حملة هكس باشا
بعد أن سقطت الأبيض في يد المهدي أخذ يلتفت إلى زيادة قوته، وكان أنصاره على ضفتي النيل يوافونه بكل ما يجدُّ من الأخبار؛ فكان يعرف أن عبد القادر قد طلب أمدادًا من القاهرة، وكان يعرف أن هذه الأمداد قد وصلت، وأن الحكومة عازمة على استرجاع المديريات التي خرجت من يدها، وكان هذا هو سبب الحاجة في الدعوة إلى الجهاد، وكان يذكر أتباعه بأن الحرب توشك أن تشب وأنهم منصورون فيها.
وكان جيجلر باشا قد نجح في دويم في نوفمبر سنة ١٨٨٢، كما نجح أيضًا عبد القادر باشا في معتوق في يناير سنة ١٨٨٣، وأحرز كلاهما النصر، ولكن المهدي لم يكن يبالي بهذه الهزائم، وإنما كان همه منصرفًا إلى تلك التجريدة التي كانت تهيئها الحكومة في الخرطوم بقيادة ضباط أوروبيين لكي ترسل إلى كردوفان؛ ولذلك سارع إلى نشر المنشورات يدعو فيها القبائل إلى ترك بلادهم والانضمام إليه، وعندما كانت تجتمع هذه الجموع العديدة عنده كان يعظهم بحماسة ويحضهم على الزهد في هذه الدنيا والاهتمام بالآخرة، وكان يقول: «أنا أخرب الدنيا وأعمر الآخرة.»
وكان يَعِد الأنصار والمطيعين له بملذات النعيم التي لا يمكن عقلًا أن يصفها، وينذر المخالفين بعقاب الجحيم، وكانت تذاع المنشورات في هذا المعنى في كل مكان، وكان يبعث للأمراء يطلب منهم ألا يبقوا أحدًا في خدمتهم سوى أولئك الذين يحتاجون إليهم في الزراعة، وأما من كانوا في غنى عنهم فعليهم أن يرسلوهم إليه لينضووا إلى لوائه.
وكان الأولاد والنساء والرجال يهرعون إلى الأبيض؛ لكي يروا هذا الوليَّ ويسمعوا ولو كلمة واحدة من وعظه، وكان الجهلة يرون في وجهه ما يدل على الوحي وأنه الرسول الحق من عند الله.
وكان يلبس الجبة والسروالين ويتحزم عليهما بحزام من قشٍّ، ويضع على رأسه طاقية يتعمم عليها، ثم يقف خاشعًا أمام أنصاره ويحضهم على حب الله والزهد في هذه الدنيا، فإذا دخل بيته تغير كل هذا؛ إذ كان يعيش في ترف ونعيم بحيث تسترقه شهوة الطعام والنساء، فينغمس فيهما انغماس سائر السودانيين، وكانت النساء أو الفتيات اللواتي يؤسرن يحضرن أمامه فيختار أجملهن ويضمهن إلى حريمه، أما اللواتي كن يُجدن الطهي فكن يرسلن إلى مطبخه.
وبعد سقوط الأبيض أخذ يفكر في تعيين الخليفة الرابع، وقرَّ رأيه على أن يعين محمد السنوسي، وهو أكبر شيخ دينيٍّ في شمالي أفريقيا لهذا المنصب، فأرسل طاهر واد إسحق برسالة إلى السنوسي لهذا الغرض، ولكن السنوسي نظر بازدراء إلى الرسول ولم يكلف نفسه مشقة الإجابة.
وشرع المهدي في تنظيم حكومته، وكانت إدارته غاية في البساطة، فأسس أولًا بيت المال ووضع في رياسته صديقه الأمين أحمد واد سليمان، وكان يجبي إلى بيت المال هذا جميع العشور والفطرة، والزكاة المأخوذة على جميع الغنائم أو الأملاك التي استصفيت من أصحابها، والغرامات التي تفرض في السرقات وشرب الخمور والتدخين، ولم يكن هناك نظام لإيرادات الحكومة ومصروفاتها؛ ولذلك كان أحمد واد سليمان حرًّا في الإعطاء والمنع لمن يشاء.
