وسائل النجاة
كنت أرمي من وراء بقائي إلى جانب الخليفة عبد الله والتصاقي به إلى غرض مزدوج الفائدة؛ فقد رغبت في تعرف طباعه من ناحية، ومن تعرف أحوال السودان من الناحية الأخرى بطريقة تكاد تكون رسمية. أما الخليفة عبد الله نفسه فكان بتقريبه إياي يقصد شيئين متقاربين، ويرمي إلى فائدتين؛ فقد كان على ثقة من أني الموظف المصري الأجنبي الوحيد الملم بشئون السودان إلمامًا كليًّا دقيقًا، وأني جئت البلاد السودانية ودرستها وأصبحت على معرفة كاملة بلغة التخاطب الداخلية، وسأذكر الغرض الثاني بعد قليل.
كان عبد الله على جهل فاضح بالشئون السياسية، وقد ذهب به فكره إلى أن خروجي من السودان خطر داهم عليه هو شخصيًّا؛ لأني إذا وفقت إلى النجاة، فمعنى ذلك أني أتمكن بسرعة من إغراء الحكومة المصرية أو أي حكومة أجنبية عن السودان إلى دخول تلك البلاد، وإسقاط نفوذ عبد الله، وفي ذلك الحين أتمكن من إيجاد صلة متينة ورابطة وثيقة بين الحكومة الجديدة وبين أفراد وزعماء القبائل الذين يكرهون حكم عبد الله أشد كراهة؛ وإذن ينتهي الأمر إلى إنشاء حكومة نظامية في السودان.
قلت إن غرض عبد الله الأول من بقائي هو إلمامي بشئون السودان، أما الغرض الثاني فيرجع إلى نزعة نفسية؛ فقد رغب عبد الله في إرضاء كبريائه باستخدام الرجل الذي كان فيما مضى حاكم إقليم دارفور بأكمله وحاكم قبيلته. ففي استخدام الرجل الذي تمتع فيما مضى بهذه السلطة، يعد عظمة لعبد الله في عيون السودانيين، خصوصًا إذا بقي الرجل المذكور (مؤلف الكتاب) كأسير بين يدي الخليفة. ومن المدهش أن عبد الله لم يتأخر لحظة واحدة عن الظهور بهذه العظمة الكاذبة، فكان بين آن وآخر يقول لرجال القبائل الغربية: «انظروا هذا الرجل الذي كان فيما مضى سيدنا وحاكم قبيلتنا، والذي قاسينا الآلام تحت حكمه الجائر، انظروا إليه اليوم تجدوه خادمي وسامع أوامري والملتزم تنفيذ ما أشير به إليه في أية لحظة، انظروا إلى الرجل الذي انغمس في بحر الشهوات وكان منقادًا وراء تيار المعاصي تجدوه اليوم لابسًا جبته القذرة وسائرًا حافي القدمين، فلا ريب إذن في أن الله رءوف رحيم.»
كان عبد الله كثير الحذر والخوف مني، ولم يعنَ كثيرًا بغيري من الأسرى الأوروبيين الذين عاشوا عيشة بسيطة قوامها الاتَّجار في المواد المختلفة في حيٍّ قريب من ميدان سوق أم درمان؛ حيث بنوا غرفًا خاصة لتجارتهم ظلوا فيها آمنين لا يعكر صفوهم أي تدخل من الأهالي.
كان الأب أوهروالدر نساجًا يعيش هو وأهله مما يكسبه من نسج القطن، وعاش الأب روزينولي وبيوروجنتو — وكلاهما من طائفة الإرسالية الدينية المسيحية — بياعين للساعات في الدائرة المركزية للسوق، وقد عاشت السيدات الأوروبيات إلى جانب أولئك الأوروبيين حتى نجون معهم وقت تدبير الهرب، مع استثناء الأخت تريزة جويجولتي.
يتبقى بعد ذلك جوست جويزي أحد الكتاب الأجانب، ثم طائفة أخرى من اليونانيين والسوريين والمسيحيين والأقباط، ويبلغ مجموع أولئك خمسة وأربعين، رجالًا ونساء، تزوجوا وتزوجن من مسيحيين ولدوا في السودان أو مصريين ومصريات.
تسمى المنطقة الداخلية لأولئك المسيحيين المسلمانية — تطلق على المتناسلين من غير المسلمين بوجهٍ عامٍّ، وقد أطلقها أتباع المهدي على كل من لم يدينوا بالإسلام — وقد اشتغل أولئك بأمورهم وانتخبوا من بينهم أميرًا ائتمروا بإرشاداته وأوامره. وقد كان ذلك الرئيس المسيحي مسئولًا لدى الخليفة عن كل ما يجري في دائرته، وعن كل شخص غير مسلم في أم درمان. واسم الأمير الحالي (في عام ١٨٩٦) نيكولا، وهو رجل يونانيٌّ يطلق عليه السودانيون اسمًا عربيًا مماثلًا لاسم الخليفة عبد الله. ومهما يكن الأمر فلم يكن مسموحًا لأي شخص من أولئك المسيحيين بمغادرة أم درمان، وقد كان مفروضًا عليهم أن يضمن الواحد منهم الآخر، ومن نتائج ذلك أنه عندما سافر الأب روزينولي صدرت الأوامر بإلقاء زميله وضامنه بيبو في السعير (السجن). وقد زادت المراقبة واشتد الاضطهاد على أولئك المنكوبين بعد فرار الأب أوهروالدر؛ فقد أنشأ الخليفة خصوصًا مكانًا حصينًا لحجزهم فيه من الناحية الشمالية الشرقية من المسجد الكبير؛ حيث كان مفروضًا عليهم أن يحضروا الصلوات الخمس يوميًّا، وقد كان الخليفة عبد الله داهية في ذلك الأمر، فإنه أمر بأن يذهب الشخص من أولئك — غير المسلمين عامة والأوروبيين بصفة خاصة — مرة في اليوم للمسجد، وعين للإحصاء مراقبًا يقدم بعد نهاية الصلوات الخمس يوميًّا تقريرًا إلى عبد الله، يتمكن بواسطته من معرفة المتغيب، وإذ ذاك يرتاح ضميره لأنه يثق من بقاء جميع أولئك المحجوزين في ناحيتهم الجديدة.
