تشتت وتفرق
قد عين حاكمًا لدنقلة عدوي خالد الذي كان مسجونًا منذ بضعة أشهر، وقد حل محل يونس، إلا أنه لم يمض شهران على هذا التعيين حتى ذهب ضحية الدسائس التي كان يدسها له اثنان من أبناء عم الخليفة كانا قد ذهبا لمراقبة حركاته وأفعاله. وقد استدعاه الخليفة ثانية إلى أم درمان ووضعه مرة ثانية في الأغلال، فهذا العمل كان من شأنه أن زاد هياج أقارب المهدي وأنصاره، وعقب ذلك اتفاق الخليفة محمد شريف واثنين من أولاد المهدي لم يبلغا العشرين من عمرهما مع كثيرين من الأقارب على أن يعملوا جميعًا للقبض على ناصية الحكم وكبح جماح الخليفة عبد الله، وفعلًا أخذوا في إعداد الخطة اللازمة سرًّا في أم درمان، وبدءوا كذلك يستميلون الأصدقاء وأبناء القبائل، وأرسلوا كتبهم إلى «الدناجلة» القاطنين بالجزيرة يدعونهم للحضور إلى أم درمان للانضمام إليهم. ولكن حدث أن أحد الأمراء الجعليين، الذي كان قد أقسم بألا يبوح لأحد بشيء إلا لأخيه وأعز صديق عنده، خدع القوم وخانهم، وذهب يطلع الخليفة على الأمر، معتبرًا إياه أقرب الأصدقاء، فلما وقف الخليفة عبد الله على سر هذه المؤامرة أخذ يعد المعدات لإحباطها، إلا أن جواسيس الأشراف عندما عرفوا أن مؤامرتهم انكشفت وعرفوا ما يدبره لهم الخليفة، اجتمعوا في جزء من المدينة واقع في شمالي بيت الخليفة واستعدوا للمعركة.
وأما أنا نفسي فقد كنت مشتاقًا لرؤية هذه المعركة فما أخشاه وحياتي كانت كل يوم في خطر، وأن أمام نظري حادثة عدلان الذي كان الصديق الحميم للخليفة، فقد شنقه ومثَّل به. وقد تأكدت أن عبد الله ما كان يهتم البتة بأرواح أعز أصدقائه وأحبهم إليه، وأن هذه الحرب الداخلة لا بد أنها ستضعف أعدائي «الخليفة وأنصاره»، وربما كان لي من وراء ذلك الاضطراب المنتظر حدوثه أمل في أن أسترد حريتي، ويصبح في مقدوري أن أستعمل نفوذي في جيش الحكومة الذي ظهرت فيه نزعة الاستياء بسبب المعاملة التي كان يلقاها.
وقد كان من المستحيل على الإنسان في مثل تلك الظروف أن يرسم لنفسه خطة واضحة، وكل ما كنت أرغبه هو أن تقوم المعركة، وأن يكون لي من ورائها أكبر قسط من الفائدة الشخصية.
بعد ذلك ابتدأ الفريقان بتبادل الطلقات النارية، إلا أن ذلك لم يكن إلا إيذانًا ببدء المعركة الحربية بين الطرفين.
وقد كان الفريقان في حالة لا تسر؛ فكانت الأسلحة من النوع الرديء، ولم يمض غير وقت قصير حتى انتهت تلك المعركة وقدرت الخسارة خمسة قتلى.
بعد ذلك عرض الخليفة طلب الصلح وأن يعين الأشراف شروطهم، وقد دارت المفاوضات طول اليوم بين الفريقين، وفعلًا عادت سيرتها في اليوم التالي. ومن سوء حظي أن الطرفين وصلا إلى حلول مرضية اتفقا عليها، ووافق الخليفة وحلف وتعهد بتنفيذها بعد أن عفا عن كل المتهمين.
وقد منح الخليفة محمد الشريف مركزًا ساميًا، وأن يحضر جلسات مجلس الخليفة كأحد أقطابه، وقد قرر منح كثير من أقارب المهدي إعانات من بيت المال.
وعلى ذلك سلمت الجنود أسلحتها إلى الخليفة وبذلك تم توقيع الصلح.
وفي يوم الجمعة التالي حضر أمام الخليفة قواد الجيش ونالوا منه المكافآت التي كان قد أعدها، وفي ظهر ذلك اليوم نفسه اجتمع الخليفة الشريف وأولاد المهدي وعبد الله نفسه.
وبذلك وطدت الآن أركان الصلح بين الفريقين، وأصدرت الأوامر إلى رجال المدفعية والمشاة بأن يعودوا إلى مراكزهم الأصلية، غير أن الملازمين والجهادية كلفوا بالبقاء حتى يتم تسليم السلاح جميعه.
وفي يوم أحد بعد الظهر أرسلت خادمًا إلى الأب «أوهروالدر» لأسأل عنه، فوجد بابه مقفلًا، وقد حاولت الاستفسار عنه من جيرانه الإغريق، فلم أتمكن من الاستدلال على مكانه ولا مكان أفراد بعثته.
