الثورة في جنوبي دارفور
لما غادرت الفاشر قاصدًا دارة في أوائل سنة ١٨٨٢ كان معي ٣٥٠ جنديًّا راكبًا بقيادة عمر واد دارهو، ولم يكن هذا الحرس ضروريًّا ولكني رأيت أن أؤثر في العرب وأريهم أن لدى الحكومة قوات كبيرة تخمد بها أية حركة تدفعهم إليها نزعاتهم.
ولما بلغت دارة زرت قبر إميلياني ونصبت شاهدًا من الحجر عليه للذكرى، وكان زوجال بك يقوم مقامه في إدارة الأعمال وكانت الظواهر تدل على أن الحالة قلقة جدًّا؛ فقد خرج عرب الجنوب وهم الرزيفاف والحبانية والمعالية على الحكومة؛ فقد عقدوا عدة اجتماعات أعلن فيها أن الدراويش يهرعون للانضواء إلى راية المهدي الذي أرسله الله لإعلاء كلمة الدين، فأمرت منصور أفندي حلمي بأن يسافر في الحال إلى شقة لكي يعيد النظام إلى نصابه، وكان معه ٢٥٠ جنديًّا نظاميًّا و٢٥ جنديًّا راكبًا.
فسار عن طريق قلقة — كلاكة — وعدت أنا إلى الفاشر لكي أجمع فصائل الجنود التي كانت متوزعة في أنحاء البلاد لجمع الضرائب ولكي أستعد بهم للطوارئ، وقبل أن أغادر دارة تحادثت طويلًا ومليًّا مع زوجال، وقد كنت أعرف هذا الرجل معرفة تامة عندما كنت حاكمًا هنا، وقد علمت أنه تحادث مع عمر واد دارهو كثيرًا عن أحوال المهدي وأعماله، واتفق معه على أنه إذا استمر النصر معقودًا بلوائه فإنهما ينضمان إليه، وكان هذان الرجلان أغنى من في المركز، وكان لهما نفوذ عظيم بين الأهالي؛ ولذلك كان انشقاقهما علينا خطرًا جدًّا، فرأيت أن أتحبب إليهما وأن أعمل كل ما يمكن لمنع هذا الشقاق، فلما حادثت زوجال لم أشر إلى مقابلاته العديدة دارهو، ولكني حصرت كلامي في الإشارة عليه بأنه بالنسبة لقرابته للمهدي وبالنسبة لأنه موظف كبير ينبغي له أن يعاون السلطة الشرعية في البلاد.
ولما ودعت الضباط والموظفين شرحت لهم وجوب انتباههم الدقيق لواجباتهم، وأخبرتهم بأني سأعود من الفاشر في أقرب وقت، ثم تركت الجنود الراكبة في دارة وسرت إلى العاصمة التي بلغتها بعد سفر ثلاثة أيام، وهنا علمت أن المحطة التلغرافية في فوجة قد استولى عليها الثائرون، ورأيت لذلك أن آمر بإرسال المدد إلى أم شنجة.
وكان نظام البريد قد تعطل تمامًا واضطررت لهذا السبب إلى أن أرسل خطاباتي إلى الأبيض والخرطوم في داخل قوائم الرماح، أو بين نعلي الحذاء، أو أخيطها داخل ملابس حاملها. وكنت قد طلبت من الخرطوم إمدادي بالذخيرة ولكنها لم تصل إليَّ لإهمال الموظفين، فإنها أرسلت إلى الأبيض متأخرة ولانقطاع المواصلات لم يمكن إرسالها إليَّ.
وعلمت من دارة أن مادبو زعيم الرزيفات قد رفض أن يأتي، فلم أشك بعد ذلك في أن جميع القبائل الجنوبية قد خرجت على الحكومة وأنها تنوي كل النية الانضمام للمهدي، فقررت أن يكون مقامي في دارة، فأخذت ٢٠٠ جنديٍّ من المشاة و٧٥ من الجنود الراكبة وسرت بهم إلى دارة.
