ملاحظات متنوعة
سأحدث القراء الآن عن شخص الخليفة وعاداته وأخلاقه فأقول: هو السيد عبد الله ابن السيد محمد، ينتمي إلى قبيلة التعايشة من أولاد أم سار من أسرة الجبارات، وقد اتصل بالمهدي وهو في الخامسة والثلاثين من عمره، وكان في ذلك الوقت قوي البنية إلا أن الشواغل قد أنهكت قواه الآن، فأصبحت تراه كهلًا اشتعل رأسه شيبًا، ولو أنه لم يتجاوز ٤٩ عامًا، أصبح سريع الانفعال، ولما تنتابُه تلك الحال يصبح من غير المتيسر على أعز عزيز لديه الدنو منه ومحادثته، حتى ولا أحد إخوته.
وكان يعتقد دائمًا أن الصدق والأمانة لا وجود لهما مطلقًا عند أي مخلوق، وكل ما يظهره الإنسان من ملق ومداهنة إنما هو لقضاء الحاجات والمآرب دون سواها.
وكان بطبعه محبًّا للملق والمداهنة؛ لذلك كنت ترى القوم يكيلون له الملق جزافًا، حتى إن أحدهم لا يجسر أن يذكر اسمه دون أن يقرنه بصفات الحكم والقوة والعدل والشجاعة والكرم والصدق، وكان من جهته يقابل ذلك الرياء بسرور وارتياح تامٍّ، ويا شقاءَ مَن كان يمس كرامته!
ولكي يكون لدى القارئ فكرة عامة عن طباع هذا الرجل، أسرد الحكاية الآتية:
كان من بين قضاته قاضٍ اسمه «إسماعيل عبد القادر»، تعلم جيدًا في القاهرة ونال حظوة كبرى عند المهدي؛ لأنه كتب تاريخًا قيمًا عنه يشمل جميع انتصاراته وتاريخ حياته. ولما مات المهدي أمر الخليفة، إسماعيل هذا، أن يتمم عمله ويكتب عن الانتصارات ويكيل ألفاظ الملق والمداهنة للخليفة. فقال إسماعيل عبد القادر ضمن أقواله مقارنًا الحالة في السودان بها في مصر، فشبه الخليفة بالخديو إسماعيل باشا المفتش. ولما وصل هذا القول إلى مسامع الخليفة، أمر القضاة في الحال ليجتمعوا لمحاكمة إسماعيل على هذا القول، الذي اعتبره الخليفة ذمًّا في شخصه، وقال: «كيف والمهدي خليفة النبي وأنا خليفته يشبهني هذا الرجل بالخديو الذي هو من أصل تركيٍّ؟ كيف أشبَّه بهذا الرجل وأنا خليفة المهدي، والمهدي خليفة النبي الذي هو أعظم مخلوق على ظهر الأرض؟» وطلب إلى القضاة أن يحاكموه، فقضوا بإدانته وكبل بالأغلال وأرسل إلى الرجاف. وقال الخليفة: «ما الذي دعاه إلى التشبيه بين مصر والسودان، فإذا كان يود أن يشبه نفسه بباشا مصريٍّ، فأنا خليفة النبي لا أقبل على نفسي مطلقًا أن أشبه بتركيٍّ.»
ولم يقف به غروره عند هذا الحد، بل أصدر أوامره في الحال بأن تجمع كل نسخ مؤلف هذا القاضي وتحرق، وبالفعل تم ذلك إلا نسخة واحدة — كما بلغني — احتفظ بها سكرتير الخليفة، ولو وجدت هذه النسخة الآن وترجمت إلى اللغات الإفرنجية لظهر الشيء الكثير مما كانت عليه الحركة المهدية منذ نشأتها.
وكان هذا الخليفة مغرورًا جدًّا بقوة جيوشه، معتقدًا أنه في وسعه أن يعمل كل شيء ويغزو أي بلاد. وكانت أخلاقه خليطًا من اللين والشدة، وما كان يسير إلا إذا أحدث آلامًا لآخرين؛ كمصادرته أموالهم أو تعذيبهم. وكانت تلك خصاله حتى أيام حياة المهدي نفسه؛ فعبد الله نفسه هو الذي سبب مذبحة الخرطوم التي قتل فيها النساء والأطفال بلا شفقة ولا رحمة.
ولما أرسل عثمان واد آدم إلى أم درمان أختَي سلطان دارفور؛ البرنسيسة مريم عيسى وبخيتة، منحهما الخليفة حريتهما، ولكنه حجز غيرهما من أقاربهما النساء، وأخذ لنفسه كثيرًا منهن، وأعطى توابعه أخريات. ولما علم بأن هناك من أهل دارفور من يقطن أم درمان ويريد مساعدة البرنسيستين، قبض عليهما وأعطاهما لاثنين من أمرائه، هما حبيب وخليل، وكانا على أهبة السفر إلى الرجاف، وقد حاولت أم بخيتة وهي ضريرة أن تتبع ابنتها فرفض طلبها، ومنعت بأمر الخليفة بالقوة من متابعة بنتها، حتى إنها ماتت بعد أيام قليلة وقلبها يتحرق على ابنتها. ورمت بخيتة بنفسها في النهر والباخرة لم تقلع من مكانها، ولما نجوها من مخالب الموت ماتت من التعب والبؤس بعد قليل.
وكان أحمد غراب مصري الجنسية مولودًا بالخرطوم، ولكنه قبل حملة هكس باشا سافر في تجارة تاركًا وراءه زوجته وهي سودانية وبنته، وقد عاد ليراهما إلا أنه في يوم عودته وقبل أن يرى أسرته، أُحضر أمام الخليفة فأوضح الأسباب التي حملته على الرجوع، مظهرًا رغبته في الدخول في خدمة الخليفة، فقال له: «إني أقبل ذلك بكل سرور، فلتذهب في الحال إلى الرجاف.» وجاهد في سبيل الله، وعبثًا حاول هذا المسكين أن يقنع الخليفة في أن يستأذنه السماح له برؤية أولاده، فأمر الخليفة حرسه في الحال بأن يأخذوه إلى المركب المسافر على أن يراقبوه جيدًا.
والخليفة عبد الله هذا هو الذي سبب هلاك آلاف الناس، وهو الذي كان يعذب الآدميين بأن يقطع أيديهم وأرجلهم تعذيبًا. ولم ننس له حادثة قتله وشنقه أفراد قبيلة «البتاهين» في ساحة السوق، ولقد ذكرت كثيرًا أن أصدقاءه كانوا أشد خوفًا من أعدائه على حياتهم منه، وهل هناك دليل يثبت فظاعة هذا الرجل أقوى من حادثة سفكه دماء الأشراف بعد أن اتفق معهم وعقد التحالف المعروف؟
وكان كل من يدخل عنده يقف مكتوف اليدين مسبلًا عينيه إلى الأرض ينتظر أمره بالجلوس. وكان هو يجلس دائمًا على عنجريب مفروش بحصير عليه فرو، فإذا أمر أحدًا بالجلوس فإنما يكون جلوسه على الأرض مقعيًا كما يقعي عند الصلاة، لا يتحرك حتى يؤذن له بالانصراف. وكان لا يسمح لأي مخلوق بأن يشخص ببصره نحوه. وقد حدث مرة أن سوريًّا اسمه محمد سعيد، جمعه سوء الحظ — وهو بعين واحدة لا يرى بالأخرى — بالخليفة في المسجد، فلاحظ الخليفة أن عين هذا السوري ترمقه، فدعاني وأمرني بأن أبلغه أن الخليفة لا يحب أن يراه مرة أخرى يرمق إليه.
وكانت حالته في منزله على عكس ما هو عليه من طباع؛ إذ كان لين العريكة يطيع أمر ابنه، حتى إنه في ذات يوم لما قال الولد لأبيه إنه أتم دروسه، سرعان ما أمر المعلمين بالانصراف. وقد زوج ابنه عثمان هذا بابنة عمه بنت يعقوب ولم يتجاوز من العمر سبعة عشر عامًا، وأقام له أفراحًا لم يسبق لها مثيل؛ فقد مدت موائد الطعام ثمانية أيام حتى تمكن كل فرد من سكان أم درمان من أن يأكل، كما أنه زين المنزل المبني بالطوب الأحمر والموجود تجاه بيت يعقوب بأفخر الرياش لكي يكون محل سكن ولده.
وبعد ذلك بقليل زوج ابنه هذا باثنتين من أقاربه، وقدم له جواري اختارهن هو بنفسه لابنه، وكان يحرم على ابنه الاتصال بالغير، كما كان يصرح دائمًا بأنه لا يسمح له أن تجمعه صلة نسب مع أي قبيلة أخرى.
ولما رأى أن لابنه علاقات مع آخرين، سرعان ما جعله يسكن في منزل داخل السور بجوار منزله ليشدد عليه الرقابة.