كانت مساكنهم الصغيرة متلاصقة، وتبعًا لذلك كان من اليسير جدًّا اتصال الواحد بالآخر، مما خفف عنهم آلام الوحشة والاضطهاد. أما أطفال أولئك الأشخاص وأولادهم الصغار، فكانوا ملزمين بالبقاء في التكايا السودانية حيث يتعلمون القرآن.
قد وصفت فيما مضى كيفية سكني وما أحاط به في الحياة السودانية، وبقي عليَّ أن أضيف لما تقدم أنه كان مسموحًا لي أن أتكلم مع قلائل من الحرس الخاص الذين كانوا — مثلي — إما تحت الرقابة وإما — وهذا خلافي طبعًا — كجواسيس للخليفة، يراقبون الأجانب ويكتبون التقارير الوافية عن أقوالهم وحركاتهم، ثم يرفعونها كل مساء إلى دار الخليفة. أما دخول المدينة (أم درمان) فكان غير مسموح به إلا في النادر، هذا إلى أني منعت منعًا كليًّا من زيارة المنازل أو زيارة الناس لبيتي الصغير.
ومما أرويه عن ميول الخليفة الشخصية، أنه كان مولعًا جدًّا بالساعات الصغيرة وساعات الحائط على اختلاف حجومها، وقد وضع عليَّ الخليفة — فيما وضع من مهمات — مهمة تنظيف الساعات الكبيرة وإصلاح ثلاث ساعات للجيب يتناوب حملها. وقد تمكنت بواسطة هذه المهمة من زيارة ساعاتيٍّ أرمنيٍّ يدعى أرتين بدعوى أن ساعة من ساعات الحائط في دار الخليفة تحتاج إلى الإصلاح.
كان بيت الخليفة عبد الله قائمًا على مقربة من ميدان سوق أم درمان؛ حيث كنت أتقابل بين حين وآخر مع أفراد مخصوصين كنت أرغب رغبة صادقة في مقابلتهم والتحدث معهم. أما فيما يختص بموقفي مع أرتين بائع الساعات، فلم أكن أثق فيه على الإطلاق، وكل ما دعاني إلى التوجه إليه في أوقات مختلفة هو نزوعي إلى الالتقاء بالأشخاص المعينين، ولئن اضطررت إلى الكلام معهم فلم يكن أرتين يسمع ما يدور بيننا من حديث.
كان أغلب وقتي مقضيًّا في الفسحة الكبرى المواجهة لدار الخليفة حيث يتلى القرآن، ولم يكن مسموحًا على الإطلاق كتابة أي شيء؛ لأن عبد الله كان يرى من العار أن أعمل شيئًا أو أتعلم جديدًا لم يكن هو يعرف عنه قليلًا ولا كثيرًا. ورغم ما أبداه عبد الله من حذر وريبة، كان يضطر إلى دعوتي لاصطحابه في المسجد الكبير أو في بعض الرحلات الداخلية الخاصة، وكانت وظيفتي معه شبيهة بوظيفة مستشار حاكم الدولة. وإزاء أتعابي هذه كلها لم أكن ممن يتناولون مرتبًا من الدولة، فكنت تبعًا لذلك على خفض من العيش؛ فكان طعامي عاديًّا جدبًا يتكون غالبًا من العصيدة والبقول الحقيرة. وفي يوم أو يومين من الأسبوع كنت أتناول قطعة صغيرة من اللحم بعد شرائها خصوصًا من السوق.
تأكد عبد الله رغبتي في الحرية وتطلعي إلى الفرار من قيد الأسر. ورغم ما بذلته لتحويله عن ذلك الفكر، لم أستطع نفي ما في مخيلته من شكوك وريب، وفي الوقت نفسه كان يخشاني ويتملقني؛ فقد وهب لي الكثير من العبيد، وعرض عليَّ الزواج من بنات أسرته، واجتهد في تقديم هدايا كثيرة لي ليحول بيني وبين الفرار بطرق لطيفة، ولكني أصررت على الرفض إباءً، فزاد ذلك مخاوفه وشكوكه، وتأكد أني أتطلع لأول فرصة أتمكن فيها من مغادرة أم درمان إلى الخارج، وفي ذلك العمل خطر عظيم عليه خاصة وعلى بلاده عامة.
بعد سقوط الخرطوم سعى أفراد أسرتي في أوروبا جهدهم للوصول إلى معرفة أخباري الوثيقة، ولكنهم تأكدوا أن الظهور بهذا المظهر خطر داهم عليَّ إزاء عسف الخليفة وشكوكه.