وعند وصولي أبلغت وقوع حادثة كانت في ذاتها تافهة ولكن نتائجها كانت خطيرة جدًّا؛ فقد سبق أن ذكرت بأني وأنا مسافر إلى الخرطوم التقيت في الطريق بالشيخ علي واد هجير من قبيلة المعالية فرافقني إلى الخرطوم، وقد أثبت ولاءه للحكومة فعينته رئيسًا لقبائل المعالية الجنوبية، وقد سمع هذا الشيخ بقرب عقد اجتماع عرب الرزيفات بقيادة الشيخ بلال نجور بغية الانضمام إلى المهدي، فعوَّل الشيخ علي على أن يحضر هذا الاجتماع ويقبض على الشيخ بلال متهمًا إياه بالثورة.
فسار إلى مكان الاجتماع مع حميه وبعض أصدقائه، ورأى بعض الرجال المنتمين إلى قبيلته قد حضروا أيضًا فطلب إليهم أن يخرجوا وينحازوا إلى جانبه، ولكن لم يبالِ أحد بطلبه وحدثت في أثر ذلك مشاغبة عومل فيها هجير وأصدقاؤه معاملة قاسية عنيفة، حتى اضطروا إلى أن ينجوا بأنفسهم، ولكن حكاية فرارهم انتشرت على غير وجه الحقيقة؛ بحيث إنه عندما وصل هجير إلى زوجته ومعه حموه وأصدقاؤه تلقتهم بقولها: «راجلي اضليم وأبويا ربطة، سفر يومين سووهم في جبطة.»
ومعنى ذلك: «زوجي ظليم: ذكر النعام، وأبي أنثى نعام، حتى إنهما قضيا سفر يومين في لحظة.»
واقتفى بلال نجور أثر الهاربين تصحبه المعالية فهجم على دار الشيخ هجير، وأخذ الذين حول الشيخ هجير يحثونه على الفرار إلى شقة ليدخل في حماية منصور، ولكنه كان يتضور من آلام الكلمات القاذعة التي عيرته بها زوجته فرفض الفرار وقال: «لن أفر لكي أنجو بنفسي. خير لي أن أقع بالسيف من أن تضحك مني امرأة.»
وقد وعد وأوفى وعده؛ فإنه قاتل الجموع حوله قتال الأبطال حتى شقت حربةٌ رأسه نصفين فوقع وهو يتلو الصلاة حتى مات، وقُتل حموه ووقع في جانبه، أما زوجته التي كانت سبب كل هذا البلاء فقد وقعت أسيرة واستعبدت، ودعاني منصور حلمي لكي أذهب إلى شقة لرغبته في الاتفاق مع القبائل؛ لأني أمثل الحكومة وبهذه الصفة يكون لي تأثير أكبر فيهم، واقترح أن نبني قلعة حصينة في شقة ونضع فيها مدفعين، ولما كان الاتفاق مع العرب ضروريًّا فإني قررت إجابة طلبه وسافرت إلى شقة ومعي ١٥٠ من الجنود النظامية و٢٥ جنديًّا راكبًا ومدفع.
وكنت في أثناء سفري أسمع من الأخبار ما يثبت انتشار الثورة وانتصار المهدي، ولما وصلت إلى قرية المادبو في دعين جاءني رسولٌ وأخبرني هذا الخبر الغريب؛ وهو أن منصور قد أغار على هذا الشيخ قريبًا من شقة وفقد معظم من معه وبات في شبه حصار في مراي، فأرسلت في الحال في طلب إمداد من دارة وبقيت مدة الانتظار في دعين وأنا لا أشك في أن المادبو ينوي أن يهاجمني، وقد تحقق ظني، وقد انضم إليَّ الشيخ عفيفي من قبيلة الحبانية ومعه ٢٥ من الخيالة، والحق أن مآثر هذا الشيخ الموالي لجديرة بأن تدون!
ففي مساء أحدٍ، والشمس توشك أن تغرب، خرج رجالي يجمعون الحطب، فأغار علينا المادبو بخيوله التي تراءت لنا بأنها تقصد إلى زريبتنا وهي تعدو، فلما رآهم الشيخ عفيفي أسرج في الحال جواده وامتطاه وأشرع حربته وقال لي: «عارفني زين، أنا نور الطقش أبو جلب من آدم، أنا بدور عالموت.»
ومعنى هذا: «أنت تعرفني جيدًا، أنا الثور الناطح، قلبي من صخر، أنا أبحث عن الموت.»
