حكومة دارفور
كانت سنة ١٨٨٠ سنة سلام وهدوء نسبيين في دارة، وكانت أهم أعمالي إدارية؛ فقد زرت تقريبًا جميع القرى بنفسي، وعرفت جميع القبائل العربية القوية التي كانت على الدوام مشتبكة بعضها مع البعض في قتال متواصل أو موشكة على القتال، وقد قمت بينها عدة مرار بالصلح.
ووجدت في ختام سنة ١٨٨٠ أن لديَّ عدة أشياء تستحق مراجعة الحاكم العام، فطلبت الإذن بالذهاب إلى الخرطوم لكي أقابل رءوف باشا الذي صار حاكمًا عامًّا بعد سفر غوردون، وقد أجيب طلبي فبرحت دارة في سنة ١٨٨١ وبلغت الخرطوم بعد أسبوعين.
هناك وجدت زربوخين الذي رحب بي وأنزلني بمنزله القريب من مكان الرسالة الكاثوليكية الرومانية، وكان ملكًا للمرحوم لطيف دويونو، وهو رجل ملطي كان نخاسًا شهيرًا.
وفي مدة إقامتي في الخرطوم كنت أحادث رءوف باشا كثيرًا عن أحوال دارفور، واقترحت أنه يحسن عدلًا وإنصافًا أن تخفض الضرائب في الفاشر وفي كبكبية، وطلبت منه أيضًا أن يأذن لي بأن أجبر العرب على أن يعطوني كل عام عددًا من العبيد؛ لكي أملأ بهم الفراغ الذي يقع في الجيش بالأمراض والوفيات والحوادث، وطلبت أيضًا منه أن يأذن للعرب بأن يدفعوا الضرائب عبيدًا بدلًا من المواشي؛ لأني أؤمل بهذه الطريقة أن أسترجع إلى جيشنا جنود «البازنجر»، الذين كانوا ملتحقين بجيش سليمان زبير وصاروا الآن متفرقين في القبائل، وقلت إن معرفتهم بالأسلحة من أسباب الخطر الدائمة للحكومة، فوافق رءوف على جميع طلباتي وأعطاني صكًّا مكتوبًا بذلك.
ولما كنت في الخرطوم جاءني في يوم ما من يُدعى حسن ولد سعد النور، وهو دارفوريٌّ، وكان أبوه قد قتل مع وزير أحمد شحاتة في شقة، فرَجاني أن أتشفع له لكي يعود إلى دارفور، فقابلت رءوف باشا وطلبت ذلك منه فرضي، ولكنه بعد أيام أرسل لي وقال إنه عاد فألغى أمره، وإنه لا يسمح بعودة هذا الرجل إلى دارفور، فقلت إن كل جنايته أنه اشترك في الثورة وقد فعل غيره ذلك، وإنه لا سبيل له الآن إلى إيصال الأذى بالحكومة، ولكن رءوف باشا أبى أن يوافقني على رجوعه، وشعرت أنا بالإهانة لأني كنت وعدت هذا الرجل بأنه سيرجع، فقلت لرءوف باشا إنه بين اثنتين؛ إما رجوع الرجل وإما قبول استقالتي، وخرجت مغضبًا فاستدعاني بعد ذلك بيومين، وقال لي إني كنت مخطئًا في وعد هذا الرجل بالرجوع فأقررت بذنبي، فقال لي إنه سمح برجوعه وإنه يعتقد أني موظف عنيد ولكني ذو كفاية؛ ولذلك طلب من الخديو توفيق باشا أن يعيِّنني حاكمًا لدارفور وأن يمنحني لقب بك، فشكرته وأكدت له أني سأعمل جهدي لكي أحقق ثقته فيَّ.
ثم طلب مني رءوف باشا أن أكتب له ضمانًا أتحمل فيه تبعة مسلك نور في المستقبل، فكتبت هذا الضمان وأنا مسرور؛ لأني شعرت أنه بعد كل ما تحملت من المشاق لأجل رجوعه إلى وطنه سيحسن سلوكه ويثبت ولاءه وأمانته، ولما عدت إلى منزلي أرسلت في حضور نور، وكان قد مضى عليه يومان وهو لا يدري ما تنتهي إليه مسألته، فلما أخبرته بأنه قد أذن له بالرجوع إلى وطنه انكبَّ على قدمي وأخذ يشكرني ويكثر من الدعاء لي، وشعرت بأنه رجل شريف يمكن الاعتماد عليه، ولكني كنت وقتئذ أجهل أني قد ضممت إلى صدري ثعبانًا.