لم يدخر فون جسلر — قنصل النمسا والمجر في القطر المصري — جهدًا في استقصاء أخباري. وقد وجد هذا الشخص الكبير المقام تعضيدًا ظاهرًا من جانب الضباط الملحقين بالجيش المصري وغيرهم من الموظفين. ومما أذكره عن أولئك الأخيرين أنهم كانوا الواسطة في وصول الأخبار إلى أفراد أسرتي عن طريق حاكم سواكن عام ١٨٨٨، فإني شخصيًّا لم أكن أستطيع إيصالها إلى الضباط؛ لأني — كما قلت في الصفحات السابقة — كنت محرومًا من الاختلاط بأي شخص أجنبيٍّ والتزاور مع أي موظف رسميٍّ.
مما تقدم يقف القارئ على مقدار فزع الخليفة وسوء ظنه، وقد زاد ذلك الريبَ وصولُ خطاب من الهرفون روستي — الذي خلف الهرفون جسلر في القنصلية النمساوية في القطر المصري — إلى الخليفة يطلب منه فيه التصريح بقبول قسيس يعظ الرعايا النمسويين المقيمين في السودان. وأظن أن أكبر ما أثر في الخليفة وحوَّل وجهته ضدي هو ورود خطاب من القنصل النمساوي يستعلم فيه عن الحالة في السودان. ومن المدهش أن الخليفة عبد الله استطاع كظم غيظه، فطلب مني كتابة بيان عن الموقف الأخير في أم درمان خاصة والسودان عامة. وبطبيعة الحال لم يبال الخليفة بخطاب الهرفون روستي، وكل ما عُني به هو اتهامي بالخيانة من ناحية، والكذب من الناحية الأخرى؛ لأني كنت أخبرته قبلًا أن جميع الرعايا الأوروبيين في السودان من الإيطاليين مع استثناء الأب أوهروالدر النمساوي، فقد جاء طلب القنصل النمساوي مخطئًا ومكذبًا لبياني، ومن الحق لم أرمِ من وراء ادعائي أن الأجانب في أم درمان جميعهم غير نمساويين إلا إلى شيء واحد؛ هو الخوف مما قد يحيق بهم من سوء عبد الله في حالة غضبه على شخصي، فقد يخيل إليه في اليوم الذي يريد فيه الاقتصاص مني أن يهلك جميع الأوروبيين لانتمائهم إلى الجنسية التي أنتمي إليها، في حين أني كنت أسعى جهدي لحملهم على النجاة.
كان الخطاب الواردة من الهر روستي ضربة قاضية على جميع تدبيراتي التي قمت بها لصالح إخواني، ومع ذلك سعيت إلى إقناع الخليفة بأن الغرض من كتاب روستي هو ضم جميع الأوروبيين المقيمين في السودان تحت الشعار النمسوي، ولكني عبثًا حاولت إقناعه؛ فقد عمد إلى مواجهتي بعد أن كان مكتومًا من قبل، ثم اتهمني بالكذب الصريح ومحاولة غشه.
وضع أفراد أسرتي مقدارًا من المال تحت تصرف قنصل النمسا الجنرال ليستعمله وقت الحاجة لمساعدتي، وقد تمكنوا من إيصال مقادير مالية مختلفة لي بواسطة العرب، وذلك بعد التسهيلات الشديدة التي تفضل بها عليَّ كثيرون من الضباط الملحقين بالجيش المصري مع سعادة الماجور ونجت مدير الإدارة الحربية، ولا أنسى في هذا الصدد أن أقول للقراء بأني في كثير من الأحيان كنت أستلم مقادير أقل من المذكورة في الرسائل التي سلمها إليَّ أولئك العرب، ولكني كنت مضطرًّا إلى تقرير حصولي على المبالغ كاملة. ومهما يكن الأمر فقد كنت شاكرًا لمن أرسلوا لي المال بمقدار شكري لمن أوصلوه إلى يدي؛ لأن الأخيرين ساعدونا مساعدة كبرى في حمل رسائل وتقارير سرية إلى أفراد أسرتي دون وصول الجواسيس إليها.
كنت شديد الحيطة في صرف المبالغ؛ فقد اجتهدت في الظهور بمظهر البائس الذي لا يجد ما ينفقه حتى لا تتطرق الريبة إلى نفوس العسس، وحتى لا يقف الخليفة على حقيقة أولئك الأعراب الذين تفضلوا بمساعدتي، وتبعًا لذلك عشت أبسط عيشة ودفعت ما وفرته لأصدقائي المعوزين.
وثق أصدقائي المقيمون في القاهرة — بعد أن حرمني الخليفة من أي اتصال بالخارج — أنه من المستحيل عليهم العمل على إنقاذي؛ ولذلك فكروا مليًّا في الطريقة التي أتمكن بها عند سنوح الفرصة من الفرار والنجاة من عسف عبد الله. وفي الحق كنت عارفًا من اللحظة الأولى التي وقعت فيها في الأسر أن نجاتي لا تتم إلا بواسطة الفرار في الفرصة المناسبة. وعلى الرغم من قضاء اثنتي عشرة سنة في عذاب وتحت نير الاضطهاد، لم يذهب الأمل لحظة واحدة من خاطري؛ فقد كنت على ثقة من الفوز بأمنيتي في النهاية بعد صبري العجيب.
قضيت السنين ولم يعلم إنسان حقيقة ما في نفسي وما اعتزمت تنفيذه، ولكني ذكرت عرضًا عرض لإبراهيم عدلان، وقد وعدني الأخير وعدًا صادقًا بأنه سيبذل أقصى ما في وسعه لإنقاذي.