وقد خيِّل إليَّ في الحال أنه في أثناء الاضطراب ربما يكون قد تمكن بمعرفة مخلصين له من اللياذ بالفرار.
وقبل صلاة المغرب حضر رئيس الذين اعتنقوا الدين الإسلامي بدون رغبتهم والسوري «جورج إستامبول»، وطلبا أن يؤذن لهما بمقابلة الخليفة حالًا لأمر مهمٍّ، ولكن الخليفة — وكان في تلك اللحظة مشغولًا — أمرهما بالانتظار في المسجد حتى يأذن لهما، وبعد تأدية الصلاة طلبهما إليه وسألهما عن مرغوبهما، فقالا له إن يوسف القسيس ومن معه من النساء هربوا جميعًا، ففي الحال طلب «نور الجرباوي» خازن بيت المال ومحمد وهبة حكمدار البوليس، وطلب إليهما أن يعملا ما في وسعهما للقبض على الذين هربوا وإحضارهم إلى هنا أحياء أو أمواتًا.
وكان من حسن حظ هؤلاء اليونانيين أن الخليفة كان مشغولًا بأشياء مهمة، ولولاها لكان وجَّه كل قواه للقبض عليهم والتمثيل بهم.
وعلى ذلك لم يتمكن الجرباوي ووهبة إلا من الحصول على ثلاثة جمال للحاق ﺑ «أوهروالدر»، الذي كان يعلم جيدًا أن هروبه متوقف على السرعة.
وقد تمنيت من صميم قلبي أن يفوز هو ومن معه بالهروب؛ فقد تعذبوا كثيرًا. ولو أني حزنت في الوقت نفسه حزنًا شديدًا؛ لأنه كان الشخص الوحيد الذي يعرف لغتي الأصلية التي كنت أحن إلى التحدث بها أحيانًا معه.
وفي اليوم التالي استدعاني الخليفة وقابلني بوجه مكفهر قائلًا: «هو من أبناء جلدتك، وبطبيعة الحال أنك كنت تعرف جيدًا عزمه على الهروب، فلماذا لم تبلغني حتى كنت أعمل الاحتياطات اللازمة؟» فأجبته: «عفوًا يا مولاي، كيف كان في استطاعتي أن أعلم عن هروبه شيئًا وأنا منذ قيام الحركة الأخيرة لم أنتقل من مركزي بالليل ولا بالنهار، كما تعلم يا سيدي؟» فأجابني بكل حدة: «لا شك في أن قنصلكم هو الذي دبر لهم طريقة الهروب.»
وكان من بين الخطابات التي وردت أخيرًا واحد منها جاء إلى الخليفة باللغة العربية من القنصل العام لدولة النمسا والمجر، المسيو «فون روستي»، يشكره فيه على حسن معاملته للبعثة الكاثوليكية، ويطلب إليه أن يسمح لهم بمغادرة السودان والعودة إلى أوطانهم؛ حيث إنهم من رعايا الحكومة النمساوية، وإن لجلالة الإمبراطور غاية خاصة بهم، ومنذ هذا اليوم أعتقد أن أعضاء هذه البعثة من أبناء جلدتي، وهو متيقن الآن بأن أمر هروبهم دُبر بمعرفة القنصل المشار إليه.
وهنا قلت للخليفة: «ربما يكون للقبائل النازلة على الحدود يد في تدبير هروبهم لغنيمة وعدوا بنيلها، فحضروا إلى أم درمان وانتهزوا فرصة الثورة التي قامت ومهدوا السبيل ﻟ «أوهروالدر» ومن معه للهروب.» وقد اقتنع الخليفة بهذا الرأي، وبعد أن طلب إليَّ أن أكون دائمًا مخلصًا أمرني بالانصراف.
وبالرغم من الوعود التي قطعها الخليفة على نفسه للإشراف بألَّا يعكر صفو الود والاتفاق الذي تم بين الفريقين بلا مبرر، ألقى القبض على ثلاثة عشر من زعمائهم، بينهم أعمام المهدي نفسه، وأرسلهم بمركب إلى فاشودة؛ حيث يوجد زكي طومال الأمير المحلف الأمين للخليفة، والذي كان قد ذهب هناك لإخماد ثورة «الشلك».
ولما وصلوا إلى فاشودة وضعهم زكي في زريبة وتركهم بدون طعام إلا القدر اليسير ثمانية أيام. ولما جاءته التعليمات السرية لإعدامهم ضربًا بعصيٍّ تقطع من أشجار الشوك، نفذ ذلك بحضور رجال جيشه بعد أن عراهم من ملابسهم.
بعد ذلك عاد زكي طومال إلى أم درمان ومعه غنائم كثيرة؛ إذ أحضر معه آلافًا من الرقيق من النساء وقطعانًا من الماشية باعها بمبالغ عظيمة حصل عليها بالفعل. وقد شكا كثير من الناس زكي إلى الخليفة من شدة ظلمه وطغيانه. وكان بعض الناس يقولون للخليفة إذا اكتسب قلوب عدد كبير من أتباعه يمكن أن يستقل ويشق عصا الطاعة.
