حصار الأبيض وسقوطها
كبرت آمال المهدي بانتصاراته العديدة السابقة، وكان إلياس باشا يحضه على القدوم إلى الأبيض، فترك جبل غدير ومعه آلاف من العرب النخاسين والمعتصبين وانحدر بهم إلى كعبة؛ وهي قرية صغيرة في أرباض الأبيض.
وأرسل من هناك الخيالة للاستكشاف ولدعوة الراغبين في الانضواء للمهدي، وأرسل أيضًا إلى محمد باشا سعيد يأمره بالخضوع، وقُرئ خطاب المهدي أمام الضباط فاقترح محمد بك إسكندر قتل الرسل حملة هذا الخطاب، وكان محمد باشا سعيد غير موافق على هذا الاقتراح أولًا، ولكنه وافق في النهاية وأعدم الرسل فورًا.
ولم يضن المهدي بأي مجهود لإثارة من حوله؛ فكان يعظ الدهماء الذين حوله، ويصف جنات النعيم التي وُعد بها المؤمنون الذين يشتركون في الجهاد. وفي صبيحة يوم الجمعة ٨ سبتمبر سار الناس وهم يغلون حماسة وليس معهم سوى السيوف والحراب وجموعهم تموج نحو المدينة، وكانوا قد تركوا ما غنموه من الأسلحة في حملة راشد وشلالي، وأخذ المتحصنون في المدينة يصبون عليهم نار البنادق، ولكن هذه الجموع التي لم تكن تطمح إلا إلى الغنائم والأسلاب لم تكن تبالي بمن يقتل منها، فكانوا يتقدمون ويملَئون الخنادق ويجوزون الحواجز ودخل بعضهم المدينة، وفي هذه اللحظة أمر الضابط نسيم أفندي حامل البوق بأن يعطي الإشارة للتقدم، وأخذ الإشارة حملة الأبواق في كل مكان، فنادوا بالهجوم فخرجت الجنود إلى سطوح المنازل وتعلقوا بالأسوار والحيطان وصبوا النار والرصاص فوق رءوس رجال المهدي، ورأت هذه الجموع الرصاص ينزل عليها كالبرد فتراجعت ببطء إلى الوراء، وحاولوا مرة أخرى أن يتقدموا فردتهم الجنود ثانيًا وقتلاهم يُعدُّون بالآلاف، وأخيرًا خرجوا وتنحوا عن المدينة وانتصرت حامية الأبيض انتصارًا باهرًا.
وقد قتل في هذا الهجوم شقيق المهدي المدعو محمد، وشقيق الخليفة عبد الله المدعو يوسف، وقتل أيضًا القاضي وعدد من الأمراء، وكان المهدي مدة الهجوم محتميًا وراء منزل صغير، ولو كان محمد باشا سعيد سمع نصيحة أحمد بك ضيف وطارد الدراويش بعد اختلاطهم وتقهقرهم، لكان نجح في القبض على المهدي وتمكن من حقن الدماء الغزيرة التي أريقت بعد ذلك.
ولكن سعيد باشا قنع بهذا الانتصار الوقتي واعتقد أن المهدي قد سُحق وأنه لا يجرؤ على معاودة الهجوم، وأن هذه الهزيمة ستحبط أغراضه وتزيل سطوته، وقد أدرك أقارب المهدي وأصدقاؤه هذه الحالة أيضًا ونصحوا له بأن ينتقل إلى تل جانزارة، الذي يقع في الشمال الغربي من المدينة، ومكث هناك يحاصر المدينة حصارًا مكشوفًا وينتظر الأسلحة والذخائر التي أرسل في طلبها من جبل غدير.
وفي هذه الأثناء كانت دلين وهي مركز المرسلين المسيحيين في حالة خطرة، وكانت بها حامية مؤلفة من ٨٠ عبدًا، وكان المهدي في طريقه إلى الأبيض، وقد أرسل أحد أنصاره — وهو مك عمر — لكي يأسر أو يقتل من بها، وكان الأب أوهروالدر والأب بونومي قد اتفقا على الهرب إلى فاشودة ولكن تدبيرهما حبط لجبن الضابط الذي كان يقود فصيلة الجنود، فاضطرا إلى الإذعان وسرق منهما كل شيء وسيقا أسيرين إلى الأبيض، وحاول هنا المهدي هو والخليفة عبد الله أن يجعلاهما مسلمين هما وسائر الراهبات، ولكنهم رفضوا جميعًا.
وفي اليوم التالي أخذهم الجنود وحولهم الدراويش يزعقون ويزيطون إلى ساحة فسيحة؛ حيث أقيم عرض كبير، ثم أوهموا جميعًا بالقتل ولكن عُفي عنهم في النهاية، ووُكل أحد السوريين المدعو جرجي إستامبولي بالعناية بهم، وكان هذا السوري من أهالي الأبيض الذين انضموا إلى المهدي.