وقد زوج بنته لابن المهدي «محمد»، وكان محمد هذا غير راغب في هذا الزواج؛ لأنه لا يحب ابنة الخليفة مطلقًا، وكان يرغب في الزواج بقريبة له، إلا أن الخليفة عبد الله — وهو صاحب الحول والقوة وولي أمره والرقيب عليه — أرغمه على ألا يتزوج بمن يريد، فتزوج بابنة الخليفة مرغمًا وعاشا عيشة مرة.
وكان للخليفة ما يقرب من ٤٠٠ امرأة، وبحكم الشرع كان من بينهن أربع زوجات شرعيات، والباقيات كن من بنات القبائل التي أرغمت على اتباع المهدي؛ أي بمعنى آخر أسيرات. وكان كلما أحب واحدة وأراد الاقتران بها اقترانًا شرعيًّا، طلق واحدة من زوجاته الشرعيات ليستبدلها بمن يريد. وقد جمع في زوجاته بين البيض والسود، وقد قسمهن إلى أقسام، بعضها مكون من ١٥ والبعض من ٢٠، يرأس كلًّا من هذه الأقسام رئيسة، وكل قسمين أو ثلاثة أقسام منها تحت إشراف سيدة الأحرار المحظيات عند الخليفة، وكان يمنحهن حبًّا ونقودًا وهبات أخرى تمكنهن من قضاء حاجاتهن، ويعطيهن أيضًا الملابس بنسبة جمال وأخلاق ومركز كلٍّ منهن عنده، وتتكون تلك الملابس عادة من نسيج قطنيٍّ يصنع في البلاد السودانية ملون الحواشي، أو من حرير لامع وشيلان صوف مستوردة من مصر، وكان هو نفسه الذي يباشر توزيع هذه الأشياء عليهن، وفي بعض الأحيان يوزعها أغاه الخاص.
ولما كانت المجوهرات الفضية قد حرمها المهدي، كن يتزينَّ عادة بالخرز والصدف، وكن يضفرن شعورهن. إلا أنه في الأيام الأخيرة لبست زوجات العظماء حليًّا من ذهب وفضة، ولبست زوجة الخليفة الأصلية أكثر ما يتصوره إنسان من حليٍّ.
وكان يشرف على حالة نسائه الصحية نسوةٌ مخصوصات لا يتأخرن عن إخطاره بكل ما يحدث من الإصابات.
ولما كان يريد اختيار واحدة منهن ليجتمع بها، كان يستعرضهن جميعًا ويختار منهن من يشاء. وكان لا يختلط بنسائه إلا أغواته ولا يحرسهن إلا الملازمون السود، وقلما كان يسمح لواحدة منهن أن تتصل بأي كائن كان من أهلها أو أقاربها، وقد تمضي السنة دون أن ترى الواحدة أي فرد من عائلتها.
وكان اسم زوجته الأولى «سارة»، وهي من قبيلته، شاركته السراء والضراء، وهي أم أولاده عثمان وخديجة. ومع أنها أصبحت زوجة الخليفة الآن، إلا أنها كانت تحافظ على مظاهرها وعاداتها الأصلية، فكانت تعمل بنفسها أو تحت إشرافها طعامهم البسيط المكون من العصيدة وبعض الفراخ. ولما أراد الخليفة أن يترقى في معيشته واطلع على أنواع الطعام المصري وأصناف المأكولات التركية، وأراد إدخالها في مطبخه؛ تسبب عن ذلك شقاق بينه وبين زوجته، كان سيقضي حتمًا إلى فراقهما لولا تداخل يعقوب وبعض أفراد أسرته.
وكان عنده أغا رئيس يسمى «عبد القيوم»، وكان هذا هو المشرف على تمدْين بيت الخليفة، ويتناول من بيت المال المصاريف اللازمة ويتولى صرفها. كما كان تحت يديه الهدايا التي كان يقدمها الخليفة لمن يشاء، يساعده في أداء هذه المهام رهط من الكَتَبَة والمساعدين تحت إمرته، كلهم أغوات؛ حيث إن الخليفة — كما قدمت — ما كان يسمح لغير الأغوات بالدنو من منزله.
وأما لباس الخليفة فكان عبارة عن الجبة البيضاء وعلى رأسه عمامة من حرير وعلى كتفه حرام، وكان يلبس في رجليه في أول الأمر صندلًا، إلا أنه غير ذلك بعد قليل واستبدله بلبس «بلغة» صفراء. وكان دائمًا يحمل في يده اليسرى عندما يسير سيفًا وفي يده اليمنى حربة يتوكأ عليها كأنها عصا، ويتبعه في سيره ١٢ صبيًّا خدمًا خصوصيين له، جلهم من الأحباش الذين أسرهم أبو أنجة وزكي طومال، وكان واجبهم أن يكونوا دائمًا على مقربة منه ليكونوا رسله عندما يرى أي شيء. ولما يبلغُ الواحد منهم السابعة عشرة من عمره، يترك خدمة الخليفة الخصوصية ويندمج في حرس الخليفة النظامي، ويحل محله آخَر من الصبيان.
وكان الخليفة يعتقد أنه باستخدام صغار السن يكون دائمًا في مأمن من إذاعة أسراره، وبطبيعة الحال لا يخطئه واحد مطلقًا في رأيه هذا.
وأما في داخل منزله فكان بطبيعة الحال يحل الأغوات محل هؤلاء الأولاد؛ إذ — كما قدمت — ما كان يسمح لغيرهم بدخول داره.
عرضت على الخليفة منذ ثلاث سنوات فكرة من جانب مشير به الحربيين، فارتاح إليها وعزم على تنفيذها، وتتلخص هذه الفكرة في ضم أفراد من حرس الخليفة إلى صفوف الضباط في الجيش العام، ولم يكد يعلن موافقته على ذلك الرأي حتى اختار بنفسه عددًا من المجاهدين البارزين في جيش محمد أحمد وزكي طومال.
لم يقف الخليفة عند هذا، بل أصدر أمره لأمراء القبائل العربية حتى يحضروا المئات من الجنود الجدد ليدمجوهم تحت ألوية ضباطه، ولكن تلك الأوامر لم تلق الطاعة الاجتماعية من ناحية الأمراء، وفي كل خطوة من خطواته التنظيمية الأخيرة كان معنيًّا باضطهاد الدنقليين والمصريين وإخراجهم من دائرة حرسه؛ لأنه لم يكن يثق بهم ولم يَمِلْ إليهم.
جد الخليفة في سبيل ذلك الإنشاء الحربي حتى تمكن من تكوين قوة تتراوح بين أحد عشر ألفًا واثني عشر ألفًا من الجند، ونظم لذلك العددِ الكبيرِ أراضيَ تشبه القطائع، سكنها أولئك الجنود مع نسائهم، وهي على مقربة من مساكن الخليفة ودور ابنه وفي حدود السور الحربي الجديد.
وقسمت هذه القوة الجديدة إلى ثلاث كتائب، يقودها على التتابع ابنه عثمان وأخوه هارون أبو محمد — الذي لا تزيد سنه على الثامنة عشرة — وابن عمه إبراهيم خليل. أما الثالث فلم تطل مدة قيادته كتيبتَه؛ حيث حل محله رجل حربيٌّ حبشيٌّ اسمه رابح، كان في حاشية الخليفة في بيته الخاص. وإنه لمما يجب ذكره أن عثمان كان موضع احترام صفوف الجيش بقسميه الأعلى والأدنى، فلقبه الجنود بمثل الخليفة.
وتنقسم كل كتيبة إلى أجزاء منتظمة، يحتوي كل منها على مائة جنديٍّ يرأسهم ضابط ويلقب برأس المائة؛ ولذلك الضابط مساعدون مدربون.
إذا عدنا لأنواع الجنود وجدنا السود منهم مندمجين في الأقسام المتفرعة من الكتائب، وهم في ذلك ليسوا الجنس العربي الحر، ولكنهم تحت رقابة الأمراء الذين يصدرون أوامرهم المطاعة لكلٍّ من الفريقين على حدة؛ لأن السود لا يخضعون للنظم العسكرية كما يخضع العرب.
يجيء بعد ذلك ذكر مرتب كل من رأس المائة والأمير، وكل من المرتبين عالٍ بطبيعة الحال إذا قسناه إلى مرتب الجندي. هذا إلى أن كلًّا منهما — رأس المائة والأمير — يظفر بمنح متتالية من النساء والعبيد الخاضعين لنفوذ الخليفة.
إذا أنعمنا النظر في مهمة الجنود والحرس وجدناها محصورة في حماية شخص الخليفة؛ وإذن أولئك جميعًا مضطرون لمرافقته في جولاته الحربية على أن يحميه حرسه الخاص أيام استعراض الجيش العام. ومن العجب أن يسير ذلك الحرس في ركاب الخليفة إلى أي مكان سار وفي أية بقعة نزل؛ مما يدل على رغبته الشديدة في الاحتفاظ بحياته. ولما كان أمر الحرس كذلك اضطر الخليفة أن يقيم له ميدانًا خاصًّا فسيحًا أمام منزله ليكون لاصقًا به مدى حياته.
