رواية الخليفة عن المهدي
ظهر لنا أن حركة الدراويش كانت خطيرة جدًّا، ولقد ولد هذا الرجل محمد أحمد قريبًا من جزيرة أرغوا من عائلة فقيرة خاملة، ولكن أفرادها كانوا يدَّعون أنهم من نسل النبي، ولكن هذه الدعوى لم يكن أحد يأبه لها، وكان يعرف محمد أحمد هذا باسم الدنقلاوي، وكان أبوه فقيهًا عاديًّا وقد علمه القراءة والكتابة وهو صبيٌّ وأخذه إلى الخرطوم ولكنه مات في الطريق في كريري، حيث بنى ابنه له بعد ذلك ضريحًا سماه «قبة سيدي عبد الله».
ولم يجد محمد أحمد من يعتمد عليه بعد وفاة أبيه، فأخذ يدرس ويثابر على القراءة، وكانت نفسه تنزع إلى التفقه في الدين، فأحبه أستاذه وأوصاه بحفظ القرآن عن ظهر قلبه، ثم سافر إلى بربر وتتلمذ لمحمد الخير فأتم عليه تعليمه الديني وبقي جملة سنوات في بربر يدرس ويقرأ، وكان لتواضعه وذكائه محبوبًا وفي حظوة من جميع المعلمين، ولما بلغ سن الرجولة غادر بربر إلى الخرطوم فصار تلميذًا للشيخ محمد الشريف، وكان رجلًا وقورًا مشهورًا وكان أبوه نور الدائم صاحب الطريقة السمانية المعروفة.
وواجب شيخ الطريقة أن يكتب فقرات من الأدعية والحديث، فيحفظها تلاميذه عن ظهر قلب ويكررون تلاوتها حتى يتمهد بذلك لهم الطريق إلى قصور الجنة التي هي غاية كل مؤمن، ولكل شيخ مذهبه وهو يحمل اسم مؤسس الطريقة مثل طريقة الخاتمية والخضرية والتغانية والسمانية إلخ، وتلاميذ أصحاب الطرق هؤلاء يطيعونهم ويلزمونهم.
وأظهر محمد أحمد تعلقه بالطريقة السمانية وتعلق بصاحبها الشيخ محمد شريف، ثم رحل إلى جزيرة أبة في النيل الأبيض قريبًا من كاوة وحوله جماعة من تلاميذه المخلصين المتعلقين به، وكانوا يرتزقون بزرع الأرض، كما كانت تأتيهم هدايا عديدة من المؤمنين الذين كانوا يمرون عليهم في النيل صعودًا أو هبوطًا، وكان عم محمد أحمد مقيمًا في الجزيرة منذ سنوات فتزوج ابنتَه محمد أحمد، وكان أخواه محمد وحامد يعيشان هناك، وكانا يشتغلان بصنع القوارب ويعاونان أخاهما على العيش، وحفر محمد أحمد لنفسه شبه صومعة في شاطئ النيل، وكان يعيش هناك بعيدًا عن الناس، وكان يصوم عدة أيام ولا يزور رئيس الطريقة إلا من وقت لآخر لكي يثبت له إخلاصه.
وحدث في أحد الأيام أن محمد شريف جمع لمناسبة ختان أبنائه مشايخ الطريقة والتلاميذ وأذن لهم في الغناء والرقص؛ لأن الله يغفر في مثل هذه الظروف الخاصة في الأفراح ما يحدث من الخطايا والذنوب المخالفة، ولكن محمد أحمد لما انطبع عليه من التقى والصلاح استنكر الغناء والرقص وضروب الطرب الأخرى، وأوضح لأصدقائه مخالفتها كلها للدين، وأنه لا يمكن أي إنسان مهما كان قدره ولو كان شيخ طريقة أن يترخص فيها، وبلغت هذه الأقوال محمد شريف فأكبر من محمد أحمد وعظ تلاميذه واستنكر الحجج التي أدلى بها وطلب منه أن يبرر أقواله، وكانت نتيجة ذلك أن تقدم محمد أحمد بالاعتذار وهو يتذلل أمام التلاميذ والأتباع ويطلب الصفح، ولكن محمد شريف أخذ يلعنه وينسب إليه الخيانة والخروج على شيخه بعد أن أقسم يمين الولاء له، ثم محا اسمه من قائمة الأتباع المذكورين في الطريقة السمانية.
فذل محمد أحمد وصغر وذهب إلى أحد أقاربه وطلب منه أن يصنع له «شعبة»؛ والشعبة عبارة عن خشبة مشقوقة يوضع العنق في شقها فتنضم وتؤلم الإنسان بذلك ألمًا شديدًا، ثم ذرَّ على وجهه رمادًا وعاد إلى محمد شريف في هذه الهيئة يرجو الصفح ويقر بالتوبة والندم، ولكن شيخ الطريقة رفض أن يخاطبه، فعاد محمد أحمد خائبًا إلى أهله في أبة، وكان يحترم مؤسسي الطريقة السمانية الشيخين نور الدائم والطيب احترامًا عظيمًا؛ ولذلك كان لطرده من طريقتهما وقع عظيم في نفسه لا يكاد يحتمله.
وحدث بعد ذلك أن سافر محمد شريف إلى بلدة قريبة من أبة، فذهب إليه محمد أحمد في الشعبة ووجهه ملطخ بالرماد يستغفر ويتوب، ولكن الشيخ طرده أفظع الطرد وقال له: «اخسأ عني يا خائن، اخسأ أيها الدنقلاوي الشقي الذي لا يخاف الله والذي يخرج على معلمه ومولاه، لقد حققت قول من قال: الدنقلاوي شيطان مجلد بجلد إنسان، إنك تثير الشقاق بين الناس، فاخسأ عني فإني لن أغفر لك.»
وكان راكعًا يسمع هذا الكلام الجارح ثم انتصب وخرج والدموع تنهمل من عينيه، ولكن هذه الدموع لم تكن دموع الندم بل دموع الغيظ والحقد اللذين كان يتلظى بهما قلبه، وكان مما يزيده غيظًا قلة حيلته في غسل هذه الفضيحة عن نفسه، فعاد إلى أهله وأخبرهم أن محمد شريف قد طرده ولن يقبله في الطريقة ثانيًا، وأنه قد عزم على أن يطلب من الشيخ القريشي أن يقبله في طريقته، وكان هذا الشيخ قد خلف الشيخ الطيب جد محمد شريف، وقد أذن له في تعليم الطريقة السمانية وإعطاء العهد عنها، وكان بينه وبين محمد شريف لهذا السبب غيرة شديدة.
وجاء جواب الشيخ القريشي يقول فيه إنه مستعدٌّ لقبوله، وتهيأ محمد أحمد هو وتلاميذه للذهاب إلى مسلمية حيث الشيخ القريشي وأخذ العهد منه، وبينما هو في ذلك وإذا برسالة من محمد شريف قد وصلته، يقول له فيها إنه يأمره بالقدوم وإنه قد عزم على الصفح عنه وعلى الإذن له بأن يعود إلى ممارسة الطريقة، فرد عليه محمد أحمد ردًّا أبيًّا قال فيه إنه لا يطلب الصفح لأنه لم يذنب، وإنه لا يحب أيضًا أن ينقص مكانة الشيخ بأن يجتمع به علنًا أمام الناس وهو «دنقلاويٌّ شقيٌّ»!