قال ذلك واندفع خارجًا من الزريبة ثم اختفى بين الأشجار، وبعد لحظة عاد وحربته تقطر الدم ووراءه جواد قد استلبه، وخرج شيخان آخران اشتبكا في قتال خفيف ففقدا جوادًا وغَنِمَا جوادًا آخر، وبعد هنيهة سمعنا طلقات البنادق فخشيت أن يكون جيش المادبو قد وصل فطلبت الخيالة من العرب وجعلتهم يقفون موقف الدفاع في الزريبة، ولكني عرفت بعد ذلك بقليل أنَّ ما وصل من جيش المادبو قوة صغيرة قد احتمت في أدغال الأشجار، فأرسلت خمسين رجلًا لطردهم من مكمنهم فطردوهم وقتلوا منهم ثلاثة.
وفي صباح اليوم التالي ظهر العدو وهو يتقدم نحونا بقوات كبيرة، فنفخنا في البوق وذهب كل جنديٍّ إلى مكانه، وأغاروا علينا من الشمال الغربي وهم يحتمون بدغل من نارنا، وكان في وسط زريبتنا ربوة فوضعت فوقها ديوانًا كنا قد وجدناه في إحدى عشش المادبو، فجعله أحد المصريين كرسيًّا، فقعدت عليه وأخذت أشرف منه على حركات العدو وأراقب أيضًا حركات جنودنا في الزريبة، وتقدم العدو حتى صار على مدى إطلاق النار وصار البندق يصفر حول آذاننا، وقمت أنا لكي أعطي الأوامر، وما كدت أترك الكرسي حتى مزقته رصاصة! فرأيت من الأنسب ألا أعرض نفسي للرصاص، واقترب العدو منا كثيرًا واشتدت ناره، ولكن رجالنا كانوا محتمين فلم نُصَبْ إلا بأقل خسارة، ولكن إصابات الدواب كانت كثيرة بحيث خفت أن تفنى جميعًا، فأمرت خمسين رجلًا بالخروج بها من الجهة الجنوبية، وداروا بها إلى الغرب وأعملوا النار في العدو بينما كنا نحن في الزريبة نطلق النار عليهم أيضًا، فتكلف العدو من ذلك خسارة جسيمة حتى جلا من مكانه، ولكنا لم ننل هذا النصر بدون أن ندفع ثمنه، فإني أتذكر أننا خسرنا ١٢ رجلًا.
وفي المساء استولى التعب على الرجال فناموا وكنا ننتظر قضاء الليل في هدوء، ولكن حوالي الساعة الحادية عشرة فوجئنا بإطلاق نار حامية، ولكن كان الظلام شديدًا فلم يمكن تسديد الرماية، فأمرت رجالي بألا يجيبوا، وفتر إطلاق النار ثم وقف نهائيًّا.
وطلبت الشيخ عفيفي واقترحت عليه أن يرسل بعض رجاله لكي يبحثوا عن مكان المادبو، ووعدتهم بالمكافأة الحسنة إذا هم أخبرونا عن مكانهم الحقيقي، فذهبوا وعادوا بعد ساعتين وأخبرونا بأن المادبو مع رجاله من البازنجر في قريته، أما العرب فقد خيموا في جنوب القرية وغربها، وكانت قوتهم كبيرة ولكنهم لم يتخذوا أية احتياطات للدفاع، وزحف جواسيسنا إلى جوارهم وسمعوا أحاديثهم وضحكهم واستهزاءهم بنا لأننا لم نجب على إطلاق النار علينا في الليل، وقالوا إنه لم يمنعنا من ذلك إلا شدة خوفنا.
فاستدعيت سبعين من رجالنا وأخبرتهم أمام الضابط بأني أرغب منهم في مفاجأة المادبو في قريته، وإننا إذا قاتلنا قوة تزيد على قوتنا في العراء فإننا في الأرجح نخسر خسارة جسيمة، ولكننا قد تحققنا الآن أن العرب غير مستعدين، فإذا هاجمناهم في الليل وهم على غرة فإنهم يفقدون كل ما عندهم من قوة معنوية، وتتاح لنا الفرصة بذلك للعودة إلى دارة والحصول على مدد جديد. فوافق الجميع على هذه الخطة وأراد الضباط أن ينضموا إلى رجال هذه الغارة ولكني رفضت ذلك.