يذكر القراء أننا أشرنا في السطور السالفة إلى كراهية الخليفة للمصريين واتساع دائرة الكراهية إلى حد أنه يمقت سماع أنغامهم، ومع ذلك كان يستصحب في رحلاته أفرادًا ليسمعوه الأنغام المصرية وغير المصرية، إلا أنه لم يقلع عن فكرة الكراهية، فبدلًا من سير اثنين من المصريين للنفخ في البوق وتوقيع النغم، كان يرافقه اثنان من السود، وكان الخليفة يلقب رأس المائة بكلمة «قبطان»، ولقب الأمير عنده «بكباشي»، أما القائد «أميرالاي».
لا ينسى المتكلم عن الخليفة أن يقول إن عبد الله كان في أكثر الأحايين يفتش ويراقب جنوده ليلًا؛ حتى يثق من بقاء كل رجل من رجاله الحربيين في المكان الذي عينه له. وقد كان أكبر همِّ الخليفة موجهًا إلى مركز طليعة الجيش. وإزاء هذا التدقيق الشديد وتلك اليد القاسية، كان رءوس المائة والأمراء يدَّعون المرض في كثير من الليالي، فيذهبون سرًّا إلى بيوتهم وفي نفوسهم غصص وآلام، فيفرجون عنها بإظهار استيائهم لذويهم.
تشتمل أعمال الخليفة العامة على ترديد الصلوات الخمس يوميًّا في الجامع الكبير، فعندما يبدو السَّحَر يؤدي الخليفة صلاة الفجر، وبعد ذلك يقرأ المحتشدون بعض الآيات القرآنية في حضرة المهدي، ويستغرق ترديد القرآن وبعض الصلوات الخاصة مدة تقرب من ساعة.
وبعد ذلك يعود الخليفة إلى مخدعه الخاص، ولكنه في بعض الأحايين يخالف ذلك الترتيب في المسجد؛ ليتحقق بنفسه مبلغ إذعان سكان أم درمان لأوامره الدينية الخاصة بحضور الصلوات الخمس حضورًا منظمًا. أما صلاة الظهر فيقوم بها الخليفة حوالي الساعة الثانية مساء، وبعد ساعتين أخريين يؤدي صلاة العصر التي يذكر فيها المصلون بعد تأديتها بعض أقوال دينية، ولا تكاد تغرب الشمس حتى يؤدي الخليفة صلاة المغرب، ثم ينتهي بعد ثلاث ساعات إلى الصلاة الخامسة؛ وهي صلاة العشاء. وفي كلٍّ من الصلوات الخمس يصلي الخليفة في محرابه القائم أمام صفوف المصلين. وذلك المحراب بناء جميل رباعي الشكل، مكون من أعمدة رفيعة مخروطة الشكل، يعلو كلًّا منها طبقة حديدية صلبة. ولا ريب في أن الخليفة يستطيع أن يشاهد كل ما يحيط بمحرابه وهو في حالة هادئة ومكان أمين.
هذا هو المحراب الذي يجلس وراءه مباشرة ابن الخليفة، فالقضاة، فأشخاص قلائل يختارهم الخليفة من أخصائه. أما الجنود الذين يحرسونه فيجلسون على جانبي المحراب، ويظل الجنود السود في الجوانب التي تحيط بالمسجد ملازمين سورًا ضخمًا يفصل بين المسجد والميدان. وإلى جانب الضباط أماكن مخصصة للأمراء وأغلب رجال القبائل الغربية، وقد عينت لأولئك الجهة اليمنى. أما الناحية اليسرى فيجلس فيها بعض الأتباع وقليلون من العرب المنتمين إلى الخليفة «علي واد هلو» ثم أنصار الجعليين والدنقليين، ووراء أولئك جميعًا يجلس المصلون من المسلمين في صفوف تترواح بين عشرة واثني عشر، حتى إذا ما بدأ الخليفة تلاوة صلاته رددها المصلون.
وعلى أية حال، فإن المصلين لا يقلون عن بضعة آلاف. وبما أن الخليفة محدود الدائرة من موقفه بالمصلين، فإن الأمراء الظاهرين وبعض ذوي النفوذ من رجال القبائل مضطرون إلى معاونة الخليفة في تأدية الصلاة. ولئن كان في صدر الخليفة غلٌّ أو حقد على شخص من الأشخاص، فإنه لا يتردد في الاقتصاص منه وإلزامه بحضور الصلوات الخمس في المسجد؛ بحيث يراقبه هو وغيره — من المغضوب عليهم من الخليفة — بواسطة أشخاص معينين لهذا الغرض.
السبب أن الخليفة — في كل هذه التحرجات وذلك التقييد الديني — مدفوع بعامل صيانة الدين، ولكنه لا يرمي إلى ذلك فحسب، بل يبغي إلى جانب ذلك الاحتفاظ بسيادته ونفوذه على أتباعه جميعًا. وإنه لواجب علينا في هذا الصدد أن نقول بأن الكثيرين من المصلين يسكنون في جهات بعيدة عن المسجد الكبير؛ فمن الشاق عليهم أن يذهبوا من منازلهم إلى المسجد ويعودوا إليه خمس مرات يوميًّا، وكل ما يستطيعون عمله هو أن يجتمع بعض الناس في منازل أصدقائهم، وهذا ما يمقته الخليفة مقتًا شديدًا؛ لأنه يخشى ما يسمونه «حياة الجماعة». وقد كان الخليفة عبد الله على اعتقاد ثابت في أن هذه الاجتماعات المذكورة البعيدة عن رقابته لا بد أن تنتهي إلى المسامرات والتكلم في شئون الجماعات، ومثل ذلك الكلام يصل إلى بحث أعمال وشئون الخليفة؛ فهذا ينقدها باللوم والتجريح، وذلك يرضى عنها خائفًا، وآخر يمتدحها. فلا عجب أن نرى من الخليفة جهدًا شديدًا مبذولًا في سبيل تأييد فكرة اجتماع المسلمين تحت رقابته هو وحرسه الخاص.
نرى من الأقوال السابقة الخاصة بإقامة الفرائض الدينية أن الخليفة عبد الله أول من يصلي بالناس في المسجد الكبير، ولكننا لا ننسى أن كل إنسان معرض للمرض الذي يحول دون قيامه بما تعود تأديته يوميًّا؛ وإذن الخليفة عرضة لذلك المرض أو لأي عذر طارئ يمنعه من السير خمس مرات يوميًّا إلى المسجد الكبير. وبالفعل تغيب عبد الله في بعض الأيام عن القيام بعمله الديني الكبير، فكان يخلفه في الإمامة أحد القضاة أو ضابط من قبيلة تكروري، على أن يكون ذلك الضابط مشهورًا بين الناس بصلاحه وتقواه. وعلى أي حال لا يسمح مطلقًا للإمام الذي يقوم بعمل الخليفة أن يقف في المحراب، بل يكون في قيادته الدينية قائمًا في أول صف مجاور لذلك المحراب العظيم. ومع أن القانون الديني يحتم على الخليفة «علي واد هلو» أن يمثل الخليفة عبد الله في تأدية الفرائض الدينية أثناء غيابه (عبد الله)، فإن «علي واد هلو» لم يكن يمثله في أغلب الأحايين.
كان الخليفة عبد الله في حياته اليومية يتلقى بين صلاة العصر وصلاة المغرب عدة تقارير، ويستمع الأنباء الخاصة بشئون الأمة، ويطلع على الخطابات الواردة له، ويقابل القضاة والأمراء الذين سمح لهم الخليفة قبل يوم المقابلة بالتحدث معه، وإلى جانب أولئك كان يسمح الخليفة في ذلك الميعاد من كل يوم بمقابلة الأشخاص الأخصاء الذين يرغب التحدث إليهم.
أما مراسلاته البريدية الخاصة فمحدودة وسائرة في سبيل طبيعية، وهو يحتفظ لذلك بما يتراوح بين ستين وثمانين جملًا لحمل البريد العام، على أن يتولى رقابته أشخاص مخصوصون بصفة عمال بريد. ولا يذهبن تصور القارئ إلى أن أولئك محصورو العمل في بلد الخليفة، وإنما هم موزعون في جميع أنحاء إمبراطوريته؛ حيث يتلقون أوامره وتعليماته فينفذونها عاجلًا.
ومما يذكر في هذا الصدد، أن إبراهيم عدلان اقترح عليه إنشاء محطات خاصة للبريد على طول الخطوط الرئيسية المعروفة.
ولكن الخليفة رفض قبول هذا الاقتراح بشيء من الضجر، بعد أن قال لإبراهيم بأنه عُني قبل كل شيء بالأوامر الشفوية التي يلقيها «الخليفة» على الأخصاء من رجال البريد، الذين لم يتأخروا مطلقًا في تنفيذ أوامره بإخلاص وأمانة، علاوة على أن الخليفة كان يتلقى من أولئك المقربين إليه تقارير وافية عن أعمال الحكام التابعين له.