وكان القضاء في يد القاضي الذي أطلق عليه المهدي اسم «قاضي الإسلام» وكان له مساعدون، وكان أول من حصل على هذا المركز أحمد واد علي، الذي كان قاضيًا تحت إدارتي في شقة، وكان بعد الثورة في مقدمة المغيرين على الأبيض، وكان المهدي وخلفاؤه يحفظون لأنفسهم حق معاقبة أي مجرم، وخاصة ذلك الذي يشك في مهدوية المهدي، وكان الموت عقاب المجرم في هذه الحالة. ولما كانت هذه العقوبات تخالف الشريعة، فإن المهدي منع درس الفقه وأمر بتحريق جميع هذه الكتب، ولم يكن يسمح بقراءة شيء غير القرآن، ولكنه مع ذلك لم يكن يأذن لأحد بشرحه علنًا.
وكانت المواصلات بين المهدي وسكان الجزيرة الذين كانوا يعتبرون أنفسهم أنصاره المخلصين لا تنقطع، وعرف منهم أخبارًا عن سفر عبد القادر إلى كاوة وسنار ومعه قوة كبيرة، وكانت هذه المدينة قد حاصرها أحمد الكاشف، ولكن عبد القادر باشا هزمه في مشروع الوادي ورفع الحصار، وطارد صالح بك الثائرين حتى جبل سخيدي، وألجأهم إلى صحراء بين هذا الجبل وبين كارة، ولم يكن بها ماء فمات كثير منهم بالعطش، وهذا المكان لا يزال يدعى عند السودانين «تبكي وتسقط»؛ لذكرى الذين ماتوا عطشًا فيه.
ولكن هذه الهزائم لم تضعف حب الجمهور للمهدي، وليس شكٌّ في أنها كانت تخفف عبء الموظفين وقتيًّا، ولكنها لم تكن تمنع مجيء اليوم المتوقع من الجميع، ولو كانت نصائح عبد القادر باشا قد سُمعت لَتغير حال السودان؛ فقد كان لا يوافق على إرسال تجريدة كبرى لتخليص كردوفان، ولكنه كان ينصح بتوزيع الأمداد التي تأتي من القاهرة على مراكز على النيل، بحيث تكون هناك حاميات، ثم يترك الثوار وشأنهم مؤقتًا، وكان عنده ما يكفي لقمع الثورة في الجزيرة بين النيلين الأبيض والأزرق، وأيضًا لمنع تقدم المهديين من الغرب.
ولو اتبعت هذه النصائح لكان الأرجح أن سوء إدارة المهدي تؤدي إلى الخلل والشقاق، فيمكن الحكومة استرجاع ما فقدته بعد مدة قليلة، ولم يكن في مقدوري الاحتفاظ بدارفور أكثر مما احتفظت به، وحتى لو فرضنا أنه وقع في يد المهدي لكان هذا أيسر الشرين، ولكن ولاة الأمور في القاهرة لم يكونوا من رأي عبد القادر باشا، وكانوا يرون أنه يجب أن تعاد للحكومة كرامتها وسلطتها مهما كلفها ذلك، ودبروا لذلك تجريدة يقودها هكس باشا الإنجليزي ومعه ضباط أوروبيون، فاستُدعي عبد القادر باشا إلى القاهرة وقام مقامه علاء الدين باشا الحاكم العام للسودان الشرقي سابقًا، وعرف المهدي كل ذلك واستفاد منه.
وفي هذه الأثناء وصل زوجال إلى الأبيض، حيث احتفل باستقباله فأطلق مائة مدفع تكريمًا له، وأشيع في كل مكان أن دارفور قد سلمت نفسها للمهدي الظافر، واعتُبر أيضًا رجوع زوجال إلى دارفور ضمانًا قويًّا على دخول دارفور في طاعة المهدي، وأنها لذلك ليست في حاجة إلى إرسال قوة من الجيش، ووجه المهدي الآن كل عنايته إلى درس الحالة في النيل.
