المهدية في دارفور
لما وصلت إلى خشبة جهدت جهدي لكي أنظم قوة لمقاتلة المادبو، وكانت القبائل التي طلبتها لمعونة الحكومة قد وصلت وصار جيشي يتألف كما يأتي:
المجموع (ومنه ٦٠٠ يحملون رمنجتون) | ٢١٥٠ |
جنود نظامية ببنادق رمنجتون | ٥٥٠ |
جلابة | ٢٠٠ |
بازنجر مسلحون | ١٣٠٠ |
جنود مختلفة | ١٠٠ |
وكان يقود البازنجر شرف الدين، وكان لدينا مدفع جبلي و١٣ رجلًا من الطوبجية.
وكانت القبائل الموالية تتألف من البيجو والبركة والزغاوة — في جنوب دارفور — والمصرية والتاجو والمعالية الذين كانوا يعادون الشيخ أبا سلامة، وكان عددهم كلهم نحو ٧٠٠٠ رجل يحملون الحراب و٤٠٠ حصان.
وكانت الحامية التي غادرتها في دارة مؤلفة من ٤٠٠ جنديٍّ نظاميٍّ و٧ مدافع والطوبجية اللازمين لها و٣٠ فرسًا و٢٥٠ من البازنجر، وكانوا كلهم تحت قيادة زوجال بك الذي كان يؤدي وظيفة قائمقام بدلًا من إميلياني بك، وقد تركت معه من يُدعى جوتفرث روث، وهو سويسري كان قد أُرسل إلى السودان بشأن وقف النخاسة، وكان عالمًا في اللغة العربية، وقد أسررت إليه أني لا أثق بزوجال بك وطلبت منه أن يعرف كل ما يمكن معرفته عنه من قرابته ويقفني على كل شيء يعرفه عنه.
وفي نهاية أكتوبر غادرت خشبة مع جميع الجيش وسرنا في إقليم الرزيفات، وكان مغطى بالديس الكثيف والأحراج، وكنا معرضين بذلك للهجوم، فجعلت سير الجيش بحيث لا يمكن أن نباغت بكمين يبعث فينا الارتباك والاختلاط.
وكان البازنجر في جناحي الجيش ومعهم الأبواق لتنبيهنا عن أي خطر، وجعلت مؤخرة الجيش أقوى من الجناحين؛ وذلك حتى إذا هوجم جناح يمكننا أن نجد الوقت الكافي لنزيده من قلب الجيش، وكان واجب المؤخرة من أشق الواجبات؛ لأنه كان عليهم أن يعنوا بالجمال التي تقع وألا يغفلوا عن الفارين أو الذين يتخلفون؛ ولذلك جعلت السير في المؤخرة مناوبة؛ فيَمنة الجيش تصير مؤخرة ثم تصير ميسرة ثم تعود يمنة وهلم جرًّا، وكنت أيضًا أخفف الأعمال عن البازنجر والجنود النظاميين بهذه الطريقة.
وكنت أؤمل بهذه الطريقة أن أبلغ شقة بدون أية خسارة جدية، وكان قصدي عند وصولي أن أبني قلعة هناك وأضع عليها المدفع ثم أترك الحامية هناك وأخرج بتجريدات خفيفة إلى البلاد المضطربة؛ حيث تتاح الفرصة لحملة الحراب بأن يغنموا ما يمكنهم من ماشية الرزيفات.
وعند وصولي إلى ديين وجدنا كميات من الحبوب التي اختزنها المادبو في القرية الجديدة التي بناها، فقسمتها بين الجنود واطمأننت بأن عندهم من الزاد ما يكفيهم جملة أيام، واسترحنا ثلاثة أيام وبثثنا طلائعنا لكي يدلونا على أمكنة المياه في الطريق، ثم استأنفنا المسير إلى شقة.
وكنتُ محمومًا في هذه الأيام فسلمت قيادة الجيش لشرف الدين — وهو يليني في القيادة — وأمرته ألا يبرحني. وفي اليوم التالي عندما غادرنا قرية كندري، وبعد أن استرحنا قليلًا، تصايح الجنود في المؤخرة بأن بعض الخيالة يتقدمون للهجوم علينا، ووقف في الحال كل رجل في مكانه، وعلى الرغم من الحمى المستولية عليَّ، ذهبت إلى حرس المؤخرة ورأيت بعض الخيالة الذين ربما كانوا يبلغون بعض مئات ولكن الأشجار كانت تخفيهم، وكان لذلك من المستحيل تقديرهم تقديرًا صحيحًا، فأشرت لحرس جناحي الجيش بأن ينضموا إليَّ ثم تقدمت ومعي خيالة الجيش وفرسان العرب، وحصلت مناوشة بين الأشجار انتهت بتقهقر العدو بعد أن غنمنا منه ستة خيول، وبلغت خسارتنا سبعة خيول قتلت وفُقد رجلان وجرح البعض، ثم طاردنا العدو مسافة وعدنا واستأنفنا السير حتى الغروب فعسكرنا في مكان يدعى أم ورقة.
وكنت لا أزال أعاني الحمى، فأخبرت شرف الدين بأن يتبع التدبيرات التي أنهيها إليه بشأن ترتيب الجيش، وفي الصباح شرعنا في المسير حتى إذا مضى ساعتان بلغنا أرضًا نزَّةً، رأينا في جنوبها الشرقي بعضًا من العشش التي يبنيها عبيد الرزيفات الذين يشتغلون في الحقول، وذهبت بمقدمة الجيش إلى هذه العشش لفحصها، وكان الجنود يعاونون الخيل على السير في هذه الحمأة التي كانت تنغرز فيها أرجلها، ونحن في ذلك وإذا بنا نسمع من المؤخرة إشارة الخطر، تلاها في الحال إطلاق الرصاص، فتركت المقدمة في العشش وركضت جوادي إلى الميسرة، وأخذت تسعين جنديًّا نظاميًّا وذهبت إلى المؤخرة، ولكن كان مجيئنا متأخرًا؛ فقد أطلق البازنجر والجنود النظاميون في المؤخرة أول طلقة، وبينما هم يملَئون أنابيب البنادق لإطلاق الثانية هجم عليهم العدو بجموع كثيفة فزحزحهم إلى الوراء في ناحية، ورأى جنودنا في القلب هذا الاختلاط بين العدو والولي فامتنعوا عن إطلاق النار، فأشرت لحملة الأبواق بأن يشيروا على جنودنا بالرقاد، ثم يسددوا مرماهم إلى أفراد العدو الذين اختلطوا بنا ويصيبوا أيضًا من يأتي بعدهم من الأعداء، وبهذه الطريقة وقفت الهجوم وقسمت العدو قسمين: واحدًا إلى اليمين وآخر إلى اليسار. وذهب هذان القسمان إلى ميمنتنا وميسرتنا للاشتباك معهما في القتال.
وكان الاختلاط الآن هائلًا لا يمكن وصفه، فإن الأعداء العرب الذين دخلوا إلى قلب جيشنا كانوا لا يزالون فيه، وقد أعملوا سيوفهم في البازنجر ولم يكن مع البازنجر ما يدافعون به؛ لأنهم كانوا لا يحملون سوى البنادق، أما الجنود النظاميون الآخرون فلم يجدوا من الوقت ما يساعدهم على تجريد السيوف؛ وذلك لمفاجأة الغارة، ولكنا تمكنا في النهاية من قتل جميع العرب الذين جازوا إلى قلب جيشنا، أما حرس الميمنة وحرس الميسرة فقد هوجموا من الأمام والخلف فلم يستطيعوا تحمل الصدمة وفروا في كل جهة، فتلقاهم فرسان الرزيفات المختبئون في الغابات وقتلوهم.
ولم تدم المعركة أكثر من عشرين دقيقة، ولكن خسارتنا في هذا الوقت القليل كانت عظيمة جدًّا، ومن حسن حظنا أن العدو ألح في مطاردة الفارين من جناحي جيشنا، وتمكنا نحن من تطهير القلب من جنود العدو، ولكن ضحايانا كانت كثيرة، وكانت الخسارةُ بين أولئك الذين أطاعوا إشارتنا بأن يرقدوا قليلةً، ولكن إصابات البازنجر الذين لم يدرَبوا كانت غير قليلة وقتل أيضًا عدد كبير من جمالنا.
وفي وسط الاختلاط رأيت أحد الأعداء يمر بالقرب مني ويحمل معه كيسًا أحمر يحتوي على الفتائل التي نطلق بها البنادق، وكان يبدو عليه أنه يظن أنه غنم شيئًا عظيمًا، والحق أنه كان بالنسبة إلينا شيئًا عظيمًا؛ لأنه لا فائدة من البنادق بدون هذه الفتائل، وكان بجانبي خادم أسود لا يتركني فقلت له: «هاكِ يا كير فرصة تثبت بها شجاعتك التي كثيرًا ما وصفتها لي، خذ حصاني واذهب وراء هذا الرجل وأحضر منه الكيس الأحمر.»
فقفز إلى الحصان وفي يده حربة وطار به وبعد دقائق قليلة عاد ومعه الكيس الأحمر، ومعه أيضًا حربة حمراء بالدم!