لم يقتصر أمر البريد الخاص على الخليفة، بل تعداه إلى الأمراء؛ كلٍّ في منطقته؛ حيث كان للأمير رجال مخصوصون وعدد معين من الجمال لحمل البريد، مع تعليمات خاصة لأولئك المتجهين إلى أم درمان. ومهما يكن الأمر فلم تكن هناك طريقة للمراسلات البريدية العامة؛ أي للمراسلات بين الأشخاص من عامة الشعب السوداني، ولكن على رغم ذلك كان الحمالون يحملون رسائل من بلد إلى آخر بطريقة سرية.
لم يكن الخليفة في جميع أيام زعامته واثقًا بغريب عن دائرته؛ فدعاه ذلك إلى التشديد على الرجال المحيطين به، حتى إنه لم تكن تصدر رسالة من أحدهم إلى الخارج إلا بعد أن تمر على كاتم سر الخليفة. ومما يذكر عن الخليفة عبد الله أنه كان يجهل القراءة والكتابة، فحدا به ذلك إلى الشك في كثير من الكتابات الواردة من الخارج إلى الأمراء القريبين منه، وتبعًا لذلك كان يصدر أوامره المشددة بمرور الرسائل على سكرتيرِيه الخصوصيِّين، ومن أهم أولئك في نظره اثنان؛ هما قاسم ومدثر، اللذين كانا مضطرين دائمًا لشرح محتويات الخطابات لسيدهما الخليفة، على أن الخطابات الواردة لمركز الخلافة ذاته لا يرد عليها السكرتيرون من ذواتهم، بل يتلقون أوامر الخليفة في كل ما يكتبونه. ولم يكن جهل الخليفة القراءة والكتابة مانعًا له من الوصول لبغيته بواسطة المفتشين الذين يراقبون تلك الردود البريدية.
أما هذان السكرتيران فقد عاشا مع الخليفة حياة تعسة مملوءة بالأوامر التي تنم عن ريبة عبد الله فيهما. وقد كان ذانك الرجلان على ثقة تامة من أن الخليفة لن يغتفر لهما أصغر هفوة، والويل كل الويل لأحدهما أو لاثنيهما في حالة إذاعة سرٍّ من أسرار الخليفة، حتى لو كانت تلك الإذاعة غير مقصودة بسوء نية من جانب السكرتيرين. ولم يكن الخليفة يقصر في حالة من تلك الحالات عن معاملة ذَيْنك الرجلين بما عامل به الأحمدي وأشقاءه الأربعة، الذين نفذ فيهم حكم الإعدام بعد أن اتهموا باتصالهم بالأشراف.
إذا خلا الخليفة إلى نفسه ونزع إلى شيء من الراحة أو التحدث للناس، فإنه لم يكن يرتاح لشيء أكثر من التحدث مع القضاة الذين لم يكونوا — في أغلب الأحيان — غير آلات صماء في يديه؛ بحيث لم يكونوا يترددون في إصدار أقسى الأحكام الاستبدادية ضد من يمقتهم الخليفة أو يرتاب فيهم، فإنك كنت ترى أولئك القضاة يجلسون أمام الخليفة في وقت راحته في شكل نصف دائرة على الأرض العارية من كل فراش، ولم يكن يتجاسر أحد أولئك على رفع رأسه أمام الخليفة، فإذا جلسوا أرهفوا آذانهم وصمتوا انتظارًا لأوامر الخليفة المطاعة. وقد كانت الأوامر المذكورة في أغلب الأحيان تلقى بصوت خافت هادئ، والعجيب في الأمر أنهم لم يكونوا بحال من الأحوال يستطيعون رفع أصواتهم، وبطبيعة الحال لم يتوقع شخص معارضة أو اقتراحًا من جانب أي قاض. وسواء أكان الخليفة مصيبًا في رأيه أم غير مصيب، فإن القاضي ملزم بالإذعان للأمر والتأمين على ما سمع.
إلى جانب أولئك القضاة كان الخليفة في كثير من الأحايين يجتمع بالأمراء وبعض الأشخاص ذوي النفوذ الموثوق فيهم عنده، وكان الخليفة على وجه عامٍّ يقف على شئون الرعية وأحوال البلاد بواسطة أولئك الأشخاص القريبين. ومما يذكر عن عبد الله أنه كان ماهرًا في بث الفتنة بين أولئك المقربين منه؛ حتى لا تتم الصلة بينهم، وحتى يصل كلٌّ منهم إلى إذاعة ما عنده إذاعة دقيقة لمولاه الخليفة.
وكانت مناقشات الخليفة ومباحثاته عقب صلاة العشاء كل يوم، وتلك المباحثات الخاصة مع يعقوب وبعض أقربائه الأقربين، وكانت تستغرق مباحثاتهم في كثير من الأحيان بضع ساعات، وفي أيام خاصة تظل إلى ما بعد منتصف الليل، وعلى وجه عامٍّ كانت الاجتماعات العائلية البحتة خاصة بالبحث في أنجع الطرق للتخلص من الأشخاص غير المرغوب في وجودهم أمام الخليفة بصفة خاصة، وأمام ابنه وبعض أقربائه بصفة عامة. وإنه لمما يجدر بنا ذكره أن أولئك الأشخاص كانوا لا يتطلعون — في ذلك الحقد على المكروهين — إلى مصالح عامة، بل إلى ما قد ينجم عنه ضعف لقواهم أو التقليل من أثرهم البارز في الدولة.
كان الخليفة في كثير من الأحيان يقوم برحلات صغيرة داخل المدينة أو في الجهات المجاورة، على أنه في أيام خاصة من الشهر كان يقوم ببعض زيارات لأخصائه في أم درمان. وليس هناك ما يدعو إلى بذل جهد من الشعب خارج أو داخل المنازل لتعرف ميعاد مرور الخليفة؛ فإن الأصوات المرتفعة من الحشم ودق الطبول والنفخ في الأبواق أمام ركب الخليفة؛ كل ذلك كافٍ لأن يسمع الناس ذلك الصوت الخاص على بعد مئات من الأمتار، فيهرع السكان لتقديم التحية لمولاهم الكبير.
كان إلى جوار بيت الخليفة مكان فسيح للحرس، ودار مسقوفة بقشٍّ يظل فيها الخيل بعد أن ينظفها الحرس. فإذا ما قال الخليفة إنه يعتزم الجولان في المدينة، أسرع حراسه إلى خيولهم وأسرجوها. فإذا ظهر الخليفة في رحبة داره الخارجية، خرج الضباط والحرس الخاص من كل النواحي المحيطة وأسرعوا لحماية سيدهم. وكان النظام المتبع في تلك الرحلة أن يتقدم الضباط وحرس الخليفة، ثم يتبعهم عبد الله ممتطيًا جواده الخاص وحوله من النواحي الأربع دائرة من الحرس الموثوق في إخلاصهم له. وإنك لتكاد تظن الناس الخارجين من منازلهم لمشاهدة الخليفة مجموعات متتالية من الكتائب الحربية، أما الجنود فكل فصيلة تسير على انفراد مكونة من اثني عشر متجاورين، ووراء أولئك جميعًا يسير الموكب اللاحق والمؤلف من الأمراء والأخصاء على ظهور الخيل ثم آخرون من الأقرباء.
نضيف إلى ذلك أن رجلًا عربيًّا مسلمًا اسمه «أبو دخيبة» كان يجاور الخليفة إلى يساره، وكل ما كان لهذا الرجل من شرف هو أن يرفع الخليفة إلى جواده الخاص ثم يظل ملازمًا له أثناء نزوله من الجواد، هذا إلى أن الذي كان يشغل الناحية اليمنى من الخليفة أثناء سير موكبه هو كبير الخصيان ورئيس فرقة العبيد في حاشية الخليفة.
كان أمام الخليفة مباشرة في كل رحلة من رحلاته ستة من النافخين في الأبواق إيذانًا بمرور الركب العظيم، أما السائرون وراء جواد الخليفة مباشرة فهم الضاربون على طبول خفيفة ترمي إلى تحسين صوت البوق في أذني الخليفة، الذي كان شديد الميل لسماع الأنغام. ومن اختصاص الأخيرين — الضاربين على الطبول — إصدار إشارات معروفة في المدينة لسير الركب أو وقوفه تبعًا لأوامر ورغبات الخليفة، فإذا ما انتهينا من أولئك جاء صف الحشم الخصوصي الذي كان يحمل أفراده محافظ جلدية فيها أوراق دينية وعالمية، خاصة بشئون الدولة.
بعد أن ننتهي من صف القارعين على الطبول قرعًا خفيفًا، نصل إلى صفوف خصيان الخليفة وصغار خدمه، وبين أولئك من يحمل آنية كبيرة فيها ماء للوضوء ويحمل غيره سجادة فاخرة لصلاة عبد الله، ويسير الآخرون حاملين الرماح، وفي بعض الأحايين يتقدم الموكب أو يخلفه ركب موسيقيٌّ مكون من خمسين سودانيًّا، تتكون آلاتهم الموسيقية من مستخرجات قرون الوعول، وتغطي الجلود طبولهم المصنوعة من تجاويف جذوع الأشجار الضخمة. وإنه لمن الميسور لك أن تميز أنغام أولئك السودانيين بما فيها من تنافر قبيح، وبما اشتهرت به من ابتعاد عن كل توقيع مطرب.