وبعد وصول هكس باشا قام في الحال إلى كاوة وهزم الثائرين في مرابية في ٢٩ أبريل سنة ١٨٨٢ وقتل أحمد المكاشف.
وكان عثمان دجنة أحد النخاسين في سواكن قد بعثه المهدي لكي ينشر الدعوة إلى الجهاد في بلاد مختلفة، وقد أثبت المهدي بعد نظره في اختيار هذا الرجل الذي ذاع اسمه بعد ذلك، وكان يقدر أنه إذا ثار السودان الشرقي فإن الحكومة ترتبك وتؤخر تجريدة كردوفان، أو لا ترسلها مطلقًا.
ولست أدخل في تفاصيل الوقائع التي دارت بين هذا الأمير الجسور وبين الحكومة؛ فإنها معروفة مشهورة ولا تحتاج إلا للإشارة إليها هنا فقط، ويكفي أن أقول إن المهدَوِيين نجحوا في شرقي السودان ولكن نجاحهم لم يؤثر في الحكومة كما رغب المهدي، بل بقيت على عزمها من تهيئة التجريدة لكردوفان، وفي أوائل سبتمبر سنة ١٨٨٣ غادر هكس باشا الخرطوم إلى الدويم على النيل الأبيض، حيث انضم إليه علاء الدين باشا الذي طلب إليه أن يصحب التجريدة.
وإني لا أشك في أن ولاة الأمور في القاهرة كانوا يجهلون الحالة في كردوفان؛ إذ كانوا يتصورون أن إرسال مثل هذه التجريدة لكردوفان يقضي على المهدي، الذي صار الآن الحاكم المطلق في المديريات الغربية وليس فيها أحد سوى أنصاره، فهل نسوا أن المهدي أباد القوى التي كان يقودها راشد وشلالي ولطفي، وأن بارة والأبيض وغيرهما من البلاد قد خضعت له، وأنه أصبح يملك من البنادق أكثر مما يملكه هكس في تجريدته؟
وهل غاب عنهم أن هذه البنادق قد صارت إلى أيدي رجال ماهرين يعرفون كيفية استعمالها، وأن من هؤلاء الرجال من كان يستخدم البازنجر ويصد الفيلة والنعام، وأنه قد تألفت تحت أيديهم فرق حربية ماهرة؟ ثم ألم ينضوِ إلى راية المهدي آلاف من الجنود النظاميين وغير النظاميين الذين كانوا في خدمة الحكومة قبلًا؟ وهل خطر لهم أن هؤلاء الرجال كانوا ينوون ترك الانضمام إلى هكس باشا عند رؤية جيشه؟
لقد جهلت الحكومة في القاهرة كل ذلك وخاطرت بحياة الألوف لجهلها هذا، وأظن أنه كان بين أعضاء الحكومة من كان يعرف السودان ويعرف المثل القائل «اللي بياخد أمي هو أبويا»، والمهدي قد استولى على البلاد ويمكن أن نقول مجازًا إنه تزوجها؛ لذلك نظر إليه السكان كما ينظرون إلى مولاهم وحاكمهم، ولم يكونوا يبالون وقتئذ بما نالوه من رعاية في الحكم السابق، ولا أنكر أن هناك شواذ ولكن ملاحظاتي هنا تنطبق على الكثرة.
وكانت تجريدة هكس مؤلفة من عشرة آلاف رجل تسير في هيئة مربع في وسطه ستة آلاف جمل، وكان سيرها في أعشاب ونبات يزيد طولها عن قامة الإنسان، فلم يكن في مقدور الجنود أن يروا إلى أبعد من مائتي ياردة إلى ثلاثمائة، وذلك في الجهات المزروعة المكشوفة، حيث يقطن بعض الناس ويكشفون بعض الأرض للزراعة، وكان عليهم أن يكونوا مستعدين على الدوام لملاقاة عدوٍ أكثر منهم عددًا وعدة وتجربة بالحروب، وقد اشتهر رجاله بالفوز والشجاعة والاندفاع، ولم يكن في طريقهم سوى آبار قليلة وإن كان بها مستنقعات عديدة.