واختفى فُرسان العدو فعملنا إشارة الاجتماع، ولكن لم يلبِّ النداء سوى بضع مئات، فقسمتهم قسمين: أحدهما للحرس، والآخر يشتغل بجمع الذخيرة من أولئك الذين قتلوا. ووضعنا ما جمعناه على الجمال ثم سرنا إلى قرية عالية يمكن منها مشارفة السهل حولها، ثم جمعنا مقدارًا من الأشواك وصنعنا بها زريبة بأسرع ما يمكننا؛ خوفًا من أن يفاجئنا العدو في أي وقت. وبعد أن انتهينا من ذلك فكرنا في الجرحى الذين حملناهم إلى داخل القرية، وعملنا كل ما في استطاعتنا لتخفيف آلامهم.
وكانت الجثث مبعثرة فوق الأرض لا يحصيها العد، دع عنك من قتلوا في الغابة، والعجب أنه في هذا المكان نفسه انهزم آدم طربوش وزير السلطان حسين وقتل في المعركة.
ثم حان حين نداء الأسماء وهو واجب محزن، ووجدنا أنه قتل من ضباط المشاة الأربعة عشر، عشرةٌ وجرح واحد، وقتل من رؤساء الجلابة: الشيخ خضر ومنجل مداني وحسن واد ستارات وسليمان واد فتح وفقي أحمد وحسيب وشكلوب. ومن الطوبجية الثلاثة عشرة لم يبق سوى واحد، أما اليوناني إسكندر الذي جرح في ديين ولم يكن جرحه قد برئ بعدُ فقد قتل أيضًا، وجمعنا ونحن في حزننا الموتى لكي نقدم لهم آخر تجارتنا، ووجدنا بين أكداس الجثث جثة شرف الدين مطعونًا في قلبه، ثم حفرنا في هذه النزة قبورًا وصرنا ندفن اثنين أو ثلاثة معًا في كل قبر.
أما الجرحى المساكين فلم يكن في مقدورنا أن نساعدهم كثيرًا؛ فإن أولئك الذين كانت جروحهم خفيفة كانوا يشتغلون بتضميدها بأنفسهم، أما الذين كانت جروحهم خطرة فلم يكن عندنا لهم سوى الكلمات الطيبة.
وكانت رؤية هؤلاء الجرحى مما يؤلم النفس ويجعل الإنسان يشعر بعجزه التام عن تخفيف ما بهم، ورأيت أحد الخدم ومعه حقيبتي وكان بها بعض الأقمشة للتضميد، فأخذتها وجعلت أضمد بعض الجراحات، وأنا في ذلك خطر ببالي أني لم أرَ خادمي مرجان حسن وكان معه أحد جيادي، وكان صبيًّا سريًّا ذكيًّا، لم يكمل بعد السادسة عشرة من عمره، وكان هادئًا شجاعًا شريف النفس، فقلت للصبي الذي يحمل حقيبتي: «قل لي يا عيسى، أين مرجان الذي كان يسوق جوادي مبروك — وكنت قد وضعت في جيوب سرجه مذكراتي وخرائطي — قل لي أين هو، إنه صبيٌّ نشيط ولا بد أنه قد ركب الجواد وتمكن من الفرار.»
ولكن عيسى بدت عليه أمارات الحزن والوهن عند سؤالي هذا، فهز رأسه وشرقت عيناه بالدموع، ثم سلمني قطعة من لجام الجواد، فقلت له: «ما هذا؟!»
فقال: «مولاي، لم أحب أن أزيد حزنك، لقد وجدت مرجان قريبًا من هنا راقدًا على الأرض وبصدره طعنة الرمح، ولما رآني تبسم وقال: «لقد عرفت أنك ستأتي لكي تراني، ودِّع مولاي وقل له إني لم أجبن ولم أسلم الجواد إلا بعد أن وقعت مطعونًا في صدري وقطعوا اللجام من يدي وجروا به، قل لمولاي إن مرجان كان أمينًا، خذ السكين من جيبي فإنها لمولاي، أعطها له ثم سلم عليه كثيرًا».»
ثم غص عيسى بِريقِه وسلمني السكين وهو ينشج، فآلمني هذا الخبر ألمًا شديدًا ووهنت قواي عند سماعه، أجل يا مرجان، ما أصغر سنك! وما أشرف نفسك! وما أفدح مصيبتي في فقدان هذا الخادم الأمين، بل الصديق المخلص!
وقلت لعيسى: «قل لي، كيف كانت النهاية؟»
فقال عيسى: «كان عطشان، فحملت رأسه بين يديَّ ولم تمض بضع دقائق حتى مات، فنهضت وتركته؛ فقد كان عليَّ أن أؤدي أعمالي ولم يكن ثمَّ وقت للبكاء.»
ثم قوينا سياج الزريبة وحفرنا الخنادق وراءه، ثم أمرت بدق الطبول ونفخ الأبواق وأطلقنا بضع عيارات؛ وذلك لكي يعرف الفارون أو الجرحى الذين ارتطموا في الوحل أننا قد وجدنا ملجأ قريبًا منهم، وجاءنا عدد كبير من هؤلاء في النهار، وفي آخر النهار نادينا الأسماء فوجدت أن عندنا ٩٠٠ رجل هم البقية المهزومة الحزينة لجيش كان يبلغ ٨٥٠٠ رجل، ولكننا مع ذلك رضينا بالنتيجة، ولم يبق من فرساننا وخيَّالتنا سوى ثلاثين، ولا بد أن العدو قد غنم عددًا كبيرًا من الخيول، وأن بعضها قد فر ورجع إلى دارة، كلٌّ إلى مسكنه، ولكن الذخائر كانت كثيرة لدينا لأنها تخلفت عمن قتلوا.
وعند الغروب عاد رجال الرزيفات فدهشوا إذ رأونا متحصنين مستعدين لمقابلتهم، وأرسل المادبو رجاله من البازنجر لمقاتلتنا، ولكن بعد مناوشة قصيرة رددناهم ثم خيم الظلام ووقف القتال.
وبينما أنا قاعد وأتكلم مع الضباط اقترب منا الشيخ عبد الرسول ومسلم واد كباشي وسلطان بيجو، واقترحوا علينا التقهقر من مركزنا الحاضر ونحن في جنح الظلام؛ لأنه لم يبق لنا أمل في الانتصار على العدو بعد خسارتنا الفادحة، فقلت لهم: «ترغبون في التقهقر الآن! ولكن ماذا نصنع بجرحانا؟! هل نتركهم لرحمة العدو؟!»
فخجلوا وصمتوا، فقلت لهم: «ليس اقتراحكم حسنًا، لقد كنت أنا أحادث الضباط في هذا الشأن الآن ورأينا أن نبقى هنا عدة أيام، وليس أمامنا ما نخشاه سوى الجوع، ويمكننا أن نذبح الجمال المجروحة والضعيفة ونقوِّت بها الجنود، ثم لا بد أن نجد ما نقتات به أيضًا هنا، والمؤكد أن العدو سيهاجمنا، ولكننا سنرده بسهولة؛ وبهذه الطريقة تعود الثقة إلى رجالنا بعدما فقدوها للخسارة الفادحة التي وقعت بنا. إني أعرف الرزيفات فهم لن يقعدوا هادئين يترقبوننا، وأنا واثق بأنه لا بد من الاصطدام مع المادبو والشيخ جانكو وسائر رجاله من البازنجر الذين سبق أن طردناهم إلى بحر الغزال، وسيستريح الجرحى ويتعافون قليلًا فأولئك الذين ليس بهم سوى جراح طفيفة سيمشون على أقدامهم، أما من جراحهم بليغة فإننا نحملهم على خيولنا، وأظن أن اقتراحي هذا أفضل من اقتراحكم.»
وفي أثناء كلامي سمعت سلطانًا يوافق على رأيي، ولم أنتهِ من كلامي حتى أمَّن الجميع عليه واتفق رأينا على البقاء.
ثم تكلمت موجهًا كلامي إلى جميع الحاضرين وقلت: «هل تعرفون سبب هزيمتنا اليوم؟»
فأجابوا بالنفي جميعًا، فقلت: «إليكم السبب، في هذا المساء وجدت بين الجرحى قائد المؤخرة حسن واد ستارات، وقد قال لي إن شرف الدين لم ينفذ تعليماتي بشأن تبديل المؤخرة كما فعلنا في الأيام السابقة، فاغتاظ الجنود النظاميون لهذا السبب، وتركوا مكانهم وانضم كلٌّ منهم إلى فرقته بدون إذن ولم يرسَل مكانهم رجال جدد، وفي الوقت نفسه ترك العرب الموالون المؤخرة وانضموا إلى الجناحين، وعندما هوجم حسن واد ستارات لم يكن معه من الرجال سوى ٢٥٠ من البازنجر لا يحملون سوى البنادق القديمة، وقد دفع شرف الدين ثمن إهماله حياته ووقعت بنا الخسارة جميعًا، وليس هذا وقت التلاوم فلنفكر في شيء آخر، اذهبوا إلى رجالكم وشجعوهم ثم ناموا حتى تصبحوا مستعدين لما يأتي به الغد، ولكن أنت يا سيد أغا فولة لا يمكنك أن تنام للجرح الذي بك؛ ولذلك سنضع لك عنجريبًا قريبًا من باب الزريبة، وإذا حاول أحد أن يخرج بدون إذني فاضربه بالرصاص.»
