عدته وجمع قواته بعد أن استتب له الأمر في الداخل ببلاده، أعد العدة لغزو القلابات. وبالفعل أحرزت قوات الأحباش نصرًا في بادئ الأمر، إلا أن نصرهم انقلب هزيمة عندما أصيب الملك «جان» برصاصة قضت عليه لساعته، فارتد الجيش الحبشي بغير نظام وتعقبه «زكي طومال» الذي تمكن من الاستيلاء على تاج الملك ومتاعه وأخذ جثته غنيمة.
وقامت على أثر ذلك في بلاد الأحباش ثورة داخلية بسبب تطلع كثيرين إلى العرش.
وكان الإيطاليون يحتلون مصوع منذ بدء عام ١٨٨٥، وعلى ذلك مكنتهم تلك الثورات الداخلية من الاستيلاء على مناطق واسعة داخل حدود الحبشة بالقرب من مصوع، وقد قوَّى الاستيلاء عليها مركز الدراويش في القلابات؛ لأن الأحباش شغلوا باسترداد ما استولى عليه عدوهم الجديد.
وبينما كانت القوة المعسكرة في القلابات تحت رحمة الملك «جان» في بادئ الأمر، كان «عثمان واد آدم» في حرب شديدة في غربي السودان، وقد شتت شمل السلطان يوسف ودحر جيشه وجعل عساكره بدون مأوى في شرقي السودان وغربيه، وقد حكم على أمرائه وأتباعه بأشد العقوبات وساق أتباعه من النساء والأطفال غنائم وأرسلهم مخفورين إلى الفاشر، وانتشر الهرج والمرج في جميع الأنحاء حتى حدود «دار تاما».
وكان في ذلك الوقت بتلك الناحية شابٌّ هرب من أم درمان، ينتسب إلى قبيلة من القبائل النازلة على ضفاف النهر، ويسكن في تلك الناحية مستظلًّا بشجرة جميز، فلقبوه من أجلها بأبو جميزة، فوصل إليه بعض من هؤلاء الرجال الذين شتت شملهم «عثمان واد آدم» وانضموا تحت لوائه، فجمع شملهم وتولى قيادتهم للأخذ بثأرهم، وبالفعل تم له النصر في أول الأمر على قوة صغيرة من قوى الدراويش كانت في ذلك الوقت قريبة منهم. وكان لذلك الانتصار صداه، فانضم إليه كثير من الدارفوريين وكونوا قوة عظيمة تحت إمرته سار بها إلى الفاشر، إلا أن المنية عاجلته في الطريق فقضى نحبه، فانقض «عثمان واد آدم» على جيشه وكان على بضعة أميال من الفاشر وهزم هذا الجيش شر هزيمة.
أما الخليفة فكان في هذه الأثناء يسر في نفسه غزو الديار المصرية، وقد استشار من أجل ذلك كثيرًا من زعمائه، فحسنوا له غزو مصر لما احتوت عليه من حدائق غناء وقصور فخمة وسيدات لونهن أبيض جميلات.
وبطبيعة الحال كان أكفأ قواد الخليفة في ذلك الوقت، والذي يصح أن توكل إليه قياد الجيوش الغازية، هو «ابن النجومي»؛ لشجاعته النادرة، ولأنه عرف مصر وخباياها لما كان تاجرًا بسيطًا، وفضلًا عن ذلك أنه كان من أشد أنصار الدعوة المهدية، يعمل لنشرها بكل ما أوتي من حول وقوة.
وكانت الجيوش التي تحت أمره مكونة من أبناء القبائل النازلة على ضفاف النيل، الذين عرفوا مصر جيدًا ولهم صلات قرابة ونسب مع القبائل في مديريات الوجه القبلي الملاصقة.
فمن أجل هذا، لما أصر الخليفة على غزو مصر لم يفكر في إسناد قيادة الجيوش الفاتحة لغير ابن النجومي.
وكان الخليفة يحسب حسابًا كبيرًا لهذا الفتح ويقدر نتائجه، وكان يخشى الهزيمة والخسارة؛ ولذلك تدبر في الأمر وقرر أن يرسل مع ابن النجومي جيوشًا من القبائل النازلة بقرب السودان التابعة له، لا من القبائل التي تنتمي إليه حقيقة؛ حفظًا لهم ووقاية من الوقوع في الهزيمة. فجهز جيش ابن النجومي من قبائل «الجالان» و«الدناجلا» و«النيفاريون»، وقبيلتا «الجالان» و«الدناجلا» من أتباع الخليفة الشريف، وقد كان الخليفة عبد الله ينظر إليهما دائمًا كما ينظر إلى الأعداء.
وكان الخليفة يتمنى بكل جوارحه نجاح الحملة، وما كان يخالجه شكٌّ في قدرة قائده وإخلاصه، وكان يمني نفسه بغزو الديار المصرية ليضيف إلى ملكه بلادًا جديدة، إلا أن المصريين انتصروا عليه وألحقوا به خسائر فادحة، وردوا جيوشه منهوكة القوى إلى دنقلة.