ولكن من سوء الحظ قد وقع غضب الخليفة على إبراهيم عدلان هذا بعد أيام من وعده الشريف، فنفي من أم درمان وخسرت أنا بذلك النفيِ صديقًا مخلصًا وحاميًا شجاعًا نبيلًا.
عندما مات إبراهيم عدلان أفضيت بسري إلى شخصين أثق ثقة كلية في أمانتهما وقدرتهما على كتمان السر، ورغم كوني على ثقة — بالنسبة إلى ميلهما لي من ناحية وإلى كراهيتهما الشديدة للخليفة من الناحية الأخرى — من رغبتهما الشديدة في تخليصي من قبضة عبد الله، لم أوفق في سعيي ولم تصل مفاوضتي معهما إلى نتيجة، ولم يكن ذلك لقلة وجود المال الكافي لإنقاذي واستعماله في هروبي، وإنما يرجع إلى خوف ذينك الشخصين من افتضاح أمرهما وظهور اسميهما بعد فراري. وبما أنهما صاحبا عائلتين في السودان، فلم يكونا يرتابان في أن العمل الوحيد الذي يعمله الخليفة اقتصاصًا منهما هو نفيهما، ثم حمل زوجة كلٍّ منهما إلى دار حرم عبد الله، ثم تشريد أولاد كلٍّ من الرجلين؛ وهذا بلا ريب قصاص فظيع وعقاب لا تحتمله النفس.
في الوقت نفسه لم يكن أفراد أسرتي ساكتين، بل كانوا يدبرون كل الوسائل الممكنة لإنقاذي، ودعاهم حبهم إياي إلى بذل كل ما يستطيعون من عون وتعضيد. وبما أنهم كانوا على جهل كليٍّ بما يجري في السودان، وعاجزين عجزًا مطلقًا عن مد أيدي المساعدة من فينا إليَّ في أم درمان؛ لم تكن أمامهم وسيلة سوى دفع قيم مالية تستخدم لحسابي عند قنصل النمسا في مصر، وقد كانت تصدر إلى الأخير تعليمات من وزير خارجية النمسا باستعمال الأموال المذكورة على أحسن صورة ممكنة لإنقاذي. وإنه لمن الواجب عليَّ أن أذكر بالثناء البارون هدلر فون أجبرج — سفير النمسا المفوض في إحدى دول أوروبا الآن عام ١٨٩٥، والذي كان فيما مضى قنصلًا للنمسا في مصر — فقد سعى جهده لإنقاذي في الفرصة الملائمة، وبطبيعة الحال لم يكن من الحكمة التوصل لمساعدتي بواسطة أي شخص، فأمر الهروب خطير يستدعي الاستناد إلى الوثوق منهم ثقة تامة؛ ولذلك عمد القنصل النمساوي إلى اختيار أفراد مؤتمنين يسعون لي من جانب موظفي الحكومة، فانتدب القنصل لهذا الغرض الكولونل شيفر بك، وبعد مدة غير كبيرة استعان بالماجور ونجت، الذي أظهر في ظروف كثيرة عطفًا كبيرًا. ولا ريب في أني مدين بحريتي لكل من الماجور ونجت والبارون هولر؛ فبدونهما لم يكن ميسورًا الحصول على أشخاص أمناء من العرب يوصلون إليَّ المقادير المختلفة من المال، وسأظل طول حياتي شاكرًا لذينك الرجلين الكبيرين جهودهما المتواصلة في سبيل نجاح مسعاهما وتسهيل أمر الفرار على شخصي العاجز أمام الخليفة الشديد السطوة. ومع أن الجميع فشلوا في مساعيهم، وبدا منهم لمساعدتي ما أدخل الريبة في قلب الخليفة وفي قلوب جواسيسه المنتشرين حوله؛ فإني لا أزال أذكر تلك المهارة الفائقة التي بدت من جانبي الرجلين الفاضلين الأخيرين، حتى إن عبد الله لم يدر في خلده حولهما أي شك.
في الأيام الأولى من شهر فبراير عام ١٨٩٢، وصل إلى أم درمان من مصر الشيخ بكار أبو زبيبة، رئيس فرقة جمال دنقلة، وقد كان هذا الرجل من العرب العبابدة، فلم تكد تطأ قدماه أرض السودان حتى أحضر أمام الخليفة، وهناك قال لمولاه إنه فر من مصر وقدم عن طريق أسوان طالبًا عفو الخليفة والسماح له بالإقامة في بربر. وقد سهل له مهمته هذه جملة خطابات توصية إلى زكي عثمان أمير بربر، ولم يكد هذا الرجل يمر في ساحة المسجد الكبير ويلتقي بي حتى أسر لي في أذني: «إني أتيت لمساعدتك فاجتهد في مقابلتي.» فأجبته: «إن المقابلة تكون غدًا بعد صلاة المغرب في هذا المسجد.» وبعد النهاية من جوابي اختفى عن نظري. وعلى الرغم من وثوقي في النجاة وارتياح ضميري إلى أني سأنجو يومًا من ذلك العش، فإني لم أكن شديد الإيمان بذلك القول الأخير؛ لأني اختبرت أقوال السودانيين والعرب فوجدتهما في غالبيتها وعودًا كاذبة وأقوالًا لا ترمي لغير تبرير موقف قائلها وقت وقوفه أمامي، وتبعًا لذلك قضيت اليوم التالي كما أقضي كل يوم عاديٍّ، فلم أفكر في المقابلة أو نتيجتها؛ لأني لم أكن آمل تحقيقها، وفي حين حدوثها لم يكن يذهب بالي إلى أن نجاتي ستتحقق بعدها مباشرة.