واستقبله الشيخ القريشي مرحِّبًا، وانتشرت حكاية رفض محمد أحمد قبول الصفح من شيخه في جميع أنحاء السودان، ولم يكن الناس قد سمعوا بمثل هذا العمل من قبل، وأخذ محمد أحمد يصرح بأنه ترك مولاه القديم؛ لأنه قد خالف الدين جهرة، فعطف عليه الناس عطفًا كبيرًا لهذا السبب وجعلوا يتحدثون به، وكبر مقامه في عيونهم، وقد بلغت هذه الحادثة أهل دارفور وصارت حديثهم وصار هو بطلًا يُعجب به؛ لرفضه الطاعة لمولاه.
وحصل على إذن من الشيخ القريشي بأن يعود إلى أبيه حيث كان يزوره الناس من جميع البلاد يتبركون به، وصارت العامة تهرع إليه وترى فيه مظلومًا خرج على ظالمه وأبى الضيم، وكانت تأتيه الهدايا فيفرقها بين الفقراء ولا يأخذ شيئًا منها لنفسه؛ حتى صار يلقبه الناس بلقب «الزاهد».
ثم سافر إلى كردفان حيث يكثر الفقهاء، وهم من أجهل الناس وأكثرهم خرافات، فلقي نجاحًا عظيمًا بينهم، ووضع رسالة وزعها بين أتباعه المخلصين، حضهم فيها على تطهير الإيمان الذي فسد وانحط بفساد الحكومة وعدم احترام الموظفين أركان الدين.
وبعد أشهر مات الشيخ القريشي فذهب محمد أحمد وأتباعه إلى مسلمية؛ حيث بنوا له ضريحًا له قبة تذكارًا له.
وحدث في هذا الوقت أن جاء رجل يدعى عبد الله بن محمد التعايشي من قبيلة البقارة؛ أي الذين يقتنون البقر، وطلب من محمد أحمد أن يدخل في الطريقة السمانية فقبله محمد أحمد وأقسم أمامه يمين الولاء، وكان عبد الله هذا أكبر إخوانه الأربعة، وكان أبوهم يدعى محمد التقي من قسم الحبيرة من فخذ التعايشي، وكان هذا الفخذ ينتسب إلى «أولاد أم صورة»، وكان لعبد الله أربعة إخوة؛ ثلاثة ذكور وهم: يعقوب ويوسف وسماني، وأخت تدعى فاطمة. وكانت علائق أبيهم بأسرته سيئة؛ ولذلك عزم على مهاجرة السودان والحج إلى مكة ثم الإقامة في جوار الرسول بالمدينة، وقد وصف أولئك الذين عرفوا محمد التقي هذا بأنه كان رجلًا صالحًا متحرجًا، يؤدي واجباته الدينية بدقة ويشفي الأمراض بالتعاويذ والتمائم، وكان أيضًا يعلم الناس القرآن.
وكان عبد الله ويوسف أشد أولاده عصيانًا وقد لقي منهم الأمرَّين في تعليمهم بعض الآيات الضرورية للصلاة، أما يعقوب وسماني فكان فيهما شيء من طبع والدهما وهدوئه، وقد حفظا آيات القرآن وبعض الشروح وكانا يعاونانه على تأدية واجباته الدينية.
وقد اشتركت أسرة التعايشي في مقاومة الزبير عند فتحه دارفور، وقد حكى الزبير بأنه عندما كان يقاتل في الشقة وقع عبد الله أسيرًا، وكان أوشك أن يقتله لولا أن توسط بعض الفقهاء، وعرف له عبد الله هذه المأثرة فجاءه يومًا يقول له إنه رأى في نومه رؤيا، تتلخص في أن الزبير هو المهدي المنتظر وأنه هو عبد الله أحد أتباعه، قال الزبير: «فقلت له: إنني لست المهدي ولكني لعلمي شراسة العرب وأنهم أقفلوا الطرق، قد جئت لفتحها وإعادة التجارة إلى ما كانت عليه.»
ولما انتهى الصلح مع الزبير عاد التقي هو وأولاده عن طريق قلقة وشقة، التي بقوا فيها سنتين ثم غادروها إلى دار قمر عن طريق دار حمر والأبيض، وكانوا قد نزلوا ضيوفًا على شيخ دار قمر وبقوا عنده عدة أشهر، ومات هناك أبوهم التقي فدفنوه في شرقلة، وقبل موته أوصى أكبر أبنائه عبد الله بأن يحتمي ببعض المشايخ ثم يهجر هو وأسرته السودان إلى مكة؛ حيث يعيشون بقية حياتهم ولا يرجعون إلى السودان.
وسافر عبد الله وترك إخوته طبقًا لوصية أبيه في عناية الشيخ عساكر أبو كلام، وسمع في طريقه عن الشقاق بين محمد أحمد وشيخ طريقة السمانية التابع لها، وعزم على أن يذهب إلى محمد أحمد وأن يطلب منه الإذن بالاندماج في طريقته.
وقد قال لي بعد ذلك الشيخ عبد الله بن السيد محمد خليفة المهدي: «كان سفري شاقًّا جدًّا، وكان كل ما أملكه في الدنيا حمار له دبرة في ظهره، فلم أكن أستطيع ركوبه، وإنما كنت أضع عليه قربتي وغرارة القمح وأبسط فوقهما ثوبي المصنوع من القطن وأسوقه أمامي، وكنت في ذلك الوقت ألبس ثوبًا فضفاضًا من القطن مثل سائر رجال قبيلتي، أظنك تتذكر هذا الثوب يا عبد القادر.»
«وكان يسميني عبد القادر، فإذا كان أحد آخر قاعدًا وله هذا الاسم فإنه كان يدعوني باسم عبد القادر صلاح الدين أي سلاطين.»
وكانت ملابسي ولهجة كلامي تدلان على أني غريب، وبعدما عبرت النيل كان كلما قابلني أحد قال لي: ماذا ترغب هنا، اذهب إلى بلدك، ليس هنا شيء تسرقه! وأهل النيل يسيئون الظن بنا؛ لأن التجار الذين كانوا يذهبون إلى الغرب للزبير كانوا يلاقون عنتًا كبيرًا من العرب، وكنت عندما أسألهم: أين المهدي المعروف باسم محمد أحمد وأين يقطن؟ كانوا ينظرون إليَّ متعجبين ويقولون: وأنت ماذا ترغب منه، إنه لا ينجس شفتيه بذكر اسم قبيلتك.