تعود الخليفة القيام برحلاته بعد صلاة الظهر على أن يرجع إلى داره قبل الغروب، وفي أثناء كل من الرحلات المذكورة يبذل الضباط أقصى مجهوداتهم لإظهار شجاعتهم وفروسيتهم أمام مولاهم الخليفة؛ فمن أمثلة تلك الشجاعة تقدم أربعة من الضباط متجاورين إلى ناحية الخليفة؛ بحيث يرمون رماحهم المدببة في الهواء ويقفزون من صهوات جيادهم إلى البقعة الممتدة أمام الخليفة ليحيوه واقفين، فإذا ما انتهوا من ذلك أسرعوا لركوب جيادهم وعادوا إلى الصف الذي كانوا فيه دون إخلال بنظام الموكب.
كان الخليفة في السنوات الأولى من حكمه يحضر إلى ساحة الاستعراض العسكرية كل يوم جمعة؛ حيث تجري حفلة عرض الجنود على اختلاف درجاتهم، ولكنه اكتفى في سني حكمه الأخيرة باستعراض الجيش أربع مرات في السنة؛ هي على التعاقب يوم ذكرى الميلاد النبوي، ويوم المعراج، وأول أيام عيد الفطر، ثم يوم العيد الأضحى. وكان مما يذكر عن عناية الخليفة عبد الله بحفلة العيد الأضحى، أنه كان يجمع فرق جميع البلاد المجاورة مع جنود دارفور والقضارف للقيام بالاستعراض العام وسط دق الطبول والنفخ في الأبواق. أما الصلاة في ذلك اليوم فكانت تقدم منه ومن جنوده إلى الله الرحمن في ساحة الاستعراض؛ حيث يصلي عبد الله إمامًا بالجند وهو واقف في غرفة مدببة الحواجز — كأنما هو في محراب المسجد الكبير — وفي ذلك الحين يحيط به خارج غرفته كثير من ضباطه الأخصاء وبعض أعيان السودان المتمتعين بثقة الخليفة وحبه، أما بقية الضباط والجند وعامة الجمهور فيوزعون أنفسهم في صفوف متلاصقة، فإذا ما تمت الصلاة صعد عبد الله إلى منبر خشبيٍّ لإلقاء خطبة يستظهرها بعد أن يقرأها له من كتبها من السكرتيرين. وفي نهاية الحفلة يطلق بعض الضباط رصاص بنادقهم سبع مرات إيذانًا بانتهاء الاحتفال المقدس. وعقب ذلك يتقدم واحد منهم لذبح خراف الضحية لإرسالها إلى السوق العام بواسطة الجنود وتوزيعها صدقة على الفقراء. ولكننا لا ننسى ذكر ما كانت عليه شئون الدولة من الفقر والاضطراب؛ بحيث لم يكن يتسنى ذبح العدد الكافي من الخراف لتقديمها للفقراء، فكان ذلك داعيًا إلى استعاضة الفقراء عن لحم الخراف بقصاع الثريد.
اعتاد الخليفة تخصيص اليوم الأول من أيام العيد الأضحى لذلك الاستعراض المصحوب بتأدية فريضة الشكر المقدسة للعزة الإلهية إزاء ما أسبغته على السودان من خير طول العام، ولم تكن تجري في ذلك اليوم أية معاملة رسمية. أما المقابلات «التشريفات»، فكانت في الأيام الثلاثة التالية لليوم الأول؛ حيث يسير إلى دار خلافة عبد الله قبل مشرق الشمس في كل يوم من الأيام الثلاثة أمراء أم درمان والجهات المجاورة، حاملين راياتهم ومِن خلفِهم أتباعُهم المتفائلون خيرًا بالعيد، فإذا جمع كل أمير أتباعه سار بهم إلى الناحية المعدة له في ساحة الاحتفال — وهي عبارة عن أرض رملية تتخللها أحجار صغيرة — ومن تلك الجهة كانوا يسيرون إلى دار عبد الله إلا إذا بدت الرغبة من الخليفة في التوجه إلى دار الاستعراض؛ حتى لا يتعب الأمراء وأتباعهم وصفوف الجند. وفي كل حال من تلك الأحوال يعيد الجنود السير إلى حيث الخليفة لتقديم التحية للمهنئين بالعيد، وهم في سيرهم هذا يولون وجههم شطر المشرق.
أما يعقوب ابن الخليفة وصاحب أكبر مكانة في السودان بعد أبيه، فكان يحمل العلم الرئيسي؛ وهو عبارة عن قطعة كبيرة منتظمة الشكل من القماش الأسود توضع مباشرة أمام الحاجز المدبب القوائم الذي اعتاد الخليفة الجلوس فيه في ساحة الاستعراض، على أن الخط المستقيم الواصل بين العلم والحاجز يبلغ امتداده أربعمائة قدم، وبعد أن يتركز لواء يعقوب يضع الأمراء المختلفون على جانبيه راياتهم المميزة لقبائلهم، وقد يكون أكبر بيرق ظاهر بعد لواء يعقوب بيرق الخليفة علي واد هلو، الذي يرتكز في البقعة الشمالية من الميدان؛ ممتازًا بلونه الأخضر وبقيام بعض ألوية على جانبيه. هذا إلى أن الناحيتين اليسرى واليمنى من مركز الجيش معدتان لطوائف خاصة؛ ففي الأولى يتوزع راكبو الخيول والجمال، وفي الثانية يقف ضاربو النار الذين يتكونون من بعض المجاهدين وأتباع بعض الأمراء. على أن الخليفة لا يسمح مطلقًا لضاربي النار أولئك بحمل بنادقهم إلا في هذه الأيام الثلاثة من السنة.
لا تكاد الشمس تغرب في كل يوم من الأيام المذكورة المقدسة عند المسلمين، حتى يخرج الخليفة عبد الله من تلك الغرفة المدببة القوائم فيركب جواده يحيط به ضباطه وحرسه الخاص. وفي هذه الأثناء يسير الجيش بصفوفه الكاملة أمام الخليفة؛ حيث يوزع الجبب والعمائم على المرضيِّ عنهم من رجاله.
كان المتبع أن يمتطي الخليفة صهوة جواده في ذلك الميدان، ولكنه في بعض الأوقات كان ينزع إلى ركوب جمل خاصٍّ مزخرفة حمائله. وقد تخطى هذا التقليد مرة واحدة — على ما أذكر — في سني حكمه فركب عربة أسرها السودانيون في الخرطوم من حاكم عامٍّ سابق، وبقيت بعد ذلك ملكًا للمسلمين ومحفوظة في بيت المال. وبما أن ركوب هذه العربة كان أمرًا شاذًّا غريبًا، فلنذكر طريقة مرور الخليفة بالناس وهو فيها، فنقول: إنها خرجت من بيت المال، فكانت أعجوبة لناظريها من الدراويش، وكان يجرها جوادان وتسير بخطًى متئدة جدًّا؛ والداعي لذلك خوف الخليفة من انقلاب العربة في حالة عدو الجوادين، وليس ذلك غريبًا على من لم يعتد غير ركوب الخيل والجمال. ومهما يكن الأمر فإن الخليفة لم يرتح إلى فكرة ركوب العربة، فأُرجعت إلى بيت المال، واستمر على عادته المألوفة في المواكب والرحلات؛ وهي الخروج على ظهر الجواد مباشرة من المسجد الكبير إلى الطريق القريبة؛ حيث راية يعقوب السوداء، فإذا ما وصل إليها تأمل فيها وأظهر احترامه لمقامها. وبعد الانتهاء من تقديم التحية للراية اليعقوبية، يولي عبد الله وجهه شطر الحاجز المدبب القوائم؛ حيث يجد إلى جانبه مكانًا مسقفًا مصنوعًا من سيقان الأشجار المتراصَّة بعضها إلى بعض، والمغطاة بحصائر النخيل، فإذا ما انتهى إلى ذلك المكان نزل عن جواده واستند إلى عنجريب؛ حيث يحيط به القضاة والمقربون إليه.
اقتضت التقاليد الدينية في السودان أيام الأعياد الكبرى خروج الخليفة من داره إلى الناحية الغربية من المدينة حتى يصل إلى ثكنات جنوده. ومن الأمور المقررة في مقابلات العيد وقوف الجنود حاملين دروعًا مغطاة من الطرزين الأوروبي والآسيوي وعلى رءوسهم خوذات ثقيلة وأغطية قطنية غريبة الشكل من مختلف الألوان، وأعظم ما يميز هذه الأغطية لفائف مخصوصة شبيهة بالعمائم.
أما الخيول فمسرجة بأقمشة مبطنة، وقد يكون هناك شبه بين تلك الأغطية المبطنة وبين ما كان يضعه الفرسان على خيولهم وقت المبارزة في العصور القديمة. ولا نكون مغالين إذا قلنا إن المتفرج يوم استعراض الجند على خيولهم يظن أنه في حفلة من حفلات القرون الوسطى أو ما قبلها.