وإن حوادث ذلك العهد التي انتهت بهزيمة جيش الدراويش في واقعة توشكا في ٣ أغسطس سنة ١٨٨٩ وموت ابن النجومي معروفة لا تحتاج إلى إعادة إيضاح هنا.
ولكن بمناسبة تكوين الحملة السالفة الذكر من رجال القبائل التي قلنا إنها في الأصل كانت معادية للخليفة وهو يوجس منها خيفة دائمًا أبدًا؛ أروي حادثة حدثت لقبيلة من تلك القبائل؛ فقد حدث أن ترددت قبيلة «البتاهية» في القدوم إلى أم درمان لتقديم طاعتها إلى الخليفة، فجهز للهجوم عليها حملة هزمتها شر هزيمة، وأسرت منها ما يقرب من ٦٧ رجلًا بأهلهم، وكانت هذه القبيلة مشهورة بقوة رجالها أيام أن كانت الحكومة المصرية مستولية على السودان.
وأمر الخليفة بمحاكمة هؤلاء الأسرى بتهمة «العصيان»، فلما سأل قُضاتَه عن عقوبة العصيان أجابوه بلا تردد «الموت»! وبعد ذلك أمر الخليفة بإعادتهم إلى السجن، وأخذ يعد المعدات اللازمة لتنفيذ الحكم عليهم.
وبناء على إرادته أقاموا ثلاث مشانق في ساحة السوق، وبعد صلاة الظهر دقت الطبول إيذانًا بقرب ميعاد التنفيذ، وجاء الخليفة متبوعًا بحاشيته راكبًا، ولما اقترب من مكان التنفيذ نزل وجلس على سرير صغير وحاشيته من حوله، منهم من هم ركوع ومنهم من هم وقوف، ثم أحضروا أمامه أولئك الرجال مكتوفي الأيدي يحيط بهم رجال عبد الباقي، بينما كانت النساء والأطفال تتبعهم نائحات نادبات.
وأمر الخليفة بأن يجعل النساء والأطفال في ناحية والرجال في ناحية أخرى، وبعد ذلك جاء «أحمد الدليا» و«طاهر واد الغالي» و«حسن واد خبير»؛ وهم الذين انتقاهم الخليفة لتنفيذ الحكم على هؤلاء التعساء، وأمر ثالثهم بأن يذهب ويأمر الحراس بأن يأخذوهم إلى المكان الذي نصبت فيه المشانق.
وبعد ربع ساعة قام الخليفة وتبعه جميع من كان حوله إلى ساحة السوق؛ حيث رأينا منظرًا تقشعر منه الأبدان، وجدنا هؤلاء البؤساء قسموا إلى ثلاث فرق؛ قسم نفذ فيه حكم الشنق، وقسم تحت التنفيذ، والقسم الثالث قطعت أيديهم اليمنى وأرجلهم اليسرى. ووقف الخليفة يشاهد هذا المنظر بنفسه؛ وقف يشاهد كومة من جثث الرجال، وقف يشاهد من قطعت أيديهم وأرجلهم، وقف يشاهد هذه الأيدي وتلك الأرجل مبعثرة هنا وهناك، وقال ﻟ «عثمان واد أحمد» أحد القضاة — وقد كان من أعز أصدقاء الخليفة «علي» وأحد أركان تلك القبيلة — وهو يشير إلى تلك الجثث: «يمكنك الآن أن تأخذ ما بقي من أفراد قبيلتك.» قال ذلك بكل سخرية، فارتعدت فرائص الرجل ولم يقدر على الإجابة.
وعاد الخليفة بعد ذلك وأخذ «أحمد الدليا» يتمم مهمته، فترك ٢٣ جثة هامدة ملقاة على الأرض هنا وهناك، والباقي ينفذ فيهم الحكم بأفظع حال.
وقد كان هؤلاء يلاقون الموت بشجاعتهم المعهودة فيهم ولم يجزع واحد منهم، بل كان معظمهم يردد كلمات تنبئ عن البسالة؛ كأن يقول أحدهم: «الموت حق»، أو «لا بد لكل واحد أن يموت»، أو «من لم ير في حياته شجاعًا يلاقي الموت فليقدم إلى هنا ليرى بعينيه.» وغير ذلك مما يثبت عدم اكتراثهم لما كانوا يلاقونه.
وبعد ذلك تمت إرادة الخليفة بأن أعدموا جميعًا، ولما عاد إلى دارة أصدر أمره بأن يترك النساء والأطفال بدون مأوى حتى يباعوا بأرخص الأثمان.