«ولكن لم ألق هذه المعاملة من كل الناس؛ فإن بعضهم كان يشفق عليَّ ويدلني على الطريق، وكنت مرة أجتاز قرية فأراد بعض أهلها أن يستلبوا مني حماري متعللين بأنه سُرق منهم في العام الماضي، وكادوا ينجحون في ذلك لولا أن توسط رجل صالح وأجازني القرية بحماري، وكنت طول الطريق عرضة للسخرية والتهزئة، ولولا أن البعض كان يشفق علي ويعطيني شيئًا من الطعام لمتُّ جوعًا. وبلغت بعد الجهد مسلمية فوجدت المهدي مشغولًا ببناء ضريح للشيخ القرشي، فما هو أن رأيته حتى ذهب عني كل ما عانيته من المشاق، وقعدت راضيًا أعاينه وأسمع أقواله وتعاليمه، وبقيت ساعات لا أجسر على فتح فمي أمامه، ثم تشجعت وأخبرته بقصتي والحالة السيئة التي صار إليها إخواني، وعزمت عليه بالله والرسول إلا ما أدخلني في طريقته، ففعل ومد إليَّ يده فقبلتها مشتاقًا وأقسمت له بالطاعة العمياء طول حياتي، وقد حافظت على هذا القسم حتى رفعه ملك الموت، وسيرفعنا أيضًا يومًا ما؛ ولذلك يجب أن نستعد للقائه في كل وقت.»
وكان عبد الله التعايشي كثيرًا ما يحادثني بمثل هذه الأحاديث، يبعث إليَّ في الليل لكي أسامره، فأقعد أنا على الأرض ويقعد هو على العنجريب الفاخر المفروش بحصير السعف، وكان يثق بي ولا يخفي عني شيئًا في الأول، أما بعد ذلك فصار يتشكك من جهتي.
وكان يحب التملق وكنت أغلو أنا في ذلك فأفوت الحدود، ولكني كنت أرغب في أن يتم حديثه، فقلت له: «أجل يا مولاي، لقد حفظت وعدك وكافأك الله، فبعد أن كنت محتقرًا مهينًا قد صرت الآن رئيس البلاد وملكها، ولقد كان يحق لأولئك الذين سبوك وأهانوك أن يشكروك ويعترفوا بفضلك، فإنك لم تنتقم منهم بل حلمت وتمالكت، فثبت بذلك أنك خليفة النبي.»
قال عبد الله: «لما أقسمت يمين الولاء للمهدي أحضر أحد تلاميذه ويُدعى علي وقال له ولي: أنتما منذ الآن إخوان، فليؤيد كلٌّ منكما الآخر وأنت يا عبد الله أطع ما يأمرك به أخوك.
وكان عليٌّ يجاملني وكان فقيرًا مثلي، وكان كلما أرسل إليه المهدي طعامًا يشاركني فيه فأصيب منه، وكنا في النهار نحمل الطوب لبناء الضريح، وفي الليل ننام على فراش واحد، وتم بناء القبة بعد شهر، وكان الزائرون يتوافدون على المهدي بالمئات، فلم يكن لديه من الوقت ما يمكنه أن يراني أو يفكر فيَّ، ولكني كنت أعرف أن لي في قلبه مكانة؛ حتى إنه جعلني أحد حملة البيارق، ولما غادرنا المسلمية كان الناس يهرعون إلينا لكي ينظروا المهدي، وكانوا يسمونه في ذلك الوقت باسم محمد أحمد فقط، وكانوا ينصتون إلى أقواله ويرغبون في بركته.
ولازمتنا هذه الحال حتى بلغنا جزيرة أبة، وكان نعلاي قد بليا، وكنت قد اضطررت إلى إعطاء حماري للمقدم — وهو رئيس التلاميذ — لكي يحمل عليه رجلًا مريضًا، ولكنا وصلنا في النهاية إلى بيت المهدي، وهنا أصابتني دوسنطاريا شديدة، فأخذني «أخي» عليٌّ إلى عشته المصنوعة من القش، ولم تكن تكاد تسع اثنين، وكان يأتيني بطعامي ويحمل إليَّ الماء للوضوء.
وذهب في مساء أحد الأيام لإحضار الماء ولكنه لم يرجع، وفي صباح اليوم التالي أُبلغت أنه — وهو يستقي من النيل — هجم عليه تمساح وافترسه، الله يرحمه، الله يغفر له.»
فكررت أنا هاتين العبارتين وقلت: «ما أعظم صبرك يا مولاي! من أجل ذلك قد رفع الله مرتبتك، وهل لي يا مولاي أن أسألك هل أعارك المهدي التفاتة مدة مرضك؟»
فقال: «كلا فقد أراد المهدي أن يبلوني، ولم يخبره أحد بمرضي إلا بعد وفاة عليٍّ، وجاءني بعد ذلك في مساء أحد الأيام وكنت منهوكًا لا أقوى على النهوض، فقعد بجانبي وأعطاني مديدة سخنة من قرعتي وقال لي: اشرب هذا وثِق بالله فإنك ستشفى.
ثم غادرني وجاء بعض الإخوان فحملوني بأمره إلى عشة قريبة من عشته، وكان هو نفسه يعيش في عشة بسيطة، ومنذ أعطاني المديدة وأنا آخذ في التحسن والشفاء على حد وعده لي، فإنه لا يكذب ولا يقول إلا الصدق.»
فأقول أنا هنا: «المهدي لا يكذب ولا يقول إلا الصدق، وأنت خليفة وقد سرت في أثره واتبعت أوامره.»
ويتم الخليفة حديثه فيقول: «فلما اقتربت منه عادت إليَّ صحتي بسرعة؛ لأني كنت أراه كل يوم وكنت أرى فيه نور عيني وأسكن إلى قربه، وكان يسألني عن عائلتي ويقول إنه يحسن بهم البقاء في كردوفان في ذلك الوقت، وكان آخر شيء يفوه به لي قوله: «ثِق بالله». ثم أكثر من زيارته لي وكان يأتيني كل يوم مرارًا، وباح لي يومًا بسره وقال لي إن الله قد بعثه مهديًّا، وإن النبي قد أخذه إلى حضرة الأنبياء والرسل، ولكن قبل أن يقول هو ذلك لي كنت أنا أعرف منذ رأيت وجهه أنه هو المهدي المنتظر، أجل ما كان أسعد أيامنا في ذلك الوقت! لا هموم ولا متاعب، والآن يا عبد القادر لقد سهرت وتأخرت، قم واذهب إلى فراشك.»
فأسلم عليه وأقول وأنا خارج: «أطال الله عمرك وقواك على هداية المؤمنين في الطريق السويِّ.»
ووجد المهدي في شخص عبد الله أداة مطاوعة تقوم بما يطلبه منها، ومما يعجب له الإنسان أنه لولا شجار محمد أحمد مع محمد شريف لما ارتفع شأنه، فإنه أصبح ذا شهرة بعيدة في جميع أنحاء الجزيرة — أي القسم الواقع بين النيل الأبيض والنيل الأزرق — وصار يمني نفسه بالمراكز العليا التي كتبت له في صحيفة القدر، وجعل يخبر أتباعه في السر أن الوقت قد آن لتطهير الدين وأنه سيقوم هو نفسه بهذا العمل، فمن يرغب منهم الاشتراك معه فلينضم إليه، وكان يسمي نفسه «عبد الله» ويوهم من يحضره أنه يعمل عن وحي من الله، وقد أعلمه الخليفة بكل ما تجب معرفته عن قبائل الغرب، وأخبره بأن في هذه القبائل شجاعة وأيد، وأنها إذا لاحت لها الفرصة للدفاع عن دين الله ورسوله فإنها لن تتأخر عن اغتنامها فتهب للموت أو الظفر.