بعد الانتهاء من صلاة المغرب في اليوم التالي، مر بكار في طريقه إلى الخارج بباب المسجد الذي تقابلنا فيه اليوم السابق، فتبعته بحذر شديد، ثم دخلنا معًا إلى القسم المحجوب عن الأنظار من بناء المسجد. وعندما غابت عنا عيون الناس وبعدت عن مجلسنا آذان السامعين، سلمني بكار صندوقًا من الصفيح يبدو من رائحته أنه يحتوي على كمية من البن، وقد قال لي صاحبي العربي: «لهذا الصندوق قاع مزدوج فافتحه واقرأ الأوراق الموجودة في آخر القاع الثاني، وسأقابلك هنا غدًا في الباب نفسه.»
بكار واد أبو زبيبة رجل مخلص أمين.
جعلنا (أنا وأحمد) نتساءل عما أصاب الرجال المرسلين لإنقاذنا، وأغلب ما اتجه إليه ظن كلٍّ منا هو أن الدراويش قابلوهم فقبضوا عليهم بعد أن شكوا في أمرهم وارتابوا، ومهما يكن الأمر فقد وصلنا إلى حيث كنا ممتلئين مخاوف وآلامًا مبرحة، وعندما فارقت أحمد عند ساحة الاستعراض طلبت منه أن يخبرني في المساء عما يحدث، وفي الوقت نفسه أكدت له أني مستعدٌّ لمحاولة الفرار في أية لحظة.
لم يكد يبدو السَّحَرُ حتى وصلتُ إلى كوخي الذي تركته منذ ساعات قليلة، وأظن أنه من الخير أن أترك للقارئ تصور شعوري وحالتي بدلًا من السعي إلى وصفها، فهذا الوصف مما لا أستطيعه ومن حسن الحظ أني وصلت قبل قدوم أحد الضباط — واسمه عبد الكريم — برسالة من الخليفة يسألني فيها عن سبب تغيبي عن صلاة الفجر، فأجبته بأني كنت مريضًا، وفي الحق كانت ملامحي كافية لإغراء الضابط بوقوعي في قبضة المرض الموجع.
عبثا انتظرت الأخبار من أحمد في ذلك المساء، ولم أعلم منه إلا بعد يومين عن العرب الذين كانوا معينين لإنقاذي، فقد رأى أولئك أنه من العسير جدًّا تخليصي من الأسر، ومن المجازفة الخطيرة التقدم لإنقاذي، فعمدوا إلى الرجوع من حيث أتوا وعدم الوفاء بوعدهم، وإذن عجزنا عن تنفيذ خطتنا، وقد حمدنا الله حمدًا عظيمًا إزاء منِّه علينا بالرجوع إلى أماكننا دون مراقبة أحد، ودون وقوف الخليفة وجواسيسه على سر تغيبنا في الساعات القلائل المذكورة سالفًا.
بعد أن رجعت سالمًا لمكاني في أم درمان كتبت إلى صديقيَّ في مصر شارحًا لهما كل ما وقع لي، فلم يقنطا واستمرا في تدبير وسائل المساعدة، وهنا اتجهت أنظارهما إلى الأب أوهروالدر، الذي عندما كان في مسينا زار أفراد أسرتي وأخذ منهم أقراصًا من الأثير تقوي الإنسان على احتمال السفر الطويل وتطرد النوم عن المرء، وقد جهز الأقراص المذكورة أوتو كارشياري وبعد إعدادها وصلت لي كاملة آمنة، وقد وضعت تلك الأقراص في زجاجة صغيرة تمكنت من دفنها بعناية تحت التراب في بقعة لا يعرفها أحد غيري.
أصبحت واثقًا الثقة كلها في عبد الرحمن واد هارون الذي أرسلته إلى مصر برسالة إلى البارون هدلر، ليعين له (عبد الرحمن) الوسائل التي يراها نافعة ومثمرة في طريق فراري، وقد تم للمرة الثانية اتفاق بين السفارة النمساوية في مصر وبين هذا التاجر — وقد تدخل في هذا الاتفاق الماجور ونجت وملحم بك شقير ونعوم أفندي شقير — على أن يأخذ عبد الرحمن ألف جنيه. تعطى المكافأة (١٠٠٠ جنيه) لعبد الرحمن في حالة واحدة؛ هي وصولي إلى القطر المصري سالمًا، وقد سلمت السفارة النمساوية هذا الرجل مائتي جنيه لإعداد الأشياء اللازمة قبل الشروع في الفرار.
في ذلك الوقت عين الماجور ونجت حاكمًا لسواكن، وقد خشي عدم نجاح عبد الرحمن، فأجرى اتفاقًا شبيهًا بالسالف مع رجل عربيٍّ اسمه الشيخ كرار، وكان المتفق عليه معه السعي إلى الفرار بي عن طريق طوكر أو كسلا.
مرسل إليكم الشيخ كرار الذي سيسلمك بعض إبر الخياطة كدليل على أن الذي يكلمك هو الشيخ، وتأكد أنه رجل أمين وشجاع، فثق فيه ثقة تامة وتقبل أصدق التحيات من ونجت.