عندما تنتهي «التشريفات» بنهاية اليوم الثالث من أيام العيد، يعود الجنود مع ضباطهم إلى ثكناتهم في البلاد المجاورة.
•••
سأعرض على القراء الآن صورة موجزة للرأي والأغراض السياسية التي كان ينزع إليها الخليفة عبد الله. فأكرر ما قلته أكثر من مرة بأن المهدي عندما أعلن نفسه هاديًا للمسلمين في السودان، منح حق الخلافة بعده إلى ثلاثة أشخاص في السودان؛ هم: عبد الله، وعلي واد هلو، ومحمد شريف. على أن يخلفه بعد موته أولهم، ثم يعقب الاثنان الآخران عبد الله بعد موته في حالة بقائهما على قيد الحياة بعده.
نفذ القضاء في المهدي، فتولى الخلافة بعد موته أول الثلاثة عبد الله، ولكن الخليفة الجديد «عبد الله» لم يفتأ — من اللحظة التي تولى فيها الحكم — يدس للاثنين الآخرين، باذلًا جهده في تقوية نفوذه وإعلاء كلمته، وجعْل الخلافة وراثية في أسرته، فلم يرضِ ذلك الثوريين من طبقة الأشراف الذين عدوا أنفسهم أكبر السودانيين قدرًا، وذلك راجع إلى صلتهم بالمهدي، ومع ذلك قدموا التحية لعبد الله خوفًا من السقوط الذي يصيبهم من جراء إشهار العداء للخليفة. إلا أن عبد الله كان واقفًا على حقيقة نيات منافسيه، فضم إلى حاشيته الكثير من فصائل السودانيين التابعين قبلًا لعلي واد هلو ومحمد شريف؛ حتى يعينوه بإخلاص له على مصادمة منازعيه في الخلافة.
ليس بدعًا أن يشاهد السياسي كل ذلك الجزع من جانب عبد الله؛ فإنه غريب عن أم درمان، ولم يكن في حياته سوى رجل غامض الأسرار من قبيلة غريبة؛ وإذن هو غريب جدًّا عن البلاد الداخلية، وكان — بذكائه وبما يصل إليه من تقارير أتباعه — على ثقة أنه لن يستطيع الاستناد إلى تأييد الجعليين والدنقليين وسكان الجزيرة وغيرهم من قبائل وادي النيل؛ وإذن اضطر لإرسال مندوبين سريين إلى القبائل الغربية في الناحية الغربية ليغريهم بالحج إلى قبر المهدي والمهاجرة إلى وادي النيل.
سعى مندوبو عبد الله ورسله في الجهات المجاورة لأم درمان سعيًا حثيثًا في سبيل الوصول إلى إغراء الناس بالمهاجرة إلى قبر المهدي والبقاء في الأرض التي تقل جثمانه، فدعوا الناس إلى التمتع بخيرات الأرض الجديدة التي ينزحون إليها، ذاكرين لهم بأنهم عبيد الله المختارون، وأنه من مصلحة أولئك المدعوين أن يذهبوا لامتلاك الأرض الجديدة التي يتمتع سكانها الأصليون بثروة كبرى من مال وماشية وعبيد. وقد ذهب المندوبون في إغرائهم سكان الجهات المجاورة إلى حد أن وعدوهم بامتلاك كل ما في الأرض الجديدة.
أثر أولئك المندوبون بدعوتهم الحماسية تأثيرًا منتجًا في نفوس السذج، فرحل الكثيرون من أفراد القبائل المختلفة إلى أم درمان، وكانوا في ذلك مدفوعين برغبة خالصة في التمتع بالغنى الذي سمعوا عنه، إلا أن عدد القادمين لم يكن كافيًا لتعمير وإنماء أم درمان، فعمد الخليفة عبد الله إلى إصدار الأوامر لأميري دارفور وكردوفان حتى ينفذا أوامره بالقوة؛ وتبعًا لذلك تدفق سيل المهاجرين، سواء أكانوا طائعين أم مرغمين، وانتهى الأمر إلى نقص عددهم بعد أن سمعوا الشيء الكثير عن الشدة التي يقاسيها من سبقوهم إلى أم درمان.
كانت النتيجة المنطقية لذلك إحاطة الخليفة بالجمع الغفير من قبائل الرحل الغريبين عنه وعن أتباعه، على أن أولئك المهاجرين الجدد لم يألوا جهدًا في إقصاء أصحاب الحق الأصليين وإعداد أنفسهم لأن يكونوا الأسياد المسموعة أوامرهم.
لم يمر زمن على أولئك المهاجرين لأم درمان حتى امتلأت بهم وظائف الحكومة الرئيسية، وكان أصحاب القسم الأكبر من هذه الغنيمة رجال التعايشي. وإنك لتكاد ترى جميع الأمراء السابقين في جهة مجهولة؛ بحيث لم تسمع لأحدهم كلمة بعد ذلك، وقد تستثني من ذلك الحكم الأمير عثمان دجنة؛ ويرجع ذلك إلى أن قبائل العرب الشرقية التي يحكمها عثمان يتكلم أفرادها بلهجة لا يعرفها عرب القبائل الغربية، وعلاوة على ذلك أصبح الكثيرون من أفراد تلك القبائل خاضعين للنفوذين المصري والإيطالي، وليس من سبب إلى اتصال القلائل الباقين بعثمان دجنة سوى كونه واحدًا منهم. وعلى أية حال فإن قبيلة التعايشي تمكنت من الحصول على السلطان والنفوذ الكاملين في جميع الجهات التي يضرب رجالهم بأرجلهم في أرضها، ولم يكن لهم غرض سوى ملء جيوبهم بالإيراد الضئيل الذي يحصل عليه السوداني الفقير.
مما يذكر عن أوامر الخليفة عبد الله قبل عام ١٨٩٥ أنه أعطى تعليماته لأميري دنقلة وبربر بإضعاف نفوذ وقوة رجال مديريتيهما إلى أقصى حدود الضعف، فدعا ذلك إلى تجريد السكان من أسلحتهم النارية، وجمع ما لديهم من معدات القتال بحيث ينقص مقدار الموجود من تلك الأسلحة إلى حد لا يخشى معه أي خطر.
لم يكتف الخليفة بذلك، بل أصدر أمرًا جديدًا بالتشديد في معاملة رجال توشكو وطوكر، فأغرى المأمورين في تشديدهم بحيث قتلوا كثيرين من الجعليين والدناقلة، ورحَّلوا آخرين إلى دارفور والقلابات؛ رغبة في استئصالهم نهائيًّا في تَيْنك الناحيتين؛ وإذن استطاع الخليفة اتقاء شر سكان تلك النواحي وضمن التغلب على أية قوة معارضة هناك.
تنطبق مثل هذه المعاملة على سكان الجزيرة الذي أقصوا بأمر الخليفة إلى جهات نائية من السودان، أو الذين اضطروا إلى الحضور لأم درمان هم وأفراد أسرهم؛ حيث قاسوا الأمرَّين من الاضطهاد والفاقة. ومما زاد في أثقال كواهلهم، صدور الأمر بتسليم ما يزيد عن نصف محصول أراضيهم الزراعية التي كانت موزعة على عرب القبائل الغربية، وما زال الخليفة مستمرًّا في التضييق على أولئك حتى توصل عام ١٨٩٠ إلى تفريق الأراضي على أقربائه وأصحاب الحظوة عنده. وقد بلغ الضيق بأصحاب الأرض الأصليين حدًّا التزموا عنده حراثة الأرض وتفليحها لأسيادهم الجدد، الذين وزعوا على أراضيهم كل ما يملكون من خدم وعبيد وماشية.
نجم عن ذلك التعسف إهمال أرض الجزيرة القابلة للإنتاج الوافر؛ فبعد أن كانت أوفر أرض السودان غلة وأكثرها سكانًا، تضاءل هذان الخيران. وكان ذلك التضاؤل مصحوبًا بهرج ومرج سادَا جميع المناطق التي كان الخليفة مضطرًّا فيها إلى الانحياز لناحية الأهالي الذين عوملوا معاملة سيئة، ونزل بهم العسف وحاق بهم الطغيان إلى حدٍّ لا يكاد يصدقه العقل.
أكرر الآن ما قلته سابقًا عن تفضيل أفراد القبائل المنتمية إلى الخليفة عبد الله عن جميع القبائل الأخرى في جميع الأحوال والظروف؛ فإنهم لا يتمتعون بأسمى الوظائف الحكومية والمراتب الشعبية فحسب، بل يتمتعون بما هو أسمى من ذلك ماديًّا؛ فإن القسم الأكبر من الأموال والغنائم التي ترِد إلى بيت المال من مديريات دارفور والقلابات والرجاف يصل إلى أيدي أولئك الأفراد ولا يجد من يحاسبهم عليه. ومن غريب أمر أولئك الطامعين أنهم — رغبة في ملء جيوبهم بأكبر قيمة من المال — دعوا الخليفة إلى فرض ضريبة خاصة على الخيول، غير مبال بالشكوى العامة من جانب السكان الأصليين، فلا ريب إذن في حصول فرقته على نصيب الأسد من الغنيمة.