فانفضوا من حولي وصرت وحدي، فطفقت أفكر في موقفنا وأتدبر، ورأيت أن من المرجح أن نتمكن من التقهقر إلى دارة وكان لدينا أكثر من ٨٠٠ بندقية، ولكن شعرت بمرارة الخسارة الماضية؛ فقد قتل أحسن ضباطنا وخشيت أن يبلغ نبأ هزيمتنا دارة فيكون له أسوأ أثر في رجال الحكومة والأهالي معًا، فأيقظت الكاتب وأمرته بأن يكتب خطابين قصيرين؛ أحدهما لزوجال والآخر للحكمدار محمد فرج، وأخبرتهما بأنه على الرغم من خسارتنا الكبيرة فإن حالتنا حسنة، وإننا نرجو أن نرجع إلى دارة بعد أسبوعين.
ولكن إذا وصل إلى دارة بعض الفارين وأخذوا يشيعون الإشاعات المقلقة عن حالتنا، فيجب اعتقالهم حتى أعود، ثم كتبت أنا بضعة أسطر لجوتفريث روث أصف له الحالة وأخبره بأني سأرجع إلى دارة قريبًا مع الباقي من جيشنا، وأنه يجب أن يتشجع ويبعث الرجاء في نفوس من حوله، وكتبت أيضًا بضعة أسطر لأمي وإخوتي أودعهم؛ لأنه لم يكن من الممكن أن نتنبأ بما تنتهي إليه هذه القلاقل، ورجوت جوتفريث روث أن يوصل هذه السطور في حالة قتلي إلى أهلي في وطني.
وتناولت الخطابات الثلاثة وقمت إلى عبد الله أم درامة شيخ العرب المصرية الذين يقطنون قريبًا من دارة، فأيقظته وقلت له: «أين أخوك سلامة؟»
فقال وهو يشير إلى رجل نائم في جانبه: «هاكه» ثم أيقظه.
فقلت: «يمكنك يا سلامة أن تخدمني الآن أجلَّ خدمة، وهي خدمة تفيدك أنت أيضًا؛ إني أريد منك أن تأخذ هذه الخطابات التي تراها وتذهب بها إلى دارة، وتسلمها للرجل الأوروبي المسمى روث وقد رأيته معي مرارًا، واركب جوادي الذي كثيرًا ما مدحته في هذه المهمة، وعليك أن تسافر الآن، وعندما تبلغ خط العدو المحيط بنا الآن اركضْ جوادك؛ فإنهم كلهم نيام فيمكنك أن تختفي في الظلام قبل أن يعدُّوا خيولهم للعدْو وراءك، ومتى جزت خطوطهم فأنت آمن، وعندئذ تبلغ دارة في بحر يومين، وسأكافئك بإعطائك فرسي السوداء التي في الإصطبل في دارة.»
وبينما أنا أتكلم كان سلامة يشد حزامه على وسطه وكل ما قاله لي: «أين الخطابات؟»
فناولتها له فأخذها وقال: «إن شاء الله وبمعونة الله سأوصل هذه الخطابات إلى أصحابها، ولكني أفضل أن أركب فرسي؛ فإنه وإن لم يكن يجري بسرعةِ فرسك إلا أنه يقوى على حملي، فهو يعرفني وأنا أعرفه، وفي مثل هذه المهمة يكون التعارف مفيدًا.»
وأخذ يسرج فرسه، وكتبت أنا رقعة إلى روث وطلبت منه أن يسلم الفرس السوداء لحامل الخطابات وناولتها لسلامة بعدما أخبرته بمضمونها، ثم قاد فرسه إلى الباب وكان هناك سيد أغا فولة يتململ على فراشه؛ إذ كان مجروحًا في ساقه اليمنى وذراعه اليسرى، فأخبرته بمهمة سلامة فأمر له بفتح الباب، وامتطى سلامة فرسه وحمل في يده اليمنى رمحه وفي اليسرى جملة مطارد صغيرة يزرق بها العدو على بعد وشرع في السير.
فقلت له: «مع سلامة الله.» فقال: «أنا واثق بالله.» واتأد في سيره أولًا حتى اقترب من خطوط العدو وهو يسير على حذر، ثم سمعت دبدبة سريعة ثم عيارًا أو عيارين، ثم خيم السكوت كأنه الموت! فقلنا جميعًا: «ليكن الله معه.» وعدنا إلى الزريبة وقد بلغ منا الإعياء، وما هو أن انطرحنا حتى نمنا.
ولما استيقظت في الفجر وجدت الرجال يشتغلون في التحصين، وكان كما تنبأت، فإن العدو عاود الهجوم، ونشط إطلاق النار من الجانبين مدة، ولكن بالنسبة لمكاننا المشرف اضطر العدو إلى التقهقر بعد أن أوقعنا به وكبدناه خسارة جسيمة، وقد قُتل وجرح منا عدد قليل، وكان من القتلى علي واد حجاز وهو جعاليٌّ شجاع، ولما كانت نيتنا البقاء هنا بضعة أيام، فإن رجالنا جدوا في تحصين الزريبة، وأخذنا ندفن من ماتوا منا، وكان الفساد قد انتشر في أجسامهم وامتلأ الهواء برائحتهم.
وقضينا في الزريبة خمسة أيام كان العدو يهاجمنا فيها مرة أو مرتين كل يوم، وقد حدث في اليوم الثالث أن كريمة نور قائد مدفعية المادبو قتل، فثبطت عزائم العدو وفتروا في هجومهم عن ذي قبل.
ولكن نهض لنا عدوٌّ آخر وهو القحط، فقد أكلنا كل شيء يؤكل فانتهت لحوم الجمال ولم يكن لدينا حبة ذرة، وقد اقتتنا أنا والضباط في المدة الأخيرة بكسرات من خبز الذرة كنا نطبخها مع ورق نبات يدعى كوال، ونضرب هذا الخليط حتى يصير شبه عصيدة لا طعم لها، ولم يكن ثم ما يرجينا بتخفيف وطأة العدو أو بمجيء جيش لإنقاذنا، فلم يكن من الممكن أن نبقى أكثر مما بقينا وكان الجوع قد أثر فينا وأضعفنا.
وعلى ذلك جمعت جميع رجالنا وكان عددهم نحو ٩٠٠ رجل، كلهم ما عدا قليلًا من العرب مسلح بالبنادق، أما العرب فكانوا لجهلهم بالبندقية يؤثرون عليها حرابهم، ثم خطبتهم خطبة قصيرة قلت فيها إن دماء ضباطهم ورؤسائهم تهتف بهم أن اثأروا لنا، وإن نساءهم وأولادهم ينتظرونهم مشتاقين لرؤيتهم، ولكن من المحال أن يصلوا إليهم ما لم يتحملوا الآلام بالصبر ويواجهوا المشاق بالجلد والشجاعة. ثم ختمت خطبتي بقولي إن أولئك الذين قد سكن الخوف قلوبهم قد فروا يوم المعركة، وأما الذين يقفون أمامي الآن فقد صمدوا وعانوا المشقات، وإن الله سيكافئهم على جهودهم بالنصر.
فأجابوا بالهتاف وبرفع البنادق فوق رءوسهم، وهذه إشارة للطاعة، ثم صرفتهم وأمرتهم بالاستعداد للرحيل في اليوم التالي، ثم نزعت من البندقيات القديمة التي تخلفت عن القتلى زنودها وجمعتها ثم ألقيتها في بركة، أما البندقيات فقد أحرقتها، وألقينا كل ما لا حاجة لنا به في الماء وقسمنا الباقي بين الجنود، فخُص كل رجل ما بين ١٦ إلى ١٨ دستجة من الخراطيش، ولكننا أتلفنا البارود الذي يستعمل في البنادق القديمة؛ لئلا يستفيد منه العدو، أما رصاص الخراطيش فقد وضعناه تحت رءوس من ماتوا حديثًا.
فلما كان السبت، وهو اليوم السابع لنكبتنا، بعيد طلوع الشمس خرجنا من الزريبة، وألَّفنا القلب وحوله المقدمة والمؤخرة والميمنة والميسرة وشرعنا في التقهقر، وكان عندنا جملان فقط فجعلناهما يجران المدفع في القلب، وأرسلت أنا في كل جانب فارسين للاستكشاف، وكان في القلب ١٦٠ جريحًا، فكان القادر يمشي على أقدامه ومن لم يقدر حملناه على خيولنا القليلة، كل فرس يحمل رجلين أو ثلاثة، وكنت أنا راضيًا بالسير على قدمي ولكن ألح عليَّ الضباط في الركوب فركبت لكي أشرف على الفلاة حول الجيش، وكنا جميعًا نعرف بأن العدو سيهاجمنا بعد خروجنا من الزريبة، فملأنا المدفع وعولنا على ألا نبيع حياتنا رخيصة، وكنا واثقين بأننا إذا نجحنا في رده مرتين أو ثلاثة فإنه لن يعاود الغارة علينا، وقررنا أن نسير في الجهة الشمالية الغربية؛ لأن الأرض هناك مكشوفة، ولكننا كنا نجهل مكان مياه الأمطار، لأن أدلَّتنا قد فروا أو قتلوا.
وقبل أن يمضي على مسيرنا ساعة هوجمت مؤخرتنا فأدركت أن الساعة الحاسمة قد أزفت، فأمرت بالوقوف في الحال وضممت الجناحين إلى القلب، ثم اصطحبت حرسًا مؤلفًا من خمسين رجلًا وسرت نحو المؤخرة وكانت تبعد عنا نحو مائتي ياردة، ونقلنا المدفع إلى آخر القلب من جهة المؤخرة، وكلفنا الجرحى بملء البنادق حتى لا يضيع وقت الجنود المقاتلة.