عرفت بعد ذلك بقليل من أحد أقرباء عبد الرحمن واد هارون أن الأخير وصل إلى بربر من مصر، وأنه بدأ يجري المعدات اللازمة لفراري، ولكنه اعتزم — في سبيل إبعاد الريب والشكوك عني — عدم العودة إلى أم درمان، فكان هذا القرار من جانبه سبب كدر لي.
بدأ اليوم الأول من شهر يناير عام ١٨٩٥ بعد أن قضيت سنوات شدة واضطهاد إلى جانب عبد الله المستبد الظالم، فهل يمر ذلك العام كما مر أسلافه؟ وهل نأمل في خير جديد نحصل عليه في عامنا الجديد؟
على أية حال، كنت في مستهل ذلك العام شديد الثقة، وقد جال بخاطري هاتف يناديني بقرب الإفراج عني من ذلك الأسر، فكان قلبي يحدثني بأن أصدقائي المخلصين الكثيرين في الخارج سيوفقون لا محالة إلى إنقاذي، وأنهم سيكسرون أغلال الأسر ويمكنونني بفضلهم وكرمهم من مشاهدة أفراد أسرتي مرة أخرى على الأقل قبل موتي، وأني سأنعم بالعودة إلى الوطن ومشاهدة رفاق الصبا وأماكن سروري القديم.
في ليلة من ليالي النصف الأول من شهر يناير عام ١٨٩٥، مر بي في الشارع شخص لم تقع عليه عيناي من قبل، وقد أشار لي هذا الرجل إشارة فهمت منها أنه يقصد سَيرِي حيث يسير، فخشيت أن يكون جاسوسًا، فأظهرت له علامة التذمر والاستياء، فأجابني بعد ذلك: «إني الرجل الذي يحمل الإبر الصغيرة.» فلم أكد أسمع ذلك حتى عمني البِشر والسرور، فَقُدْتُ الرجل إلى زاوية مظلمة صغيرة مجاورة لكوخي، وهناك رجوته أن يسرع في شرح مهمته لي، فبدأ بتقديم ثلاث إبر صغيرة وورقة صغيرة، ثم قال لي بعد ذلك: «إن الفرار مستحيل في الوقت الحالي.» وأضاف إلى ذلك قوله: «قد أتيت بعد أن اعتزمت عزمًا أكيدًا حملك معي إلى كسلا، ولكن الفرار إلى تلك الناحية أصبح في الوقت الحالي عسيرًا؛ بعد إنشاء محطات حربية في كلٍّ من الفاشر وأسوبري وخور رجب والعطبرة المتصلة بعضها ببعض اتصالًا مباشرًا إلى كسلا.» وزاد على ذلك قوله بأن أحد جماله قد مات، وأنه خسر كثيرًا من ماله بالنظر إلى كساد الشئون التجارية؛ وإذن ليست لديه وسائل كافية لإنقاذي في الوقت الحالي، وتبعًا لذلك طلب مني أن أعطيه خطابًا للماجور ونجت أسأله فيه تسليمه (الرجل المذكور) مقدارًا جديدًا من المال، وقد وعدني هذا الشخص وعدًا أكيدًا بأنه سيرجع إليَّ في بحر شهرين.
أما أنا شخصيًّا فقد وثقت أن الرجل لن يسمح بتعريض حياته للخطر في سبيل إنقاذي، وبما أنه أخبرني بعزمه الأكيد على السفر وعدم تمكنه من التأخير، طلبت منه بإلحاح أن يقابلني في المسجد الكبير مساء اليوم التالي، وعندئذ افترقنا، فرجعت إلى مكاني العادي عند باب الخليفة.
أما الورقة التي سلمها إليَّ الرجل من سواكن فتحتوي على توصية ومدح فيه (الرجل) من الأب أوهروالدر، وقد أجبت على هذه الورقة إجابة مختصرة شرحت فيها كل ما وقع لي. وعندما تقابلنا في الليلة التالية سلمت شيخنا هذا خطابي، فأسرع في ضمه إلى جيبه أملًا منه أن فيه ما يضمن له الحصول على مقدار جديد من المال حسب طلبه، وفي الحق كنت شديد الفزع كثير القنوط. وعلى هذه الحالة عدت إلى منزلي حيث مررت فجأة بمحمد ابن عم صديقي عبد الرحمن، وكأنما قدرت الاتفاقات أن يسير إلى جانبي في تلك اللحظة حيث همس في أذني «نحن على استعداد»، وأضاف إلى ذلك «اشترينا الجمال وأحضرنا المرشدين في الطريق، والوقت المعد لنجاتك هو الربع الأخير من القمر في الشهر القادم، فكن مستعدًّا.» ولم يضف إلى ذلك شيئًا، وقد شعرت هذه المرة شعورًا صادقًا بأنه من الواجب الابتعاد عن اليأس الذي يتخلل الأمل في فترات مختلفة.