وبالرغم من تلك المناظر التي كانت تقشعر منها الأبدان، كنت أشعر بسرور في نفسي لما وصلني من الأخبار بأن هناك خطابات ستصل إليَّ قريبًا من إخوتي، وأن في الطريق صندوقين لي من النقود. وفي صباح يوم بينما كنت جالسًا أمام الباب، وصل جمل يحمل صندوقين، وطلب الجمال مقابلة الخليفة شخصيًّا، قائلًا إنه جاء ومعه رسائل من عثمان دجنة، وأمر الخليفة بعد أن تقابل مع الجمال بأن يُرسَل الصندوقان إلى بيت المال، وكان قد دهش في أول الأمر لما رآهما، وأمر أيضًا بأن تعطى الخطابات إلى كتَّاب سره، وضاق صدري لطول الانتظار؛ لأني كنت أحب أن أعلم ما ورد لي، وكانت للخليفة لذة خاصة في عدم إبلاغي أي شيء قبل غروب الشمس. فلما غربت ناولني الخطابات، وكانت — كما لاحظت — من إخوتي وهم يظهرون فيها سرورهم العظيم لما تسلموا مني خطابًا وعلموا بأني لا زلت على قيد الحياة.
وكان أحد تلك الخطابات باللغة العربية موجهًا إلى الخليفة نفسه يشكرونه فيه على عنايته بي، والذي كتبه هو الأستاذ «واهر مند»، فجعله كله آيات مدح، فلما اطلع الخليفة عليها صار يترنم بذكر كاتبها وأمر بقراءة الخطاب في المسجد عقب الصلاة، ثم أمر بعد ذلك بأن يرد الصندوقان إليَّ.
وترجمت إليه الخطابات التي وصلت إليَّ، وأبلغته أن إخوتي أرسلوا إليه كيس سفر هدية، وأنهم يلتمسون منه التنازل بقبول هذه الهدية الصغيرة التي لا تتناسب مع مقامه العظيم، فقبلها وأمرني بإحضارها إليه في صباح الغد، وأرسل معي تابعيه ليحضرا فتح الصندوقين، فتوجهنا جميعًا إلى بيت المال حيث فتحناهما، فوجدت فيهما مائتي الجنيه التي طلبتها، وكذلك الساعات وأمواسًا للحلاقة ومرايا وجرائد وترجمة القرآن باللغة الألمانية وهدية الخليفة، وقد تسلمت كل هذه الأشياء ثم توجهت إلى حجرتي وأخذت أعيد قراءة خطاباتي، واحتفظت بالصحف التي تحوي أخبار بلادي العزيزة!
وفي صباح الغد قمت مبكرًا وحملت الهدية وذهبت إلى الخليفة فأمرني بفتحها، ولما رأى ما احتوت عليه من علب المعدن اللامعة والزجاجات والأمواس والفرش، أظهر إعجابه الكثير، ثم ابتدأتُ أوضح له فائدة كل شيء على حدة، وحينئذ أرسل في طلب القضاة الذين كانوا في ذلك الوقت يباشرون عملهم، فلما جاءوه واطلعوا على ما احتوته الحقيبة دهشوا كثيرًا، ولو أني كنت على يقين من أن كثيرًا منهم رأوا مثل هذه الأشياء قبل الآن.
وبعد ذلك طلب الخليفة كاتب سره وأمره بأن يكتب في الحال خطابًا لإخوتي، يبين فيه المركز السامي الذي أشغله عند الخليفة وثقته التي لا حد لها في أخيهم، وأن يدعوهم للحضور إلى أم درمان لزيارتي، وأن لهم الحرية التامة في الرجوع بعد تأدية الزيارة.
وأمرني بأن أكتب لهم مثل ذلك، وبالرغم من وثوقي بأنهم لا يجيبون هذه الدعوة كتبت إليهم بألا يجيبوها وبألا يحضروا.
وأرسلت المراسلات مع نفس الرسول الذي قدم من قبل عثمان دجنة، وأعطى الخليفة لعثمان التعليمات بأن يبعث تلك الرسائل بنفس الطريقة التي سبق له أن بعث بها فيما مضى.
وكان الخليفة في هذا اليوم منشرح الصدر مسرورًا، وكان سروره بسبب قدوم جميع أفراد قبيلته التعايشة إلى أم درمان؛ لأنه كان قد طلب إليهم ذلك ومهد لهم كل السبل التي تسهل عليهم القدوم. إلا أنهم ظنوا أنفسهم أسياد الحرث والنسل واستولوا على كل شيء مروا به من ماشية بجميع أنواعها، ونهبوا متاع الرجال وحلي النساء في طريقهم، مع أن الخليفة — كما قدمت — كان أمر بتشييد مخازن للمؤن في طول طريقهم لتسد حاجتهم، وكانت المراكب والبواخر قد أعدت لنقلهم إلى أم درمان.
ولما وصلوا إلى الضفة اليمنى لأم درمان أمرهم الخليفة بالانتظار بعد أن قسمهم إلى قسمين وبعد أن أمر بأن يلبس الرجال والنساء أزياء جديدة من بيت المال، ثم أخذ يستقبلهم جماعات جماعات في أم درمان، واستغرقت مدة نقلهم من الضفة اليمنى إلى أم درمان يومين أو ثلاثة أيام؛ حتى يلفت الأنظار ويعلم الجميع أن أسيادهم قدموا إلى المدينة، وأخلي لهم الجزء الواقع بين المسجد والحصن ليكون مقرًّا لهم، وأعطي السكان الذين تركوا ديارهم أرضًا بدلًا منها، كما أصدر أمره لبيت المال بأن يمد يد المساعدة لتشييد مساكن جديدة لهم.