غير أن ما قدمه زكي إليه ولأخيه من الهدايا الثمينة من رقيق ومال وماشية، حفظ له مركزه عندهما.
ولما كان زكي طومال بأم درمان، قام الخليفة بعدة مناورات عسكرية تولى قيادتها بنفسه. غير أن جهله بالحركات العسكرية وعدم النظام السائد بين الثلاثين ألف عسكريٍّ، جعل هذه المناورات تفشل فشلًا تامًّا، ولكن اللوم وقع على رأسي؛ حيث كنت قائمًا بوظيفة أركان حرب، ولما رأى ما وقع فيه من الارتباك قرر بأن هذا العمل كان مقصودًا مني؛ لأني عدلت في تنفيذ أوامره. وأخيرًا صرف الجنود وبعث بزكي طومال إلى القلابات، وطلب إليَّ كعادته أن أنفذ أوامره كما هي، وأهدَى إليَّ جاريتين صغيرتين علامة الرضاء.
والآن وقد سمع الخليفة شريف بما حدث من قتل أقاربه، أعلن استياءه الشديد وسخطه على الخليفة جزاء ما ارتكب، وبذلك تمكن الخليفة عبد الله من إيجاد سبيل إلى محاكمته، فسرعان ما اتهمه بأنه خارج على القانون غير مطيع للأوامر، وكوَّن المحكمة لتحاكمه بتهمة عدم الطاعة.
وبالفعل قرر القضاة إدانة الخليفة شريف وأصدروا الأوامر بالقبض عليه.
وفي اليوم التالي ذهب الضباط لتنفيذ هذا الأمر في منزله الواقع بين منزل عبد الله وقبة المهدي، وهناك أبلغوه الأمر ونصحوا إليه بأن يطيع أوامرهم ولا يظهر أي مقاومة. وفي الحال أصبح تحت تصرف الضباط الذين كان يرأسهم عرابي ضيف الله، ولما طلب إليهم أن يسمحوا له بلبس حذائه رفضوا، ثم ساقوه بكل عنف وشدة، لدرجة أنه وقع على الأرض مرتين، ثم وصلوا إلى السجن، وهناك وضعوا فيه القيود الحديدية، ومنعوا أيًّا كان من الاتصال به، وجعلوا الأرض العارية مقعدًا له والسماء غطاء.
وقد أرسلوا أبناء المهدي إلى جدهم «أحمد شوقي»، وأمروه بأن يبقيهم عنده محبوسين لا يتصل بهم أحد — وقد كان جدهم يطيع الخليفة طاعة عمياء؛ خوفًا على ثروة طائلة اقتناها من أن يصادروها منه — فنفذ الأوامر الصادرة إليه كما صدرت.
وقد مرت بي بعد ذلك ساعات دقيقة للغاية؛ فقد أرسل يونس رجلًا من دنقلة إلى الخليفة ومعه معلومات مهمة من الحكومة المصرية، وقد قابله الخليفة بنفسه بحضور جميع القضاة، وقد داخلني الشك في أن ما يدور عليه الحديث هو بخصوصي، وقد حاولت استطلاع حقيقة الأمر من أحد القضاة — وكان صديقي — إلا أنه أجابني بألا أجعل للأمر أهمية عظمى. وبعد الصلاة اجتمع القضاة والرسول بالخليفة مرة ثانية، ولم تمض غير برهة حتى رأينا الرسول قد كبلت يداه بالحديد وأرسل إلى السجن، ولقد اندهشنا عندما رأينا ذلك المنظر.