وقبيل أن يظهر مشاة العدو كنا نسمع وقع أقدامهم فاستعددنا لهم بحيث إنهم عندما ظهروا سددنا إليهم النار من حرس المؤخرة، فتوقفوا قليلًا ولكنهم كانوا يستندون إلى كثرة عظيمة وراءهم، فتشجعوا بها وهجموا وكلٌّ منهم قد شرع حربته في يده اليمنى وحمل تحت ذراعه اليسرى عدة مطارد، وتمكنوا من الاقتراب منا حتى أصاب بعضهم بعض رجالنا بالمطارد التي تزرق على بعد، ولكننا أعملنا فيهم النار وكان مدفعنا يرميهم من القلب، فتقهقر رجالهم من حملة الحراب وصرنا وجهًا لوجه مع البازنجر، وأصبح القتال بالنار من الجانبين، ولكن جاءتنا أمداد من القلب فاستطعنا بهم أن نرد العدو بعد قتال عنيف دام عشرين دقيقة.
وكنت عند إطلاق أول عيار قد نزلت من ظهر جوادي؛ وهذا معناه في السودان عدم الأمل في الفرار والإصرار على واحدة من اثنين: الظفر أو الموت. ولما انتهى القتال تحلق الجنود حولي وأخذوا يهزون يدي بالنصر الأول الذي انتصرناه على العدو.
وبينما نحن نشتغل بالقتال من المؤخرة كانت ميسرتنا قد اشتبكت أيضًا وانتصرت في النهاية، ولكن خسارتها كانت جسيمة، وجرح أحسن قائد باقٍ لديَّ؛ وهو زيدان أغا جرحًا بليغًا، وكان نوبي المولد وظهرت كفايته في حملة دارفور؛ إذ قاد فصيلة مؤلفة من ١٢ رجلًا واستخلص بها مدفعًا من العدو وكان قد غنمه منا، ولهذا العمل كوفئ بترقيته إلى رتبة ضابط، والآن أراه مصابًا بعيار في رئته اليمنى، فسألته عن صحته فقال لي بعد أن مد يده إليَّ: «أمَا وقد انتصرنا فما بي من بأس.» ثم ضغط يدي وبعد دقائق مات.
وقتل أيضًا من جانبنا ٢٠ وجرح عدد كبير، فدفعنا القتلى بعجلة؛ إذ لم يكن لدينا من الوقت ما يسمح بالحفر العميق، ولكننا غطيناهم حتى لا نعير بأننا تركنا قتلانا بلا دفن، ثم استأنفنا مسيرنا بحيطة وحذر، ولكن ثقتنا في أنفسنا زادت عن ذي قبل.
وفي الساعة الثالثة عاود العدو الغارة على المؤخرة، ولكن الغارة كانت خفيفة فطردنا المغيرين بدون أن نخسر أحدًا، ثم وقفنا وأحطنا الجيش بزريبة منتظرين من العدو غارة أخرى، ولكننا دهشنا إذ لم نتلق هجمة واحدة من العدو طول الليل، وفي الصباح بعد أن نفذ ماؤنا استأنفنا السير، ونحن في مسيرنا عاود العدو الغارة ولكن هجومه هذه المرة كان أضعف من هجومه في الأمس فطردناه بأقل عناء، واستمر سيرنا حتى الظهر بدون أن نجد ماء، فتفيأنا في ظل بعض الأشجار وأخذ رجالنا يبحثون عن نوع من الفجل يدعى «فايو»، وهو كثير العصارة وله ثلاث ورقات صغيرة تدل عليه، فكان رجالنا يقلعونه من الأرض ويمصونه فيطفئ عطشهم بعض الشيء، ولكن كنا مع ذلك في حاجة لازمة للماء، وبعد أن استرحنا استأنفنا المسير ثانيًا فالتقينا مصادفة براعٍ من الرزيفات يسوق غنمًا، فتسابق الرجال إلى الغنم واحتازوها من راعيها الذي وقف مبهوتًا مروعًا لا يحاول الفرار، وكان رجالنا ينوون قتله لولا وساطتي، فأمرت بوضع الغنم في القلب وأُحضر الراعي إليَّ ويداه موثقتان إلى ظهره، وقبل أن أستجوبه أمرت بتوزيع الغنم كل رأس لخمسة رجال وما يتبقى لنا، وكان عدد الخراف يبلغ نحو مائتين، ما أجلَّ هذه النعمة التي أنعم الله بها علينا ونحن في جوعنا هذا!
ثم التفت إلى الرجل وقلت له إني لن أقتله إذا هو هدانا إلى غدير ماء، وإذا أثبت أمانته فإني أكافئه وأسمح له بالذهاب إلى أهله، فرضي وقال إن الغدران التي حولنا صغيرة ولكن إذا تكلفنا المسير مسافة فإنه يضمن لنا بلوغ «الفولة البيضاء»؛ وهي غدير كبير نجد فيه ماء يكفينا أشهرًا، وكنت غير واثق به فأمرت صف ضابط وثمانية رجال بمراقبته وألا يجعلوه يبعد عني، ثم استأنفنا المسير، وفي المساء وقفنا وصنعنا زريبة بتنا فيها كالعادة ومررنا ببضعة غدران، ولكن ماءها لم يكن يكفينا وكنا نقاسي الشدائد من العطش، فما جاء الفجر حتى قمنا واستأنفنا المسير بعد ليلة قضيناها في الأرق من شدة العطش.
وعند الظهر أشار الدليل إلى بضعة أشجار قال إن الغدير تحتها، فوقفنا في الحال وملأنا المدفع والبندقيات واستعددنا للمقاومة، فقد ترجح لديَّ أن العدو سيقدِّر عطشنا فينتظرنا تحت الأشجار ويفاجئنا بالنار، فأمرت الرجال بأن يراعوا النظام بكل دقة أو لا يستسلموا للفوضى، ولكن ما كاد يظهر الماء حتى هرع إليه الرجال يترامون عليه بلا نظام.
وكانت قبيلة الميما ثائرة الآن، فأرسلت التعليمات إلى عمر واد دارهو لكي يقوم بمائتي جنديٍّ نظاميٍّ ومائتين من الخيالة إلى بلاد الميما، وقررت في الوقت نفسه أن أقاتل الخوابير الذين كانوا قد اتحدوا مع الميما، وذهب دارهو إليهم وأدى مهمته بنجاح؛ إذ هزم الميما في فاقة وفي وودة، وقمت أنا بمائة وخمسين جنديٍّ نظاميٍّ وخمسين من الفرسان، وسرت في طريق شعيرية وبير أم الوادي؛ حيث كان الخوابير ينتظرونني للهجوم عليَّ، ولكن بعد قتال قصير هزموا وتشتتوا وغنمنا منهم عددًا كبيرًا من الخراف والثيران.
ولما انتهيت من القتال بعثت إلى دارهو لكي ينضم إليَّ في بير أم الوادي بمن تبقى من رجاله، وبعد أيام قلائل أدركنا وأخبرنا بكل أعماله وانتصارات المهدي في كردوفان التي أقلقتني قلقًا عظيمًا.
وكنت في الليلة التي أرسلت فيها إلى دارهو التعليمات لكي ينضم إليَّ، قد جاءني رجل يدعى عبد الرحمن واد شريف وألح في مقابلتي، وكان هذا الرجل تاجرًا معروفًا في دارة، وقد سبق أن زار الخرطوم، وبدأ كلامه معي بقوله إنه بالنسبة لمعاملتي الحسنة له فإنه رأى من واجبه أن يخبرني عن تسليم الأبيض؛ وذلك حتى أتمكن من اتخاذ الاحتياطات اللازمة في مثل هذا الحادث. وكان هذا الخبر صدمة قوية فشكرته وطفق هو يصف لي كيفية سقوط البلدة، فقد كان حاضرًا فيها وقت التسليم ثم سافر إلى أهله في دارة، وسمع وهو في طويشة عن وجودي في بير أم الوادي، فأسرع في إدراكي حتى يبلغني أمر هذا السقوط.
ورأيت أنه من غير المفيد أن تبقى المسألة سرًّا، فاستدعيت دارهو وسليمان بسيوني وأخذنا نتحدث معًا في هذا الموضوع، وكان واضحًا لكلٍّ منا أن هذا الخبر سيكون مشجعًا لأولئك الذين يكرهون الحكومة، وصار من الضروري لذلك أن أذهب إلى دارة.
ولما كنا قد عاقبنا الميما والخوابير، فقد رأينا أن نرسل حملة إلى طويشة، وكنت في اليوم التالي إلى سعيد بك جمعة بأن يجلو عن أم شنجة، ويأخذ معه الحامية وجميع الأهالي الذين يرغبون في تركها ويأخذهم جميعًا إلى الفاشر، وكنت كتبت له أنه بالنسبة لسقوط الأبيض فإن العرب الآن سيوجهون نظرهم إلى أم شنجة، وهم إذا حاصروها صار من المحال تخليصها منهم، وأنه يجب بالنسبة للظروف الراهنة أن يجمع الجيوش في الفاشر، وأمرته بإقامة حرس في فيفا ووودة حتى تبقى الطريق مأمونة بين الفاشر وبين دارة، ثم أمرت عمر واد دارهو بأن يقوم هو وجيشه في الحال إلى الفاشر، وأن يوزع الغنائم التي غنمها من الميما بين جنوده وحامية الفاشر، أما ما غنمه من الخوابير فيعطى للجيوش المقيمة في دارة، وفي نفس اليوم انفصلنا فذهبت أنا إلى دارة وذهب دارهو إلى الفاشر.