قبل أن ينتهي شهر يناير من عام ١٨٩٥ وصل إلى أم درمان حسين واد محمود مزودًا بتعليمات وتوصيات البارون هيدلر والماجور ونجت، وقد أخبرني هذا الرجل العربي الجديد أنه على أهبة الاستعداد لحملي على الفرار، وقد رجاني حسين هذا أن أكتب لأصحاب الشأن في مصر بحقيقة ما عمله «حسين»، وأن يحمل ما أكتبه إلى مصر أحد أشقاء حسين أثناء رحيله للقطر المصري. وبما أني كنت مقيدًا باتفاقي مع عبد الرحمن، اضطررت إلى الانتظار للوقوف على ما يعمله لعله يوفق إلى النجاح، ففي حالة فشل مساعيه (عبد الرحمن) عولت على الاستناد إلى حسين هذا، وحتى لا أصدم الأخير — بدلًا من تقديم الشكر له على الأقل — أخبرته بأني في الوقت الحالي أرى صحتي غير قادرة على موالاة رحلة كبيرة، وأني سأخبره بعزمي النهائي في آخر شهر فبراير، وفي الوقت نفسه أعطيته خطابًا لأصدقائي في مصر ذكرت لهم عامة ولهيدلر خاصة بأني عولت على الفرار مع عبد الرحمن، متمنيًا في سعيي هذا توفيقًا تامًّا، وفي حالة فشلي — وقد دعوت الله الرحمن أن يحول دون هذا الفشل — لا أجد غير «حسين» وسيلة لفراري. وإني لا أكتم القارئ حقيقة ما دار في نفسي بعد أن كثر عارفو سري والواقفون على رغبتي؛ فقد خشيت أن يفتضح السر عند الخليفة، وإذ ذاك تنزل عليَّ صواعق عسفه وغضبه، فإني لم أكن أتردد لحظة واحدة في الثقة بأن الخليفة في حالة ريبة جزئية وشكٍّ بسيط في مسعاي سيقدمني إلى أشق صنوف الموت بعد أن يلقيني في السعير (السجن)، وبطبيعة الحال كان عبد الله يتلمس أي ظرف للفتك بي؛ لأنه كان فيما بينه وبين نفسه يخافني كثيرًا.
أخبرني محمد يوم الأحد ١٧ فبراير سنة ١٨٩٥ في كلماته القليلة، أن الجِمال المعدة للفرار ستصل في اليوم التالي، على أن تستريح من تعبها يومين، وفي ليل ٢٠ فبراير نتمم مشروعنا الخطير. وزاد على ذلك أنه في مساء الثلاثاء ١٩ فبراير سيشير إليَّ إشارة أفهم منها أن كل شيء قد انتهى على أحسن صورة، وأدركت أنَّا سنقوم بالرحلة الطويلة الشاقة التي تحتاج إلى صبر طويل وعزم ثابت.
ظللت أنتظر بأمل وخوف؛ فالأمل يدفعني إليه ما قضيته من أعوام طوال في عيش مرير قد ينتهي بعد يومين إلى حرية مطلقة، وأما الخوف فمما قد يعترضنا في سبيلنا. وعلى أية حال كنت شديد الشوق إلى مساء الثلاثاء حتى جاء ذلك الليل والتقيت بمحمد على باب المسجد الكبير؛ حيث همس في أذني بسرعة داعيًا إلى الاستعداد للسفر، ثم افترقنا على أن نتقابل الليلة القادمة.
إني أعترف للقراء أني قضيت القسم الأكبر من تلك الليلة في حالة اضطراب شديد؛ فكنت بين آن وآخر أقول: «هل يفشل ذلك التدبير كسابقه؟» وما زلت أردد القول: «هل يعترض سبيلنا حادث غير منظور يقضي على كل ما لديَّ من آمال؟» وإزاء ذلك الاضطراب الفكري، لم أستطع النوم لحظة واحدة حتى بدا الفجر، فمن شدة التعب أغرقت في النوم العميق ساعتين أو ثلاث ساعات، تمنيت بعدها أن أكون في نشاط يمكنني من الابتداء في رحلتي الخطيرة.
حان صبح اليوم التالي الذي كان معدًّا لعملنا الخطير، فبدأت في تنفيذ المشروع بالحيلة الوحيدة المعقولة؛ وهي ادعاء المرض، فوقفت لدى باب الخليفة، وهناك ظهرت بمظهر الضعيف المريض وطلبت من رئيس ضباط حرس عبد الله السماح لي بالتغيب عن صلاة الفجر في يومنا هذا، بعد أن أخبرت هذا الضابط المذكور أني تناولت مقدارًا من الشاي والتمر الهندي لتخفيف ما بي من ألم، على أن أبقى هادئًا في منزلي في اليوم التالي. وقد حمدت الله لأني تمكنت من الحصول على الإذن بالتغيب عن الصلاة، وزيادة على ذلك وعد عبد الكريم بأنه سيعتذر عني لدى الخليفة في حالة سؤال الأخير عن تغيبي. ولم أكن في شكٍّ من أن الخليفة عندما لا يراني في صلاة الفجر سيسأل عني بطريقة ماكرة، يريد بواسطتها الوقوف على حقيقة عملي والتثبيت من وجودي في المنزل، إلا أنه سيدَّعي طلب الاستفسار عن صحتي بإرسال من يراني من قِبله، وإذن فالمسألة خطيرة. ومهما يكن الأمر فلم تكن أمامي أية وسيلة خلاف هذه للاعتذار عن الامتناع عن صلاة الفجر.