ولو أنهم كانوا أخذوا الطريق الشمالي، طريق جبروة وبارة، لوجدوا الأرض مكشوفة أمامهم والماء وفيرًا في عدة أماكن، وهذا الماء إذا لم يكن يكفي الجيش، فإنه باستعمال الوسائل الحديثة في الاستقاء واستنباط الماء كان يكفيه، وفي هذه الحالة كان يمكن الاستعانة بقبائل الكبابيشي في مقاتلة المهدي، وكان يمكن عندئذ الاستغناء عن عدد كبير من الرجال والحيوانات التي استعملت في النقل.
وكانت الجمال في وسط الجيش تؤلف غابة كثيفة من الأعناق والرءوس، وكان من المستحيل أن يطلق العدو عيارًا واحدًا دون أن يصيب أحد هذه الجمال، فإنه إذا أخطأ أحدًا من الأمام لم يخطئ الإصابة في الوسط أو المؤخرة.
وكان يمكن ترك هذه الجمال مع الحرس في دويم أو في الشط، ثم إرسال فصائل من الجيش لإعداد الطريق في الشمال أو الغرب أو الجنوب، وإنشاء مراكز حربية في البلاد التي تخضع، وبَدَهيٌّ أن هذا العمل كان يحتاج إلى عام ولم يكن في ذلك من بأس؛ إذ لم يكن ثمَّ داعٍ للعجلة، ثم يجب أن نذكر أن الخلاف بين هكس والضباط الأوروبيين كان عظيمًا، كما كان هناك أيضًا خلاف بين علاء الدين باشا وبين الضباط المصريين.
ثم كان هذا الجيش مؤلفًا في الأغلب من جيش عرابي المنحل الذي انهزم أمام الإنجليز، ولا شك في أن الجنرال هكس كان يعرف هذه الأشياء، وقد سئل مرة في الدويم عن الموقف فقال: «أنا مثل المسيح بين اليهود.» ومع ذلك سار في طريقه، وربما كان يعتقد أنه إذا رفض السير فإن شرفه يجرح.
وأخذت هذه الكتلة المؤلفة من البشر والحيوان تسير سيرًا بطيئًا، وكان السكان الذين يقطنون في طريق الجيش قد فروا، وكان العرب يظهرون فجأة ثم يختفون من وقت لآخر، وكان هكس ينظر خلال نظارته في إحدى المرات فرأى فرسانًا مختبئين بين الأشجار، فأمر بالوقوف وأنفذ قسمًا من الخيالة لكي يتقدم، وبعد دقائق عاد الخيالة وهم في ارتباك شديد بعد أن فقدوا عددًا من رجالهم وجرح عدد آخر، ورووا أنهم رأوا قوة كبيرة، فأنفذ هكس الجنرال فاركار ومعه نصف أورطة لكي يذهب إلى مكان المناوشة ويعاين الحالة هناك، فعاد وقال إنه رأى ستة مقتولين وقد جردوا من كل شيء ولكنه لم ير أحدًا من العدو، وكان هناك آثار عشرة من حوافر الخيل، فكأن قسم الخيالة قد انهزم أمام هؤلاء العشرة.
وفي اليوم التالي ظهر ثلاثة من الفرسان فهجم عليهم فاركار وليس معه سوى خادمه، فقتل اثنين وقاد الثالث أسيرًا. وقد أخبرني عن هاتين الحادثتين بعض من بقي من التجريدة، وكانوا يصفون سير الجيش وهو في هيئة المربع كأنه سلحفاة تزحف، ولم يكن من الممكن وهو في هيئته هذه أن تسرح الجمال للرعي؛ فلم تأكل هذه الجمال سوى ما وجدته وهي محصورة في هذا المربع، وكان ما وجدته قليلًا، فكان ينفُق منها كل يوم مئات، وكانت تأكل بطانة الرحال المحشوة بالتبن، ولما خلت الرحال من التبن لصق الخشب بلحمها فآذاها أذى كبيرًا، ومع ذلك كانت هذه الجمال تجر سيقانها وتسير حاملة أثقالها وأثقال من يقع من أخواتها.