ولكي يسهل على أفراد قبيلته سبل المعيشة — وكانت أسعار الغلال قد أخذت في الصعود — أصدر أمره بمصادرة جميع الغلال المخزونة وبيعها بأرخص الأثمان لرجال التعايشة، وقسم الأموال التي جمعت بين أصحاب الغلال الذين عادوا فاشتروا غلالًا بأضعاف أضعاف ما باعوا، ويمكنني أن أقول إن ثمن عشرة أرادبَّ بيعت للتعايشة صارت بعد ذلك تساوي ثمن إردبين لما أراد أصحاب الغلال شراء بدل منها.
ولما نفد ما كان مخزونًا في أم درمان أرسل الخليفة رسله إلى الجزيرة ليصادروا كل ما يجدونه هناك، ولكن تلك الأعمال التي عملها في سبيل راحة أفراد قبيلته وما ارتكبه هؤلاء من سلب ونهب، سببت كراهية أتباعه فيه.
والآن قد انتشرت المجاعة في جميع أنحاء السودان؛ حيث لم يسقط مطر.
ولما وقعت المجاعة وانتشرت في بربر قبل غيرها من نواحي السودان، نقصت المحصولات لدرجة أنها أصبحت لا تسد حاجة السكان، ورحل أغلب هؤلاء إلى أم درمان التي كانت مزدحمة أشد ازدحام؛ فاشتد الخطب وارتفعت أثمان المحاصيل حتى بلغ ثمن الإردب من الحنطة ٤٠ ريالًا، ثم ارتفع بعد ذلك إلى ٦٠ ريالًا، فمات الفقراء جوعًا، وكانت الأشهُر الأخيرة من عام ١٨٨٩ أشهُر شقاءٍ وبؤس وتعاسة، فتكت المجاعة فيها بالناس فتكًا ذريعًا، وانحطت حالة القوم الصحية حتى أصبحت أجسامهم هياكل عظمية تحوي العظام وعليها الجلود البشرية فقط.
وصار الناس يأكلون كل شيء؛ فأكلوا جلود الحيوانات القديمة، ولم يتركوا حتى الجلود المصنوعة منها سررهم؛ فقد كانوا يقطعونها ويغلونها في الماء ثم يأكلونها ويشربون الماء، وانتشرت السرقات وعمت الفوضى، فكان كل من في قدرته ارتكاب السرقات فعل.
وإني أذكر حادثة وقعت أمامي؛ فقد رأيت رجلًا اختطف من غيره قطعة شحم والتهمها بكل شراهة، فهجم عليه صاحبها محاولًا إخراجها من فمه فأحاط عنقه بيديه وخنقه، ولكن اللص لم يخرج فريسته من فمه وأخيرًا وقع مغمى عليه.
وقد كنت تسمع في ساحة السوق، حيث يجلس النساء لبيع سلعهن، نداءَ الاستغاثة في كل لحظة من هؤلاء الذين أخذوا على عاتقهم السلب والنهب.
وكانت الساحة الواقعة بين بيت الخليفة وبيت يعقوب تزدحم كل ليلة بالذين يصرخون مطالبين بالخبز، وكان بعضهم يتبعني عند ذهابي إلى منزلي محاولين اقتحامه، وفي ذلك الوقت ما كنت أمتلك من القوت إلا ما أسد به رمقي ورمق حاشيتي وأصدقائي الذين معي.
وفي ذات ليلة — وكان القمر بدرًا — بينما كنت راجعًا إلى منزلي حوالي الساعة الثانية عشرة ليلًا، شاهدت بالقرب من بيت الأمانة — مخزن السلاح — شيئًا يتحرك على الأرض، فتوجهت شطره لأرى ما هناك، ووقفت أرقب منظرًا بشعًا تقشعر منه الأبدان؛ رأيت ثلاث نساء عاريات مسدلات شعورهن الطويلة على أكتافهن، يتهافتن على أكل جحش صغير يخيل لي أنهن خطفنه من أمه، وقد رأيتهن يقطعن من لحمه بأسنانهن ويأكلن منه، وكان هذا الحيوان المسكين لا يزال على قيد الحياة، فهجم عليهن الذين كانوا يتبعونني واختطفوا الفريسة منهن، وحينئذ تركت هذا المنظر فارًّا إلى داري!
وفي يوم آخر رأيت امرأة يظهر لي أنها كانت في يوم من الأيام جميلة، رأيتها ملقاة على الأرض وبجانبها طفلها الذي قد لا يتجاوز من العمر عامًا وهو يحاول الرضاعة، ولكنه كان يحاولها من أمٍّ أصبحت للأسف جثة هامدة! وبقي يتأوه ويتألم على ذلك الحال حتى مرت عليه امرأة أخرى فأخذته.