وفي اليوم التالي لما ذهبت إلى منزلي لبرهة قصيرة طلبني الخليفة إلى حضرته، فتوجهت حيث كان مجتمعًا ببعض القضاة. وبناء على أمره أخذت مكاني بينهم، ثم ابتدأ يقول وقد وجه نظره إلى قضاته: «ولطالما نصحته بأن يكون مخلصًا لي، وإني دائمًا أعامله معاملة الأب لابنه، وما كنت أصدق ما يصل إليَّ من الوشايات بخصوصه، ولطالما عفوت عنه.» أخذ يقول كل ذلك عني لقضاته، ثم التفت إليَّ قائلًا: «إن المثل العربي يقول «لا يوجد الدخان إذا لم توجد النار»، وأنت يحوم حولك دخان كثير. وقد قال الرسول أمس إنك جاسوس الحكومة، وإن مرتبك يدفع شهريًّا إلى مندوبك في القاهرة؛ حيث يرسله إليك هنا، وهو يوقن بأنه رأى توقيعك في ديوان الحكومة هناك، وأنت الذي مهدت إلى يوسف القسيس الهروب. وقد قال أيضًا إنك تعمل لتسهيل الاستيلاء على أم درمان بواسطة الإنجليز، وإنك ستشعل النار في مخزن البارود الموجود بقرب منزلك حينما يبدءون بالزحف، فماذا تقول دفاعًا عن نفسك؟»
فأجبته: «مولاي! إن الله لا يظلم أحدًا، وأنت رجل الحق والعدل، وإني أقول بأني لم أكن قط جاسوسًا ولا صلة لي بالمرة مع الحكومة المصرية، وإني لم أستلم قط نقودًا هنا، وإن ضباطك لعلى يقين من أنني في أشد حالات البؤس والشقاء، وإن احترامي الشديد لشخصك هو الذي يمنعني من أن أطلب إليك مساعدتي. وبما أنه روَى لمولاي بأنه اطلع على إمضائي هناك، فإني أتهمه بالكذب، وأنا موقن بأنه لا يعرف لغة أجنبية. وإذا أردت يا سيدي أن أكتب على قطعة ورق عدة إمضاءات ثم نعرضها عليه ليستخلص منها إمضائي التي يقول عليها بأنه رآها هناك بالقاهرة لفعلت، وهنا يتضح لك جليًّا إن كان حقيقة يعرف اللغات الأجنبية أو لا يعرفها. وأنت تعرف يا مولاي أن يوسف القسيس هرب في وقتٍ ما كان في استطاعتي الاتصال به، ولو كان لي اتصال بهؤلاء الذين يمهدون الهرب فلم لا أمهده لنفسي؟ ومن السهل جدًّا على الإنجليز أن يعلموا أن منزلي بجوار مخزن البارود؛ لأن الرجل الذي جاءني بالخطابات التي بعث بها إلى إخواني رأى منزلي، فلربما يكون هو الذي حدثهم بذلك.
ومن الجائز أن أقاربي الذين قطعت كل صلاتي بهم، بناء على أمر مولاي، يسألون عني وعن مرتبي في دواوين الحكومة المصرية، ظنًّا منهم أن السودان لا يزال جزءًا من مصر، أو يسألون التجار الذين يفدون منه إلى القطر المصري، وبطبيعة الحال يعلم هؤلاء التجار جيدًا موضع منزلي بالنسبة لمخزن البارود. وإني لموقن بأن الحكومة المصرية لا تفكر مطلقًا في الكر عليك وأنت هذا الخليفة القوي البطش. وإذا سلمنا جدلًا بأن الحكومة تفكر في هذا الغزو، فمن أين جاءني التأكيد بأنني سأبقى في مركزي وأتمكن من تنفيذ الخطة التي يقول عنها؟ هذا فضلًا عن أني، كما تعلم مولاي، كنت الخادم ولا زلت الأمين المخلص، وإني أتمنى بأن أكون دائمًا في طليعة جيوشك الغازية لنصرتك على أعدائك.
إني يا سيدي بعد كل هذا الإيضاح الذي أوضحته لا أعتمد إلا على أنك لا تظلم أحدًا.»
ثم قلت: «وهل يحق لك أن تضحي بمخلص أمين لك من أجل وشاية «دنقلاوي»؟» فبادرني بقوله: «من أين علمت بأنه «دنقلاوي»؟» فقلت له: «منذ مدة رأيت هذا الرجل ببابك مع عبد الرحمن واد النجومي الشاهد، ونظرًا لسخافته وإلحاحه طردته بالقوة، فهو يريد لنفسه الآن الانتقام، فأنت يا مولاي — وقد منحك الله العدل والإنصاف — ستحكم لي بطبيعة الحال بالبراءة.»
فقال لي: «ما طلبتك هنا للمحاكمة ولا شككت لحظة في إخلاصك، ولو كان الأمر فيه شيء يشينك ما كنت أمرت بسجنه، وإني لعلى يقين من أن أعداءك كثيرون، وهم يحاولون دائمًا الإيقاع بك؛ لأنهم يغارون من وجودك بقربي، ولكن يجب عليك أن تحاذر، واعتقد دائمًا أبدًا في المثل القائل: «لا يوجد الدخان إلا حيث توجد النار».»
وبعد ذلك أمرني بالانصراف ومن ثم انصرف الجميع.
ولقد سألت أحد أصدقائي عما قاله الخليفة بعد خروجي، فأخبرني بأن الخليفة اعتبر الرجل كذابًا، ولكن لا يخلو الحال من أن يكون في دعواه بعض أشياء حقيقية. وقد قال لي أيضًا: «لا بد أن يكون لك أعداء بالقاهرة، وهذا الرأي سبق أن طرأ لي.»
ولكن ما الحيلة وما العمل وأنا أرى أن خصومي يوقعون بي كل يوم ويجعلون مركزي من أحرج المراكز؟ فصرت أفكر دائمًا في هذه المواقف، وصرت أفكر أيضًا في علاقاتي مع الخليفة، وكيف أنها ستتأثر بهذه الوشايات بطبيعة الحال.