وانتهت إجازتي بالخرطوم بسرعة بين الأصدقاء الكثيرين، وقد وصل إلينا في أواخر يناير سنة ١٨٨١ الأسقف كومبوني والأب أوهروالدر والأب دختل، وكانوا قد جاءوا من القاهرة، ووصل إليها أيضًا حسن باشا رئيس المالية وبوساني وهانسل القنصل، وقد نزل أوهروالدر ودختل في منزلي، وكم كان لنا من حديث معًا عن وطننا المحبوب.
وفي ٢٥ يناير ١٨٨١ وصل جسي باشا إلى الخرطوم وصحته في غاية السوء، قد برح مشرى الرق وركب النيل قاصدًا إلى الخرطوم فحجز السد سفينته؛ والسد هو تلك النباتات التي تنمو في النيل بحيث يحتاج أحيانًا إلى قطعها بالفئوس لكي يشق طريقًا للسفينة، وبقي ثلاثة أشهر وهو يعالج اجتياز السد، ولقي الأمرَّين من جوع وأمراض بين رجاله، ومات أكثر رجاله وصار بعضهم يأكل بعضًا للجوع، ثم أنجده أخيرًا ملنرو في الباخرة بردين وحمله عليها إلى الخرطوم حيث عنيت به الراهبات، ولكن الصدمة التي نالت جسمه كانت قد هدَّته، فلم ينجح الدكتور زربوخين مع كل ما بذله في رد عافيته إليه، ثم قررنا جميعًا أن يرسل إلى مصر وبذلنا كل مجهود لكي يشعر بالراحة والرفاهية في سفره، وكان يرغب في أن يأخذ معه خادمه ألماظ وكان خصيًّا، ولكن رءوف باشا خشي أن تتقول الأقاويل عن إدارته في السودان بوجود هذا الخصي مع جسي باشا، فرفض أن يأذن له بمرافقته، ولكن إلحاحي وإلحاح زربوخين عليه جعلاه يلين في النهاية ويسمح له بالسفر معه، وفي يوم ١١ مارس حملنا جسي إلى ذهبية الحاكم العام حيث سارت به إلى بربر، ومن هناك حمل إلى سواكن ونزل في الباخرة التي نقلته إلى السويس، وكان قد تغلب عليه الضعف حتى لم يكن يقوى على الحركة، ووصل إلى السويس في ٢٨ مارس ونقل إلى المستشفى الفرنسي، ولكنه مات بعد وصوله بيومين.
ولم تكن الحال في هذه الأثناء على ما يرام في دارفور؛ فقد كتب إليَّ زوجال بك يقول إن عمر واد دارهو قد سار سيرة سيئة في شقة، وقدمت خطابه هذا إلى رءوف باشا فأرسل إليه في الحال تلغرافًا يأمره فيه بأن يسافر إلى الفاشر.
ولم يعد لي في الخرطوم ما يؤخرني عن السفر فعزمت على أن أقوم بأسرع ما يمكن لكي أتسلم أعمالي، ووضع رءوف باشا باخرة تحت تصرفي فتركت الخرطوم في ٢٩ مارس، ورافقني الأسقف كومبوني والأب أوهروالدر الذي وعدته بأن أحمله على جمالي إلى الأبيض، وقد شيعنا هانسل القنصل وماركو بولي بك وزربوخين وماركيه إلى طرة الحضرة حيث ودعناهم، ولم أفكر وأنا أودعهم أنني لن ألاقي منهم بعد ذلك سوى واحد وأن تُقدر لي العودة إلى عاصمة السودان في ظروف غريبة، وكنت شابًّا يملؤني إحساسي بالمركز الجديد الذي شغلته والتبعات العظيمة التي تحملتها بحماسة وأمل في المستقبل، ولكن الأقدار كانت تخفي عنا حظًّا آخر.
وبعد مسيرة خمسة أيام بلغنا الأبيض فبرحها الأسقف وقام بسياحة في جبل نوبة، أما الأب أوهروالدر فقد بقي فيها مدة ثم سافر في أعمال الرسالة إلى دلين في جنوبي كردفان، ومكثت في الأبيض بضعة أيام ثم تسلمت تلغرافًا لكي أقوم إلى فوجة فودعت صديقي وسافرت إليها، وكان مقدرًا لي ألا أرى صديقي الأسقف؛ فإنه مات في الخرطوم في سنة ١٨٨١.