وقد تركت خلفي ضابطين وأربعين من حمَلة الأبواق وسبعين رجلًا، وخرجت أنا من الزريبة ومعي عفيفي الذي رفض أن يفارقني، وخشيت أن يخرج أحد من رجال أبي سلامة ويفشي أمرنا، فأمرت الضباط وشددت عليهم بألا يأذنوا لأحد بالخروج من الزريبة وأن يكونوا على يقظة تامة، وصرنا نتقدم بحذر يدلنا الجواسيس على الطريق، فلم تمض ساعة حتى وجدنا أنفسنا على مقربة من العدو، وقد ثبت لي أن جواسيسنا قد أبلغونا الصدق، وكنت أنا أيضًا أعرف هذه الجهة من قبل، فقسمت قوتي قسمين: أحدهما يقوده محمد أغا سليمان أحد أهالي بورنو، والآخر أقوده أنا. وأخذنا نزحف إلى أن صرنا على بعد ٦٠٠ أو ٧٠٠ ياردة من العدو، وهنا أمرت حامل البوق بعمل إشارة لإطلاق النار على العدو الوادع، وعقب ذلك ارتباك رجال العدو واختلاطهم، فترك رجال المادبو — البازنجر — أسلحتهم وفروا، وأجفلت الخيول لهذه الحركة الفجائية في وسط الليل فجمحت في كل جهة والعرب في أثرها، وبعد دقائق كانت القرية خالية وكنا نسمع جلبة الفارين الذين هربوا من شرذمة قدرها سبعون رجلًا فقط!
فقد نجحنا تمامًا واحتاج المادبو إلى جملة أيام لكي يجمع فيها رجاله الفارين، وأحرقت قريته وارتفع لهيبها إلى السماء، وأنار مكان المعسكر المهجور، وغنمنا عددًا كبيرًا من السروج والبنادق القديمة وألقيناها كلها في النار، ولكننا أبقينا بنادق رمنجتون وعدنا إلى الزريبة، حيث حيانا الجنود هناك أجمل تحية، وكانوا في أشد القلق وهم ينتظرون رجوعنا.
ولم تكن قد وافتني أخبار عن دارة فقررت العودة إليها، وبعد مسير ثلاثة أيام وصلت إلى البلدة، حيث وجدت الأمداد والذخيرة، ولما كان الرجال الذين رجعوا معي منهوكين فقد قررت أن أستبدل بهم رجلًا من الأمداد الجديدة وأذهب لإنجاد منصور حلمي، ولكني في الصباح دهشت إذ وجدت خطابًا يقول إن منصور في طريقه إلى دارة، وإنه سيبلغها في اليوم التالي، وكان هذا الخبر من أسوأ ما سمعت؛ لأن معناه مضاعفة الصعوبات في استعادة شقة واحتلالها.
ووصل منصور في صباح اليوم التالي ومعه قليل من العبيد الذين كانوا يتهافتون من الإعياء، وعلمت أنه قد ترك رجاله لما ألقاه العدو في قلبه من الرعب وعاد وحده إلى دارة، فلم أتوانَ في معاقبة هذا الضابط الجبان وقبضت عليه وأرسلت الجواسيس في كل ناحية أبحث عن جنوده، ولم أعد أفكر في إعداد حملة لاستنقاذ شقة، وبعد عشرة أيام جاءتني الأخبار السارة بأن هؤلاء الجنود قريبون من دارة، وظهر أن من يُدعى علي أغا جمعة تراجع بهم لما تركهم منصور إلى دارة، وحماهم من مناوشات العدو وحمل جرحاهم وجاء معه بعض تجار شقة الذين طلبوا حمايته.
وكان سعيد بك جمعة في هذا الوقت حاكمًا على الفاشر، وكنت قد كتبت إليه مرارًا لكي ينجدني بالجنود والذخائر، ولكني وجدت أنه لا يود أو لا يقدر على إجابة طلباتي، وسافرت إلى الحبشة؛ حيث كنت قد اتفقت مع القبائل الموالية على لقائي هناك.