ونصح الخليفة للمهدي بأن يقوم بسياحة في كردوفان لكي يجذب إليه القبائل، وقام كلاهما إلى دار قمر — جمر — حيث كانت عائلة الخليفة التي انضمت إليهما، وقد أخبر المهدي أعضاء هذه العائلة بأن الوقت لم يحن بعد لتركهم بيتهم، أما الآن فمن الأنفع أن يحضوا القبائل النازلة حولهم على الانضمام للمهدي.
وبرح المهدي دار قمر إلى الأبيض؛ حيث زار الأعيان والمشايخ وكان يحادثهم ويستطلع آراءهم ويؤسس لترسماته المستقبلة، وكان يُسر إلى أولئك الذين يثق بهم كل الثقة أنه أمين على رسالة تطهير الإيمان الذي أفسده الموظفون، وكان السيد المكي رئيس مشايخ الأبيض أمينه الذي وثق به، وقد نصح له بأن الوقت الحاضر لا يلائم الثورة؛ لأن الحكومة قوية والقبائل منشقة بعضها على بعض، ولكن المهدي كان أكثر تفاؤلًا، واتفق كلاهما على ألا يتحرك الشيخ حتى يشرع المهدي في الحركة التي سيكتم أمرها إلى حين إعلانها.
ولما غادر المهدي الأبيض سار إلى تاج الله؛ حيث التقى بمك آدم حاكم المركز الذي استقبله استقبالًا حسنًا ولكنه لم يعده بالتأييد؛ لأن القاضي نصح له بألا يعد هذا الوعد، ثم عاد إلى أبة عن طريق شرقلة.
وكان محمد أحمد في أثناء سياحته ينظر في أحوال البلاد ويتدبرها، وقد أدرك أن الطبقات الفقيرة في الأمة تكره الحكومة أشد الكره؛ وذلك لكثرة الضرائب الفادحة المضروبة عليها كما بينت ذلك في أحد فصولي الماضية، وكانت هذه الطبقات تعاني ما يوقعه بها الجباة الغلاظ السفلة من ضروب الظلم والعسف، وكان بين هؤلاء الجباة عدد من السودانيين لم يكن تفلت منهم فرصة لإثراء أنفسهم وتوظيف أقاربهم بغية تحقيق هذا الغرض أيضًا، وقد عين غوردون التاجر السوداني الثري إلياس ومنحه رتبة باشا، فكان لهذا التعيين أثر سيئ في نفوس الأهالي، وهذا القول ينطبق على تعيين قريبه وهو تاجر ثريٌّ أيضًا يُدعى عبد الرحمن بن نجا، وكان كلاهما على كفاية يعرف حالة البلاد وكيفية حكم الأهالي، ولكنهما كانا يشتغلان لمصلحتهما.
ونتج عن تعيينهما أن انتشر روح التحاسد بين كبار السودانيين الذين كانوا يعتبرون أنفسهم أهلًا لمثل وظيفة إلياس أو قريبه عبد الرحمن، ولما أرسل إلياس باشا إلى مك آدم يطلب منه دفع الضرائب، رفض مك آدم هذا الطلب رفضًا باتًّا مدعيًا بأنه من سلالة ملوكية، وقال في رفضه: «إني أدفع للتجار أثمان البضائع التي أشتريها ولكني لا أدفع لأحد خراجًا.» وفي الوقت نفسه أرسل إلى الأبيض يسأل هل مات الأتراك وسائر البيض حتى صارت الحكومة تعين التجار حكامًا بدلًا من أن تعين الأشراف وذوي البيوتات! وكان هذا سبب فصل إلياس باشا وعبد الرحمن من وظيفتهما وتعيين الأتراك والمصريين في مكانهما.
أما عن الموظفين الأوروبيين فلم يكن في السودان سوى عدد قليل، وكانوا محبوبين ومحترمين؛ لأن الناس كانوا يثقون بهم، ولكني لا أشك في أن بعض الاستياء كان يُعزى إليهم، فربما أصدروا أوامر مصدرها حسن النية ولكنها كانت تخالف عادات الأهالي وتقاليدهم، ثم إني لا أشك في أن موقفنا تجاه مسألة الرقيق قد أحدث استياءً عظيمًا بعيد المدى، فإن الدين يأذن بالرقيق، وقد كانت الأرض منذ عهد بعيد تفلح بالعبيد، وكان العبيد يوكلون بالعناية بالماشية، ولست أشك في أن النخاسة كانت تتطلب ارتكاب فظاعات وسفك دماء، ولكن هذه الفظاعات لم يكن يبالي بها أو يفكر فيها مشترو العبيد، وكانوا على وجه العموم يعاملون عبيدهم معاملة غير سيئة، ولم نقتصر نحن على منع تصدير الرقيق، بل كنا أيضًا نسمع شكاوى العبيد، وكنا على الدوام نحرر العبد الذي يشتكي مولاه.
وانتهز محمد أحمد فرصة الاستياء هذه من وجوهها العديدة، وكان يعرف أن الدين هو العامل الوحيد في ربط هذه القبائل المتنازعة، فأعلن أنه «المهدي المنتظر»، فصارت له بذلك شخصية فوق شخصية أي إنسان آخر، وكان يأمل بذلك أن يطرد من السودان جميع الأوروبيين والمصريين والأترك، ولكنه لم يكن يعتقد أن الوقت قد حان بعد لأن يعلن جهارًا هذه الدعوة، فعمد إلى تأييد دعوته بزيارة الأنصار، واستمر على ذلك حتى صارت دعوته سرًّا مكشوفًا.
وكان محمد شريف قد أخبر رءوف باشا الحاكم العام سرًّا بنية محمد أحمد، ولكن نزاعه السابق معه جعل ولاة الأمور لا يصدقونه، واستنتجوا أنه يدس لخصمه الذي ذاعت شهرته لصلاحه وتقواه، ولكن الحكومة علمت بعد ذلك من مصدر آخر أن محمد أحمد خطر على الأمن العام، ونوت نية صادقة على أن تنتهي منه.