وإن ضيقتي من أنه أصبح بعد كل هذا يتحين لي فرصة للانتقام؛ لأني على ما أعتقد أصبحت في نظره العدو اللدود في ثوب الصديق الحميم، ولكن على كل حال أحمد الله، ومن يعش يرَ.
وقد قابلت في اليوم التالي وأنا عائد إلى المنزل بعد تأدية الصلاة «القرباوي»، وهو الذي خلف «عدلان» في بيت المال، فحادثني بكل لطف قائلًا لي — بعد أن قلت له إنك تزورنا نادرًا: «لقد جئت لأقلقك بطلبي إليك بأن تخلي منزلك اليوم، وسأعطيك بدله في جنوب شرقي المسجد؛ حيث يستقبل زوار الخليفة. وهو ولو أنه يقل عن مساحة منزلك إلا أنه بقرب المسجد ويصلح لرجل عابد مثلك.»
فقلت له: «إني أوافق على ذلك بكل سرور، ولكن أرجوك أن تقول لي بصفة خاصة من الذي أرسلك، الخليفة أم يعقوب؟» فأجابني وهو يضحك قائلًا: «آه، هذا سرٌّ، ولكن من حديثك أمس مع الخليفة يمكنك أن تعلم حقيقة السبب؛ وهو أن مولانا الخليفة يريد أن يجعلك في مكان قريب منه حتى تكون تحت رقابته مباشرة؛ حيث ستكون على بعد ٢٠٠ خطوة منه.»
ثم قال لي: «إذن متى أحضر لاستلام منزلك؟» فقلت له: «سأنتهي من النقل في مساء هذا اليوم، ولربما كان نقل مئونة حصاني وبغلي هي التي تستغرق مني وقتًا أطول. وهل المنزل الذي سأذهب إليه غير مسكون؟» فأجابني: «نعم بطبيعة الحال، وقد أصدرت الأوامر بأن ينظف وتعمل الإصلاحات اللازمة له، ولكن يحسن بك أن تبتدئ في مغادرة هذا المنزل حالًا، وآمل أن تكون سعيدًا في منزلك الجديد أكثر مما أنت عليه من السعادة هنا.»
ولقد وضح لي الآن جليًّا أن ثقة الخليفة بي قد تزعزعت وأصبح لا يثق بي لأن أكون بجوار مخزن البارود، وعلى ذلك حزمت متاعي، وأمرت الخدم بنقله إلى المنزل الجديد، فتأثر الخدم وأخذوا يطلبون إلى المولى أن يوقع كل اللعنات على الخليفة؛ حيث نترك منزلنا الذي أصلحناه وغرسنا فيه الأشجار وحفرنا فيه الآبار. ولكني على كل حال غادرت المنزل مؤملًا فيما قاله القرباوي من أني سأكون بمنزلي الجديد أسعد حالًا مني في المنزل الذي أنا فيه.
وقد أصبحت حالي بعد ذلك مضطربة وأصبح مركزي مزعزعًا.
ولقد تقابلت اتفاقًا مع تاجر من دارفور جاب الديار المصرية والبلاد السورية، وعرف كثيرًا من أجناس البشر المختلفة، وقد عرف لأول وهلة أني نمساويُّ الأصل، وأخذ يحدثني — وعلم بأني أسير من مدة طويلة ولا صلة لي بأي مخلوق — عن الأحوال في القطر المصري، وأعطاني بعض الجرائد المصرية القديمة، وتحتوي إحدى تلك الصحف على أخبار من النمسا. ولما توجهت إلى المنزل وابتدأت أقلب صفحاتها، علمت أول ما علمت أن وليَّ عهدنا الأمير رودلف قد توفي، ولا يمكنك أيها القارئ أن تتصور مقدار الحزن الذي حل بي؛ فقد خدمت معه في الجيش. وقد كان بودي أن أرجع إلى وطني وأبلغه، بعد طول الأسر، أن أشرف ساعات قضيتها في حياتي هي تلك الساعات التي كنت فيها تحت إمرته، وأعظم شرف لي أن أنتمي إلى الفرقة الإمبراطورية. ولقد فكرت طويلًا فيما عساه أن يكون قد أصاب إمبراطورنا العظيم بفقد ولده.
قد حلت بي الأحزان في هذا الوسط المزعج الذي أنا موجود بينه، وقد كان زملائي وهم لا يدرون أسباب حزني يطلبون أن لا أظهر أسفي بالنسبة لتَركي منزلي الأول؛ حيث إن الخليفة أصدر أمره إلى جواسيسه بأن يراقبوني جيدًا، فابتدأت أظهر عدم اهتمامي بأي شيء مطلقًا.
وقبل ذلك بمدة وجيزة كان المصريون قد استولوا على طوكر، وهم لا محالة زاحفون، ومن أجل ذلك استدعى الخليفة «أبو حرجة» وولَّى بدله قيادة الجيوش واحدًا من أقاربه اسمه «مسعود»، وقد أرسل أبو «حرجة» بباخرتين إلى الأقاليم الاستوائية ليلحق بعمر صالح، الذي كان قد ذهب إلى الرجاف ليقيم هناك مركزًا لجيوش الدراويش لصد حملة «ستانلي» و«أمين باشا».