ولا شك في أن فاركار والبارون شكيندورف والماجور هيرلت وغيرهم من الضباط الأوروبيين وبعض كبار الضباط المصريين؛ كانوا يجهدون جهدهم لكي يساعدوا هكس باشا في هذه الظروف الحرجة، ولكن معظم الجيش كان يجهل تمامًا الأخطار الموشكة أن تقع به، وكان فيزتلي المسكين يرسم صوره، وكان دونوفان يكتب مذكراته، ولكن أين ذلك الذي يمكنه إرسالها إلى بلادهما؟
وما هو أن عرف المهدي أن الجيش قد شرع في السير حتى أذاع المنشورات بين القبائل يدعوهم فيها إلى الجهاد، ويعد فيها المطيع بالمكافأة والعاصي بالعقاب. وغادر هو الأبيض وضرب خيمته تحت شجرة كبيرة ينتظر قدوم الجيش المصري، واقتدى به خلفاؤه وأمراؤه فتكوَّن من ذلك معسكر ضخم. وكانت جيوش المهدي تعرض كل يوم وتقرع الطبول وتطلق المدافع وتدرب الجنود والخيول، وكلهم يستعد للمعركة الكبرى. وكان المهدي قد أرسل الأمراء: الحاج محمد أبو جوجة، وعمر واد إلياس باشا، وعبد الحليم مسعد، إلى الدويم لكي يراقبوا تقدم الجيش ويقطعوا مواصلاته، ولكنهم أمروا بألا يهاجموا الجيش بالذات، وقد علموا قبل سفرهم مقدار القوة المصرية ورجوا المهدي في أن يسمح لهم بمهاجمتها ولكنه رفض.
وقبل أن تصل القوة إلى رهاد رأى جوستاف كلوتز — وهو صف ضابط ألماني وكان قبلًا خادم البارون سكندروف ثم صار خادمًا عند مستر أودنفان — أن المهدي سيقضي عليها إذا التقى بها، ففر من الجيش بنيَّة أن يذهب إلى المهدي لكي ينضم إليه، وكان يجهل البلاد، فأخذ يجول في صباح اليوم التالي وعثر عليه المهديون وكانوا يوشكون أن يقتلوه، ولكنه صار يجاهد بالقليل الذي يعرفه من العربية لكي يُفهمهم أنه يرغب في مقابلة المهدي، فأُرسل مع الحرس إلى الأبيض، وكان لابسًا ملابس الخدم، ومع ذلك توافد عليه الناس زرافات لكي يروا هذا الإنجليزي الذي جاء للمهدي يرجوه في طلب الصلح، ولما أحضر إلى المهدي صار هذا يسأله عن التجريدة أمام الأوروبيين الحاضرين، ولم يتردد جوستاف في وصف الجيش أسوأ وصف وأن صفوفه خلو من الشجاعة والوفاق، وارتاح المهدي إلى هذه الأخبار، ولكن جوستاف أخبره أيضًا أن الجيش لن يسلم وأنه لا بد من معركة يباد فيها عن آخره، ودعا المهدي جوستاف إلى الإسلام فأجاب وأسلم، ثم وكل المهدي به عثمان واد الحاج خالد.
ووثق المهدي من الظفر إلى حد أنه وضع المنشورات العديدة في طريق الجيش يدعو هكس باشا إلى التسليم، وبدهيٌّ أن هكس باشا وضباطه لم يجيبوه، ولكن كان لهذه المنشورات بعض التأثير في أولئك الذين كانوا يخافون على حياتهم، واستعمل بعضهم هذه المنشورات لأغراض وبطريقة اغتاظ منها المهدي أشد الغيظ، وكان بعد ذلك يعاقب الذين نجوا من القتل بأشد العقوبات إذا علم أنهم دنسوا هذه المنشورات الملهمة بأية طريقة!