ولهذا الغرض أرسل رءوف باشا يطلب محمد بك أبو السعود وأمره بالمسير في الباخرة إلى أبة وإحضار محمد أحمد إلى الخرطوم، ولكن أصدقاء المهدي وأنصاره أحاطوه علمًا بنية الحكومة وأخبروه أنه إذا حضر للخرطوم فسيُعتقل بها، وأن اعتقاله ليس إلا من دس محمد شريف، فلما وصل أبو السعود بك إلى أبة استقبله عبد الله التعايشي وشقيق لمحمد أحمد وقاداه إلى حيث مقام الشيخ، فأخبره أبو السعود عن التقارير التي بلغت للحكومة عنه، وهي بالطبع كاذبة، وعن الإشاعات التي تشاع عنه، وطلب منه لذلك أن يسافر إلى الخرطوم ويكذب هذه الإشاعات التي أشيعت عنه أمام الحاكم العام، فأجاب محمد أحمد وقد وقف فجأة وضرب صدره بيده قائلًا: «ماذا تريد مني؟! وحق الله ورسوله ما أنا إلا سيد هذه البلاد، ولن أذهب إلى الخرطوم لكي أبرئ نفسي.»
فتراجع أبو السعود للوراء مذعورًا من هذه اللهجة وأخذ يهدئ روع المهدي بكلمات رقيقة، ولكن المهدي الذي كان كان قد رتب هذا المنظر التياتري مع عبد الله ومع شقيقه صار يتكلم بحماسة وحرارة، ويحض أبا السعود على أن يؤمن بما يقوله.
أما أبو السعود فكان الآن مهمومًا بنفسه لا يبالي إلا بأن يرجع إلى الخرطوم، ورجع بالفعل وأخبر الحاكم العام بحبوط مهمته.
وأدرك محمد أحمد أنه ليس هناك مجال لإضاعة الوقت، وأن مستقبله يتوقف على مجهوده، فلم يتوانَ عن الكتابة إلى جميع أنصاره في أنحاء السودان يستثيرهم على الحكومة، أما الأنصار القريبون منه فقد أمرهم بأن يستعدوا للجهاد.
وفي هذه الأثناء لم يكن رءوف باشا مهملًا أمر المهدي؛ فقد عرف من حديثه مع أبي السعود أن خطورة المسألة عظيمة جدًّا، فعزم على إرسال فصيلتين للقبض على المهدي، ووعد كلًّا من قائدي الفصيلتين بأن يرقيه إلى رتبة بكباشي إذا كان هو القابض عليه قبل الآخر، وأراد من ذلك أن يحثهما على الاجتهاد والمنافسة، ولكن عواقب هذا العمل كانت وخيمة جدًّا!
فإن الجيش الذي كان يقوده أبو السعود نزل الباخرة «إسماعيلية» وكان بها مدفع فبرحَت الخرطوم في أغسطس سنة ١٨٨١ وسارت إلى أبة، وكان هذا الجيش مؤلفًا من فصيلتين على كلٍّ منهما قائد، وقد اختلف هذان القائدان؛ الواحد مع الآخر والاثنان مع أبي السعود، وعرف محمد أحمد بالحملة الموجهة إليه فاستعان بقبيلتي دغيم وكنانة فأعانتاه، واستعد هو للمقاومة، وأخبر مَن حوله بأن النبي قد ظهر له وقال له إن كل من اشترك معه في هذا الجهاد سيعطى لقب «الشيخ عبد القادر الكيلاني» ولقب «أمير الأولياء»؛ وهما لقبان محترمان عند المسلمين، وعندما تفاقمت الحالة وعظم الخطر لم يتقدم للجهاد سوى عدد قليل سلموا أنفسهم وأموالهم للمهدي.
ووصلت الباخرة إلى أبة عند غروب الشمس، وعلى الرغم من أوامر أبي السعود نزلت الفصيلتان؛ لأن كل ضابط كان يرغب في الحصول على رتبة بكباشي قبل الآخر. أما أبو السعود الذي كان قد انغرس الخوف في قلبه منذ قال محمد أحمد إنه مولى البلاد، فقد وقف بالباخرة في وسط النهر ومعه مدفعه، وكان الضابطان كلاهما يجهلان المكان وكلاهما يرغب في الحصول على رتبة بكباشي، فسارا في طريقين مختلفين على الشواطئ المتوحلة قاصدين عشة محمد أحمد، ولكن محمد أحمد كان قد ترك عشته وأخذ أنصاره وتسلحوا كلهم بالسيوف والحراب والهراوات واختبَئوا في الديس، والتقت الفصيلتان عند القرية كلٌّ منهما قد أتت من جهة مقابلة للجهة التي أتت منها الأخرى، وأطلقت كلتاهما النار على القرية الخالية من السكان فأصابت كلٌّ منهما الأخرى وحدثت خسائر خطيرة من الطرفين، وفي وسط هذا الارتباك هبَّ أتباع المهدي من كمينهم وضربوا الجنود الذين كان قد فقدوا قوتهم المعنوية فتشتتوا في كل مكان، وتمكن بعض الجنود من أن يصل إلى الشاطئ وأن يسبحوا إلى الباخرة، ورعب أبو السعود وأراد أن يبحر بالباخرة إلى الخرطوم في الحال، ولكن الربان أشار عليه بالبقاء للصباح لعل بعض الفارين من الجنود يتمكنون من الوصول إلى الباخرة، ولكن لم يأت أحد، وفي الفجر أقلعت الباخرة تسير بأقصى سرعتها حاملة هذه الأخبار المحزنة.
ويمكن أن ندرك نتيجة انتصار محمد أحمد، فإن رجاله خرجوا من المعركة سالمين لم تنلهم خسائر قط، أو إذا كانوا قد أصيبوا فإصاباتهم كانت طفيفة جدًّا، وقد جرح محمد أحمد في ذراعه فضمد جرحه عبد الله التعايشي ونصح له ألا يخبر أتباعه به، وإلى هنا كان عدد أتباعه لا يزال صغيرًا؛ لأن الناس كانوا يعتقدون أن الحكومة ستتخذ إجراءات فعالة لإخماد حركته.
وأخذ عبد الله وإخوته يحضون محمد أحمد على أن يجعل المسافة بينه وبين الحكومة بعيدة، فعول بناء على حضهم أن يقوم إلى جنوبي كردفان، ولكي لا يفهم أتباعه أنه ينوي الفرار من وجه الحكومة أذاع بينهم أنه قد أوحي إليه أن يذهب إلى جبل ماسة، والمأثور في السودان أن المهدي يخرج من جبل ماسة، وهذا الجبل في شمالي أفريقيا، ولكن المهدي تغلب على هذه الصعوبة بأن أطلق اسم جبل ماسة على جبل غدير الكائن بكردوفان، وقبل أن يغادر أبة عين خلفاءه الأربعة طبقًا للوحي: وأولهم الذي كان يمثل أبا بكر الصديق كان عبد الله التعايشي، وثانيهم الذي يمثل عمر بن الخطاب كان علي واد هلو من قبيلة دغيم، وثالثهم الذي يمثل عثمان بن عفان لم يعين وقتئذ، وقد عرض بعد ذلك هذا المنصب على الشيخ السنوسي فرفضه، أما الرابع فكان علي الكرار، وكان من أقارب المهدي، وكان صبيًّا.