وبعد مضي أيام قليلة لسفر هذه البواخر، مرض الخليفة بالحمى التيفوسية، وكان عموم سكان أم درمان يستطلعون أخبار هذا المرض أولًا فأولًا.
وأصبح جميع سكان أم درمان يرقبون أخبار مرض الخليفة بفارغ الصبر، وكانوا يتوقعون أن موت الخليفة يغير نظام كل شيء. وبطبيعة الحال إذا مات سيخلفه الخليفة «علي واد الحلو» حسب ما تقتضيه القوانين المهدية، وكان هذا يترقب وفاته بكل سرور، وقد أظهر أتباعه الرغبة الشديدة في الاستيلاء على الحكم.
بعد ذلك ابتدأت حالته الصحية تتحسن، وقد خيل إليَّ أن الله — سبحانه وتعالى — لم يهيئ بعدُ لهؤلاء القوم النجاة فيقضي على حياة هذا الطاغية.
خرج الخليفة بعد ثلاثة أسابيع من مرضه لأول مرة، فقابله رجال قبيلته بالتجلة والتعظيم والغبطة والسرور، بينما أظهر له بقية السكان سرورًا مصطنعًا؛ وعلى ذلك لم يعرف شعور الناس نحوه حق المعرفة.
وحيث كان يقطن بين النهرين في الجزيرة قبائل «الجالان» و«الدناجالا»، وغيرهما من الأعراب الذين يعرف الخليفة عنهم أنهم ألد أعدائه، فكان دائمًا يراقبهم عن كثب ويدعهم عزلًا من السلاح مصادرًا كل ممتلكاتهم، وكان ينتخب من بينهم آنًا بعد آخر عددًا يرسله لتعزيز حامية دارفور والقلابات والرجاف.
وكان يعتقد دائمًا أن الخليفة علي وأتباعه يحقدون عليه، ولو أنهم كانوا يظهرون له غير ما يخفون إلا أنه ما كان يتوقع قط أن يعلنوا العداء كما أعلنه من قبل الأشراف.
والآن وقد أصبحت أقطن على بعد خطوات منه، أخذ يسأل عني كثيرًا زملائي ويطلب إليهم إبلاغه هل أنا مسرور من مكاني الجديد أو لا، وكان يترقب بفارغ الصبر وقوع هفوة مني، ولكن من حسن الحظ كان الملازمون يعطفون عليَّ وبيني وبينهم صداقة، وكانوا يسرون لي بين آن وآخر أن الخليفة أصبح شديد الحقد عليَّ، ويجب أن أكون شديد الحذر.
وفي ذات يوم من شهر ديسمبر سنة ١٨٩٢ لما حصلت على إجازة قصيرة لأستريح فيها من عناء العمل، طلبني أحد الملازمين إلى الخليفة، وبعد أن ذهبت وجدته ينتظرني في حجرة الاستقبال محاطًا بقضاته، ولقد صدقت ما قيل لي من أول وهلة؛ حيث لم يرد تحيتي وأمرني بأن آخذ مكاني بين قضاته.
وقال لي بكل حدة: «خذ هذا الشيء وانظر إلى ما يحتويه.» فقمت واستلمت الشيء المشار إليه ثم جلست، فإذا به قطعة مستديرة من النحاس على شكل علبة صغيرة قطرها يقرب من أربعة سنتيمترات مغلفة بقطعة من المعدن متينة كقبضة «المسدس»، فحاولت فتح هذا الشيء، وبعد أن تمكنت وجدته يحتوي على قطعتين من الورق.
وبطبيعة الحال كنت في هذه اللحظة في أشد حالات الاستغراب، وقلت في نفسي لعله خطاب من أهلي أو من الحكومة المصرية استحضره الرسول.
هذا العصفور نشأ وتربى بضيعتي في «اسكانيا» في مقاطعة «فوريدا» بجنوب الروسيا، فمن يمسكه أو يقتله فالمرجو منه أن يكتب لي ويخبرني عن مكانه.
فرفعت رأسي بعد تلاوة هذا الخطاب فقال الخليفة: «ما هو المدون بهذه الأوراق؟» فأجبته قائلًا: «يا سيدي لا بد وأن تكون هذه القطعة كانت معلقة في رقبة عصفور قتل، وأن صاحبه الذي يسكن في أوروبا يطلب إلى من يقتله أو يمسكه أن يكتب إليه ويخبره عن المكان الذي مسك فيه أو قتل.»
فقال لي: «لقد قلت صدقًا فحقيقةً قُتل هذا العصفور بالقرب من دنقلة، ووجدت هذه القطعة برقبته، وقد أخذه من قتله إلى الأمير يونس الذي عجز كاتبه الخاص عن تفسير ما هو مدون به، وبعد ذلك بعثوا به إليَّ فخبرني بترجمة ما هو مكتوب فيه.»