وفي ذات يوم مرت بداري سيدة ومعها بنتها الوحيدة، وكانت هذه المرأة على ما يظهر لي من قبيلة «الجالان»، تلك القبيلة التي يمكنني أن أقول إنها أحسن القبائل حالًا، جاءت هذه السيدة وبنتها على شفا حفرة من الموت تطلب مني مساعدتهما، فجدت إليها بكل ما أمكنني أن أجود به، وبعد ذلك عرضت عليَّ أن تسلمني بنتها وتتركها لي رقيقة لأحميها من الموت جوعًا، وكانت تتلفظ بهذا القول ودموعها تنهمر من عيونها، فطلبت إليها مغادرتي ومعها بنتها وأعطيتها كل ما كان في وسعي أن أعطيه.
ووجدت امرأة أخرى تأكل طفلها! فساقوها إلى مركز البوليس لتأخذ جزاء ما فعلت، ولكنها ماتت بعد يومين.
وكان الناس يبيعون أولادهم ذكورًا وإناثًا لا لغرض الحصول على أثمانهم؛ بل لحفظ حياتهم عند من يقدر على تموينهم، وبعد أن انقضت تلك السنة استردوهم بأثمان عالية.
وكانت جثث الموتى في الشوارع لا تحصى ولا يوجد من يحملها، وأصدر الخليفة أمره مكلفًا كل شخص بأن يحمل الجثث التي توجد أمام داره ليواريها بالتراب، ومن لم يفعل تصادر أملاكه.
وكان لذلك بعض التأثير، إلا أن أصحاب المنازل كانوا يزيحون ما أمام منازلهم إلى قرب منازل جيرانهم؛ تخلصًا من العقاب، فتسبب من ذلك وقوع المشاكل والمضاربات بين الناس. وكنت ترى الجثث طافية في النيل آتية من البلاد الواقعة على ضفتيه وعددها لا يحصى.
وكان جل الذين ماتوا في أم درمان من الذين وفدوا عليها من الخارج لا من سكانها الأصليين؛ إذ إن هؤلاء كانوا قد خزنوا ما وقعت عليه أيديهم من غلال، وكانت كل قبيلة تساعد جارتها إذا احتاجت.
وكان الحال عكس ذلك في جهات السودان الأخرى، وكان ما أصاب قبيلة «الجالان» أشد مما أصاب أي قبيلة أخرى، ولو أنها كانت أحسن قبائل السودان حالًا.
وأما سكان دنقلة فكانوا أحسن حالًا من غيرهم، وكان أسوأ السكان حالًا سكان القضارف والقلابات، وكان «زكي طومال» قد أصدر أوامره في أول المجاعة بأن تُجمع كل الحبوب التي في جهاته على أن يتمون منها جيشه، فنجم من ذلك موت الكثير جوعًا.
وكثرت حوادث السلب والنهب في تلك الجهات، وأصبح الواحد من سكانها يخشى الخروج بدون سلاح يحمي به نفسه ممن يريد السطو عليه، لا ليسرقه بل ليفترسه ويأكله كما حدث ذات يوم لأحد أمراء قبيلة الحمر؛ فقد وُجدت رأسه في اليوم التالي ملقاة في طرف من أطراف المدينة، أما جسمه فلم يوجد؛ لأنه أكل بطبيعة الحال.
وأبيدت بسبب تلك المجاعة قبائل «الحسابيا» و«الشكرية» و«العقالان» و«الحمرة» عن آخرها، وبذلك خلت بقاع واسعة في السودان من السكان.
وكان الحال في دارفور أحسن منه في القضارف والقلابات، كما كانت القبائل الغربية كقبيلة «حمر» و«دار تاما» و«مزاليط» أحسن حالًا من الفاشر نفسها؛ إذ كانوا قد منعوا تصدير الحبوب إليها.
وقد يخيل إليَّ أن هذه المجاعة حلت بهؤلاء القوم لينتقم بها البارئ — جلت قدرته — من هذا الخليفة الجبار وشيعته. وعلى أثر انتشارها جهز تجار أم درمان مراكبهم بالحبوب وذهبوا إلى فاشودة، فبدلوا غلالهم بأشياء أخرى كالنحاس والبلح وغيرها، وعمل مثلهم سكان جهات أخرى وصلوا بغلالهم حتى أعالي نهر السوباط.
وبعد ذلك ابتدأ فصل الأمطار ونمت المزروعات ففرح الناس لإزالة الخطب، إلا أن جيوشًا من الجراد حلت بالبلاد ففتكت بالمزروعات فتكًا ذريعًا.