ورفض أصحاب القوارب أولًا نقل أتباع المهدي على النيل؛ لأنهم كانوا يخشون أن تعدَّهم الحكومة مشتركين مع محمد أحمد وأتباعه، وكان قد انضم إليهم فريق من قبيلتي دغيم وكنانة العربيتين، ولكن محمد أحمد تغلب على معارضتهم وجعلهم ينقلونه في النهاية هو ورجاله إلى الشاطئ الآخر، وسار الجميع إلى دار قمر، وكان محمد أحمد يدعو السكان إلى الانضمام إليه ويطلب إليهم أن يذهبوا معه إلى جبل ماسة، واشتدت الحماسة عندئذ بين رجاله، وكانت لا تفوت فرصة يخبرون فيها السكان عن المعجزات التي يأتيها المهدي.
وحدث مرة أنه وقف برجاله في أحد الأمكنة وكان قريبًا منه ضابط معه ستون جنديًّا، وكان هذا الضابط المدعو محمد جمعة يجمع الضرائب، وخطر في باله أن يهاجم المهدي ويقبض عليه، ولكنه خوفًا من تبعة هذا العمل أرسل إلى الأبيض يستشير ولاة الأمر، ولكن قبل أن تأتيه التعليمات من الأبيض كان المهدي قد جاز المكان برجاله. وبعد سنوات لقيت محمد جمعة وهو في حالة تعيسة في أم درمان وقال لي: «لو كنت أعرف بأنه سيقضى عليَّ بأن أمشي حافيًا وأن أستجدي من الناس كسرة الخبز، لما طلبت تعليمات من الأبيض وتركت هذا الدنقلاوي الشقي يفر من يدي، لقد كان أفضل لي أن أُقتل من أن أعيش هذه المعيشة التعسة.»
وأتيحت فرصة أخرى للقبض على المهدي ولكنها فاتت أيضًا؛ فقد كان جيجار باشا قد انتدب لمهمة تحقيق اختلاس حدث باتفاق بين موظف في الأبيض وبين تاجر سودانيٍّ ثريٍّ يدعى عبد الهادي، وسمع جيجار باشا بأن المهدي قريب منه، وذلك حوالي آخر سبتمبر، فأنفذ إليه محمد سعيد باشا ومعه أربع فصائل من الجنود للقبض عليه وإحضاره للأبيض، ولكن الحملة، إما عن قصد أو إهمال، أخفقت في مهمتها؛ فإن الجنود على ما يظهر حطوا رحالهم في المكان الذي نام فيه أتباع المهدي في الليلة السابقة، وبعد أن أضاعوا ثلاثة أيام بلا فائدة عادوا إلى الأبيض وهم موسومون بالخوف من قتال المهدي؛ فزادت بذلك كرامة المهدي ووجاهته.
وكانت نية محمد أحمد أن يقضي بعض الوقت في جبل تاج الله، وسمع مك آدم بذلك فأرسل إليه أحد أبنائه بهدايا من القمح والغنم ومعه رسالة منه ينصح له فيها بالتوغل بعيدًا في الداخلية، فاستمر في سيره، وبعد مشقات طويلة بلغ جبل غدير حيث كان يوجد قسم من قبيلة كنانة غير السكان الأصليين.
وكان راشد بك في ذلك الوقت حاكمًا على فشودة، وكان يعرف حركات المهدي؛ ولذلك عول على الغارة عليه قبل أن يتقوى بمن ينضم إليه، وكان في فشودة رجلٌ ألمانيٌّ يدعى برجوف، وكان في الأصل يشتغل بالفتوغرافية في الخرطوم، فأرسله رءوف باشا مفتشًا لقمع تجارة الرقيق في أعالي النيل.
وتقدم الآن راشد بك ومعه برجوف وكايكو بك ملك الشلوك قاصدين غدير، وكان راشد يقلل من أهمية المهدي فلم يكن يحفل باتخاذ الحرس والاحتياطات، فكمن له المهدي وأوقع به وقُتل من رجاله ألف وأربعمائة ألف نفس، وكان هجوم المهدي مفاجئًا وسريعًا، حتى لم يستطع راشد إرسال صاروخ في الهواء، وصمد راشد وقليل ممن معه للقتال، ولكن رجال المهدي تكاثروا عليهم وقتلوهم.
ووقعت هذه الهزيمة في ٩ ديسمبر، ومن ذلك الوقت لم يتردد محمد أحمد في المجاهرة علنًا بأنه المهدي المنتظر، وكبر مقامه في أعين العرب، ومع ذلك لم تكن علاقته مع أجواره على ما يحب، وقد أشار الخليفة عبد الله التعايشي إلى هذه المدة، وحكى لي عنها فقال: «لما بلغنا الغدير كنا في غاية الإعياء بعد هذا السفر الشاق الطويل، وكان للمهدي فرسٌ واحد من تلك السلالة الحبشية الرديئة، أما أنا فقد سرت المسافة كلها تقريبًا على قدمي، ولكن الله يهَب القوة للمؤمنين الصادقين الذين يسلمون أنفسهم وما يملكون لأجل الإيمان، وكان إخوتي يعقوب ويوسف وسماني قد انضموا إلينا، وكذلك زوجة أبي التي كانت ترضع ابني على صدرها، ولم يرض أخي هارون البقاء فأتى معنا أيضًا، وكنت على الدوام في قلق بشأن إخوتي وزوجة أبي وعائلتي وابني هذا الذي تراه عثمان شيخ الدين، ولم تكن مشاق السفر تهمنا نحن الرجال؛ فإن المصائب والكوارث تأتينا من عند الله ونحن نتحملها راضين شاكرين؛ لأن الله قد اصطفانا لنعلي كلمته ونرفع دينه الذي ديس مع التراب، وكنا نعلم إخواننا، ولكن (وهنا كان يبتسم) تعليم الدين لم يكن ليأتينا بالطعام لأولادنا ونسائنا، وكان الناس يهرعون إلينا زرافات، ولكن معظمهم كان في فاقة تزيد عن فاقتنا وكانوا يأتون إلينا لكي نعولهم، أما المتيسرون فكانوا يتجنبوننا، أجل إن المال لعنة ومن كان غنيًّا في هذه الدنيا فإنه لن ينعم بنعيم الفردوس، ولم نكن نحصل على معونة ما من الناس الذين كنا نجوز بلادهم، وكان المهدي مع ذلك يقسم ما يحصل عليه من القليل الذي لديه بين الحجاج الذين كانوا يقصدونه، وكان قلبي يتفطر عندما أسمع بكاء الأطفال والنساء، ولكني كنت عندما أنظر إلى وجه المهدي تعود إليَّ الطمأنينة وأثق بالله، أجل يا عبد القادر إن الصبر مفتاح الفرج، كن صبورًا والله يكافئك.»
وقد نبهت هزيمة راشد بك الحكومة إلى خطورة الحالة وهيئت تجريدة بقيادة يوسف باشا شلالي، وكان قد ظهرت مواهبه في حملة جسي باشا في بحر الغزال، وكان مشهورًا بصدق عزيمته وبسالته، وهيئ أيضًا مدد آخر مؤلف من فرقة من الطوبجية ومعهم بعض المتطوعين بقيادة عبد الله واد ضيف الله — شقيق أحمد واد ضيف الله — وعبد الهادي وسلطان ديمة، وأرسل هذا المدد إلى كردوفان.