أما الثاني أوهروالدر فقد حكم علينا القدر بأن يمنى كلٌّ منا بمحن عديدة قبل أن نتلاقى أسيرين عند المهدي، الذي كان يوشك أن يقلب وقتئذ كل نظام أو حكومة في السودان.
ولما برحنا الأبيض أغذذنا السير حتى وصلنا دارة ومنها إلى الفاشر حيث بلغتها في ٢٠ أبريل، ووجدت الأحوال الإدارية قد بلغت درجة عظيمة من الارتباك والفوضى، فقضيت بضعة أشهر وأنا أجتهد في إيجاد شبه نظام فيها، ونجحت في ذلك بعد أن جُلت في أنحاء المديرية، وباشرت عدة أعمال بنفسي وكبرَ رجائي في الإصلاح.
ولم أكن قد رأيت بعد الجزء الشمالي الغربي من المديرية، فتعللت بأخبار القتال بين عرب البادية وعرب المهرية وعولت على زيارة هذا الجزء، وفي منتصف شهر ديسمبر سنة ١٨٨١ برحت الفاشر ومعي ٢٠٠ من الجنود المشاة وبعض الخيالة غير النظاميين، وكان يقودها عمر واد درهو.
وبعد مغادرتنا الفاشر حططنا رحالنا للمبيت قرب آبار مدجوب، وهي تقع في منتصف الطريق إلى قبة، فلما خيم الظلام خرجت أتمشى نحو الآبار وكانت ملابسي تشبه ملابس الجنود، فلم يكن من السهل معرفة شخصي، وقعدت قريبًا من الآبار أنظر إلى النساء وهن يستقين، وجاء بعض الخيالة لكي يسقوا خيولهم وطلبوا من النساء أن يعطينهم دلاءهن، فرفضت النساء وقلن لهم: «سنملأ جرارنا أولًا ثم نعطيكم الدلاء.»
فقال أحد الجنود: «لكأنَّكنَّ تحكمن علينا بالعقاب من الله، وهذا جزاء منح الحرية للبلاد، والله لو لم يكن سلاطين معنا لأخذناكن أنتنَّ وجراركنَّ ملكًا لنا.» فأجبنه قائلات: «الله يطول عمره.»
فرجعت وأنا في غاية السرور لأني سمعت بأذني شهادة السودانيين بارتياحهم إلى الأوروبيين الذين نجوهم من المظالم التي كانت تتسم بها حكومة البلاد السابقة.
أغار درويش يُدعى محمد أحمد بدون مسوغ على راشد بك وجنوده، قريبًا من عذير، وأباده هو والجنود، الثورة خطرة جدًّا، اعمل اللازم في مديريتك حتى لا ينضم إلى هذا الدرويش أي واحد من الساخطين.
وصلت إليَّ الرسالة، وسأتخذ الإجراءات اللازمة لإنفاذ أوامرك.
وقد كنت سمعت قبل وصول هذه الرسالة إليَّ بمدة أن شيخًا من مشايخ الدين قد ظهر وأخذ يناوئ الحكومة ويحث الناس على العصيان، ولكني لما لم أسمع شيئًا عنه من الحكومة بصفة رسمية استنتجت أن مسألته قد سُويت، ولكن إبادة المدير راشد بك وجنوده صارت تبدو لي الآن في غاية الخطر، والظاهر أن الحركة قد امتدت فجأة ولكن من كان يمكنه وقتئذ التنبؤ بالنتائج الهائلة التي بلغتها فيما بعد هذه الحركة.
ولم يكن من الممكن الآن أن أرجع بعد أن شرعت في السير نحو عرب البادية وعرب المهرية بدون أن أثير القلق في النفوس عن علة رجوعي في نصف الطريق، فعولت على أن أتمم هذه المهمة قبل رجوعي.
ومن الغريب أن عرب البادية هؤلاء مع أنهم محاطون من كل جانب بالمسلمين، يكادون يؤلفون القبيلة الوحيدة التي لا تزال متعلقة بعادات الوثنية القديمة في وسط أفريقيا، فإذا سئل أحد رؤسائهم أن يصرح بدينه قال: «لا إله إلا الله محمد رسول الله»، ولكنه لا يعرف شيئًا غير هذه العبارة؛ فهو يجهل القرآن ولا يصلي مع المسلمين.
وكانت عرب البادية يجتمع رجالها تحت شجرة كبيرة جدًّا من شجر الهجلك وقد فرشت أرضها بالرمل، فيتمنون على إله مجهول ما يريدون ويدعونه إلى حمايتهم.