وقبل أن يبرح هكس باشا الدويم كانت الحكومة قد أبلغته أنه سينضم إليه ستة آلاف رجل من جبل تاج الله وبضع مئات من عرب الحبانية، وكان كل يوم يتشوف لرؤية هذه القوة لكي ينشط بها جنوده الذين خارت قواهم وضعفت آمالهم، ولكن هذه القوة لم تصل إليه بل لم يصل إليه أي خبر عنها.
وعندما غادر هكس رهاد قصد إلى علوية في دار غدايات أملًا في أن يجد هناك ماء يستقي منه الجيش، وفي ٣ نوفمبر وصل إلى كشجيل التي تقع على بعد ٣٠ ميلًا في جنوبي الأبيض.
وكان المهدي في هذه الأثناء قد حمس جنوده، وأخبرهم أن النبي قد أوحى إليه أن عشرين ألفًا من الملائكة سيقاتلون الكفار مع جنوده يوم المعركة. وفي أول نوفمبر برح الأبيض قاصدًا إلى بركة، فانضمت قواته إلى جيش الأمراء الذي كان قد أرسله قبلًا، وأخذ الجميع في مناوشة المصريين والتضييق عليهم، وكان العطش والإعياء قد فعلا فيهم فعلهما. وفي ٣ نوفمبر كان أبو أنجة والجهادية السود مختبئين في غابة كثيفة، فصبوا نارهم على قلب المصريين حتى اضطر الجيش إلى الوقوف وإقامة زريبة حوله، وكانت الدواب والرجال هدفًا ظاهرًا لا يخطئه أي رامٍ، فكان في كل لحظة يقع جمل أو بغل أو إنسان قد أعياه السير. واستمر هذا التقتيل ساعات وكل فرد من الجيش يعاني الآلام من العطش ولا يستطيع السير إلى أي جهة، ولم يغادر العدو مكانه حتى الأصيل، وبقي بعد ذلك يراقب الجيش كما تراقب القطة الفأر. وكانت خسائر العدو قليلة فلم يقتل منهم سوى أمير أو اثنين، وكان أحدهما ابن إلياس باشا، ولا غرابة في قتله؛ فقد تحمس وتهور حتى صار على قيد ذراع من الزريبة، وما أشد ما كان يعانيه هكس في هذا الوقت؛ إذ بدلًا من أن يجد رجاله الماء كان العدو يمطرهم رصاصًا، ومع ذلك كان الماء قريبًا منهم لا يبعد ميلًا واحدًا، ولكن لم يكن معهم أحد يعرف هذه الجهات، وهم لو كانوا يعرفونها لما انتفعوا بهذه المعرفة الآن لفوات الفرصة.
وفي الليل زحف أبو أنجة ورجاله ثانيًا، وصبوا النار طول الليل على هذه الكتلة المؤلفة من الناس والدواب، وخارت قوى المصريين فكانوا يندبون حظهم قائلين: «مصر فين يا ستي زينب دلوقت وقتك.» أما السود فكانوا منبطحين على بطونهم فلا ينالهم رصاص المصريين الذي كان يذهب في الهواء فوقهم، وكانوا يردون على المصريين بقولهم: «دي المهدي المنتظر.»
وفي صباح اليوم التالي تقدم هكس وقد خلف وراءه أكوامًا من القتلى وبعض المدافع التي قُتل رجالها، ولكنه قبل أن يقطع ميلًا هجم عليه نحو مائة ألف من المتحمسين المتوحشين الذين خرقوا الجيش ودخلوا إلى القلب، وحدثت عندئذ مقتلة هائلة، ولم يحاول الثبات للعدو سوى بعض الضباط الأوروبيين والخيالة الأتراك، ولكنهم هوجموا من كل جانب فقتلوا تقريبًا عن آخرهم، ثم قطع رأس البارون سكندورف ورأس الجنرال هكس وحملا إلى المهدي، فطلب في الحال كلوتز — الذي صار اسمه الآن مصطفى — وطلب إليه أن يعرفه صاحبي هذين الرأسين، ولكن المهدي لم يكن في حاجة إلى التعريف؛ فإن كل أحد قد عرف أنهما قتلا، وبعد هذا النصر المبين عاد المهدي وخلفاؤه إلى بركة وقد أسكرهم هذا الفوز.