اشتهر الخليفة عبد الله أيام حكمه بتوسيع نفوذه بواسطة الدسائس وبث الفتن، فلا يكاد يتصل به زعماء قبائل غريبة عنه حتى ينشر الفتنة بينهم ليقوي جانبه ويضعفهم؛ ومن أمثلة ذلك أنه عند هزيمة وموت النجومي — الذي كان تابعًا للخليفة الشريف الذي سحب منه عبد الله كل نفوذ على غيره من الأمراء — وضع عبد الله فلول الجيش المهزوم تحت قيادة الأمير يونس، وبدلًا من رجال الجيش المقتولين عين عبد الله أفرادًا من الجعليين ورجال أم درمان؛ حتى يكون واثقًا من حصوله على نفوذ جديد.
قد وضع الخليفة أولئك في بادئ الأمر تحت إمرة مواطنهم بدوي واد العريق، ولكن بدلًا من إرسالهم إلى دنقلة بعث بهم عبد الله إلى القضارف. ومما يذكر عن سوء نية الخليفة عبد الله نحوهم أن عذرًا قهريًّا منعهم عن الرحيل إلى القضارف في الميعاد المعين، فأسرع «عبد الله» إلى اتهامهم بالعصيان، ثم أصدر أمره بنفي بدوي وستة من أمرائه إلى الرجاف وإحلال ستة آخرين بدلًا منه تحت إمرة حامد واد علي ابن عم الخليفة.
خلق الإنسان وفي طبيعته البشرية نزوع إلى طلب الوقاية من القوي ورغبته في التمتع بسند الأقوى، فليس بدعًا أن نرى حركة جديدة في صفوف أتباع الأمراء؛ لأن أكثرهم فضلوا السير تحت لواء الخليفة مباشرة أو تحت أسرة أخيه يعقوب، حتى إن أشياع علي واد هلو أنفسهم أسرعوا إلى تنفيذ هذه الرغبة. ويجمل بي في هذا الصدد أن أذكر شيئًا عن سعي حامد واد جار النبي الذي كان عاملًا رئيسًا في هدم التباهين؛ كان حامد هذا منتميًا لقبيلة حسابات التي يرأسها علي واد هلو، وبما أن حامدًا هذا كان على بينة مما يجري وراغبًا في تنفيذ فكرة الاستناد إلى ذراع الأقوى، لم يألُ جهدًا في بث فكرة انضواء أتباعه تحت لواء يعقوب، ولكنه (حامد) كان في الوقت نفسه قصير النظر غير مبال بما يجري إزاء تصريحاته، فأفضى برغبته إلى أقرباء علي واد هلو، ولم يكتف بذلك، بل تجاوزها إلى التصريح في اجتماع عامٍّ بأن الذي سيخلف الخليفة عبد الله بعد موته هو أخوه يعقوب أو ابنه الخليفة عثمان، فإذا ما استقر الأمر بين يدي يعقوب أو انتهت السطوة إلى عثمان، تلاشى نفوذ علي واد هلو وأصبح رجلًا عاديًّا لا شأن له.
عندما سمع الواقفون هذه التصريحات العلنية، أجابه بعضهم بأن المهدي أوصى الخليفة عبد الله قبل موته (المهدي) بأن يخلفه في الخلافة علي واد هلو. فقال له حامد بأن الأحوال تغيرت وأن عبد الله من القوة بحيث لا يبالي بوصية المهدي الذي سبقه.
لم يكد حامد يذكر أقواله هذه حتى أسرع بعض المشائين بالنميمة إلى تبليغ الحادث إلى علي واد هلو، فاتَّهم الأخيرُ حامدًا بتهمة التحريض وبث الفتنة. وعندما قدم حامد إلى القاضي وسمع الأخير شهادة الشهود، لم يبق مجال للشك في صحة ما أدلى به مخبرو علي، فانتهى الحادث إلى تأثيم حامد بتهمة الزندقة؛ لأنه شك في قدسية أوامر المهدي وتعاليمه. ومع أنه كان من المتوقع جدًّا أن يتدخل الخليفة عبد الله لنصرة حامد وتبرئة ساحته، لم يستطع الخليفة إظهار تدخله علنًا؛ فإن ذلك التدخل دليل قاطع على جلاء رغبة عبد الله في حرمان علي واد هلو من الخلافة بعده وإثبات جديد لصحة ما قاله حامد. ومع ذلك لم تكن الحقيقة خافية عن الشعب السوداني عمومًا وسكان أم درمان خصوصًا.
قضي الأمر وصدر حكم القضاة بإعدام حامد، ورغم كون عبد الله بذل أقصى ما في وسعه لحمل علي واد هلو على إرجاء ميعاد التنفيذ، فإن ذلك لم يخفف من غلواء عليٍّ وشدة حنقه. وقد عرف واد هلو أن تنفيذ الحكم في حامد انتقام مباشر من الخليفة عبد الله؛ وإذن ظفر علي واد هلو بتحقيق رغبته، فنفذ حكم الإعدام في حامد جار النبي علنًا في ميدان السوق الكبير بعد أن ألصقت به تهمة الزندقة والتحريض على الثورة.
لا ريب في أن ذلك التنفيذ مؤلم جدًّا للخليفة ولأخيه يعقوب. وبما أن خروج الخليفة علنًا على الحكم دليل على رفضه الأحكام التي ضد الزنادقة، كان من المنتظر أن يحرض الخليفة أتباعه سرًّا على إظهار سخطهم من ذلك الحكم القاسي، وهذا وقع فعلًا؛ فقد وصلت الأوامر من يعقوب إلى رجال جميع القبائل الخاضعة له، وصدرت الأوامر من الخليفة إلى أتباعه المقربين بأن يُظهروا جميعهم سخطهم العام وامتعاضهم من تنفيذ الحكم. وسبيل إظهار ذلك الشعور هو الامتناع عن حضور التنفيذ.
كان الخليفة في أي نزاع قائم بينه وبين خصومه يعتمد أولًا وأخيرًا على جنوده، فإن أولئك كافون جدًّا لإرغام أية قوة معارضة له في الداخل مهما كان شأنها، سواء أكانت هذه القوة في أم درمان ذاتها أم في أية ناحية أخرى من الجهات المجاورة؛ وإذن هو السيد المتسلط صاحب القوة التي لا تنازع في داخل السودان. أما إذا خرج الأمر عن الدائرة الداخلية، فهو عاجز عن صد جميع الغارات التي تبدو طلائعها من الخارج؛ فإن قواد جيشه ليسوا من القوة والدربة بحيث يستطيعون مهاجمة قوة خارجية هجومًا يكفل لهم النصر على أعدائهم، كما أن رجال جيشه ليسوا من الولاء والوفاء — في آخر سني حكمه — بما كان يعتقده الخليفة في أول أيامه؛ ويرجع ذلك إلى انطفاء جذوة الحماسة الشديدة الأولى، وهم إلى جانب ذلك على قليل من الثقة أو الإيمان بالقضية التي يحاربون من أجلها، وأخطر من هذا وذلك تسرب الشك إلى رءوس المحاربين في قدرة الخليفة وأتباعه على مناوأة أية قوة خارجية ترمي إلى احتلال السودان.
يرغب القراء بطبيعة الحال، بعد أن اطلعوا على الكثير من تصرفات الخليفة الدينية والسياسية، أن يقفوا على ما لديه من القوى الحربية. ولئن كان من العسير ذكر تقدير دقيق عن رجال الحرب السودانيين ومعداتهم، فلا مانع من نشر بيان تقريبيٍّ عن الموجود لدى أولئك المحاربين.
- القسم الأول: يتولى إمرة الجيش فيها (أم درمان) أميران؛ هما عثمان شيخ الدين ويعقوب. أما أولهما فيتكون جيشه من أحد عشر ألف جنديٍّ من المشاة، في أيديهم أحد عشر ألف بندقية، ولكل بندقية ماسورة ملساء. ويتألف جيش الثاني (يعقوب) من أربعة آلاف من المشاة، وثلاثة آلاف وخمسمائة فارس، وخمسة وأربعين ألفًا من حاملي الحراب والرماح، هذا إلى أن مخزن هذا الأمير يحتوي على ٤٦ مدفعًا وأربعة آلاف بندقية، كما توجد في مخازن جيش أم درمان ستة آلاف بندقية.
- القسم الثاني: أمير جيش الرجاف هو عرابي واد دفلة، الذي يأتمر بأمره أربعة آلاف وخمسمائة من حملة الحراب، وألف وثمانمائة من المشاة، وتوجد في مخزنه ثلاثة مدافع وألف وثمانمائة بندقية ملساء الماسورة.