ولما كان الخليفة لا همَّ له إلا إغداق النعم على أفراد قبيلته والسعي لتوفير راحتهم، أصدر أوامره إلى السكان بألا يبيعوا النزر القليل من محاصيلهم التي جمعوها بعد فتك الجراد إلا لأفراد قبيلته بأرخص الأثمان. ولما كان هذا القدر لا يكفي بطبيعة الحال لسد رمقهم، أصدر أوامره إلى إبراهيم عدلان لكي يتوجه إلى الجزيرة ليرغم الأهالي هناك على تقديم ما لديهم من الذرة بدون مقابل، إلا أن عدلان لم يوافق على هذا الطلب وعارض فيه بكل إباء وشمم.
ولقد بحث الخليفة عبد الله مع أخيه يعقوب في هذا الشأن وغيره. وكان يعقوب هذا من ألد أعداء عدلان، الذي يروي عنه الناس أنه طيب القلب عالي الهمة، لا يميل لاضطهاد الناس بتكليفهم ما لا طاقة لهم به، بل على النقيض من ذلك كان يأخذ على عاتقه في كثير من الأوقات ما يقع على غيره من المسئوليات، ولقد جمع ثروة طائلة ما كانت لتخفى على الخليفة.
وسمع الخليفة من يعقوب وأصدقائه أن نفوذ عدلان في البلاد لا يقل عن نفوذه، وقالوا إنه دائمًا يتكلم في المجالس ضده وضد حكومته، وكان من أقواله للناس أن المجاعة لم تكن إلا بسبب إرهاق الخليفة لهم في سبيل راحة أبناء قبيلته، وقد تسبب من هذه الوشايات أن أحيل عدلان إلى المحاكمة، فقضت عليه بأن يقبل الموت أو الفقر، ففضل الأول، فساقوه مكتوف اليدين إلى صدره حتى ساحة السوق، وهناك نفذوا فيه الحكم. وكان رابط الجأش لدرجة أنه هو الذي وضع رأسه بنفسه في حبل المشنقة، ورفض أن يشرب الماء الذي قدم إليه طالبًا الإسراع في تنفيذ الحكم، وقد سقطت جثته وهو يشير بسبابته إشارة أنه يموت مسلمًا موحدًا لله، سبحانه وتعالى. وحزن جميع السكان على قتله إلا أن الخليفة سر سرورًا عظيمًا؛ لأنه قضى على شخص كان يوجس منه ومن نفوذه خيفة، وكان غير مطيع لأوامره. وأرسل الخليفة أخاه ليسير في جنازة عدلان؛ إشارة إلى أنه لم يشنق إلا تنفيذًا للقانون لا حقدًا عليه كما ظن الناس.
وولَّى الخليفة بدله خازنًا لبيت المال المدعو «نور واد إبرهيم»، الذي كان جده «تكروري»، وعلى ذلك هو ليس من القبائل النازلة على ضفاف النيل، ولكنه نال ثقة الخليفة ورضاءه.
وأما بالنسبة لشخصي، فقد تغيرت نظرات الخليفة إليَّ وداخله الشك من جهتي، ووصل رد خطابي الأخير الذي أرسلته إلى أهلي غير مشتمل على شيء سوى الاغتباط لانتظام المراسلات بيني وبينهم. وكتبوا في الوقت نفسه إلى الخليفة يشكرونه على عنايته وعلى الدعوة التي وجهها إليهم بطلب الحضور إلى أم درمان.
واعتذر أخي الأكبر عن عدم إمكانه الحضور بأن حالته لا تساعده؛ لأنه يشغل وظيفة كبير أمناء جلالة إمبراطور النمسا، واعتذر الآخر بأن وقته وهو ضابط في الطوبجية لا يسمح له بالقيام برحلة طويلة كهذه.
ولما طلبني الخليفة إلى حضرته أمرني بترجمة تلك الخطابات، ثم قال لي: «كانت رغبتي في أن تطلب إلى واحد من إخوتك أن يحضر، وبما أنهما يعتذران الآن بأعذار لا أقبلها، فيتحتم عليك ألا تكتب إليهما بعد الآن، فإذا أرسلت خطابًا واحدًا إليهما فإن ذلك يكفي للقضاء على هدوئك وسكينتك، أفهمت؟» فأجبته: «نعم يا مولاي، أوامرك مطاعة، وإني لا أجد داعيًا للكتابة إليهما.» فقال لي: «أين الإنجيل الذي أرسل إليك؟» فأجبته: «إني مسلم يا مولاي وليس لديَّ إنجيل بالمنزل، وإنما الذي أمتلكه هو ترجمة القرآن الكريم الذي رآه كاتم سرك لما فتحنا الصناديق سويًّا.» فأمرني بأن أحضره إليه في صباح الغد وأشار إليَّ بالانصراف.
وتيقنت بعد هذه المقابلة أن ثقة الخليفة بي زالت، وعلمت أيضًا أنه بعد هزيمة ابن النجومي أخذ يسر إلى قضاته أن ثقته فيَّ تغيرت.
وكنت في هذا الوقت قد صرفت المبلغ الذي وصل إليَّ من أهلي، وجلُّه منحته هبات إلى زملائي الذين أخذوا يدسون لي الدسائس الآن لما علموا أنني أصبحت لا أملك شيئًا، وهم الذين قالوا للخليفة إن الكتاب الذي عندي هو الإنجيل.