وانتشر خبر سقوط الأبيض في كل مكان، وظهر أثر ذلك في القبائل العربية فصاروا يجتمعون ويقررون الثورة على الحكومة.
ولما وصلت إلى دارة أمرت بشراء كل ما يمكن من الذرة، وكان مدخرًا لدينا كمية كبيرة منها، ولكني رأيت من الأنفع ادخار أكثر مما عندنا. وأرسل إليَّ الشيخ عفيفي يقول إن قبيلته قد ثارت وانضمت إلى الرزيفات، ولكنه هو لا يريد أن ينكث بعهده؛ ولذلك قد ترك أسرته وعشيرته وقصد إليَّ عن طريق حلبة، وإنه أرسل أخاه عليًّا برسالة إلى بشاري بك واد بكير رئيس قبيلة بني حلبة، حيث أقسم له بأن يمر في بلاده آمنًا، وأنه لذلك يأمل الوصول إليَّ في بضعة أيام.
وبينما أنا في انتظاره وإذا بأخبار سيئة تقول إنه قتل، وقد فقدت فيه أكثر العرب ولاءً لي، وتبين بعد ذلك أن بني حلبة الذين أمرهم رئيس قبيلتهم بأن يجيزوه أرادوا أن يأخذوا منه أغنامه وثيرانه فرفض، فقاتلوه فأظهر بأسًا عظيمًا، ولكن كمُن له بعض العرب وراء الأشجار واغتالوه بحرابهم بينما كان يطارد العرب الذين هزمهم مرتين.
ورجع إليَّ محمد واد عاصي الذي كنت أرسلته مع خالد واد إمام إلى كردوفان وأخبرني بالحالة هنالك، وقد بشرني بأن الحكومة في الخرطوم تهيئ جيشًا للاستيلاء ثانية على كردوفان ولكن لا بد من مضي وقت طويل قبل أن تهيأ التجريدة وتشرع في السفر.
فأخبرته بإذاعة هذه الأخبار في كل مكان ثم سألته عن علاقة زوجال بالمهدي، فأجابني بأنه على الرغم من أبحاثه لم يتحقق على وجه التأكيد هل تجري بينهما مكاتبات، ولكنه لا يشك في أن المهدي يرسل رسله إلى زوجال فيخبرونه شفويًّا بما يرغب، وهؤلاء الرسل هم التجار الجائلون، وقد وافقني على رأيي بأن زوجال لمركزه وتربيته يعرف بواعث هذه الثورة؛ ولذلك ليس من المرجح أن يشترك مع الثائرين.
ولا شك في أن تسليم الأبيض قد أضعف مركزنا، وكان علينا أن نعمل بحذر وحيطة ما دامت مديرية كردوفان كلها قد صارت في يد المهدي، وكنت أرجح أن أخبار واد عاصي عن استعداد الحكومة في الخرطوم لإرسال حملة للمهدي، سيجعل المهدي يحتفظ بقواته ويجمع جيشه في مكان واحد للمقاومة، وعلى ذلك ليس من المحتمل أن يوجه جيشه إلينا، ورأيت أن أرصد كل وقتي للقبائل العربية التي هيجها سقوط الأبيض ومنشورات التعصب، وكان يُخشى منها أن تتمادى في هياجها وترتكب أي شطط، ولم يكن من المنتظر أن يتم تهيئة التجريدة الخاصة بكردوفان قبل الشتاء، فكان علينا أن نثبت ونقاوم بأية وسيلة حتى هذا الفصل.
وعلى الرغم من إقامة مراكز حربية في فافا وفي ودة، فإن عرب الخوابير تجمعوا في أم الوادي، وانضم إليهم بعض رجال الميما الذين غاظهم انقطاع المواصلات إلى بلادهم وحمسهم سقوط الأبيض، وكانوا يثيرون الهياج والفتن في جميع البلاد بين دارة والفاشر، ولم تقوَ حامية فافا على مهاجمتهم، فعزمت لذلك على غزوهم لكي أريهم أن سقوط الأبيض لم يثبطنا، وانتقيت ٢٥٠ جنديًّا مدربًا على الحروب، ثم دربتهم بضعة أيام على قتال السنجة، وأخفيت يوم شروعي في السفر عن كل أحد.
ثم أخذت جميع الخيول وكانت تبلغ نحو السبعين، وأشرت على واد عاصي بأن يقفنا على أخبار دارة، ثم خرجنا وأسرعنا في المسير، فلم يمض يومان حتى بلغنا جوار بير أم الوادي، حيث قد اجتمع عرب الميما والخوابير، ولم يكن معنا سوى أسلحتنا وذخيرتنا، ولم نحمل ميرة؛ لأن نيتنا كانت الهجوم ثم الرجوع، وفي اللحظة التي ظهر فيها العدو أمرت رجالي بتثبيت السنجة. وقاتلنا البازنجر، وبعد عشرين دقيقة نجحنا في تفريقهم، ودخل بعض عرب الميما في صفوفنا فقتلوا كلهم بحراب البنادق — السنجة — ثم أمرت الفرسان بأن يطاردوهم، وأمرت الجنود النظاميين بأن يسيروا وراء الفرسان ليبحثوا عن مكان البطيخ؛ لأن الفارين سيقصدونه بالطبع لكي يقصعوا عطشهم، وقد نفذت هذه الأوامر وقطعنا البطيخ، وقبضنا على عدد من النساء والأطفال وتفرق الرجال في كل مكان يبحثون عن الماء، ومات كثير منهم عطشًا. وفي اليوم التالي أحرقنا خيام العدو، وأخذنا النساء والأطفال إلى بير أم الوادي التي اعتزمنا الهجوم عليها الآن، فدافع العدو دفاع اليأس عنها، وخسرنا ١٦ رجلًا قتلوا و٢٠ جرحوا، وأدركت من هذه الخسارة أن الجنود النظاميين عندي قد قلوا جدًّا في حين أن العدو يزداد حتى بعد هزيمته.
ولما كنت الأوروبي الوحيد في بلاد غريبة، وكان السكان حولي يدسون لي ويكرهونني؛ فإني كنت ألجأ إلى وسائل عديدة لكي أعرف المؤامرات والترسيمات التي تدبر حولي، وكنت أحيانًا بواسطة النقود أو الهدايا التي أرسلها سرًّا أعرف ما سيحدث لي قبل حدوثه وأحتاط له.
وكنت بواسطة الخدم أستغل البغايا اللواتي كن يصنعن المريسة — أي الجعة الوطنية — وكان يشربها عندهن رجال الطبقات الدنيا، وكان الخدم يخبرونني بأن رجالنا وهم يتعببون هذه الخمر ويسكرون يتكلمون عن ثورة المهدي الذي لم يكونوا يعطفون عليه، ولكنهم كانوا يقولون إن الحكومة قد عينت في المراكز العليا ناسًا من النصارى لمحاربة المهدي؛ ولذلك فالنتيجة يجب أن تكون سيئة، ومما قالوه إنهم وإن كانوا يحبونني إلا أنهم يعزون ما أصابنا من الخسارة وما قاسيناه من الآلام إلى أني مسيحيٌّ، وكنت متحققًا بأن هذه الآراء ليست من ثمار ذهن الزنوج الذين لا يبالون بالدين، وإنما هي من ذهن أولئك الجنود الذين يكرهونني ويشتهون إزالة سلطتي وبث روح العصيان بين رجالي.
وعند قيامي من بير أم الوادي جاءتني أخبار سيئة أيضًا؛ فقد أخبرني الخدم بأن بعض الجنود الذين يذهبون إلى حانة البغي، التي كنت أرشوها لكي تخبرنا بكل ما يدور في حانتها، قد ائتمروا على ترك الجيش. وعلمت بعد البحث أن الداعين إلى ترك الجيش هم بعض من رجال قبيلة الفور وصفوف ضباطهم؛ فإنهم على قولهم قد سئموا هذا القتال وقد تحققوا أن أيام الأتراك قد باتت معدودة في السودان، وأنهم ينوون ترك جيشنا والذهاب إلى جبل مرة للانضمام إلى سلطان دودبنجة خليفة سلطان هارون. ولما كان أكثر رجالي من قبيلة الفور، فإني شعرت بخطورة الحالة، وأرسلت في الحال إلى البكباشي محمد أفندي فرج وأخبرته بما سمعت، فدهش وأكد لي أنه لم يسمع شيئًا قط عن هذا الموضوع، وأنه لن يهمل في الاستقصاء ومعرفة الجناة ومعاقبتهم، فأمرته بأن يلتزم التكتم وألا يفعل شيئًا يلقي بينهم الشك والتوجس.
وأرسلت وهو معي إلى خادمي وأعطيت له صرة بها نقود، وأمرته بأن يذهب بها إلى البغيِّ ويعطيها لها، ويطلب منها أن تدعو هؤلاء الرجال إلى منزلها وتسقيهم على حسابها ما شاءوا، وفي الوقت نفسه طلبت منها أن تخفي الخادم بحيث يسمع ما يدور من الحديث بين الجنود، وأخبرتها بأنها إذا نفذت هذه الأوامر فإني أكافئها مكافأة سنية. وعاد خادمي بعد قليل وأخبرني بأن كل شيء قد رتب على ما تهوى.