وفي هذه الأثناء أرسل المهدي الرسل إلى جميع الجهات تحمل بشائر انتصاراته وهدايته، ودعا جميع الأهالي إلى الانضمام إليه في الجهاد، وأطلق اسم «الأنصار» على أتباعه ووعدهم بأربعة أخماس الغنائم التي تغنم في الحرب، أما من مات منهم فقد ضمن له نعيم الفردوس، وبذلك استثار الصفات الكامنة في نفس السوداني وأهمها الطمع والتعصب.
وكان جيش يوسف باشا شلالي يبلغ أربعة آلاف جندي يقودهم محمد بك عثمان وحسن أفندي رفقي الذي كنت قد فصلته أنا من وظيفته قبلًا، أما الخيالة غير النظامية فكانت بقيادة طه بن صدر، وهو رجل شجاع، وغادرت هذه القوة الخرطوم في ١٥ مارس سنة ١٨٨٢، وعرجت على كوة حيث حطت رحالها تنتظر المدد الآتي من الأبيض.
وقد وجد عبد الله واد ضيف الله أن جمع المتطوعة ليس من المهمات السهلة؛ فقد كان الشعور العام أنه من الخطأ أن يقاتل رجل صالح مثل المهدي ثم لم يكن هناك مطمع في الغنائم؛ لأن أتباع المهدي لم يكونوا أحسن حالًا من الشحاذين. وزيادة على ذلك كان إلياس باشا أغنى تجار كردوفان وحاكمها المعزول يكره ضيف الله أشد الكره، وقد استعمل سطوته في منع الناس من التطوع، ومع ذلك تمكن ضيف الله من تجنيد بعض المتطوعة باتفاقه مع ولاة الأمور، وصارت قوته بمن فيها من النظاميين ٢٠٠٠ قبل أن يبرح الأبيض، والتقى بالجيش في كوة فصار مجموع الجيش ٦٠٠٠، وذلك حوالي منتصف شهر مايو.
واستراح يوسف باشا قليلًا ثم تقدم نحو الغرب وضرب خيامه في ٦ يونيو في مسات القريبة من جبل غدير وهو واثق بالظفر. والحق أنه لم يكن هناك، حسب ظاهر الأحوال، ما يدعو مثل يوسف باشا ومحمد بك وأبو صدر إلى الخوف من طائفة من العرب قد أضناها المرض والجوع والعري، ألم ينتصروا في الماضي جملة انتصارات في النيل الأبيض وفي دوفيلة؟ ألم يفتحوا بحر الغزال ويخضعوا سلطان دارفور؟ فماذا يمكن أن يفعل معهم هذا الفقيه الأعزل الجاهل؟
ولكن عبد الله واد ضيف الله لم يكن مغترًّا بقوته؛ فقد حذر هؤلاء القواد من تصغير شأن المهدي، وقد وقع من ظهر جواده وهو خارج من الأبيض، وهنا الوقوع يعتبر في السودان شؤمًا يخشى منه، ولكنه كان يصرخ في الصحراء فلم يسمع له أحد، بل لم يعنَ أحد منهم ببناء «زريبة» من الأشواك والأغصان حول الجيش، وإنما اكتفوا بالتقاط قليل من القش وصنعوا منه سياجًا واهيًا لم تكن منه فائدة قط، وما جاء الفجر حتى جاءت طائفة المهدي التي أضناها الجوع والعري والمرض وأوقعت بجيش يوسف باشا، وكان ذلك في ٧ يونيو، فقد جازوا السياج الواهي وباغتوا الجنود وهم نيام فأجهزوا عليهم، فقتل يوسف باشا وأبو صدر وهما في قميص النوم على باب خيمتهما، ولم تمض دقائق حتى أبيدت جميع الجنود تقريبًا، وكان لأبي صدرٍ امرأةٌ سُرية، فلما رأت مولاها يقتل هبت إلى القتلة وقتلت اثنين منهم بمسدس في يدها، ولكن وقعت فوق مولاها بطعنة حربة بلغت قلبها! وصمد عبد الله واد ضيف الله بعض الوقت ولكنه هو ورفقاؤه قضي عليهم بعد مدة وجيزة من القتال.
وفي البلاد غير المتحضرة عندما يحدث شيء غريب يعزى على الدوام إلى قوة إلهية، وكان هذا تأثير نكبة يوسف باشا في عقول السودانيين المستسلمين للخرافات، فقد مضى ستون سنة كان القطر السوداني محكومًا فيها بالمصريين والأتراك.
فقد كانت العادة المتبعة أن تُعاقب القبائل التي لا تدفع الضرائب المطلوبة منها، ولم يكن أحد يجادل في حق الحكومة في هذا العمل، أما الآن فهذا الفقيه قد ظهر وجمع حوله شراذم الرعاع الذين لم يتمرنوا على الأعمال الحربية وليس معهم عدة السلاح وأوقع بجيوش الحكومة، فلم يكن هناك من يشك إذن في أنه المهدي المنتظر.
وكانت هزيمة يوسف باشا سببًا في خضوع كردوفان كلها للمهدي، فصار في إمكانه الآن أن يهيئ لنفسه العدة التي كانت تنقصه، فأخذ في جمع الأموال والأسلحة والخيول وسائر الغنائم يوزعها على رؤساء القبائل التي انضمت إليه، وكانت هذه القبائل تعتقد أنه المهدي المنتظر الذي لا تحدثه نفسه إلا بإقامة الدين ولا قيمة للأموال والأمتعة في نظره.
وفشت أخبار المهدي في كل ناحية، وكانت هذه الأخبار إذا تنوقلت بين أهالي كردوفان الذين لم يصيبوا إلا قليلًا من التعليم يبالغ فيها مبالغة عظيمة، وخرج من الأهالي عدد عظيم تركوا بيوتهم يؤمون جبل غدير الذي كان يُسمى الآن جبل ماسة، وبعض من الأهالي تجمعوا حول رؤسائهم لمقاتلة موظفي الحكومة المشتتين في أنحاء البلاد.
وكانت هذه الأحوال توافق أهواء العرب الرحل، فكانوا بدعوى الحرب الدينية يقتلون وينهبون الأهالي وكانوا يتهمونهم بالولاء للأتراك، وفي الوقت نفسه أيضًا وجدوا في هذه الحالة طمأنينة من حيث عدم دفع الضرائب لتلك الحكومة المكروهة.
واتصل المهدي بتجار الأبيض الذين كانوا بواسطة ثروتهم ونفوذهم يحكمون البلدة بل جزءًا كبيرًا من سائر البلاد، وقد أدركوا هم الحالة تمامًا، وكانوا يعرفون ضعف الحكومة وتوانيها واستعد كثير منهم لمشايعة المهدي، وكان إلياس باشا من أعظم المستائين من الحكومة، وكان يكره أحمد بك ضيف الله صديق محمد باشا سعيد؛ ولذلك جدَّ واجتهد في السر في جمع الأنصار للمهدي، وكان عدد كبير من صغار التجار ينتظرون تحسن الأحوال التجارية إذا سقطت الحكومة، وكان هناك قليل من التجار يكرهون المهدي ولكنهم كانوا يترقبون فوزه؛ فلم تكن لهم حيلة سوى الانضمام إليه؛ لئلا تقع زوجاتهم وأملاكهم غنيمة لرجاله عندما يعقد له النصر.