ولهم أعياد دينية تقع في أوقات غير معينة، فيصعدون إلى التلال ويقفون على القمة التي يَطلونها بالجير ثم يذبحون أضحياتهم، وهم طوال الأجسام لهم هيئة شريفة ولونهم أسود شديد السواد، ولكن أنوفهم دقيقة وأفواههم صغيرة؛ وهم لذلك أشبه بالعرب منهم بالزنوج، ونساؤهم مشهورات بشعرهن الطويل السبط، وبينهن جميلات يشبهن جميلات العرب، وهم يلبسون وزرة من جلود الحيوان، ولكن النساء والطبقة العالية من الرجال يلبسون ملابس طويلة مصنوعة من قطن دارفور، وطعامهم غاية في البساطة.
فهم لا يعرفون القمح ولا يزرعونه وإنما يأخذون لب القرع الذي ينمو عندهم بكثرة وينقعونه في آنية مصنوعة من لحاء الشجر، ثم يقشرونه ويتركون اللب في الماء حتى تذهب عنه مرارته، ثم يصفونه ويمزجونه بالبلح، ثم يجففونه ويطحنونه دقيقًا يخبز مع اللحم فيكون طعامًا.
ولهم عادات غريبة في الميراث، فإذا مات أحدهم اجتمع أقاربه وحملوه إلى قبره في الجبانة التي تقع عادة خارج الحلة أو القرية التي يعيشون فيها، فإذا دفن وقفوا مستعدين فتُشار لهم إشارة خاصة فيعْدون إلى بيت الميت متسابقين، فمن بلغه قبل غيره غرز رمحه أو قوسه، فيصير بذلك الوارث الوحيد لما ترك الرجل من مال ونساء ما عدا أم المتوفى، وله الحق عندئذ في أن يتزوج النساء أو يسرحهن حسب حالته المالية، فإن عدد النساء يتوقف على غنى الرجل أو فقره.
ووصلنا أخيرًا إلى كامو حيث أخبرني الزغاوة الكبير الشيخ صالح دنقوسة بأن رؤساء عرب البادية سيحضرون في الغد، واتفقت معه على أن تكون شجرة الهجلك مكان اللقاء والمفاوضة، وأن يكون ميعاد المفاوضة بعد ساعة من شروق الشمس، ويكون هو ترجمانًا بيني وبينهم، وأمرت رجالي بنصب خيامهم على بعد نصف ميل من شجرة الهجلك ثم صففتهم في صباح اليوم التالي؛ استعدادًا للقاء رؤساء البادية الذين أخبرنا صالح المذكور بقدومهم، ووقفت مع ضباطي ومع السنجق عمر واد دارهو متقدمين على الجنود بنحو مائة ياردة ومعنا الخدم وقوفًا إلى جانب الخيول، ثم ظهر لنا رؤساء البادية قادمين إلينا ومعهم صالح وأيديهم مكتوفة إلى صدورهم ورءوسهم منكسة، وقد أحضروا معهم ترجمانًا فتبادلنا التحية بواسطته، ثم أمرت ببسط السجاد على الأرض ودعوتهم إلى الجلوس عليه، أما أنا وضباطي فقد جلسنا على الكراسي ثم تناولنا شيئًا من السكر والماء والملح وشرعنا في المفاوضة.
وكان رجال البادية أربعة كلهم طويل شريف الهيئة ذو ملامح حسنة في سن الكهولة، وكانت ملابسهم جلابيب بيضاء أحضرها لهم صالح، وكانوا يحملون السيوف العربية المستقيمة، وكانت أسماؤهم: جار النبي، وبوش، وعمر، وكركرة. ولكني لست متأكدًا بأنهم لم يتخذوا هذه الأسماء العربية المطنطنة وقتيًّا للظرف الحاضر فقط، وكان أتباعهم يبلغون من ستين إلى سبعين رجلًا يلبسون القمصان والجلود وقد وقفوا وراءهم على بعد منهم، وقعد صالح دنقوسة قريبًا من الشيوخ ومن المترجم.