وفي اليوم التالي أرسلت للبكباشي وأعطيته أسماء ستة من الزعماء وأمرته بالقبض عليهم، وزيادة على ذلك أعطيته أيضًا التفاصيل الخاصة بفرارهم من الجيش وتاريخ ذلك، وبعد نصف ساعة عاد ومعه الستة المقبوض عليهم وهم مقيدون من خلف وكانوا كلهم من الفور، وكان وراءهم عدد من القواصين والنظارة فطردتهم، ثم سألت هؤلاء الستة أمام ضابطهم عن سبب خروجهم على الحكومة، فأنكروا إنكارًا باتًّا وجود هذه النية عندهم، وأنهم براء من كل ما نُسب إليهم، فقلت لهم: «ولكنني أعرف أنكم عقدتم جملة اجتماعات في منزل خديجة، وقد أتحت لكم كل فرصة لكي تتعقلوا، ولكنكم أبيتم إلا الطغيان، فأمس كنتم عندها تشربون المريسة واتفقتم على أن تنفذوا تدبيركم اليوم، وكان غرضكم أن تضموا إليكم الجنود وتخرجوا بأسلحتكم من الباب الغربي للقلعة، وبعد ذلك تذهبون إلى السلطان عبد الله، وكنتم تنوون إنفاذ خطتكم بالقوة. ألم تقل أنت يا محمد إنه لديك مائتا رجل يطيعونك ويعملون ما تشير به عليهم؟ ألا ترون أني أعرف كل شيء؟ فما فائدة الإنكار؟»
وسمعوا كلامي وهم سكوت وعرفوا أنهم قد أفشي تدبيرهم، فاعترفوا بكل صراحة وطلبوا الصفح والمغفرة، فقلت لهم: «ليس هذا في يدي الآن، اذهبوا إلى ضابطكم واعترفوا له بكل شيء أمام سائر الضباط، والفصل بعد ذلك للقانون.»
ثم أمرت الضابط بتأليف محكمة عسكرية وأن يجعل جميع صفوف الضباط يشهدون المحاكمة، ولكني أفهمته بأن يجعل المحاكمة مقصورة على المقبوض عليهم؛ وذلك حتى لا يفر سائر الجنود المشتركين في المؤامرة، وفي عصر اليوم نفسه تسلمت محضر التحقيق والاعترافات، ولكن لم يكن قد حكم بعد عليهم، فرددت الأوراق وطلبت النطق بالحكم، فجاءني ضابطهم وأخبرني بأن المحكمة حكمت بضربهم بالرصاص ولكنها تطلب تخفيف الحكم، ولكني شعرت بضرورة التنكيل بهم حتى يتعظ بهم غيرهم، فأيدت الحكم وأنا في أشد الألم والجزع وطلبت تنفيذه في الحال.
ثم أخرجنا المحكوم عليهم وحفرنا ست حفر، ووقفنا كلًّا منهم على حفرة خارج الزريبة وركع كلٌّ منهم ركعتين، ثم ضربوا بالرصاص ولم يبدوا أقل خوف. وخطبت الجنود الحاضرين عن خطر المؤامرات، وأن كل من يحدث نفسه بالثورة والفتنة سيعاقب مثل هذا العقاب، وقلت لهم إني أؤمل أن تكون هذه المأساة الأولى والأخيرة من نوعها، وأن تكون علاقتنا في المستقبل علاقة الصداقة.
وكنت حزينًا مغيظًا لهذا الحادث؛ فقد تذكرت العدد الكبير الذي فقدناه في المعارك الماضية، والآن أضطر أنا إلى اتخاذ أقسى الاحتياطات لحفظ النظام، وكان الدساسون حولي يعملون جهدهم لإضعاف سلطتي، وهم يجهلون أنهم لو نجحوا في ذلك لما تحسنت حالهم، والحقيقة أنه جاءهم زمن بعد ذلك كانوا يتحسرون فيه على عصيانهم أوامر ذلك الأوروبي الذي يكرهونه الآن.
وأرسلت في ذلك المساء في طلب محمد أفندي فرج، وسألته عن ماجريات النهار وماذا كان وقْع ضرب الجنود بالرصاص في سائر الجيش. وأضفت إلى ذلك أنه يجب أن يعرف الجنود عدالة الحكم وأن الجانين يستحقونه، وأننا استعملنا الرأفة مع سائر من اشتركوا في المؤامرة، ثم قلت: «والآن يا فرج أفندي إني أرغب في أن تكون صريحًا مخلصًا لي، وأنا أعرف أنك تميل إليَّ وتطيعني، ولولا ذلك لما طلبت أن أخاطبك وحدك هنا، فأخبرني الآن كيف ينظر إليَّ الجنود والضباط؟ وهل يحبونني أو يكرهونني؟ ولست بالطبع أقصد أولئك الذين يبحثون عن مصالحهم الشخصية.»
فقال فرج أفندي: «إن رجالنا لم يتعودوا هذه الصرامة في الأحكام، ولكنهم مع ذلك متعلقون بك لأنك مواظب على دفع المرتبات في مواعيدها، وهذا شيء لم يألفوه قبل، ثم هم يعرفون لك صنيعك في توزيع الغنائم بينهم، ولكننا خسرنا هذا العام خسارات فادحة؛ ولذلك سئم رجالنا القتال.»
فقلت: «ولكننا مضطرون إلى القتال، فنحن لا نخرج للفتح أو للمجد الحربي، وأنا شخصيًّا أوثر الراحة والدعة.»
فقال فرج أفندي: «إني أفهم هذا بالطبع ولكن هذه الخسائر التي كان يمكن تجنبها قد أثرت في الجنود؛ فقدْ فقدَ أحدهم أباه وآخر أخاه وآخرون فقدوا بعض قرابتهم أو بعض أصدقائهم، وإذا استمر هذا فإن القتال يشق عليهم.»
فقلت: «وأنا أيضًا أدرك ذلك، وإن كنت لم أفقد أبًا أو أخًا فإني فقدت أصدقاء، ثم إني أخاطر بحياتي العزيزة كما يخاطر الجنود بحياتهم، فأنا على الدوام معهم وجسمي عرضة للرصاص أو للحراب مثل أجسامهم.»
فقال: «إنهم يعرفون ذلك تمام المعرفة، ويجب عليك أن تشكرهم لإطاعتهم رجلًا أجنبيًّا يخاطرون بحياتهم معه.»
فقلت: «حقًا إني أجنبيٌّ أوروبيٌّ، وليس هذا سرًّا مكتومًا ولا أنا أتعير منه، فهل رجالنا مستاءون من ذلك؟ اصدُقني.»
وكان محمد فرج من أحسن الضباط تربية، وقد درس في عدة مدارس في القاهرة، ولكنه دخل الجيش جنديًّا بسيطًا، وكان يعرف في غيره الميزات التي يمتاز بها، وكان على الدوام مستعدًّا لأن يتعلم من أولئك الذين حصلوا على تربية أعلى من تربيته، ولم يكن متعصبًا أو متدينًا ولكنه كان حاد المزاج كثير التذمر، وكان تذمره وحدته جماع ما عنده من الصفات السيئة، وقد قادته إلى ارتكاب بعض الجرائم فنفي من أجلها إلى السودان.
فلما طلبت منه أن يصدقني رفع رأسه ونظر إليَّ وقال: «ترغب مني في أن أخبرك الحقيقة، فهاكها؛ إنهم لا يعترضون عليك لأنك أوروبي، بل لأنك غير مسلم.»
والآن عرفت منه ما أردت معرفته، فقلت له: «ولم يعترضون على ديانتي؟ لقد أمضيت السنين الطوال في دارفور وهم يعرفون أني مسيحيٌّ فما اعترض أحد عليَّ.»
فقال: «تلك أيام أخرى تختلف عن أيامنا الآن، فإن هذا الوغد المدعو المهدي قد تستر بالدين، وله أنصار يحضون الناس على اتباعه لكي يبلغوا أغراضهم السافلة.
وقد انتشر بين جنودنا رأيٌ لا أعرف من أول من أذاعه، مقتضاه أن هذه الحرب دينية، وأنك لن تربح معركة فيها، وأن الهزائم ستتوالى عليك حتى تقتل في النهاية، وأنت تعرف أن الجنود الجهلة يصدقون هذه الأقوال، وهم يعللون هزائمهم بأنك مسيحيٌّ، ورجالنا لا يدركون أن خسائرنا ناشئة عن تفوق العدو علينا في عدد الرجال، وأننا ما دمنا لا نؤمل في مجيء أمداد فإننا سنستمر على الهزيمة.»
فقلت له: «هبني صرت مسلمًا فهل رجالنا يصدقون إسلامي ويؤملون في النصر؟ وهل هذا يزيد من ثقتهم فيَّ؟!»
فقال لي: «يصدقونك بلا شكٍّ، أو على الأقل كثرتهم تصدقك، ألم تتحين كل فرصة لإظهار احترامك لديانتنا وأجبرت غيرك على احترامها؟ تأكد أنهم سيثقون بك، ولكن هل تغير دينك عن عقيدة؟» قال هذا وهو يبتسم.