وفي هذا الوقت ظهر نجم مذنَّب في السماء، فاعتبره السودانيون نذيرًا بسقوط الحكومة وأن المهدي قد ظهر على الأرض.
وأرسلت الحكومة تجريدة بقيادة علي بك لطفي لرفع الحصار عن بارة والأبيض، ولكن بينما كان الجنود يسيرون وقد بلغ بهم العطش أغار عليهم عرب الجوامة يقودهم فقي رحمة، وكان عدد الجنود ألفين، ولم ينجُ منهم سوى مائتين تمكنوا من الوصول إلى بارة، وبعد ذلك هوجمت بارة وكانت بها حامية صغيرة فصمدت وقاومت مدة، ولكنها اضطرت في نهاية سبتمبر إلى التسليم.
وسقطت بارة بعد حصار طويل منظم، وكانت الحامية قد أوقعت بالمحاصرين وكلفتهم خسارة جمة، ولكن شبت نار في مخازن الحبوب ثم فعل الجوع والمرض أفاعيلهما، ولم يكن هناك أمل في المعونة فطلبت جنود الحامية من مسرور أفندي الحكمدار ونور أنجرة ومحمد أغا جابو أن يسلموا، فسلموا المدينة في يناير سنة ١٣٨٨ لعبد الرحمن واد النجومي الذي ساقهم إلى جانزارة.
واحتفل المهدي بسقوط بارة فأطلق مائة مدفع، وسمعت الحامية في الأبيض إطلاق النار فظنت أن الحكومة أرسلت جيشًا لرفع الحصار، ولكن عندما عرف الجنود الحقيقة وأن بارة قد سقطت تراخت عزائمهم وفتَّ في أعضادهم؛ فقد مضت عليهم أشهر وهم يعانون فتك الجوع؛ فقد ارتفعت أسعار الأقوات بحيث إن ثمن الدخن كان قبل تسليم المدينة بشهر قد بلغ أربعمائة ريال للأردب، وثمن الجمل ١٥٠٠ ريال، وثمن الفروج ٣٠ أو ٤٠ ريالًا، وثمن البيضة ريالًا أو ريالًا ونصفًا، ولست أحتاج إلى وصف هذه الحالة؛ فقد أغناني عن ذلك أخواي في الأسر الأب أوهروالدر والأب وسنيولي، اللذان وصفا فظائع هذه الأيام فلن أعيد ما قالاه، إنما يكفي أن أقول إنه بعد حصار دام خمسة أشهر ذاق فيه المحصورون أنواع الحرمان ومات فيه عدد عظيم من الأهالي ومن الحامية جوعًا، اضطر محمد باشا سعيد إلى التسليم، وكان يرغب في إحراق مخازن البارود، ولكن الضباط رجوه ألا يفعل ذلك؛ ضنًّا بحياة زوجاتهم وأولادهم، فكتب إلى المهدي يقول إنه مستعدٌّ لتسليم المدينة، فأجاب المهدي بأنه لا خوف عليه هو وسائر الضباط، وفي صباح اليوم التالي أرسل وفدًا مؤلفًا من التجار برياسة محمد واد عريف إلى سعيد باشا؛ يطلب منه ومن كبار الضباط أن يحضروا لديه.
وقد أحضر الوفد معه أكسية من المرقعات وهي لباس الدراويش المؤلف من رقع مختلفة لكي يلبسها سعيد باشا وضباطه، فلبسوها وركبوا جميعهم الخيول وساروا والحزن مخيم على وجوههم، وغادروا تلك القلعة التي دافعوا عنها دفاع الأبطال. وكان مع سعيد باشا محمد بك إسكندر الحكمدار ونسيم أفندي وأحمد بك ضيف الله ومحمد بك يس وعدة ضباط آخرين.
واستقبلهم المهدي وهو قاعد على عنجريب قد فرش بجلد جدْيٍ وبسط يده لهم لكي يقبلوها وعفا عنهم، وقال لهم إنه يعرف أنهم لم يقاوموه إلا لأنهم كانوا مخدوعين لا يعرفون أنه المهدي الذي جاء يؤدي رسالة إلهية، وهو يعفو عنهم الآن ويطلب منهم أن يقسموا له يمين الولاء ويطيعوه في جهاده، ولما انتهى من ذلك أعطاهم ماءً وبلحًا وحضهم على الزهد في الدنيا والإقبال على الآخرة، ثم التفت إلى سعيد باشا وقال: «لست ألومك باعتبارك تركيًّا لدفاعك عن المدينة، ولكنك لم تحسن في قتل الرسل؛ لأن الرسول لا يُقتل.»
وقبل أن يجيب سعيد باشا أسرع إسكندر بك وقال: «مولاي المهدي، إن سعيد لم يأمر بقتل الرسل ولكني أنا الذي فعلت ذلك بصفتي حكمدارًا للقلعة؛ وذلك لأني اعتبرتهم ثائرين، وإني أقر بأني لم أحسن في عملي هذا كما قلت.»
