ميلاد التذوق الفني
ليس من السهل على صاحب الحياة الثقافية التي تَشعَّبَت فروعها بين فكر وأدب وفن وفلسفة، أن يتعقب تلك الحياة إلى بذورها الأولى؛ لأنه حتى إن وقع على تلك البذور، فهو لا يأمن أن تكون قد سَبقَتها عواملُ أنتجتها، كما هي الحال في بذور النبات؛ إذ كانت هذه البذور بدَوْرها ثمرة نباتٍ سابق؛ ولذلك فلَستُ أرى بُدًّا من عشوائية الاختيار.
وسأجعل البداية العشوائية لحظاتٍ تقارَبَت أزمانها في السنوات الأُولى من عشرينيات هذا القرن، عندما كِدتُ أبلغ من العمر عشرين عامًا، وكانت أُولى تلك اللحظات حين شاءت لي المصادفة أن أستمع إلى أستاذ في الأدب الإنجليزي يشرح للطلاب قصيدة وردزورث التي عُنوانها «النرجس الأصفر»، وهي القصيدة التي يقول في سطرها الأول ما معناه: «جُلْتُ وحدي كما تجول السحابة»، وأخذ ذلك الأستاذ يُحلِّل هذا السطر وحده في درسٍ كامل، مما جعلني أستمع إليه وأنا ذاهلٌ لِما يمكن أن يَتكشَّف عنه بيتٌ واحد من الشعر إذا وجد الناقد الدارس، الذي يُفجِّر الألفاظ تفجيرًا ليُخرج مكنونها الدفين. ولم أكن قد عَهِدتُ فيما قرأناه وحَفِظناه قبل ذلك من الشعر العربي مثل هذا التحليل العجيب؛ فلو قلت الآن إن تلك المحاضرة التي استَمعتُ إليها في النقد الأدبي، والتي تناول فيها مُعلمٌ شارحٌ ذوَّاقة، سطرًا واحدًا هو فاتحة القصيدة، لو قُلتُ الآن إن تلك المحاضرة كانت عندي بذرة تحوُّل في قراءة الشعر كله وقراءة الأدب كله لما بَعُدتُ عن الصواب.
وربما شاءت لي المصادفة الهادفة — إذا صح لي أن أقرن الأهداف المقصودة إلى المصادفات العابرة — شاءت لي تلك المصادفة ذات المغزى، أن يجيء مُحاضر الأدب العربي في إثر ذلك الأستاذ الناقد العجيب؛ فكان هذا المحاضر العربي يضع أمامنا أبياتًا من الشعر الجاهلي وكأنه يُقدِّم لنا أحجارًا خَشِنةً غِلاظًا لا تقوى على هضمها أقوى المَعِدات، ولم يكن في وُسعه أن يفكَّ جلاميدها ليُخرج الكنوز من أجوافها؛ فبقَدْر ما كانت المحاضرة التي استَمعتُ إليها عن شعر وردزورث طاقةً مُتفجرةً فَتحَت أمامي الطريق إلى سماءٍ في التذوُّق الأدبي تعلوها سماء، جاءت المحاضرة الثانية — بالمُقارَنة مع ما قبلها — وكأنها النذير الصارخ في أُذُني بأن تراثنا الأدبي بحاجةٍ إلى أيدٍ أُخرى غير الأيدي التي كانت تعبث بذلك التراث الغني وهي عجماء.
تلك — إذن — كانت أُولى اللحظات التي تقارَبَت أزمانها معي، قبيل بلوغ العام العشرين من عمري، والتي عندها وُلدَت لي طريقتي في تذوُّق الفنون بشتى صنوفها. وأمَّا اللحظة الثانية، فقد كان بطلها أستاذًا في تعليم الرسم، لا أقول إنه كان ذوَّاقة للفن بحيث جاءتني منه العدوى؛ إذ إني — حتى في تلك السن — كنت أُدرِك أن شروحه لأعمال الفنانِين تنقصها الحساسية المُرهَفة، لكنني برغم ذلك أشهد بأنه قد فتح أمامنا بابًا، وكان بمثابة من أشار بيده قائلًا لنا: هاكُم المُروجَ الفسيحة، إذا أردتموها فادخلوا إليها من هذا الباب. ومن هنا بُذِرَت في نفسي بَذرة — ربما كانت ضعيفة الأثر، مقيسةً إلى بَذرة التذوُّق الأدبي — لكنها على أية حال كانت هي فاتحة التفاني إلى دنيا الفنون.
وقد أَظلِم نفسي إذا لم أَذكُر هنا بأن الحاسَّة الأدبية — متمثلةً في أول الأمر في الحِس بالألفاظ وجَرْسها — قد انغَرسَت عندي منذ الطفولة الباكرة، التي لا أبالغ إذا حدَّدتُها بسن التاسعة أو العاشرة. وإنه لَمِن الأحداث المحفورة في ذاكرتي منذ ذلك الحين البعيد، ما حَدَث لي ذات يوم وقد دُعيتُ مع أفراد الأُسرة إلى حفلة زواج. وما كان أَشَدَّ دهشة الحاضرِين جميعًا والحاضرات — وهي دهشةٌ اختَلطَت معهم بضحكات الهُزْء والتصغير — عندما فاجأْتُ الجميع بأن صَعِدتُ على كرسيٍّ في ركن الغرفة، وَأخَرجتُ ورقةً وأَخذتُ أتلو خُطبة التهنئة التي كنتُ قد أَعددتُها سِرًّا!