نحن من قبيلة البادية، وقد كان آباؤنا وأجدادنا يدفعون الخراج لسلطان دارفور كل سنتين أو ثلاث عندما كان يرسل جُباته لجمعه، وأنتم الأتراك قد تغلبتم الآن على دارفور ولم تسألونا قط أن ندفع لكم خراجًا، وأنت (لسلاطين) قد صرت حاكمًا للبلاد كما أخبرنا بذلك صديقنا وأخونا دنقوسة، ونحن نقر بطاعتنا لك، وقد أحضرنا معنا رمزًا لهذه الطاعة عشر خيول وعشر جمال وأربعين بقرة، فهل لك الآن أن تقرر قيمة الخراج المطلوب منا؟
وصارت النوبة إليَّ في الكلام، فبعد أن قلت «كرسي سلم» قلت: «أنا أشكركم على خضوعكم وسأطلب خراجًا صغيرًا، ولكني جئت هنا لكي أطلب منكم أن تردوا إلى المهرية جمالهم التي سرقتموها وتردوا إليهم أسراهم الذين تحبسونهم الآن.»
فتريث جار النبي هنيهة ثم قال: «منذ عهد آبائنا ونحن في ثارات مع العرب المحيطين بنا، فإذا قاتلناهم وأسرنا منهم أسرى فمن حقنا أن نطلب فداءهم، وكثيرًا ما قبلنا قبلًا فكاك أسرى المهرية.»
فسألت الشيخ حسب الله عن صحة هذه الدعوى فأجاب بالإيجاب، فسألته ثانيًا: «هل كانت هذه العادة تجري مدة سلاطين دارفور فقط، أو أنها جرت أيضًا بعد دخول دارفور في حكم الحكومة المصرية.»
فأجاب: «قبل أن تفتحوا البلاد ومنذ سنتين غزت المهرية بلادنا فصددناهم فارتدوا عنا.»
فنظرت إلى حسب الله ووجدت من عينيه أن الرجل يقول الحق فقلت: «قد يكون ذلك ولكني في ذلك الوقت لم أحكم هذه البلاد، وأنا أعرف أنكم في تلك الأيام كنتم تعملون ما كنتم تظنونه صوابًا، ولست ألومكم على ما فات ولكني أنا الآن الحاكم وأطلب منكم السير على رغبتي، فيجب إذن أن تردوا الأسرى، ولكن بما أن المهرية قد بدءوكم بالهجوم فأنا أسمح لكم بأن تحتفظوا بنصف الجمال برهانًا على شجاعتكم في رد غارتهم.»
فخيم سكوت طويل ثم أخذ الأربعة يتفاضلون معًا، وأخيرًا أجاب جار النبي بقوله: «سنطيع أمرك، ولكن بما أن جمع الجمال يحتاج إلى مدة طويلة لتفرقها في أنحاء البلاد، فإنه من الأسهل علينا أن نرد الأسرى.»
فقلت: «إذن التفتوا لما أقول ونفذوا هذه الأوامر بأسرع ما يمكنكم، ردوا الجمال وأنا أعفيكم من خراج هذا العام؛ لأني أعرف أن من الصعب أن تدفعوا الخراج وتردوا الجمال في وقت واحد.»
ورأينا أن هذه التسوية قد وافقتهم حتى صاروا يكثرون من الشكر والدعاء، فطلبت منهم البقاء لصباح اليوم التالي وقلت: إن صالح سيُعنى بكل حاجاتكم. ثم امتطينا خيولنا وأمرت الجنود بأن يطلقوا ثلاث طلقات، وقد ذُعروا عندما صكت آذانهم؛ لأنهم لم يسمعوا إطلاق العيارات النارية قبلًا، ثم أمرت صالحًا بأن يحضرهم لي في صباح اليوم الثاني، وركضت جوادي إلى مضرب خيامنا.
وقضيت طول النهار وأنا مشغول البال بشأن رجوعي إلى الفاشر بدون أن يؤثر رجوعي في نجاح بعثتي، ولم يكن من المتيسر لي أن أبقى حتى أرى رد الأسرى، وكنت أيضًا قلقًا بشأن قرب الماء الذي أعطاه لنا المهرية، وقد وبخت حسب الله لعدم إتقانه هذه المهمة.
ولما جاءوا في صباح اليوم التالي سألتهم هل أرسلوا الرسل لجمع الأسرى والجمال، فأجابوني بالنفي، فقلت لهم في لهجة التغيظ إني لن أقدر على الانتظار لكي أرى تنفيذ أوامري بنفسي، فقال جار النبي: «نحن هنا يا مولاي لكي ننفذ أوامرك، فيمكنك أن تسافر حين تشاء، ونحن نسلم الأسرى والجمال إلى دنقوسة وحسب الله.»