وكان في ميدان القتال عدد كبير من الأمراء وأتباعهم قد تخلفوا لجمع الغنائم وإرسالها إلى بيت المال، وقد جردت الآلاف من القتلى من جميع ملابسهم، وأرسلت إليَّ بعد ذلك بمدة مذكرات فاركار وأيضًا مذكرات أودنفان، فقرأت كل ما كتباه، وما أعظم ما قاسيته من الحزن من هذه القراءة؛ فقد كتب كلاهما شيئًا كثيرا عن الخلاف والشقاق في الجيش، وعن الشجار بين الجنرال هكس وبين علاء الدين باشا. وقد حمل فاركار على رئيسه حملة قاسية لأغلاطه الحربية؛ فقد أحس كلاهما بالنكبة قبل وقوعها؛ ولذلك كان فاركار يلوم رئيسه؛ لأنه مع معرفته بالحالة المعنوية السيئة للجيش خرج به للقتال. ولم يحصل الضباط الأوروبيون على أية معونة، ولكن يظهر أن أحد الضباط المصريين المدعو عباس بك عاونهم بعض المعاونة. وأذكر أني قرأت العبارة التالية بقلم فاركار: «سألت أودنفان اليوم عن المكان الذي سنكون به بعد ثمانية أيام، فأجابني بقوله: في العالم الآخر.»
وكانت مذكرات أودنفان مكتوبة بهذه اللهجة أيضًا، وكان قلقًا بشأن فرار كلوتز، وذكر هذا الفرار كمثال على شعور سائر الجنود. وأذكر قوله: «كيف تكون حالة جيش إذا كان خادم أوروبيٌّ يهجره وينضم إلى العدو.» ويقول في مكان آخر: «ها أنا ذا أكتب مذكراتي وتقاريري، ولكن من هو ذاك الذي سيحملها إلى وطني؟»
وبعد خمسة عشر يومًا عاد المهدي إلى الأبيض ومعه الغنائم التي أودعت بيت المال، وكانت هذه الغنائم تحتوي مبلغًا كبيرًا من النقود غير المدافع والبنادق، ومع ذلك قد نهب العرب شيئًا كبيرًا من هذه الغنائم، على الرغم من العقوبات الوحشية التي كان يعاقبهم بها أحمد واد سليمان. وقد كان من المألوف أن تقطع يد السارق اليمنى وساقه اليسرى، أما الزنوج المكرة فقد سرقوا كمية وفْرة من الذخائر خبئوها في الغابات وفي معسكرهم، وأفادتهم بعد ذلك فوائد عظيمة.
وكان دخول المهدي إلى الأبيض دخول الظافر الذي يستقبل بضروب الحفاوة الوحشية؛ فقد كان الناس يترامون أمامه ويكادون يعبدونه، وليس شكٌّ في أن انتصاره في شيكان قد جعل السودان بأجمعه طوع أمره؛ فكان الأهالي من النيل إلى البحر الأحمر ومن واداي إلى كردوفان ينظرون إلى هذا الوليِّ ويترقبون حركاته، وكان أولئك الذين آمنوا قبلًا بهدايته يستمسكون بإيمانهم وينشرون نفوذه أكثر من ذي قبل، أما أولئك الذين استرابوا أولًا في دعوته فقد ثابوا إلى اليقين بعد هذه الانتصارات العظيمة المتوالية. وأولئك الذين كانوا يعرفون في قلوبهم أن هذه المهدية غشٌّ ومكر، رأوا أنه يجب عليهم أن ينضموا إلى المهدي ما دامت الحكومة غير قادرة على تثبيت سلطتها حتى في مديريات النيل.
وقد عرف في هذا الوقت عدد كبير من الأوروبيين وبعض المصريين المقيمين في المدن خطورة الموقف، ولم يتوانوا في الخروج من القطر السوداني، أو على الأقل في إرسال ما يخشون عليه من أمتعتهم ومنقولاتهم إلى الشمال، وقد أيقنوا أنه لا بقاء لهم بعد الآن في السودان الذي بسط عليه المهدي نفوذه.