أَذكُر ذلك لأستشهد به على ميلٍ مُبكِّر نحو صياغة اللفظ، التي قد تكون عتبة الدخول في رحاب الأدب تَذوُّقًا وإنشاءً. وربما كان هذا الميل المبكر عندي، هو الذي جعلني ألتقط شُعاع النور حين أرسله أستاذ الأدب الإنجليزي وهو يُقدِّم لنا قصيدة وردزورث، وهو الشُّعاع الذي أضاء لي طريق الأدب: كيف يكون إبداعه، وكيف يكون فهمه وتَذوُّقه. فإذا كان جَرْس اللفظ هو الذي ملأ سمعي قبل ذلك، فإنني بعد ذلك الدرس المُلهِم، قد أَدركتُ أن الأدب إذا ما استخدم قوة اللفظ، فإنما يستخدمها لتكون أداةً لتوصيل ما انبَثَّ فيه من المعاني.
ولقد ظَهرَت معي مُحاولاتٌ أُولى منذ ذلك العهد، أَمزُج فيها بين النغم والمعنى، لعل من أوائلها حادثًا عابرًا، كان أقرب إلى اللهو المازح منه إلى الجِدِّ البنَّاء، وذلك أن مَجلةً مُصوَّرةً في ذلك الحين — أظنها كانت مجلة «اللطائف المُصوَّرة» — قد أَعلَنَت عن مسابقةٍ يكتب فيها المتسابقون أسطرًا لا يزيد عدد كلماتها عن أربعين كلمة — فيما أذكر — بحيث يصفون في هذه الكلمات القليلة ما عسى أن يصنعوه لو علموا أن نهاية العالم ستكون بعد ساعةٍ واحدة، فكتبتُ مع الكاتبِين. وبالطبع لا أَذكُر نصَّ ما كَتبتُه، لكنني أَذكُر أني قُلتُ إنني لو علِمتُ ذلك لقَعدتُ بلا حَراكٍ لا أصنع شيئًا، ومع ذلك فما تزال ترِنُّ في أذني إلى اليوم عِبارةٌ وَردَت في كلماتي، قلتُ فيها إنني وقد «وجدتُ الدقائق تمر سراعًا، والقلب يدق تِباعًا.» مع ما تكاثَر في خاطري مما ينبغي عمله، فقد جلستُ أنتظر بلا حَراك. وجاءت نتيجة المسابقة بفوزي بجائزتها الأُولى، وهي جنيهان! فقل ما شئتَ عن فرحتي بالجنيهَين. وماذا تظن عن موقفنا عندئذٍ من المال؟ كانت بضعة قروشٍ تتحرك في مجالها! وجاءني صديقان ممن كانت الصلة قد تَوطَّدَت بيني وبينهم يُلحَّان في نَزَق الشباب وخِفَّته أن نذهب جميعًا، أنا وأخي والصديقان، لِنُنفِق هذين الجنيهَين. وكان أول خطَّة المَساء أن نذهب إلى مسرح يوسف وهبي.
ذهبنا، وكانت المسرحية القائمة في تلك الليلة هي «كرسي الاعتراف». ولم أكن قد شَهِدتُ قبل ذلك في حياتي مَسرحًا، ولا عَرفتُ كيف يكون! كنتُ أسمع عن دنيا المَسارح، لكن شيئًا قرَّ في نفسي بأنها لم تُخلَق لي ولا خُلِقتُ لها. أمَا وقد ذهبنا في تلك الليلة، ورأيتُ ما رأيتُ، فلستُ أدري بأي لغةٍ أُصوِّر لك الهزة العميقة العميقة العميقة، التي اهتزَّت بها نفسي لِما رأيتُ؛ فكل ما رأيتُه جديد، وكل ما سمعتُه جديد. وعُدت إلى داري ذلك المساء لأحلم بما قد رأيتُ وسمِعْت. والحق أنه كان فتحًا جديدًا في حياتي، لا لأن المسرحية والتمثيل يستحقان أو لا يستحقان؛ فأنا ليلتها لم أكن على أدنى درجةٍ من العلم بدنيا المسرح؛ فقد تكون تلك المسرحية جيدة وقد لا تكون، وقد يكون المُمثِّلون أجادوا أو لم يجيدوا؛ فلم يكن ذلك مَدارَ انتباهي، بل كان المَدار هو تلك الدنيا الجديدة نفسها حين انكشف عنها الستار.
تلك هي اللحظات القلائل المُتقارِبة في أزمانها، والتي فُتِحَت لي فيها أبواب التذوُّق في دنيا الشعر والفن والمسرح، فكان لها عندي ما بعدها.