فقلت: «عندي اقتراح آخر، فإني لا أشك في إخلاصكم وولائكم، ولكني أحب أن أزيد معرفتي بكم؛ ولذلك أرى أن تصحبوني أنتم ومن تريدون أن يرافقكم إلى الفاشر، وفي أثناء غيابكم تنتدبون من ترغبون في ندبه لكي يسلم الرجال والجمال لحسب الله الذي سيبقى هنا مع دنقوسة، وعندما تبلغني الأخبار وأنا بالفاشر بأن مندوبيكم قد فعلوا ذلك، أردُّكم أنا إلى بلادكم مثقلين بالهدايا، إنكم لم تزوروا الفاشر قبلًا، ويلذ لكم رؤية عاصمة المديرية وقوة الحكومة، وإني واثق بأنكم ستوافقون على اقتراحي هذا، وستسرون لما تشاهدونه هنالك؛ حتى إنكم ستوافقون بعد ذلك دائمًا على كل ما أطلبه منكم في المستقبل.»
فقال صالح إن الاقتراح حسن ولكنه قد سبق أن رأى الفاشر؛ ولذلك هو لا يرغب في زيارتها ثانيًا، ورأيت من وجوه الآخرين أنهم يستحسنون الفكرة، وبعد محادثات طويلة وافقوني على السفر معي. وكانوا لعلمهم بأن سفرنا يتوقف على انتداب من يثقون به لتسليم الأسرى والجمال؛ أخذوا يتشاورون بسرعة في انتداب عدد منهم لكي يقوموا بهذا العمل، ولما انتهوا من ذلك زودوهم بستة رجال لخدمتهم وأخبروني باستعدادهم للسفر، ولكنهم قبل أن يسافروا طلبوا مني أن يقسموا يمين الولاء فوافقتهم على ذلك، وكان لأخذ هذه اليمين حفلة نظامها كما يلي:
لا تمس ساقي هذا السرج، وليطعنني هذا الرمح، ولتأكلني هذه النار؛ إذا أنا نكثت بهذا العهد الذي أتعهد به أمامه.
وبعد هذه اليمين المحرجة لم يكن ثَم ما يريبني في ولاء هؤلاء الناس أو في شرفهم، وأمرت بالشروع في السفر بعد الظهر، وبرحنا كاموا برفقة رؤساء البادية وحاشيتهم، وأمرت صالحًا وحسب الله بأن يخبراني عن تنفيذ الاتفاق وتسليم الرجال والجمال، وكنت راغبًا في الوصول إلى الفاشر بأسرع ما يمكنني؛ ولذلك تركت رؤساء البادية مع فرقة المشاة، وأوصيت الضباط بالعناية بهم طول مدة سفرهم، ثم اصطحبت عمر واد درهو وحرس الشايجية وأسرعنا في السفر إلى الفاشر.
وكان أول ما سمعته من الأخبار عند وصولي وفاة إميلياني دانزنجر الذي كان في شقة، وقد كان قبلًا مأمور القبة، ولكني كنت أرسلت إليه لكي يمثل الحكومة في جنوبي دارفور، وكان يشكو من مرض القلب منذ سنوات ثم قضى عليه أخيرًا، ولم يفهم الموظفون الذين حوله سبب موته هذا الفجائي؛ ولذلك اشتبهوا في أنه قد مات مسمومًا فحملوه على جمل وأرسلوه إلى دارة، ففحص الجثة الصيدلي المقيم هنالك وقال إن الموت طبيعيٌّ، ودفنت الجثة في دارة وأقمت أنا نصبًا من الحجر عليه؛ تذكارًا لهذا المواطن المسكين الذي لقي حتفه في هذه البلاد النائية.
ثم بلغني أن في شقة قلاقل قد جرت حديثًا، وأني محتاج لذلك للسفر إلى دارة والإقامة بها جملة أيام، وجاءتنا أيضًا أخبار مزعجة عن الحالة في كردوفان والخرطوم، ولكن كان المظنون في دوائر الحكومة أن الثورة ستُقمع بالحملة العسكرية التي أرسلت لهذا الغرض، وبعد أيام وصل رؤساء البادية، وقد أمرت — بغية التأثير فيهم — جميعَ جنود الحامية بالخروج والعرض أمامهم، وفي الليل أطلقنا جملة أسهم نارية إكرامًا لهم، وقد انتدبت المدير لكي يقوم بحراستهم وراحتهم ولكني لسوء الحظ لم أتمكن من البقاء معهم طويلًا، فما كادت الخيول تستريح حتى شرعت في السفر إلى دارة يصحبني عمر واد دارهو ومائتان من الشايجية، وانتدبت السيد بك جمعة لكي يمثل الحكومة مدة غيابي.