أما مشايخ الدين فقد رأوا في هذه الحركة ما يرفع مقامهم، وكانوا يفخرون بأن واحدًا منهم قد تجرأ على أن يعلن عن نفسه أنه المهدي، وكانوا يترقبون الوقت حين يطرد هذا المهدي جميع الأتراك من البلاد ويبقى هو الحاكم لها، وكان هناك عدد قليل — قليل جدًّا — من أولئك الذين كانوا يقدرون الخطر الذي تستهدف له البلاد إذا فاز المهدي وقد فعلوا كل ما يمكنهم لتنبيه الحكومة، ولكن عدد هؤلاء كما قلنا كان قليلًا فلم يكن لهم أثر في الحركة.
وأرسل إلياس باشا ابنه عمر لكي يقف المهدي على الحالة ويدعوه إلى المجيء إلى الأبيض، وكان محمد باشا سعيد ينتظر مجيء المهدي للأبيض؛ ولذلك حفر خندقًا حول المدينة ظنًّا منه أن السكان سيصمدون للحصار، وأشار عليه أحمد بك ضيف الله بتحصين مباني الحكومة ففعل وبنى حولها جدارًا بارتفاع الصدر، ولكنه لبخله وقع في خطأ فاحش؛ إذ بدلًا من أن يختزن الحبوب استعدادًا للحصار ويشتريها بأثمان عالية رفض أن يشتريها إلا بالأثمان التي تباع بها وقت السلم، ولم تمض مدة حتى بيعت الحبوب لأولئك الذين شعروا بالانقلاب في الحالة وعرضوا ثمنًا أكبر مما عرضه محمد باشا سعيد.
وفي هذه الأثناء كان الأهالي يقتلون في كل مكان، وكان العرب السفاكون لا يلتقون بجباة الضرائب أو شراذم الجنود أو الموظفين المتفرقين حتى يقتلوهم، وأغار عرب البديرة على سكان أبي حرز وكادوا يبيدونهم، وكانت أبو حرز على سفر يوم من الأبيض، ولم يتمكن من الهرب إلى الأبيض سوى عدد قليل من الأطفال والنساء والرجال، أما باقي السكان فإما أنهم قتلوا أو أخذوا أسرى وقت فرارهم في الصحراء المحرقة، وكان العرب يسقون الفتيات إذا عطشن أما النساء المسنات فكن يلاقين الأهوال؛ فقد كان هؤلاء العرب لكي يحصلوا على خلاخيلهن وأساورهن يقطعون أيديهن وأرجلهن!
وبعد أيام قلائل أغار العرب على بلدة أشاف في شمال كردوفان فنهبوها، وقد دافع عنها نور أنجرة الذي كان هناك في ذلك الوقت وساعده سنجق محمد أغا يابو الذي كان قواص غوردون، ولكنهما اضطرا إلى التقهقر، وكان يابو هذا كرديًّا وقد فعل العجائب في تقهقره، فقد جمع النساء والبنات في الوسط وأمرهن بأن يغنين غناء الحرب، وكان يقول إن هذا الغناء ينفي الخوف عن القلوب، وكان يكر على العرب من وقت لآخر حتى نجح في استرداد جميع الفارين تقريبًا ووصل سالمًا إلى دارة.
وأغار العرب على دارة هذه، ولكنهم ارتدوا عنها أولًا، ثم عادوا وجمعوا جموعهم يقودهم الشيخ رحمة الله فطوقوا البلدة ومنعوا عنها المؤن.
واجتمع جمع آخر من العرب في كشجيل، فأرسل إليهم محمد باشا سعيد فصيلة من الجند فرَّقتهم، ولكن الفصيلة فقدت من أفرادها عددًا كبيرًا حتى ليصح أن يعد انتصارها هزيمة، واجتمع هؤلاء العرب ثانيًا في بركة، وكانت بها حامية مؤلفة من ألفي رجل فقتلوا، وحدثت نكبة أخرى مشابهة لهذه في الشط على النيل الأبيض؛ حيث قتل مائتا جندي، وأغار العرب أيضًا على الدويم فارتدوا عنها وخسروا ألفي رجل.
وفي هذه الأثناء لم تكن رسل المهدي الذين أرسلهم إلى الجزيرة وانين، فإن عرب جهينة والحوارنة والأجليين ساروا إلى سنار يقودهم أبوروف فحصروها، ولكن جاء السنجق صالح واد المك بقوة من الشايجية فرفع الحصار عنها.
وحاصر الشريف أحمد طه مدينة أبي حرز الواقعة على النيل الأزرق، وكان جيجلر باشا يقوم بوظيفة الحاكم العام رءوف باشا، وقد وصل إلى جوار المدينة فأرسل مك يوسف من الشايجية لمهاجمة الثوار ولكنه هزم، واستحى مك يوسف من الفرار فنزل من ظهر جواده وبسط فروته على الأرض وأمر أحد عبيده بأن يقتله، وسافر جيجار في الحال إلى الخرطوم وهيأ مددًا عاد به وأغار على أحمد طه وقتله وأرسل رأسه إلى الخرطوم، ثم طهر جوار سنار من الثائرين بدون أن يفقد عددًا كبيرًا من رجاله، ولكن على الرغم من هذا النجاح الوقتي كانت الحكومة تتسلم كل يوم أخبارًا مزعجة عن الكوارث التي كانت تقع بجيوشها وبالسكان في عدة أنحاء من السودان.
وكانت نتيجة ذلك إرسال عبد القادر باشا حاكمًا عامًّا للسودان فوصل إلى الخرطوم في ١١ مايو سنة ١٨٨٢، وشرع بهمة في العمل على تحصين المدينة، وكان لعمله هذا تأثير في الأهالي الذين اتضح لهم أن الحكومة تنوي العمل بهمة، ولكنه في الوقت نفسه أوضح لهم خطورة الحال، وقد أمنت دور الحكومة مثل مخازن المؤن والذخيرة والدفترخانة من جميع الطوارئ، وسحب الحاكم العام إلى الخرطوم حاميات القلابات وسنهيت وجرة، وكان الهدوء التام يشمل هذه المراكز.
وفي هذه الأثناء أدرك محمد أحمد أن حضوره ضروريٌّ لكي يشعل النار الخامدة ويحيلها لهيبًا آكلًا؛ ولذلك قبل دعوة إلياس باشا للتوجه إلى الأبيض وترك عمه محمود شريف مع بعض الأتباع في جبل ماسة للعناية بزوجاته وأولاده، ثم هبط إلى الوادي وجمع جموعه وسار بهم إلى عاصمة كردوفان الغنية.