قبل غروب شمس ذلك اليوم جمعت خدمي، وبعد أن أقسم أولئك على الاحتفاظ بالسر وعلى عدم ذكر ما أقوله لهم لأي شخص آخر، أخبرتهم أن شقيق الرجل الذي أحضر لي رسائل ونقودًا مالية وساعات صغيرة من أقربائي منذ سبع سنوات، قد وصل أخيرًا بأشياء أخرى جديدة، وبما أنه وصل بدون علم الخليفة فقد اضطررت إلى عدم إفشاء سر مجيئه الأخير؛ حتى لا تحوم حوله أية شبهة بدون وجه حقٍّ. وعلاوة على الكلمات السابقة قلت لخدمي إني اعتزمت زيارة الرجل المذكور في تلك الليلة؛ لأني اعتزمت الإفضاء إليه بأقوال يذكرها لأقربائي بعد عودته إلى مصر ومقابلة قنصل النمسا في القطر المصري. وللإسراع في تنفيذ الرغبة وابتعاد الرجل عن عيون الرقباء، فضلت الإفضاء إليه بما عندي في أقرب ساعة ممكنة من الليل. وبطبيعة الحال صدق الخدم أقوالي؛ لأنهم اعتادوا في السنوات الطويلة التي قضوها معي سماع الأقوال والأنباء الصادقة مني، وعلاوة على ذلك طمع أولئك الخدم في الحصول على أشياء من الطرائف التي أحضرها الرجل معه من الخارج؛ وإذن اضطروا إلى الاحتفاظ بما سمعوه وعدم إذاعة سر ذلك الرجل.
في سبيل تنفيذ مشروعي الخطير، طلبت من خادمي الأمين (أحمد) مقابلتي في صباح اليوم التالي، في الطرف الشمالي من أم درمان على مقربة من ميدان فير، على أن تكون بغلتي مع هذا الخادم في الوقت المحدد. وزدت على ذلك أن نصحت له بعدم الاضطراب أو القلق في حالة تأخيري عن الميعاد؛ لأن العمل الذي رغبت في إنجازه يقتضي بطبيعة الحال وقتًا كبيرًا. وعلى أية حال، ألححت عليه (أحمد) بعدم مغادرة مكان المقابلة حتى أسلمه المال الذي آخذه من الرجل العربي الذي حضر من الخارج، وبعد أن يستلمه أحمد يوصله إلى منزلي ويأخذ مكافأة على ذلك.
أما الخدم الآخرون فقد شددت عليهم في الاحتفاظ بالسر والتزام الصمت الكلي؛ لئلا يصيبني خطر جسيم من جراء افتضاح الأمر المكتوم.
أفهمت كلًّا من خدامي على حدة أنه في حالة استفسار أحد الضباط عني من أيهم (الخدم)، يكون جوابه على الضابط بأني قضيت ليلة شاقة جدًّا، اضطررت إزاءها إلى مغادرة فراشي (المؤلف) ليلًا في صحبة خادمي أحمد لسماع نصيحة طبية من شخص لا يعرف أحد مقره، ولكن الذي يعرفه جميعنا (الخدم) هو ذهابه إلى شخص خبير بالمرض وملمٍّ بوصف الأدواء الناجعة.
رغبت بعد كل ذلك التضليل أن أسبك حيلتي وأحسن تمثيل روايتي الخيالية، فأفهمت خدمي بأني «مضطرٌّ للحصول على مقدار كبير من المال في صباح اليوم التالي، فلا حاجة بي إلى قسم كبير مما معي؛ لذلك أرى أنَّ أحسن وأفضل مكان يفرق فيه ما معي هو أيدي خدمي الأمناء.» وحققت القوم بالفعل، فنفحت كلًّا منهم ببعض ريالات. وكل ما رميت إليه من تضليلي هو تأجيل الميعاد الذي يذاع فيه خبر فراري؛ فقد كنت على ثقة من أن سر تغيبي سيعرف لا محالة، سواء أَذَكَرَ خدمي حقيقة عملي أم لم يذكروها، ولكني إلى جانب ذلك عرفت أن تكتم أولئك الخدم سيؤخر انتشار الخبر بضع ساعات تساعدني في الابتعاد مسافة جديدة عن المكان الذي فررت منه. أما خادمي أحمد فكان ينتظرني في المكان الذي عينته له راكبًا بغلتي، وأما الخدم الذين أكثرت لهم الوعود فعلى انتظار المال الجديد الذي يوزع عليهم بسخاء!
ادعيت واختلقت من الأقوال كل ما يستطيع العقل التحايل به على أمثال أولئك الخدم السودانيين. ولكني وجدت — إلى جانب ما قلته ورتبته — الحاجة ماسة إلى حساب تدخل الخليفة واستفساره عني، فأدركت أن الخليفة سيسأل عني فيلقى من خدمي إجابة تدعو إلى الريبة والشك، وحينئذ يأمر الخليفة أحد الخدم للبحث عن أحمد، وهذا البحث يستغرق زمنًا بطبيعة الحال، فإذا ما وصلوا إليه ذكر أحمد للخليفة حكاية الشخص المنتظر قدومه لتسليم ما هو خاصٌّ بي (المؤلف)، وتلك العملية الجديدة تستغرق وقتًا آخر يعقبه فشل الباحثين، وعندئذ فحسب ينقب عني العسس والجنود والضباط بعد أن أكون في الواقع اكتسبت الوقت المساعد للفرار.
بعد أن أدركت ذلك عدت إلى إفهام خدمي بما ينطقون به عند الخليفة في فترات مختلفة.
بعد أن أديت صلاة العصر عدت إلى منزلي فجمعت خدمي مرة أخرى وشددت عليهم بالاحتفاظ بالسر الهام، ثم وعدتهم الوعود الكثيرة بما سأقدمه لهم من هدايا وأموال. وبعد ذلك خرجت من عتبة البيت الذي سكنته أكثر من عشر سنين، وقبل خروجي توسلت إلى الله تعالى أن يحفظني في رحلتي الشاقة، وأن يحميني من حياة الأسْر والعبودية.