فترجمت الجملة كلمة كلمة كما أراد الخليفة، وبينت له موضع البقعة التي جاء منها هذا العصفور، وكذلك المسافة التي قطعها. فقال الخليفة: «هذه خرافات يضيع بها الذين لا عقيدة لهم أوقاتهم؛ فبَعيد على محمدي أن يجهد نفسه في خرافات كهذه.»
بعد ذلك أمرني بأن أسلم العلبة إلى سكرتيره وأمرني بالانصراف. غير أني تصفحت الورقة مرة ثانية بكل سرعة وعلقت منها كلمات «اسكانيا – نوفا – فوريدا بجنوب الروسيا»، وأخذت أكرر تلك الكلمات حتى علقت بذاكرتي.
وقد كان الملازمون في انتظاري خارج الباب وهم في غاية الشوق إلى سماع أخباري، ولما رأوني خارجًا وعلى وجهي علامات السرور فرحوا لفرحي.
وقد صرت أكرر وأنا في طريقي إلى منزلي تلك الكلمات، ونذرت إذا منحني الله — سبحانه وتعالى — حريتي فلا بد من أن أذهب إلى هذا الرجل وأبلغه ما طلب وماذا حدث للعصفور. والآن عاد محمود أحمد — وهو الذي حل محل عثمان واد آدم لما توفي — إلى أم درمان بجيوشه البالغة خمسة آلاف بدويٍّ، ولم يترك بها غير ما يكفي لحفظ النظام، وعسكر بهذه الجيوش عند عين يونس في جنوبي المدينة.
وقد أمر الخليفة باستعراض جميع الجيوش النازلة في أم درمان، وبطبيعة الحال ستكون نتيجة هذا الاستعراض كنتيجة سابقة، وقد كنت أركان الحرب، وكل هفوة تقع عليَّ مسئوليتها.
بعد ذلك أمر محمود أحمد بالعودة إلى الفاشر بعد أن جدد عساكره يمين الإخلاص للخليفة. وقد وجه الخليفة نظره الآن إلى الجهات الاستوائية، فبعث بباخرتين أخريين بهما ٣٠٠ رجل تحت إمرة قريبه عرابي ضيف الله، أرسلهما إلى الرجاف، ولدى عرابي الأوامر بالقبض على «أبو حرجة» وأن يكبله بالحديد، وقد ظهر جليًّا أن هذا الأخير لم يرسل إلى الرجاف إلا خدعة.
وجاء بعد ذلك دور زكي طومال، فحقد عليه يعقوب فأمروه أن يعود حالًا إلى أم درمان؛ حيث زجوه في السجن ووضعوا على جسمه أكبر كمية ممكنة من الحديد تعذيبًا له، بعد ذلك وضعوه في مغارة وقطعوا صلاته بكل الناس، ولم يسمحوا له حتى بالخبز الضروري لغذائه، فمات بعد ٢٠ يومًا جوعًا وعطشًا.
وقد حل الآن بدله في قيادة الجيوش أحمد واد علي، فأصدر له الخليفة الأوامر بغزو القبائل النازلة بين كسلا والبحر الأحمر، وكانت خاضعة للإيطاليين، ولكنه تلقى أوامر بألا يغزو جيوشًا محصنة في حصون. ولما توجه على رأس جيشه في نوفمبر سنة ١٨٩٣ من الفضارف، لحق بالقوة المعسكرة في كسلا، وهناك توجه إلى «أجردات»، فواجه القوات الطليانية، وكانت قليلة العدد إلا أنها متحصنة، وبالرغم مما أمره به الخليفة هاجمها لقلتها في نظره، فهُزم شر هزيمة وقُتل هو نفسه وقتل قائدان من قواده.
وفي أثناء هذه اللحظات الدقيقة إذا بباخرتين تفدان من الرجاف تحملان كميات هائلة من العاج وآلافًا من الأسرى، وبعد ذلك بقليل وصلت أخبار غير سارة من دارفور، وقد روى محمود أحمد أن المسيحيين دخلوا مناطق بحر الغزال، وقد اتحدوا مع القبائل النازلة في هذه الجهات وقد وصلوا بالفعل إلى حضرة النحاس. وقد وقعت تلك الأخبار على الخليفة كالصاعقة.
ولما كانت مصر تحكم السودان، جنَّد المصريون من أهالي إقليم بحر الغزال الكثيرَ؛ منهم من قبل برغبته، ومنهم من أجبر على الدخول في سلك العسكرية. ولما كانت مناطق بحر الغزال أعلى بكثير من غيرها من مناطق السودان ومزروعاتها كثيرة وماؤها وفير، ولما كانت القبائل الساكنة في تلك الجهة متفرقة الكلمة؛ سهل كل ذلك على أي أجنبيٍّ يريد الاستيلاء عليها، وهذا هو ما قد حصل. وكان في نظر الخليفة أن من يستولي على هذه المناطق فقد استولى على مفتاح السودان بأجمعه، ومما زاد الطين بلة أن العبيد يكرهون العرب كراهة لا مزيد عليها.