فقلت له: «اسمع يا محمد أفندي، أنت رجل ذكيُّ قد حصلت على تربية وتعرف أن العقيدة لا شأن لها فيما نحن فيه الآن، وفي هذه الدنيا يحتاج الإنسان إلى أن يعمل أعمالًا تخالف عقيدته، إما اضطرارًا وإما لسبب آخر، وحسبي أن يصدقني الجنود ويثقوا بي ويقلعوا عن خرافاتهم السخيفة، ولست أبالي بتصديق سائر الناس، وأنا أشكرك الآن شكرًا جزيلًا، وأطلب منك ألا تجعل هذا الحديث يخرج من فيك لأحد.»
وتركني محمد أفندي فرج فتأملت وترويت قليلًا في الموضوع، ثم استقر رأيي على أن أظهر في اليوم التالي أمام الجيش كأني مسلم، وكنت على تمام المعرفة بأني في اتخاذي هذا الموقف سيلومني البعض، ومع ذلك قد عزمت على إمضاء نيتي؛ لكي أقطع على الدساسين حبل دسائسهم، وتتاح لي الفرصة لأن احتفظ بالمديرية التي عهدتها إليَّ الحكومة المصرية. وكنت في شبابي لا أبالي كثيرًا بالدين، ولكني كنت أعتقد أني بالتربية والعقيدة مسيحيٌّ مؤمن بالمسيحية، وإن كنت أميل إلى التسامح وإلى أن يختار كل إنسان طريقة الصلاح التي يشتهيها، ولم يكن ذهابي إلى السودان بصفتي مرسلًا مسيحيًّا، وإنما كانت المهمة التى أعرفها ومن أجلها ذهبت أني موظف في خدمة الحكومة المصرية.
وعند طلوع الشمس أمرت بعرض الجيش وانتظاري، ثم أرسلت إلى زوجال لكي يبعث إلى القاضي أحمد واد بشير وأيضًا التاجر المعروف محمد أحمد، فلما حضرا حادثتهما في الشئون العامة، ثم طلبت منهما أن يحضرا العرض معي داخل القلعة، ثم اتخذت القيادة في العرض وأمرت الجنود بأن يصطفوا في هيئة مربع، ثم امتطيت جوادي ودخلت المربع ومعي الضباط والموظفون ثم قلت: «أيها الجنود، لقد كابدنا المشاق العديدة معًا ونزلت بنا الكوارث الفادحة، وما الكوارث إلا محك الرجال، ولقد جاهدتم وقاتلتم ببسالة الأبطال، وليس عندي شكٌّ في أنكم ستداومون على ذلك، فإننا نقاتل من أجل مولانا الخديو حاكم البلاد ومن أجل أنفسنا أيضًا، ولقد اشتركت معكم في الأفراح والأتراح، وعندما كان يلوح الخطر كنت على الدوام معكم لا أخيم في اللقاء، وإني وإن كنت رئيسًا فحياتي ليست أغلى من حياتكم.»
فصاح معظمهم: «الله يخليك».
فاستأنفت قولي: «وقد سمعت أن البعض يعدُّني أجنبيًّا غير مؤمن بالإسلام، ولكني أقول لكم إني مؤمن كما أنتم مؤمنون، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.»
وعندما نطقت بهذه الشهادة رفع الجنود بنادقهم ثم هزوا رماحهم وصاحوا بالتهنئة، وتقدم الضباط والموظفون لتهنئتي بالإسلام، ولما عاد النظام قلت إني سأصلي معهم، ثم أمرت فرج أفندي بإعادة الصفوف ثم صرف الجنود.
ولما انتهى كل شيء دعوت زوجال بك والضباط لكي يشربوا القهوة ويتناولوا الغذاء معي، وودعني الجميع وهم يؤكدون لي فرحهم وطاعتهم وأمانتهم، ولما غادروني أمرت فرج أفندي بأن يشتري عشرين ثورًا وأن يوزعها بين رجالنا «كرامة»، وأن يعطي لكل ضابط ثورًا، ودفعت أنا ثمن هذه الثيران.
وكان الأثر الذي أحدثه عملي في رجالنا أكبر مما انتظرت؛ فلم أعد أرى منهم ذلك الإكراه الذي كنت أراه منهم عندما أطلب منهم الخروج في التجريدات، وإن كان عدونا يزداد كل يوم في العدد والقوة.
وكان التجار الذين كنت أدفع لهم نقودًا لكي يرسلوا إليَّ الأخبار قد أخبروني بأن الجيوش ترسل من القاهرة إلى الخرطوم، وأن الحكومة تتهيأ بسرعة لإرسال تجريدة بقيادة ضباط أوروبيين لاسترجاع كردوفان، أما الأهالي فقد انضموا جميعًا بلا استثناء إلى المهدي، وكانوا مصممين على المقاومة.
وكانت جميع القبائل في جنوبي دارفور قد ثارت، ولكن الجزء الشمالي بالنسبة لمراكزنا الحربية وبالنسبة لاتصال قبائله بمصر واستفادتهم من القوافل الصادرة عن مصر إليهم؛ لم تكن قد بدت فيه بعد أمارة للثورة، ولم نجمع بالطبع أية ضرائب منذ وقت طويل؛ ولذلك كنا ندفع مرتبات جنودنا من المال الاحتياطي.
وبدأت انتصارات المهدي المتوالية تظهر أثرها في زوجال بك، ولاحظت تغيرًا في سلوكه وإن كان على الدوام يراعي إظهار الولاء والطاعة، وقد وضح لي أنه في قلبه يحب الفوز للمهدي ابن عمه؛ لأنه كان يعرف أنه في مثل هذه الحالة سيعود فوز المهدي عليه بأكبر المنافع، وكان محبوبًا لدى مرءوسيه، وكان بالنسبة إلى أهالي السودان يعتبر حاصلًا على قسط من التربية والتعليم، وكان يخدم الناس ما دامت هذه الخدمة لا تمس جيبه، وكان يشاع عنه أنه سخيٌّ، وكان ثريًّا له منزل كبير ومائدة مبسوطة، وأظن أن سبب حب مرءوسيه له أنه كان يغتفر لهم ذنوبهم ويسمح لهم بملء جيوبهم بطرق خفية غير مشروعة، وقد توصل أكثر قرابته بواسطة نفوذه إلى الحصول على مناصب حسنة وصاروا بذلك أثرياء، وعلى ذلك رأيتني مضطرًا إلى أن أحتاط له، فإن حب الجمهور له وموافقته على آرائي وإطاعته أوامري جعلتني أكره وجود شقاق صريح بيني وبينه، ومثل هذا الشقاق لو حدث كان يؤدي إلى نقض سلطتي، وعلى ذلك اضطررت وقتيًّا إلى أن أتركه وشأنه، والمثل السوداني يقول: «ابعِد النار عن القطن وأنت ترتاح.» وكان هذا المثل ينطبق على حالتنا؛ ولذلك لزمته.
ثم طلبت فرج أفندي وواد عاصي وقاضي البشير، وكانوا كلهم يوالون الحكومة ويرجون بقلوبهم نجاحها، فأفضيت إليهم بالخطة التي انتويتها فأجمعوا على الموافقة، ولما خرجوا استدعيت زوجال بك وقلت له: «اسمع يا زوجال، أنت معي هنا ولا يشهدنا نحن الاثنين إلا الله، فابن عمك المهدي قد فتح كردوفان وقد سقطت الأبيض وانضم إليه جميع الأهالي، والبلاد التي بيننا وبين حكومتنا واقعة تحت يديه، وقد مال قلبك إليه عندما رأيت نجاحه، فهل نسيت كل ما صنعته لك الحكومة؟ وهل نسيت الوسام والرتبة اللذين منحكهما الخديو بوساطة حكومة السودان؟ وهل يمكنك أن تنسى واجباتك المكلف بها بحكم منصبك؟»
فقال زوجال: «إن المهدي ابن عمي، ولا يمكنني أن أنكر أن قرابته لي تجعلني أميل إليه، ولكني مع ذلك قد قمت في الماضي بجميع واجباتي، وأؤمل أن أقوم بها أيضًا في المستقبل.»
فقلت: «لقد قمت بواجباتك على وجه العموم، ولكنك على اتصال مع المهدي، فلمَ تنكر ذلك عني؟»
فأجابني زوجال بسرعة: «إني غير متصل به مباشرة، ولكن التجار الذين يفدون علينا من كردوفان ينقلون إليَّ رسائل شفوية منه، وقد أقسمت لحمَلة هذه الرسائل ألا أخبرك، وهذا هو السبب في كتماني أمر هذه الرسائل، ولكني أؤكد لك أنه ليس فيها سوى أخبار عن كردوفان، وأنه لم يحاول أن يجعلني أنضوي إلى لوائه.»
فقلت له: «ليكن الأمر كما قلت، فإني لا أطلب منك أن تبرر نفسك، ولكن أخبرني ماذا سمعت عن تلك التجريدة التي تهيئُها الحكومة لاسترجاع كردوفان.»
فقال: «سمعت أن جيشًا عظيمًا وصل إلى الخرطوم، وأنهم سيحاولون به فتح كردوفان.»