فقال المهدي: «لم أقصد بكلامي إلى أن تبرر عملك، فإن الرسل قد نالوا كل ما كانوا يرغبون فيه، فإنهم لما أخذوا الخطابات مني كانوا يرغبون في الاستشهاد وقد تحققت رغبتهم، وقد أنعم الله عليهم بالنعيم، ولعل الله يمنحنا ما نالوه.»
وفي أثناء المحادثة كان أبو النجا ورجاله قد احتلوا القلعة بتدبير سابق واحتلوا أيضًا مباني الحكومة ومخزن البارود، أما الأمراء فقد احتلوا مساكن الضباط، وأمر المهدي واد العريف — وكان صديقًا سابقًا لسعيد باشا — بأن يأخذه هو والضباط إلى منازلهم، ولكنهم عندما بلغوها علموا أن الأمراء قد احتلوها وأن أملاكهم قد صودرت، وبعد قليل دخل المهدي المدينة وأمر بخروج الحامية من الخنادق، أما النساء والأولاد الذين كانوا ينتظرون إسعافهم فقد أمروا بأن يخرجوا من المدينة ويذهبوا إلى معسكر المهدي وألا يأخذوا شيئًا معهم، وفتشت النساء تفتيشًا يثير النفس؛ إذ كن يُعَرَّيْنَ من ملابسهن! وكل ما وُجد معهن أرسل إلى بيت المال؛ حيث وزعت الأموال بين الأمراء وسائر الأعيان، وكانت مناظر التفتيش تؤلم النفس؛ فإن جنود المهدي كانوا في طلب الذهب يجلدون الأهالي لكي يعترفوا بما عندهم!
وطلب أمير بيت المال أحمد واد سليمان سعيد باشا لكي يسلمه ما عنده من الأموال، فأجاب سعيد باشا بأنه لا يملك شيئًا، وكان المشهور أنه رجل غنيٌّ ولكنه أنكر وكابر، وبلغ إنكاره المهدي فاستدعى واد سليمان وطلب منه أن يبحث مع خدم سعيد باشا، ثم طلب هو سعيد باشا وأخذ يحادثه عن الدين، وكان كثيرًا ما يسأله أمام المجتمعين من الناس لماذا لا يدلهم على خزانته التي يحفظ فيها أمواله، وكان سعيد باشا ينكر ويلح في الإنكار ويقول إنه لا يملك شيئًا، ومضي وقت ثم جاء واد سليمان الذي كان قد نجح في أن يحمل إحدى الخادمات على أن تعترف بالمكان الذي خبأ فيه مولاها أمواله، وأسرَّ إلى المهدي حتى لا يسمع الناس بأنه وجد الأموال مخبوءة في حائط!
أما المهدي فأشار عليه بالجلوس ثم أخذ يعظ الجموع أمامه عن غرور الدنيا وضرورة الزهد، ثم التفت فجأة إلى سعيد باشا وقال: «لقد حلفت يمين الولاء فلِمَ تخفي أمر أموالك؟ المال أصل البلاء فهل تنتظر أن تجمع أكثر مما جمعت؟»
فقال سعيد باشا: «ليس عندي مال ربحته ظلمًا أو عدلًا، فافعل بي ما تشاء.»
فقال المهدي: «هل تظنني رجلًا مثل سائر الناس، ألا تعرف أنني المهدي المنتظر، وأن أبي قد كشف لي عن خزانتك التي أخفيتها في الحائط؟! اذهب يا أحمد واد سليمان إلى بيته ثم ادخل إلى غرفته فتجد على الحائط الأيسر قريبًا من الباب مكان الأموال، فجرد الحائط من الجبس تجد أموال التركي فأحضرها إلينا.»
وكان سعيد باشا مدة غياب واد سليمان قاعدًا مقطبًا عابسًا في جوار المهدي، وعرف أن مكان أمواله قد أفشي ولكنه كان من الكبرياء والأنفة بحيث رفض أن يصرح بأنه قد كذب، وسكت عن الكلام، وبعد دقائق عاد سليمان ومعه صندوق من التنك وضعه أمام المهدي، فلما فتحه وجده مملوءًا بالذهب المجموع في أكياس، وقد عدوا فيه سبعة آلاف جنيه.
ثم قال المهدي: «يا محمد سعيد، لقد كذبت ولكني سأعفو عنك، خذ يا أحمد هذا المال وقسمه بين الفقراء والمحتاجين.»
فنهض محمد سعيد باشا وهو يقول: «إنك تدعو إلى الزهد ثم تأخذ أموالي، فافعل بها ما شئت.» ثم سار خارجًا.
فقطب المهدي وقال بصوت خافت: «دا ما ينفعنا.» وبعد أيام تعلل عليه بعلَّة وأمر بقتله كما قتل أيضًا أحمد بك ضيف الله وعلي بك شريف ويس، وهذه كانت نهاية هؤلاء الرجال الأربعة الذين دافعوا عن الأبيض، والحق أنهم كانوا جديرين بحظٍّ أحسن من هذا.