وقد أمر الخليفة في الحال محمود أحمد بأن يجند من جنوبي دارفور، ويزحف جنوبًا إلى بحر الغزال ليكسح الأجانب الذين دخلوا هذا الإقليم.
وقد استدعاني الخليفة ذات يوم وسلمني بعض أوراق مكتوبة بالفرنسية وطلب إليَّ ترجمتها، وهي تحتوي خطابين من اللفتنانت دي كنيل إلى مساعديه، يشملان أوامر أصدرها إليهم. وسلمني أيضًا نص معاهدة موقع عليها من مندوب حكومة الكنغو الحرة والسلطان حامد واد موسى، تاريخها ٤ أغسطس سنة ١٨٩٤، والشاهدان فيها «سلطان ريميو» و«سلطان تيجا»، وهما موقعان بالإفرنجية. فترجمت هذه الأوراق بكل سرعة شفويًّا للخليفة. ولقد أراد أن يظهر لي عدم اكتراثه فقال: «لم أطلب إليك ترجمة هذه الأوراق لا لأن في الأمر شيئًا خطيرًا، كلا فقد أصدرت أمري إلى محمود أحمد ليطرد هؤلاء النصارى الذين اخترقوا الحدود، ولكن هناك أمر يهمني أن أصرح لك به، وهو؛ بما أننا نعتبرك كواحد من عائلتنا، فإني أود أن أشعرك بحقيقة هذا الحال، وعلى ذلك قررت أن أزوجك واحدة من بنات أعمامي. فماذا ترى؟»
وبطبيعة الحال لم تدهشني هذه المنحة؛ فقد عودني الخليفة أمثالها من قبل، وتيقنت من حقيقة ما يقصده، فهو يريد أن يبعث لي بمن تكون رقيبة على أحوالي بمنزلي، هو يريد أن يعلم حقيقة أسراري، يريد أن يعرف إذا كانت هناك صلات بيني وبين أي مخلوق آخر، فقلت له: «يا مولاي إنني أدعو لك بالنصر على كل أعدائك، إن هذا الذي تريد أن توليني إياه باقتراني بابنة عمك شرف عظيم، وإني أقول لك يا مولاي إن ابنة عمك هذه لم تكن من بيت الملك فقط، بل هي من سلالة النبي — عليه أفضل الصلاة والسلام — وعلى ذلك يجب أن تكون موضع كل عناية، ومشمولة بكل رعاية؛ ولما كان من سوء الحظ أني مصاب بداء الحماقة، والحماقة أعيت من يداويها، وقد لا يمكنني أن أحكم عواطفي عند حدوث أي حادث، ولا تخفى نتيجة هذا بين الزوج وزوجته، وقد يؤدي هذا إلى نفور قد يحصل — لا سمح الله — بيني وبين مولاي؛ فأرجو معذرتي إذا رجوت سيدي أن يترك هذا الرأي.»
فقال لي: الآن وقد عشت بين ظهرانينا عشرة أعوام خبرناك فيها وعرفنا خصالك وعاداتك، فلم أسمع عنك إلا كل طيب، وكل ما يخيل لي من أمرك هذا أنك لا تود تغيير العادة التي ورثتها من قبيلتك الأصلية بأنك لا تريد إلا زوجة واحدة (والخليفة يقصد من كلامه هذا أنه باعتباري مسيحيًّا فلا أتزوج إلا واحدة؛ ولذلك أرفض أن أتزوج بابنة عمه). فقلت له: «لا يا مولاي، فإني لا أتبع عادة بلادي مطلقًا، وإن كنت أتبعها فلماذا تزوجت بثلاث نساء قبل الآن.» فأجابني: «فهمت على كل حال، فأنت ترفض زواج ابنة عمي!» فقلت له: «كلا يا سيدي، فأنا لا أرفض ولكني أريد قبل الإقدام على أي شيء أن أوضح لك حقيقة أخلاقي، وبذلك أضمن العواقب. وبطبيعة الحال إنه لمما يشرفني الانتساب إلى قبيلتكم، إلا أني أود قبل كل شيء أن يكون مولاي على علم تامٍّ.» والآن وقد تيقن من أن محاولاتي هذه كلها علامة الرفض، أمرني بالانصراف.
وقد وضعت نفسي بعدم القبول هذا في مركز حرج للغاية، وهذا مما جعلني أزيد في جهدي لتدبير أمر الهروب.
وقبل هذه الحادثة ببضعة أشهر، كنت قد كلفت تاجرًا سودانيًّا بالذهاب إلى القاهرة ومقابلة القنصل النمساوي ليطلب إليه أن يعمل غاية جهده على تمكيني من الهروب، ولكن متى تتحقق هذه الآمال؟!