- القسم الثالث: ينقسم «السودان الغربي» إلى الفاشر والأبيض وشاكا وبربر وأبي حمد؛ وللجهات الثلاث الأولى أمير واحد اسمه محمود — يعينه اثنان من أتباعه — تحت إمرته ستة آلاف من المشاة مثالًا، وثلاثمائة وخمسون فارسًا، وألفان وخمسمائة من حملة المزاريق والرماح، وفي مخزنه أربعة مدافع وستة آلاف بندقية. أما الناحية الرابعة (بربر) فتحتَ إمرة زكي عثمان، الذي يقود ألفًا وستمائة من المشاة، وخمسمائة فارس، وألفًا وثلاثمائة من حملة الرماح، وفي مخزنه ستة مدافع وألف وستمائة بندقية. وبذلك ننتهي إلى الناحية الخامسة (أبو حمد)، التي يقود جنودها الأمير نور عنو، وتحت إرشاد هذا الرئيس أربعمائة من المشاة، ومائة فارس، وسبعمائة من حاملي الرماح، وفي مخزنه أربعة مدافع وأربعمائة بندقية.
- القسم الرابع: ينقسم «السودان الشرقي» إلى إحناراما والقضارف والفاشر وأسوبري والقلابات
ودنقلة وسواردا، وسنذكر محتوياتها تباعًا تحت حروف أولية:
- (أ) ينضوي جنود إحناراما تحت لواء الأمير عثمان دجنة، الذي يقود أربعمائة وخمسين من المشاة، وثلاثمائة وخمسين من الفرسان، وألفًا من حملة الرماح، وفي مخزنه أربعمائة وخمسون بندقية من طراز الماسورة الواحدة الملساء.
- (ب) أمير جيش القضارف هو أحمد فضيل، الذي يصدر أوامره إلى أربعة آلاف وخمسمائة من المشاة، وستمائة فارس، وألف من حاملي المزاريق والحراب، وفي مخازنه أربعة مدافع وأربعة آلاف وخمسمائة بندقية.
- (جـ) يتولى إمرة الفاشر — إلى جانب إمارة القضارف — أحمد فضيل السابق ذكره، ويتكون جيش هذا الأمير من ألف جنديٍّ من المشاة، ومائتي فارس، وخمسمائة من حاملي الحراب، وفي مخزنه ألف بندقية.
- (د) القائم بإدراة شئون أسوبري العسكرية هو الأمير حامد واد علي، وتحت إرشاده تسعمائة من المشاة.
- (هـ) الأمير في جيش القلابات هو عين نور — وهو أقل أمراء جنود السودان شأنًا — الذي يأتمر بأمره خمسون من المشاة، ومائتان من حملة الرماح والحراب، هذا إلى أن البنادق التي في مخزنه خمسون بندقية لا غير.
- (و) يقود جيش دنقلة الأمير يونس الدغيم، ولهذا الأمير ألفان وأربعمائة من المشاة، وخمسمائة فارس، وخمسة آلاف من حاملي الرماح، وفي مخزنه ثمانية مدافع وألفان وأربعمائة بندقية.
- (ز) آخر الأمراء السبعة للقسم الرابع هو سواردا، وأمير الجيش هناك زعيم سودانيٌّ اسمه حمودة، تحت قيادته مائتان وخمسون من المشاة، ومائة فارس، وألف من حملة الرماح، وفي مخزن الأمير مائتان وخمسون بندقية. وبإحصاء ما تقدم إحصاءً عامًّا نجد الأقسام الأربعة متفرعة إلى خمسة عشر معسكرًا حربيًّا، فيها اثنا عشر أميرًا، ومجموع الجنود المشاة في دوائر نفوذ الخليفة المذكورة آنفًا أربعة وثلاثون ألفًا وثلاثمائة وخمسون، ومجموع الفرسان ستة آلاف وستمائة، وعدد حاملي الرماح أربعة وستون ألفًا، والموجود من المدافع في المخازن خمسة وسبعون، وعدد البنادق ألف وثلاثمائة وستون.
هذا هو مجموع ما في البيان، ولكن في الحقيقة لا نجد من البنادق المذكورة أكثر من اثنين وعشرين ألف بندقية صالحة للحرب — والبنادق المذكورة من طراز رمنجتن — أما الباقي فعبارة عن بنادق من ذات الماسورة أو الماسورتين وغير ذلك من النماذج القديمة غير المنتجة. ومهما يكن أمر الأسلحة النارية المذكورة، فقد أصدر الأمراء أوامرهم بقطع أجزاء مختلفة الطول من أنابيب (مواسير) رمنجتن؛ والغرض الرئيسي من ذلك تخفيف ثقل البندقية، ولم يبال الجنود بما قد يلحق بالبنادق من الضرر في حالة ذلك القطع غير المنتظم.
ذكرنا في البيان السابق أن مجموع حاملي الحراب والرماح أربعة وستون ألفًا، وإنه لَمن الواجب علينا بعد ذلك أن نقول إن ربع أولئك — على أقل تقدير — طاعنون في السن أو صغيرو الأسنان؛ أي إنهم في كلتا الحالتين غير صالحين لنزول المعركة نزولًا يضمن لهم الفوز.
أما المدافع الخمسة والسبعون فتشتمل على ستة من طراز كروب ذات الفوهة الواسعة القطر — ولكن لا توجد جبخانة كافية للمدافع الستة السالفة الذكر — ثم ثمانية مدافع من أنواع ونماذج مختلفة، ويتبقى بعد ذلك واحد وستون مدفعًا نحاسية مختلفة الأشكال والأحجام على أنها تعبأ جميعًا بواسطة الفوهة، ومن المعروف عن ذخيرة المدافع الأخيرة أنها تصنع في أم درمان بصفة خاصة وهذه «الذخيرة» من صنف رخيص غير فعال؛ بحيث لا يبعد مدى طلقة المدفع عن ستمائة أو سبعمائة ياردة.
لتتأمل الآن قليلًا في حدود نفوذ الخليفة، وبعد ذلك نرى أن سلطان الدراويش امتد في السنوات القليلة الماضية (قبل عام ١٨٩٥) من وادي حلفا إلى الجنوب الشرقي حيث أبو حمد، ثم سار شرقًا إلى سواكن وما جاورها (بما في ذلك طوكر وضور بركة)، واتجه بعد ذلك جنوبًا (بما في ذلك كسلا والقلابات والانحدارات الجنوبية الشرقية لبني شانفول وجبال جوبي)، ثم مال من تلك الناحية إلى الجنوب الغربي مقابل النيل الأبيض (بما في ذلك فاشودة وبوهر والرجاف).
امتد ذلك النفوذ الدرويشي من الغرب في اتجاه جنوبي غربي داخل الصحراء الليبية الجنوبية (بما في ذلك سليمة ومديريات دنقلة وكردوفان ودارفور إلى حدود واداي، ثم سار جنوبًا مخترقًا بحر العرب ومارًّا بدار رنجا (بما في ذلك دار فرتيت وبحر الغزال وقسم من منطقة خط الاستواء).)
بعد أن انهزم النجومي اضطر أتباع المهدي إلى الجلاء عن القسم الشمالي من مديرية دنقلة، وأصبح مركز طليعة جيشهم الآن (عام ١٨٩٧) في ناحية سواردا، التي تبعد ثلاثة أيام — سيرًا على الأقدام — عن دنقلة. وإنه ليجمل بنا أن نذكر خبر التجريدة التي تمكنت عام ١٨٩٦ من إخراج الدراويش من مديرية دنقلة وتأسيس حكومة ذات نفوذ مصريٍّ ممتدٍّ جنوبًا لغاية مروى.
انتصر المصريون في طوكر وهندوب، فساعد ذلك القبائل الداخلية على استرجاع ما كان لها من مناطق في الجهات المجاورة مباشرة لسواكن وطوكر، كما انتهى الاستيلاء على كسلا إلى امتلاك الإيطاليين جميع الأقسام الواقعة شرقي كسلا، وإزاء هذا وذاك أصبح نهر عطبرة حد الخليفة الشرقي في أواخر القرن التاسع عشر.
حدث تغيير ظاهر في مراكز الجنود؛ فانتقلت القوة الرئيسية التي كانت معسكرة في القلابات تحت إمرة أحمد فضيل إلى جهة القضارف، ولم تبق في ثكنة القلابات سوى قوة ضئيلة، وقد انتهز رؤساء مناطق بني شانفول وطور الغوري ثم كثيرون من مشايخ الجهات القريبة هذه الفرصة، فأعلنوا استقلال مناطقهم. وسرت العدوى إلى الناحية الغربية القاصية، فبعد أن اعتاد رجال قبائل مسالت وناما وبني حسين وجمر دفْع الضرائب، ثاروا على حكومة المهدي، وأخيرًا أعلنوا استقلالهم، واشتركوا عقب ذلك في محالفة دفاعية هجومية مع يوسف سلطان واداي، فاعتزم الخليفة عبد الله إرسال مندوبين لإحضار أولئك العصاة وإجبارهم على تقديم الطاعة والولاء له، ولكنه عدل عن ذلك بعدما ظهر النفوذ الأوروبي الجديد في بحر الغزال، ووقف خاتم موسى — أحد قواد عبد الله — في دائرة نفوذه دون تمكن من التقدم.
اكتفى عبد الله بإصدار تعليماته إلى خاتم — بعد أفول نجم الدراويش — بعدم التقدم إلى الجنوب قبل وصول مدد جديد له من أم درمان.