وفي صباح اليوم التالي توجهت إليه ومعي الكتاب وسلمته إليه، وهو من ترجمه العلامة «ألمان» ففحصه جيدًا.
وقال لي: «أنت تقول إن هذا الكتاب ترجمة القرآن وهو مكتوب بلغة الذين ليس عندهم عقيدة دينية، إنهم ربما يكونون قد أخطأوا في ترجمته.» فأجبته بكل هدوء وسكينة: «إنه يا سيدي ترجمة حرفية، والغرض منه هو أن أتمكن من فهم الكتاب المقدس الذي نزل من عند الله — سبحانه وتعالى — على يد الرسول باللغة العربية، وإن شئت أن تتأكد من صحة ترجمته الحرفية.» فأجابني قائلًا: «إني أعتقد فيك الصدق، ولكن الناس هم الذين قالوا ذلك القول، فيحسن بك والحالة هذه أن تحرقه.» ولما أظهرت له الموافقة على طلبه قال لي: «ويجب أيضًا أن ترد الهدية التي بعث بها إخوتك لي؛ لأنه لا فائدة لها عندي، وليعرفوا أن الأشياء الدنيوية لا قيمة لها في نظري.»
ثم أمر كاتم سره بأن يكتب خطابًا باسمي إلى أهلي يخبرهم فيه بأن لا داعي بعد الآن إلى مكاتبتي، فوقعته بإمضائي وأرسلته مع الهدية إلى بيت المال ليرسلا من هناك إلى سواكن كالمعتاد.
ومن هذا اليوم أصبحت شديد الحرص. وبعد موت عدلان استدعاني الخليفة مرة أخرى بحضور ضباطه، وأخذ يقول لي إنه يعلم أني جاسوس وتجب مراقبتي بكل دقة ومراقبة الذين يحضرون لزيارتي، وجلهم من أعدائه، ويجب عليَّ أن أعلمه بمحل نومي في منزلي، وأن أغير خطتي التي أنا متبعها وإلا لحقت بعدلان!
فأجبته قائلًا بكل هدوء وسكينة: «يا مولاي لا يمكنني الدفاع عن نفسي، وأنا أجهل خصومي الذين وشوا بي، ولكني أفوض أمري للبارئ، جلت قدرته، ولقد مضت ست سنوات بل أكثر وأنا الخادم الأمين في خدمة مولاي، أواصل الليل بالنهار على بابه تحت الشمس المحرقة وتساقط المطر الغزير، وتنفيذًا لأوامرك يا مولاي قطعت صِلاتي مع كل أصدقائي، وفي كل هذه المدة التي أنا فيها في خدمة سيدي لم أرتكب جرمًا، فأخبرني يا مولاي عن الذنب الذي ارتكبته، إن طاعتي لك طول هذه المدة لم تكن عن خوف، وإنما كانت عن محبة وإخلاص، وليس يمكنني أن أفعل أكثر من ذلك، وإني لرحمة ربي وعفو مولاي منتظر.»
فقال للملازمين: «ما رأيكم في أقواله هذه؟» فأجابوه بأنهم لم يلاحظوا شيئًا يشين سمعتي.
وقد علمت بعد ذلك من هم هؤلاء الذين أوجدوني في ذلك المركز الحرج، ثم قال لي: «أنت مسامَح هذه المرة، وعليك أن تحاذر في المستقبل.» ثم مد لي يده لأقبلها وأمرني بالانصراف.
وفي اليوم التالي طلبني وحدثني بكل لطف طالبًا مني أن أحذر أعدائي، وأن أجتهد بقدر المستطاع حتى لا يكون لي أعداء، وأعلمني بأن المهدية تتبع قواعد الإسلام، فإذا ما شهد ضدي في أي دعوى شاهدان وجبت إدانتي حتى ولو كان الشاهدان كاذبين، وفي هذه الحالة يصبح العفو عني غير مستطاع، فكيف يحلو لي العيش والحالة هذه، وحياتي أصبحت بإرادة شخصين يريدان الإيقاع بي؟! ولكني على كل حال شكرته على نصيحته الغالية، وقلت له: «يا مولاي إني أعمل دائمًا بقدر استطاعتي لإرضائكم حتى أكون دائمًا محل ثقتكم.»