فقلت له: «لن يحاولوا ذلك فقط بل هم سينجحون في فتح كردوفان، وأنت يا زوجال رجل تفهم وتعرف أني إذا اضطررت بالظروف فإنه يمكنني أن أمنع أذاك، ولكني لا أظن أنه من الحكمة أن أفعل ذلك الآن، دع عنك أنه مما يؤلمني أن أتخذ إجراءات ضدك؛ فقد خدمتَ الحكومة بولاء مدة طويلة، كما أنك صادقتني مدة طويلة؛ ولذلك فأنا مستغنٍ عنك الآن ويمكنك أن تذهب إلى كردوفان، فإن الحركات الدينية يكون لها لمعة ورونق على بعد فيعطف عليها الإنسان، ولكن عند الاحتكاك بها تظهر حقيقتها فتذهب عنها جاذبيتها وتزول منها روعتها، وسأكلفك بحمل رسائل إلى الخرطوم سرًّا، وسيكون مضمون هذه الرسائل شرح المهمة التي أرسلك في شأنها، وبما أن التجريدة ستشرع في السفر إلى كردوفان في الشهر الآتي، فأنا أطلب منك أن تجهد جهدك في منع المهدي من إرسال تجريدة إلى دارفور أو تحريض الناس على الثورة، فإذا فعلت ذلك فإن الفائدة تعود عليك وعليه، وإذا نجحت التجريدة فأنا أتحمل كل التبعات التي تقع عليك فليس هناك ما تخشاه، ولكن إذا نجح المهدي — لا قدر الله — فهناك يقطع ما بيننا وبين الحكومة فلا يمكن تخليصنا، والمرجح وقتئذ أننا نخضع للمهدي، وفي هذه الحالة يتسلم البلاد وهي في حال حسنة، ولكي أضمن ولاءك وقيامك بهذه المهمة خير قيام، سأحتفظ بزوجاتك وأولادك هنا في القلعة، وسيحسب المهدي حسابًا لهذا العمل ولا يعرض أهلك للخطر.»
فقال زوجال: «سأنفذ تعليماتك وأثبت لك إخلاصي، وهل تريد أن تكتب خطابًا للمهدي؟»
فقلت: «كلا لا أريد أن يكون بيني وبينه أية معاملة، وأنا عارف تمامًا بأنك ستتلو عليه حديثنا هذا، وابن عمك رجل ماكر وسيستغل ذهابك إليه بقدر إمكانه ولكن ما دمت تفي بوعدك لي فإني أُعنى كل العناية بأسرتك، ومع أننا قد استغنينا عنك اسميًّا، فإننا سنستمر على دفع مرتبك بالكامل، أما إذا لم تفِ بوعدك فإن ضماننا لا يستمر، وأود منك أن تشرع في السفر بأسرع ما يمكنك ويكفيك ثلاثة أيام تستعد فيها.»
فقال زوجال: «إني أُوثر البقاء مع أهلي، ولكن بما أنك تريد مني تأدية هذه المهمة كي تمتحن إخلاصي، فأنا أقوم بها وملء قلبي الحزن.»
ثم أرسلت في طلب فرج أفندي وواد عاصي والقاضي، وأخبرتهم بحضور زوجال بالمهمة التي كلفته بها، فبدا عليهم شيء كثير من الانفعال والدهشة وطلبوا من زوجال أن يقسم يمينًا بالولاء، فأقسم بالقرآن وبالطلاق بأن يلزم الاتفاق الذي بيننا.
فكتبت الخطابات إلى الحكومة ووصفت الحالة في دارفور، وبعد ثلاثة أيام خرج زوجال في رحلته ومعه ثلاثة من الخدم قاصدًا الأبيض عن طريق طويشة، وكان معروفًا في كل مكان أنه من قرابة المهدي، فلم يكن لذلك يخشى أحدًا، وعلمت بعد ذلك أنه قوبل في كل مكان بحفاوة وإكرام.
وأخذت على عاتقي الآن أن أركز مدافع جديدة في زوايا القلعة، وجمعت كل ما أمكنني جمعه من القمح، ولكن هذه المدة القصيرة من السكينة لم تدم طويلًا؛ فقد حرض الشيخ الطاهر الدجوي زوج ابنته بشاري بك واد بكير على الغارة على دارة، وكان بشاري بك رئيس قبيلة بني حلبة، فأرسلت له خطابًا أهدده فيه، ولكنه أغار على عرب المصرية وقتل منهم عددًا وأسر نساء وأطفالًا، فعبأت ٢٥٠ من الجنود النظاميين و١٠٠ من البازنجر، وسلمت قيادتهم إلى مطر؛ أحد قرابة زوجال، ولم أستطع أن أجمع من الخيول سوى ٢٥ فرسًا؛ لأن مرضًا غريبًا انتشر بينها، وبهذه القوة خرجت قاصدًا دارة.
وبعد مسير ثلاثة أيام بلغنا أمكة، حيث أغار علينا بنو حلبة بقيادة بشير بك، وكان معهم صديقي القديم جبر الله، ولكن لم يكن معهم من الآلات النارية إلا عدد قليل؛ ولذلك فرقناهم بسهولة. وفي اليوم التالي عاودوا الغارة في كلمباسي، وهي على مسيرة يوم ونصف من أمكة، وهنا أيضًا اضطررناهم إلى الفرار بسهولة.
وقد عزا رجالنا قلة خسائرنا إلى صلاتي يوم الجمعة معهم لا إلى قلة البنادق عند العدو، ثم سرنا إلى خشبة وأخرجنا شيخها وعرضنا عليه صلحًا ولكنه رفض، ثم سرنا إلى جورو على مسيرة نصف يوم، وبينما نحن في الطريق كانت تتقدمنا طليعة مؤلفة من ١٢ فارسًا، فأغار عليهم بشاري بك وحده واخترق صفهم وجرح أحدهم جرحًا بسيطًا، ثم ثُني جواده هو بين الطليعة وبيننا على حدود الغابة وعلى بعد ٨٠٠ ياردة تقريبًا منا.
ثم تقدمت نحوه ثلاثمائة خطوة فعرفته، ولكني لم أرمِه، وأرسلت إليه خادمًا أعزل لكي يقول له: «إن الحاكم يقدم لك تحيته ويخبرك بأنك إذا كنت ترغب في أن تظهر بسالتك لزوجتك، فليست هذه هي الطريقة لإظهار ذلك، وأنك إذا عدت إلى مثل ما فعلت فإنك لا بد مقتول.»
وكانت الطريق بيننا وبينه خالية إلا من بعض الأشجار هنا وهناك، ورأيت الخادم يذهب إليه ويقف أمامه بضع ثوان ثم عاد إلينا مسرعًا وقال: «إن بشاري بك يقدم لك تحيته وهو يقول إنه لا يرغب في الحياة بل يشتهي الموت.»
يا لغفلة الرجل، لقد وجد ما اشتهاه!
ولما بلغنا جورو صنعنا زريبة وكنت متأكدًا بأن بشاري بك سيتهور ويغير علينا؛ ولذلك أمرت الجنود بأن يخرجوا من الزريبة نحو ثلاثمائة خطوة، ووضعت الخيالة على الجانبين وأرسلت عشرين فارسًا إلى الغابة لكي يغتر العرب بهم ويخرجوا إليهم، وما كاد هؤلاء العشرون يخرجون في مهمتهم هذه، حتى رأينا عربيين راكبين قد ركضا فرسيهما إليهم وفي يد كل منهما حربة قد أشرعها، وكان هذان الرجلان بشاري بك وخادمه، وقبل أن يبلغ رجالنا عثر فرسه ووقع، وبينما كان خادمه يساعده على النهوض والركوب أغار عليه رجالنا ورموه بمطرد في وجهه نفذ في عينه فكبه. أما خادمه فقد أصيب بحربة نفذت في ظهره وقتلته، وركضتُ فرسي أنا إليه فوجدته في النزع، فإن رجالنا طعنوه بعد وقوعه مرتين بالحراب، وهجم علينا ابنه لكي يخلصه فجرح ولكنه نجا بنفسه، وقد كان معه شيخان؛ وهما شرطيُّه حبيب الله والتوم، قُتلا كلاهما، فقبضنا على خيولهم جميعًا ثم هتفتُ بالجنود فحضروا إلينا، فأركبت وراء كل خيال واحدًا من المشاة وطلبت منهم أن يطاردوا العدو؛ لاعتقادي أنهم لن يثبتوا للقتال بعد موت قادتهم.
وركضنا خيولنا نحو ميلين فوجدنا العرب وهم في فرارهم، فأمرت الجنود بالنزول عن الخيول وإطلاق النار عليهم، ثم حولت الخيالة إلى بني حلبة، ولم نشفق على أحد في هذا القتال؛ لأن رجالنا كانوا مصرين على الانتقام للشيخ عفيفي الذي قتل قريبًا من هذا المكان.
وبعد ساعات قليلة تم تشتيت العدو فعدنا إلى الزريبة، ونحن في طريقنا وجدنا جثة بشاري بك فطلب مني الضباط أن يقطعوا رأسه لكي يرسلوه إلى دارة، ولكني احترامًا لابن أخته الذي طلب الصلح بالأمس كففتهم عن هذا العمل، وأعطيته الجثة في كفن من القماش، وحضرت أنا بنفسي حفلة دفن هذا الصديق القديم، الذي صار عدونا على الرغم منه واشتهى الموت فوجده.
وفي هذا القتال قتل منا رجلان وجرح عدد آخر، وكان بين هؤلاء سلامة الذي حمل خطابي وأنا في أم ورقة إلى دارة، وكان على الدوام في مقدمة المغيرين.
ثم عدنا إلى جورو، وكنت قد أصبت بدودة غينيا في كلتا ساقي، فلم أكن أستطيع البقاء على السرج لشدة ما كان بي من الألم، ولم تكن ثَم فائدة من البقاء بعد أن سحقنا بني حلبة، فعدنا إلى دارة.