ولما عدت إلى منزلي وقد انتصف الليل، كنت في أشد حالات التعب راغبًا في الراحة، فقابلني خادمي سعد الله وأبلغني أن تابعًا من أتباع الخليفة جاء حالًا ومعه سيدة مقنَّعة أرسلها لي وهي بداري الآن، فسررت عند سماعي ذلك لا لشيء سوى أني تيقنت من رضاء الخليفة، وتحققت أنْ قد زال كل شيء من نفسه. ثم ذهبت مع سعد الله إلى المنزل فوجدت تحت القناع سيدة مصرية ولدت بالخرطوم لا بأس بجمالها، فبعد أن تبادلنا التحيات بادرتني بسرد تاريخ حياتها مدعية أنها ابنة ضابط مصريٍّ، وقد علمت بعد ذلك أنها ابنة جنديٍّ وقع قتيلًا في حرب الشلك، وأن زوجها الأول قُتل في الحملة التي أرسلت للاستيلاء على الخرطوم، وأن أمها حبشية لا تزال على قيد الحياة. ثم قالت إنها كانت إحدى نساء أبو أنجة العديدات، وإن الخليفة اختارها الآن لتكون زوجة لي خلفًا لذلك البطل العظيم. وقالت لي إنه سبق للأحباش أن أسروها، وكان زكي طومال هو الذي أطلق سراحها. وقالت أخيرًا إن لديها معلومات قيمة عن المعارك التي نشبت في عهد أبو أنجة.
وحكاية هذه السيدة هي أن الخليفة كان قد أصدر أوامره بإحضار أرامل أبو أنجة إلى أم درمان، فلما حضرن أخذ يوزعهن على أتباعه. وقالت لي إنها لَمغتبطة جدًّا لوقوعها مع شخص من أبناء جلدتها، فأجبتها في الحال بأني أوروبيٌّ، وأن ما حصل من تغيير لوني إنما كان بسبب ما أنا عليه من الحال، واضطررت إلى أن أقول لها إنها ستكون موضع عنايتي.
ولما كنت في أشد حالات التعب طلبت إليها أن تتبع الخادم سعد الله الذي سيمهد لها كل سبل الراحة. وقلت في نفسي إن الخليفة بدلًا من أن يأمر خازن بيت المال بأن يمدني بالمساعدة لقضاء حاجياتي الضرورية بعث لي بتلك الزوجة التي تزيد في شقائي وتعبي.
وفي اليوم التالي سألني الخليفة عما إذا كنت قد أعجبت بهديته وهل أنا راغب فيها، فأجبته بأني سعيد لأني شعرت برضاء مولاي عني، وأنني أتمنى أن يجعلني الله — سبحانه وتعالى — مشمولًا دائمًا برعايته.
ولما عدت إلى منزلي قبل صلاة الظهر وجدته مزدحمًا بالنساء اللاتي دخلنه بالقوة — كما أبلغني سعد الله — مدعيات أنهن أقارب فاطمة البيضاء — كما كانوا يسمُّون السيدة التي بعث بها إليَّ الخليفة — ووجدت ضمنهن امرأة مسنة قالت لي إنها والدة فاطمة، وإنها مسرورة لأن ابنتها أصبحت لي، ورجتني أن أحسن رعايتها. فأخبرتها بأن ابنتها ستكون دائمًا موضع عنايتي، وسنعيش في منتهى الهناء والسرور، واعتذرت لهن بكثرة أشغالي، ثم انسحبت بعد أن طلبت إلى سعد الله أن يحسن وفادتهن على حسب عادات البلاد وأن يخرجهن بعد ذلك، ولو أدى الأمر إلى استدعاء من يساعده.
ومضت بضعة أيام ثم سأل الخليفة عن فاطمة مرة أخرى. وبما أني كنت أعلم جيدًا أنه يريد دائمًا أن أعيش عيشة الوحدة ولا أخالط أحدًا، أخبرته بأني لا أرى مانعًا من أن تعيش معي، غير أن لها عدة أقارب يترددون عليها طول اليوم، وعلى ذلك قد تضطرني الظروف إلى مخالطتهم، وهذا أمر يأباه مولاي وتأباه نفسي؛ ولذلك فإني سآمرها بأن تخضع لأوامري وتمتنع عن الاتصال بأهلها ومعارفها بقدر الإمكان، فإذا لم تخضع فإني أفضل تسليمها لأقاربها. فارتاح الخليفة لهذا الاقتراح ارتياحًا تامًّا، إلا أنه منذ طرد سعد الله الزوار في أول مرة، لم يعد أحد يقدم إلى دارنا، ومخافة أن يسيء الخليفة الظن في قصدي توانيت قليلًا في تنفيذ ما قررته.
وبعد مدة أرسلت فاطمة البيضاء إلى أمها وكلفتها بالانتظار هناك حتى أبعث إليها. وعرف سعد الله دار أمها، فبعد مدة أرسلت لها ولأمها ملابس ونقودًا ورسالة أخبرتها فيها بأنها أصبحت طليقة غير خاضعة لأوامري.
وأخبرت الخليفة بذلك قائلًا له إن أمثال هؤلاء القوم الغرباء عنه وعني لا يجوز أن يكون لي صلة بهم، وإني دائمًا أبدًا على استعداد تامٍّ لإطاعة أوامره.
وبعد مضي سنة تقريبًا جاءتني الأم تستأذنني في زواج بنتها من أحد أقاربها، فوافقت على ذلك بسرور تامٍّ، وقد تركت فاطمة البيضاء في أم درمان سعيدة بين أولادها.